الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فقال علي: يا رسول الله .. أقاتلهما حتى يكونوا مثلنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم أنقذ على رِسْلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإِسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فوالله لِأنْ يهدى الله بك رجلًا واحدًا خير من أن يكون لك حمر النعم (1).
وقد أبى اليهود الدخول في الإِسلاء، فهاجم المسلمون حصونهم حتى تم النصر للمسلمين عليهم.
لماذا لم يطالبوا بالجزية:
وهنا سؤال قد يعرض للقارئ وهو أن طريقة المسلمين مع أهل الكتاب (واليهود منهم) هي أنهم عندما يقومون بغزوهم لا يباشرون القتال ضدهم حتى يخيِّروهم بين واحد من ثلاث: إما الدخول في الإسلام فيكونون بذلك جزءًا من الأسرة الإِسلامية، وإما أن يدفعوا الجزية مقابل حمايتهم، وإلا فالقتال.
لكن النبي صلى الله عليه وسلم عندما قام بغزو اليهود في خيبر لم يعرض عليهم دفع الجزية بل عرض عليهم الإسلام، ولما رفضوا الدخول فيه قاتلهم .. فلماذا لم يعرض عليه أن يدفعوا الجزية مقابل حمايتهم وإقرارهم على أرضهم وأموالهم والتكفُّل بصيانة أرواحهم وأعراضهم من قبل قوات الأمن الإِسلامية كما يفعل دائمًا مع غيرهم من أهل الكتاب؟ وكما فعل مع يهود تيماء ونصارى نجران ومجوس هجر؟
يجيب بعض المؤرخين على هذا السؤال بقولهم: إن القرآن لم يكن قد نزل بتشريع قبول الجزية من أهل الكتاب وقت قيام النبي صلى الله عليه وسلم بمحاربة اليهود في خيبر.
وهذا الجواب مع كونه قد يكون صحيحًا من حيث كون تشريع الجزية لم ينزل إلا بعد فتح خيبر، إلا أننا نعتقد (وهذا مجرد اجتهاد) أنه حتى لو كان التشريع بقبول الجزية نزل قبل غزو خيبر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يعتبر يهود خيبر من الذين يمكن الاطمئنان إلى التعاهد معهم على دفع الجزية
(1) صحيح البخاري ج 5 ص 220 طبعة إدارة الطباعة المنيرية.
ليبقى لهم بعد مطلق الحرية مع التزام المسلمين بحمايتهم، بل لا بد من هدم سلطانهم ومحو كيانهم عن طريق الحرب أو يستسلموا دونما قيد أو شرط كخونة ومتآمرين سيظلون مصدر تهديد لأمن وسلامة المسلمين إذا لم تحتل مواقعهم ويقضى عليهم فيها كقواعد للعدوان على الإِسلام والمسلمين.
وقد أثبتت التجارب (عبر سبع سنوات ذهب فيها النبي صلى الله عليه وسلم أقصى حدود التسامح مع هؤلاء اليهود) .. أثبتت بأن هؤلاء اليهود أشبه بغدة السرطان في الجسم لا يجدى معها علاج سوى استئصالها كليًّا.
فقد حصل اليهود (في ظل التسامح الإِسلامي) على ما هو أكرم لهم من قبول النبي صلى الله عليه وسلم الجزية منهم، وهو قبول النبي صلى الله عليه وسلم عن طيب خاطر وصفاء نية- أن يكون هؤلاء اليهود حلفاء للمسلمين ومواطنين لهم، آمنين على أرواحهم وأعراضيم أحرارًا في دينهم، دون أن يأخذ المسلمون منهم درهمًا واحدًا مقابل ذلك. مع كون السلطان المطلق لهم في يثرب، فقد كانوا (بموجب معاهدة يثرب) أمة مع المسلمين لهم ما هم وعليهم ما عليهم، الأمر الذي يمكن تسميته بأنهم كانوا (بموجب هذه المعاهدة) أمة ذات كيان مستقل تتساوى مع أمة الإسلام في جميع الحقوق دونما تمييز (1).
ولكن بماذا قابل اليهود هذا التسامح وحسن المعاملة وكرم المواطنة الذي جعلهم (بالرغم من كونهم أقلية يهودية أجنبية بين أكثرية عربية إسلامية) لا يشعرون بأي تغيير في حياتهم الدينية والاجتماعية والاقتصادية التي كانوا عليها قبل سيطرة الإسلام على يثرب؟
قابل اليهود كل هذا التسامح والكرم وشرف المقصد وحسن المعاملة بالغدر والخيانة والتآمر والعدوان ونقض العهود والمواثيق في أدق الساعات وأحرج الظروف .. خُلُقٌ إسرائيلي قبيح لازمهم ولا يزال يلازمهم منذ أن لعنهم الله على لسان داود وعيسى بن مريم.
(1) انظر كتابنا (غزوة الأحزاب) وكتابنا (غزوة بني قريظة) .. الفصل الثاني الخاص بتاريخ اليهود.
فقد عانى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه (في يثرب) من هذا الخلق اليهودى أشد المتاعب وواجه أخطر المشاكل وتعرض لشتى المؤامرات، ومع ذلك ظل التسامح مع هؤلاء اليهود والصفح عنهم شعار النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان يقابل غدرهم وتآمرهم بالكف عن دمائهم التي كان قادرًا على سفكها.
وآخر إجراءات العفو والتسامح التي اتبعها النبي صلى الله عليه وسلم مع هؤلاء اليهود، هي معاملته يهود بني النضير في المدينة حيث حقن دماءهم وأعفى نساءهم وذراريهم من السبى وسمح لهم بأن يهاجروا إلى أي مكان شاؤوا آمنين على أرواحهم وما قدروا على حمله من أموالهم.
غير أن هؤلاء اليهود لم يكد يستقر بهم المقام في (خيبر) حتى جعلوا منها أخطر قاعدة للعدوان على الإِسلام والمسلمين فلاقى المسلمون نتيجة وجود هذه القاعدة أشد المتاعب وأخطر الأهوال التي كادت تعصف بوجودهم وتمحو كيانهم على النحو الذي فصلناه في كتابينا (غزوة الأحزاب وبنى قريظة).
فأثبت هؤلاء اليهود بذلك (وبما لا يدع مجالًا للشك) أنهم -ما بقوا على قيد الحياة- لن يرضوا بغير هدم كيان الإِسلام واستئصال شأفة المسلمين، مهما بلغ المسلمون معهم في الصفح وحسن المعاملة، ومهما أعطى اليهود من عهود وأبرموا من مواثيق.
لذلك كان من البديهى (بل من الضرورى) أن لا يسلك النبي القائد صلى الله عليه وسلم غير سبيل القضاء على هؤلاء اليهود وسحق كيانهم إتقاءً لشرهم وقطعًا لتيار خطر عدوانهم الذي ما كان ليتوقف لولا أن النبي صلى الله عليه وسلم نقل المعركة إلى ديارهم واحتل قواعد عدوانهم، فضمن بذلك أمن وسلامة المسلمين من شر عدوان وغدر هؤلاء اليهود.
من هنا (والله أعلم) جاء السبب في أن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاءه من بعده (وبعد التشريع بقبول الجزية من أهل الكتاب) لم يعاملوا يهود خيبر كما يعاملون بقية أهل الكتاب من مختلف الطوائف من الاكتفاء بإعطائهم الجزية، لأن هؤلاء اليهود أصبح لهم حكم الخونة الناكثين الذين تكرر منهم الغدر والخيانة والتمرد والتآمر وأثبتت التجارب المتكررة أنهم لا يمكن أن يفوا