المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الثاني

- ‌المبحث الثاني عشر: في‌‌ التفسيروالمفسرين وما يتعلق بهما

- ‌ التفسير

- ‌ أقسام التفسير

- ‌ التفسير المأثور

- ‌ المفسرون من الصحابة

- ‌ تفسير ابن عباس

- ‌ الرواية عن غير ابن عباس من الصحابة

- ‌ المفسرون من التابعين

- ‌ ضعف الرواية بالمأثور وأسبابه

- ‌ تدوين التفسير بالمأثور

- ‌ التفسير بالرأي

- ‌العلوم التي يحتاجها المفسر

- ‌ منهج المفسرين بالرأي

- ‌ قانون الترجيح عند الاحتمال

- ‌ أوجه بيان السنة للقرآن

- ‌ التعارض بين التفسير بالرأي

- ‌ أهم كتب التفسير بالرأي

- ‌ تفاسير الفرق المختلفة

- ‌ تفاسير المعتزلة

- ‌ تفاسير الباطنية

- ‌ تفاسير الشيعة

- ‌ التفسير الإشاري

- ‌ نصيحة خالصة

- ‌ تفاسير أهل الكلام

- ‌ مزج العلوم الأدبية والكونية

- ‌كلمة ختامية

- ‌المبحث الثالث عشر: في ترجمة القران وحكمها تفصيلا

- ‌مدخل

- ‌القرآن ومعانيه ومقاصده

- ‌مقاصد القرآن الكريم

- ‌حكم ترجمة القرآن تفصيلا

- ‌ترجمة القرآن بمعنى تفسيره بلغة أجنبية

- ‌فوائد الترجمة بهذا المعنى

- ‌دفع الشبهات عن هذه الترجمة

- ‌ ترجمة القرآن بمعنى نقله إلى لغة أخرى

- ‌دفع الشبهات الواردة على منع هذه الترجمة

- ‌حكم قراءة الترجمة والصلاة بها

- ‌توجيهات وتعليقات

- ‌موقف الأزهر من ترجمة القرآن الكريم

- ‌فذلكة المبحث

- ‌المبحث الرابع عشر: في النسخ

- ‌أهمية هذا المبحث:

- ‌ما هو النسخ

- ‌ما لا بد منه في النسخ

- ‌الفرق بين النسخ والبداء

- ‌الفرق بين النسخ والتخصيص

- ‌النسخ بين مثبتيه ومنكريه

- ‌أدلة ثبوت النسخ عقلا وسمعا

- ‌حكمة الله في النسخ

- ‌شبهات المنكرين للنسخ ودفعها

- ‌طرق معرفة النسخ

- ‌ما يتناوله النسخ

- ‌أنواع النسخ في القرآن

- ‌شبهات أولئك المانعين ودفعها

- ‌النسخ ببدل وبغير بدل

- ‌شبهة ودفعها

- ‌نسخ الحكم ببدل أخف أو مساو أو أثقل

- ‌شبهات المانعين ودفعها

- ‌نسخ الطلب قبل التمكن في امتثاله

- ‌شبهات المنكرين ودفعها

- ‌النسخ في دورانه بين الكتاب والسنة

- ‌نسخ القياس والنسخ به

- ‌نسخ الإجماع والنسخ به

- ‌موقف العلماء من الناسخ والمنسوخ

- ‌منشأ غلط المتزيدين تفصيلا

- ‌الآيات التي اشتهرت بأنها منسوخة

- ‌المبحث الخامس عشر: في محكم القرآن ومتشابهه

- ‌معنى محكم القران ومتشابه

- ‌آراء العلماء في معنى المحكم والمتشابه

- ‌منشأ التشابه وأقسامه وأمثلته

- ‌أنواع المتشابهات

- ‌متشابه الصفات

- ‌دفع الشبهات الواردة في هذا المقام

- ‌المبحث السادس عشر: في اسلوب القران الكريم

- ‌معنى الاسلوب

- ‌خصائص أسلوب القرآن:

- ‌تعليق وتمثيل:

- ‌الشبهات الواردة على أسلوب القرآن

- ‌المبحث السابع عشر: في إعجاز القرآن وما يتعلق به

- ‌مدخل

- ‌وجوه إعجاز القرآن

- ‌الوجه الأول لغته وأسلوبه

- ‌الوجه الثاني: طريقة تأليفه

- ‌الوجه الثالث: علومه ومعارفه

- ‌الوجه الرابع: وفاؤه بحاجات البشر

- ‌الوجه الخامس: موقف القرآن من العلوم الكونية

- ‌الوجه السادس: سياسته في الإصلاح

- ‌الوجه السابع: أنباء الغيب فيه

- ‌الوجه الثامن آيات العتاب

- ‌الوجه التاسع: ما نزل بعد طول انتظار

- ‌الوجه العاشر: مظهر النبي صلى الله عليه وسلم عند هبوط الوحي عليه

- ‌الوجه الحادي عشر: آية المباهلة

- ‌الوجه الثاني عشر: عجز الرسول عن الإتيان ببدل له

- ‌الوجه الثالث عشر: الآيات التي تجرد الرسول من نسبتها إليه

- ‌الوجه الرابع عشر: تأثير القرآن ونجاحه

- ‌وجوه معلولة

- ‌شبهة القول بالصرفة

- ‌دفع الشبهات الواردة في هذا المقام

- ‌خلاصة

- ‌كلمة الختام

الفصل: ‌ تدوين التفسير بالمأثور

الإسرائيليات فتقبلها الآخذون على أنها من الإسلاميات ولهذا يجب النظر في هذه المرويات فإن كانت مما يقرره الإسلام قبلناها وإن كانت مما يرده رددناها وإن كانت مما سكت عنه سكتنا عنها عملا بقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهمولا تكذبوهم" رواه البخاري بهذا اللفظ ورواه أحمد والبزار من حديث جابر بلفظ: "لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا وإنكم إما أن تكذبوا بحق أو تصدقوا بباطل والله لو كان موسى بين أظهركم ما حل له إلا اتباعي" وسبب هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أن عمر كتب شيئا من التوراة عن اليهود فغضب صلى الله عليه وسلم وقاله.

ص: 28

ط -‌

‌ تدوين التفسير بالمأثور

وخصائص الكتب المؤلفة في ذلك

جاء قرن تابعي التابعين وفيه ألفت تفاسير كثيرة جمعت من أقوال الصحابة والتابعين كتفسير سفيان بن عيينة ووكيع بن الجراح وشعبة بن الحجاج ويزيد بن هارون وعبد الرزاق وآدم بن أبي إياس وإسحاق بن راهوية وروح بن عبادة وعبد بن حميد وأبي بكر بن أبي شيبة وعلي بن أبي طلحة والبخاري وآخرين ومن بعدهم ألف ابن جرير الطبري كتابه المشهور وهو من أجل التفاسير ثم ابن أبي حاتم وابن ماجه والحاكم وابن مردويه وابن حبان وغيرهم.

وليس في تفاسير هؤلاء إلا ما هو مسند إلى الصحابة والتابعين وتابعيهم ما عدا ابن جرير فإنه تعرض لتوجيه الأقوال وترجيح بعضها على بعض وذكر الإعراب والاستنباط.

ص: 28

1 -

تفسير ابن جرير:

ابن جرير هو أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد الطبري ولد سنة 224 أربع وعشرين ومائتين وتوفي سنة 310 عشر وثلاثمائة كان فريد عصره ووحيد دهره علما وعملا وحفظا لكتاب الله وخبرة بمعانيه وإحاطة بالآيات ناسخها ومنسوخها وبطرق الرواية صحيحها وسقيمها وبأحوال الصحابة والتابعين.

لذلك كان تفسيره من أجل التفاسير بالمأثور وأصحها وأجمعها لما ورد عن الصحابة والتابعين عرض فيه لتوجيه الأقوال ورجح بعضها على بعض وذكر فيه كثيرا من الإعراب واستنباط الأحكام وقد شهد العارفون بأنه لا نظير له في التفاسير:

قال النووي في تهذيبه: كتاب ابن جرير في التفسير لم يصنف أحد مثله وقال أبو حامد الأسفراييني شيخ الشافعية لو رحل أحد إلى الصين ليحصل تفسير ابن جرير لم يكن ذلك كثيرا عليه.

ومن مزاياه أنه حرر الأسانيد وقرب البعيد وجمع ما لم يجمعه غيره غير أنه قد يسوق أخبارا بالأسانيد غير صحيحة ثم لا ينبه على عدم صحتها وقلنا إن عذره في ذلك هو ذكر السند في زمن توافر الناس فيه على معرفة حال السند من غير توقف على تنبيه منه وهذا التفسير موجود إلى اليوم ومنتشر مطبوع وهو عمدة لأكثر المفسرين.

2 -

تفسير أبي الليث السمرقندي:

هو تفسير بالمأثور يذكر فيه كثيرا من أقوال الصحابة والتابعين غير أنه لا يذكر الأسانيد وهو مخطوط في مجلدين وموجود في مكتبة الأزهر

ص: 29

3 -

الدر المنثور في التفسير بالمأثور

هو للإمام جلال الدين السيوطي قال في مقدمته إنه لخصه من كتب ترجمان القرآن وهو التفسير المسند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مطبوع بمصر وقد ذكر في كتابه الإتقان أنه شرع في تفسير جامع لما يحتاج إليه من التفاسير المنقولة والأقوال المعقولة والاستنباط والإشارات والأعاريب واللغات ونكت البلاغة ومحاسن البديع وسماه مجمع البحرين ومطلع البدرين وذكر أنه جعل كتاب الإتقان مقدمة له وذكر في خاتمة كتاب الإتقان نبذة صالحة من التفسير بالمأثور المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم من أول الفاتحة إلى سورة الناس.

4 -

تفسير ابن كثير

ابن كثير هو عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن الخطيب أبي حفص عمر القرشي الدمشقي الشافعي المولود سنة 705المتوفي سنة 774 وتفسيره هذا من أصح التفاسير بالمأثور إن لم يكن أصحها جميعا نقل فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم وكبار الصحابة والتابعين وقد أخرجته مطبعة المنار بمصر في تسعة أجزاء ومعه بأسفل الصفحات تفسير البغوي الآتي ذكره وبآخره كتاب فضائل القرآن الذي يعتبر متمما له.

5 -

تفسير البغوي

هو العلامة أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي الفقيه الشافعي كان إماما في التفسير والحديث له التصانيف المفيدة ومنها معالم التنزيل أتى فيه بالمأثور ولكن مجردا عن الأسانيد.

6 -

تفسير بقي بن مخلد

ذكر الإمام السيوطي في طبقات المفسرين أن بقي بن مخلد بن يزيد بن عبد الرحمن

ص: 30

الأندلسي القرطبي أحد الأعلام وصاحب التفسير والسند أخذ عن يحيى بن يحيى الليثي ورحل إلى المشرق ولقي الكبار بالحجاز ومصر وبغداد وسمع من أحمد بن حنبل وسمع بالكوفة أبا بكر بن أبي شيبة وسمع بمصر يحيى بن بكير وسمع بالحجاز أبا مصعب الزهري وسمع بدمشق هشام بن عمار وشيوخه مائتان وأربعة وثمانون رجلا وكان إماما زاهدا صواما صادقا مجاب الدعوة قليل المثل بحرا في العلم مجتهدا لا يقلد أحدا عني بالأثر وليس لأحد مثل سنده في الحديث ولا في التفسير.

قال ابن حزم: أقطع أنه لم يؤلف في الإسلام مثل تفسيره لا تفسير ابن جرير ولا غيره ولد سنة 204 أربع ومائتين للهجرة وتفسيره الموصوف بما ترى يؤسفنا أنه لم يكتب له البقاء ولم يظفر بما ظفر به تفسير ابن جرير من هذا الخلود

وكم في الخدر أبهى من عروس

ولكن للعروس الدهر ساعد

7 -

أسباب النزول للواحدي

هو أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي النيسابوري اقتصر في تفسيره على بيان أسباب النزول بالمأثور وهذا نوع من التفسير لا مجال للتأويل فيه وهو من أعظم ما ألف في موضوعه على رغم توسط حجمه.

8 -

الناسخ والمنسوخ لأبي جعفر النحاس:

هو كتاب نفيس تحدث فيه مؤلفه عن الناسخ وذكر أقوال العلماء في ذلك مسندة وقد استوعب ما قيل في النسخ ولو لم يكن عنده صحيحا وهذا نوع لا مجال للرأي فيه أيضا بل سبيله الوحيدة هي الرواية وهو معدود هنا من التفسير بالمأثور على ضرب التوسع كما لا يخفى.

طريق المفسرين بعد العصر الأول:

ثم إن كتب التفسير بالمأثور موسوعات كبيرة لا نستطيع الإحاطة بها ولا بأسماء

ص: 31

جميع مؤلفيها ولا بطرق كل مؤلف فيها غير أنا نستطيع أن نجمل القول في طرق المفسرين بعد العصر الأول فنقول:

بعد عصر الأولين الذين ألفوا في التفسير بالمأثور والتزموا ذكر السند بجملته جاء قوم صنفوا في التفسير واختصروا الأسانيد ولم ينسبوا الأقوال لقائليها فالتبس بذلك الصحيح وغيره وصار الناظر في تلك الكتب يظنها كلها صحيحة بينما هي مفعمة بالقصص وبالإسرائيليات على وجه لا تمييز فيه كأنها كلها حقائق ومن هنا استهدفت رواياتهم للتجريح والطعن ولولا ما يقوم به المحققون في كل عصر من إحقاق الحق ودحض الباطل لانطمست المعالم واختلط الحابل بالنابل ولكان ذلك مثار مطاعن توجه بلا حساب إلى الإسلام والمسلمين فقد ذكروا في قصص الأنبياء وفي بدء الخليقة والزلازل ويأجوج ومأجوج وبرودة الماء الذي في الآبار زمن الصيف وحرارته في الشتاء ذكروا في ذلك كله ما يندى له الجبين خجلا وما لا يتفق والحقائق العلمية أبدا ويا ليتهم نبهوا على وضعه لو أنهم فعلوا لكان الأمر هينا ولكنهم لم يذكروا السند كما ذكر الأولون ليستطيع المطلع عليه نقده بالرجوع إلى كتب الجرح والتعديل ثم لم يكلفوا أنفسهم الحكم على السند بعد محاكمته إلى كتب العدل والتجريح وتلك ثالثة الأثافي.

وقد عني بعض المفسرين بأن يسرد شتات الأقوال حتى أنه ذكر في تفسير قوله سبحانه: غير المغضوب عليهم ولا الضالين نحو عشرة أقوال مع أن الوارد الصحيح تفسير المغضوب عليهم باليهود وتفسير الضالين بالنصارى ولكن الولوع بكثرة النقول نأى بهم عن الاقتصار على التفسير المقبول.

وكذلك نلاحظ أن كل بارع في فن يقتصر غالبا في تفسيره على الفن الذي برع فيه فالمبرز في العلوم العقلية كالفخر الرازي أغرم باستعراض أقوال الحكماء والفلاسفة وشبههم والرد عليها في تفسيره والمبرز في الفقه كالقرطبي أولع بتقرير الأدلة للفروع الفقهية والرد على المخالفين والمبرز في النحو كالزجاج والواحدي في البسيط وأبي حيان في البحر يهتم أعظم الاهتمام بالإعراب ووجوهه ونقل قواعد النحو وفرعها.

ص: 32

وأصحاب المذاهب المتطرفة والنحل الضالة يقصدون إلى تأويل الآيات على ما يروج مذاهبهم في التطرف والضلال.

والأخباريون يعنيهم أن يستقصوا القصص والأخبار عمن سلف صحيحة كانت أو باطلة.

والإشاريون وأرباب التصوف تهمهم ناحية الترغيب والترهيب والزهد والقناعة والرضا فيفسرون القرآن بما يوافق مشاربهم وأذواقهم وعلى الإجمال نرى كل نابغة في فن أو داعية إلى مذهب أو فكرة يجتهد في تفسير الآيات بما يوافق فنه ويلائم مشربه ويناصر مذهبه ولو كان بعيدا كل البعد عن المقصد الذي نزل من أجله القرآن ولقد غالى بعضهم فجعل القرآن مشتملا على العلوم الكونية كالطبيعة والكيمياء والحساب والجبر وما إلى ذلك وقد سبق أن حققنا ذلك في المبحث الأول فارجع إليه إن شئت وربما نعود إلى القول في هذا الموضوع مرة أخرى.

والخلاصة هنا: أنه يجب على المفسر ملاحظة أن القرآن كتاب هداية وإعجاز وأن يجعل هدفه الأعلى ومقصده الأسمى إظهار هدايات الله من كلامه وبيان وجوه إعجازه في كتابه: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ}

التفسير المحمود والتفسير المذموم

تفسير الصحابة والتابعين وتفسير الذين اعتمدوا على أقوال الصحابة والتابعين بالأسانيد الصحيحة وتفسير أهل الرأي الموفق الذين جمعوا بين المأثور الصحيح مع حذف

ص: 33

أسانيده وبين آرائهم العلمية المعتدلة كل هذه الثلاثة من التفسير المحمود ويغلب هذا النوع الثالث في عصرنا الحاضر إذ تجمع التفاسير لدينا بين معان مأثورة ومعان توسعوا في ذكرها عن طريق الرأي والاجتهاد المعتمد على العلم والاعتدال.

وهناك نوع رابع هو تفسير أهل الأهواء والبدع وحكمه أنه مذموم قالوا وأشهر الغارقين في هذا الضلال الرماني والجبائي والقاضي عبد الجبار ثم اختلفوا في الزمخشري فمنهم من عد تفسيره من هذا النوع لما فيه من مناحي الاعتزال ومنهم من قال إن فيه فوائد مهمة يريد بذلك أن يلتمس له المعاذير وأن يغلب جانب الفوائد التي فيه على جانب الاعتزال الذي يحتويه ولكن عدالة الأحكام تقضي بأن نسوي بين جميع التفاسير وأن نحاكمها إلى مبدأ واحد فما وافق منها وجه الصواب وكان بمنأى عن البدع والأهواء فهو محمود وما تورط منها في الخطأ وتخبط في الهوى والبدعة فهو مذموم لا فرق بين الزمخشري وغير الزمخشري ولا بين معتزلي وغير معتزلي.

ميزان المدح والذم

ثم إن هناك ميزانا لما يحمد من التفسير وما يذم وهو الفيصل الذي يجب أن نحكمه ونزن كل تفسير به فما رجح في هذا الميزان قبلناه وحمدناه وما طاش رفضناه وذممناه والمدح والذم درجات بعضها فوق بعض على حسب استيفاء التفسير لوجوه المدح والذم أو نقصها قليلا أو كثيرا وسنضع هذا الميزان بين يديك تحت عنوان منهج المفسرين بالرأي فانتظره رويدا.

غير أنا نسترعي نظرك هنا إلى كلمة أهل البدع والأهواء ونريد أن تكون موفقا في حكمك على أية طائفة أو أي شخص ببدعة أو هوى وإلا خيف عليك أن تكون أنت صاحب البدعة والهوى في حكمك {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ

ص: 34

سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} .

غلطة التعصب للرأي:

واعلم أن هناك أفرادا بل أقواما تعصبوا لآرائهم ومذاهبهم وزعموا أن من خالف هذه الآراء والمذاهب كان مبتدعا متبعا لهواه ولو كان متأولا تأويلا سائغا يتسع له الدليل والبرهان كان رأيهم ومذهبهم هو المقياس والميزان أو كأنه الكتاب والسنة والإسلام وهكذا استزلهم الشيطان وأعماهم الغرور.

ولقد نجم عن هذه الغلطة الشنيعة أن تفرق كثير من المسلمين شيعا وأحزابا وكانوا حربا على بعضهم وأعداء وغاب عنهم أن الكتاب والسنة والإسلام أوسع من مذاهبهم وآرائهم وأن مذاهبهم وآرائهم أضيق من الكتاب والسنة والإسلام وأن في ميدان الحنيفية السمحة متسعا لحرية الأفكار واختلاف الأنظار ما دام الجميع معتصما بحبل من الله ثم غاب عنهم أن الله تعالى يقول: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} ويقول جل ذكره: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} ويقول تقدست أسماؤه: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ} .

لمثل هذا أربأ بنفسي وبك أن نتهم مسلما بالكفر أو البدعة والهوى لمجرد أنه خالفنا في رأي إسلامي نظري فإن الترامي بالكفر والبدعة من أشنع الأمور ولقد قرر علماؤنا أن الكلمة إذا احتملت الكفر من تسعة وتسعين وجها ثم احتملت الإيمان من وجه واحد حملت على أحسن المحامل وهو الإيمان وهذا موضوع

ص: 35

مفروغ منه ومن التدليل عليه لكن يفت في عضدنا غفلة كثير من إخواننا المسلمين عن هذا الأدب الإسلامي العظيم الذي يحفظ الوحدة ويحمي الأخوة ويظهر الإسلام بصورته الحسنة ووجهه الجميل من السماحة واليسر واتساعه لكافة الاختلافات الفكرية والمنازع المذهبية والمصالح البشرية ما دامت معتصمة بالكتاب والسنة على وجه من الوجوه الصحيحة التي يحتملها النظر السديد والتأويل الرشيد.

ولقد حدث مثل هذا الاختلاف على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه فما تنازعوا من أجله بل أخذ كل برأيه وهو يحترم الآخر ورأيه وأقرهم الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك ولم يعب أحدا منهم على رغم أنه يترتب على بعض هذه الاختلافات أن ترك بعضهم الصلاة في وقتها اجتهادا منه إذ قال الرسول صلى الله عليه وسلم الله يوما لفئة من أصحابه: "لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة" فسافروا وجدوا ولكن الغزالة تدلت للغروب وهم لا يزالون ضاربين في الأرض ولما يصلوا هنالك اجتهدوا فمنهم من وقف عند ظاهر النص فترك العصر حتى خرج وقته ما دام لم يصل إلى بني قريظة ومنهم من تأول النص وحمله على الكناية في الإسراع فصلى حين خاف على الوقت من قبل أن يصل إلى بني قريظة.

نقول إن مثل هذا الخلاف حدث على عهد صاحب الرسالة وأقره تيسيرا على المسلمين وإعلاما بأن الإسلام دين الكافة يسع جميع البشر في كل العصور والأحوال وشهد المسلمون بعد ذلك عصرا سعيدا كان أئمة الدين فيه يختلفون فيما بينهم كثيرا ولكنهم كانوا بجانب هذا يتكارمون ويتعاونون ويتراحمون كثيرا.

وإن كنت في شك فاسأل التاريخ عن إكرام مالك للشافعي واحترام الشافعي لأحمد بن حنبل حتى ورد أنه كان يتبرك بغسالة قميصه أي يتبرك الأستاذ الإمام

ص: 36

بغسالة قميص تلميذه المخالف له في الرأي والاجتهاد ثم سل التاريخ عن معاونة صاحب أبي حنيفة للشافعي ودفعه إليه كتبه في كرم وحسن ضيافة وصدق محبة ولا تنس إباء مالك على الرشيد أن يحمل الناس في بلاد الإسلام كلها على موطئه ومذهبه ويعتذر إليه بأن الإسلام أوسع من موطئه ومذهبه وأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرقوا في البلاد ولكل وجهة.

أرأيت هذا النبل: والطهر أجل أجل ولكنك ستقضي الأسف حين ترى بجانبه فئات من المسلمين أيضا تراشقوا بالكفر وتراموا بالشرك وتقاذفوا بالتبدع والهوى لمجرد تأويل يستسيغه النظر ويتسع له صدر الاستدلال ثم اتسع الخرق على الراقع في بعض الظروف حتى دارت معارك طاحنة بين صفوف كلها مسلمة وأريقت دماء زكية كلها إسلامية ولا نزال نشهد من مثل هذا الصراع القائم على التنطع مشاهد ما كان أغنانا عنها وما كان أحرانا بالحذر منها خصوصا بعد ما سمعنا من الآيات وبعد أن أقر الرسول صلى الله عليه وسلم أمثال هذه الخلافيات وبعد أن قال في حديث واحد ثلاث مرات: "هلك المتنطعون" وهي كلمة صغيرة ولكنها كبيرة تحذر وتنذر وتمثل الهلاك جاثما في التنطع بأشكاله وألوانه في الأنفس والأعراض والأموال وفي الجماعات والأفراد على سواء.

لا أريد أن أطيل في هذا ولكني أريد أن أقرر وأكرر أن الحكم على فرد أو جماعة بالبدعة والهوى لا يجوز أن يكون مبنيا على غير بدعة أو هوى.

ونرى أن من أمثلة هذا التعصب والسير مع الهوى أن يرمي بعض المغالين في الاعتزال إخوانهم من أهل السنة بأنهم حمير في جهالتهم وبأنهم على هوى في عقيدتهم ولم يكفهم أن يقولوا ذلك نثرا بل رددوه شعرا وأنشدوا سامحهم الله

لجماعة سموا هواهم سنة

وجماعة حمر لعمري موكفه

الخ

ص: 37

وكذلك نرى من أمثلة هذا التعصب والسير مع الهوى أن يرمي بعض المغالين من أهل السنة إخوانهم المعتزلة بالشرك والوثنية لاعتقادهم أن العبد خالق لأفعال نفسه الاختيارية.

ونعتقد أن كلتا الطائفتين لو أنصتت إلى وجهة نظر صاحبتها في هدوء ونصفة لاجتمعنا على الإنسانية التي تجمع الجميع وعلى الإسلام الذي يؤلف بين الجميع وعلى الاحترام الذي يجب أن يسود الجميع فإن لكل شرعة ومنهاجا في حدود الإسلام وأدلة الإسلام.

ولنقف برهة بجانب هذا المثال مثال خلق الأفعال ليتضح الحال ولنقيس عليه النظائر والأشباه عند الاختلاف والاشتباه ولنعلم أن المتخالفين في ذلك ما زالوا مع خلافهم إخوانا مسلمين تظلهم راية القرآن ويضمهم لواء الإسلام.

في القرآن الكريم والسنة النبوية نصوص كثيرة على أن الله تعالى خالق كل شيء وأن مرجع كل شيء إليه وحده وأن هداية الخلق وضلالهم بيده سبحانه مثل قوله عز وجل: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إنا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ

ص: 38

يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} .

وكذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا كان كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل" ويقول: "الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره" ويقول: "يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك" إلى غير ذلك.

هذه النصوص وأمثالها إذا نظر العبد إليها لا يسعه إلا أن يرد الأمور كلها إلى الله معتقدا أنه الواحد الأحد لا شريك له في ملكه ولا في ناحية من ملكه وهي أفعال التكليف من عباده وكأن نسبة الأفعال إلى العباد هي الأخرى محض فضل من الله على حد ما قال إبن عطاء الله من فضله وكرمه عليك أن خلق العمل ونسبه إليك.

ويظاهر هذه الأدلة النقلية أدلة أخرى عقلية ناطقة بوحدانية الله في كل شيء وبأن العبد لا يعقل أن يكون خالقا لما اختاره من أفعاله لأنه لو كان خالقا لها لكان عالما بتفاصيلها ولكنه يشعر من نفسه بأنه تصدر عنه أشياء كثيرة جدا من عمله الاختياري دون أن يعرف تفاصيلها كخطوات المشي وحركات المضغ في الأكل ونحوها وإذا فليس العبد هو الخالق لها {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} .

بجانب هذا توجد نصوص كثيرة أيضا من الكتاب والسنة تنسب أعمال العباد إليهم وتعلن رضوان الله وجبه للمحسنين فيها كما تعلن غضبه وبغضه للمسيئين منهم ومن ذلك قوله سبحانه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ

ص: 39

أَنْ يَسْبِقُونَا أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ُلْ لا تُسْأَلونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} .

وكذلك نقرأ في السنة النبوية: "اعلموا فكل ميسر لما خلق له بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت يا عباس بن عبد المطلب اعمل لا أغني عنك من الله شيئا يا فاطمة بنت محمد اعملي لا أغني عنك من الله شيئا" إلى غير ذلك.

وهذه نصوص إذا نظر العبد إليها لا يسعه إلا أن يرد أعمال العباد الاختيارية إليهم معتقدا أنهم يستحقون ثوابها إن أحسنوا وعقابها إن أساؤوا ويظاهر هذه الأدلة النقلية أدلة عقلية أيضا شاهدة بعدالة الله وحكمته لأن العبد لو لم يكن موجدا لما اختار من أعماله لما كان ثمة وجه لاستحقاقه المثوبة أو العقوبة وكيف يثاب أو يعاقب على ما ليس له ولم يصدر منه.

غيري جنى وأنا المعذب فيكم

فكأنني سبابة المتندم

ص: 40

أهل السنة بهرتهم النصوص الأولى والأدلة العقلية التي بجانبها فرجحوها وقالوا إن العبد لا يخلق أفعال نفسه الاختيارية إنما هي خلق الله وحده وإذا قيل لهم كيف يثاب المرء أو يعاقب على عمل لم يوجده هو وكيف يتفق هذا وما هو مقرر من عدالة الله وحكمته في تكليف خلقه قالوا إن العباد وإن لم يكونوا خالقين لأعمالهم كاسبون لها وهذا الكسب هو مناط التكليف ومدار الثواب والعقاب وبه يتحقق عدل الله وحكمته فيما شرع للمكلفين.

وهكذا حملوا النصوص الأولى على الخلق وحملوا الثانية على الكسب جمعا بين الأدلة ثم إذا قيل لهم ما هذا الكسب اختلف الأشعري والماتريدي في تحديده أهو مقارنة القدرة القديمة للحادثة أم هو العزم المصمم ولكل وجهة نظر يطول شرحها وتوجيهها.

أما المعتزلة فقد بهرتهم النصوص الثانية وما يظاهرها من برهان النقل فرجحوها وقالوا إن العبد يخلق أفعال نفسه الاختيارية وإذا قيل لهم أليس الله خالق كل شيء ومنها أعمال العباد قالوا بلى إنه خالق كل شيء حتى أعمال عباده الاختيارية بيد أنه خلق بعض الأشياء بلا واسطة وخلق بعضها الآخر بواسطة وأعمال المكلفين من القبيل الثاني خلقها الله بوساطة خلق آلاتها فيه وآلاتها هي القدرة الكلية والإرادة الكلية الصالحتان للتعلق بكل من الطرفين وليس لنا من حول ولا قوة سوى أننا استعملناها على أحد وجهيها إما بحسن الاختيار وإما بسوء الاختيار ثم لا مانع عندنا من القول بأنه سبحانه خالق لأفعال عباده ولكن على سبيل المجاز باعتبار أنه خالق أسبابها ووسائلها.

وإذا قيل لهم إن مذهبكم يستلزم أن يكون لله شركاء كثيرون في فعله وهم عباده المكلفون وهذا يناقض عقيدة التوحيد وبرهان الوحدانية قالوا لا نسلم هذا

ص: 41

ولا نقول به فإن الوحدانية ليس معناها نفي وجود ذوات أو صفات أو أفعال لغيره إنما معناها نفي أن يكون لغيره شبه به في ذاته أو صفاته أو أفعاله وأنتم يا أهل السنة لا تمنعون وجود ذوات لا تشبه ذاته ولا تمنعون وجود صفات لا تشبه صفاته فلم تمنعون وجود أفعال من العباد لا تشبه أفعاله وهو ما نقول به في خلق العباد لأعمالهم فإنها لا تشبه أفعال الله بحال.

هكذا تجد لكلتا الطائفتين وجهة نظر قوية وتأويلا سائغا فيما تؤوله من النصوص المقابلة للنصوص التي بهرتها فرجحتها ونجد أيضا أن كلتا الطائفتين لا تلتزم المحظور التي تحاول الأخرى أن تلزمها إياه في مقام الحجاج والجدال بل توجه رأيها توجيها ينأى بها عن الوقوع في المحظور ثم نجد كلتا الطائفتين يتلاقيان أخيرا بعد طول المطاف عند نقطة الاعتقاد السديد بوحدانية الله وحكمة الله ولكن على الوجه الذي استبان لها وراج عندها.

فكيف يرضى منصف إذا بتجريح إحداهما ورميها بأشنع التهم من كفر أو شرك أو هوى وماذا علينا أن نرجح ما نرجح من غير تسفيه للجانب الآخر بل ماذا علينا أن نلوذ بالصمت ونعتصم بالسكون فلا نخوض في أمثال هذه الدقائق العويصة والمسالك الملتوية البعيدة لا سيما أن الرحمن الرحيم لم يكلفنا بها ولم يفرضها علينا.

ولقد كان سلفنا الصالح يؤمنون بوحدانية الله وعدله ويؤمنون بقدره وأمره ويؤمنون بهذه النصوص وتلك النصوص ويؤمنون بأن العبد يعمل ما يعمل وأن الله خالق كل شيء ويؤمنون بأنه تعالى تنزه في قدره عن أن يكون مغلوبا أو عاجزا وتنزه في أمره وتكليفه عن أن يكون ظالما أو عابثا ثم بعد ذلك يصمتون فلا يخوضون في تحديد نصيب عمل الإنسان الاختياري من قدرة الله ونصيبه من قدرة العبد ولا يتعرضون لبيان مدى ما يبلغ فعل الله في قدره ولا لبيان مدى ما يبلغ

ص: 42

فعل العبد في أمثال أمره ذلك ما لم يعلموه ولم يحاولوه لأنهم لم يكلفوه وكان سبحانه أرحم بعباده من أن يكلفهم إياه لأنه من أسرار القدر أو يكاد والعقل البشري محدود التفكير ضعيف الاستعداد ومن شره العقول طلب ما لا سبيل لها إليه وما أوتيتم من العلم إلا قليلا.

لم يمتحنا بما تعيا العقول به

حرصا علينا فلم نرتب ولم نهم

واجبنا إزاء الخلافيات

ليس من شأني هنا أن أفصل القول في هذه المسألة ولا في أشباهها فلهذا التفصيل علم آخر إنما هو ضرب من التمثيل يجتزئ فيه بالقليل لنخلص منه بعظة مهمة هي أن المسلمين لا يجوز لهم أن ينقسموا شيعا وأحزابا لأمر ليس من الدين فضلا عن أن يكون من أصول الدين وإذا التمسنا المعاذير لخوض من خاضوا أو يخوضون فيه دفعا لشبهات المشتبهين أو ضلال المضللين فلن نستطيع التماس عذر واحد لمن شنوها حربا شعواء بينهم وبين إخوانهم في الدين وما كان لهم أن يخرجوا من مثل هذا البحث أعداء متخاذلين وقد كانوا بالأمس إخوانا متفاهمين متعاونين.

وإذا فلنستمسك بالعروة الوثقى ولنفسح صدورنا للخلافيات ما دام صدر الإسلام قد وسعها ولنعلم أن الإسلام أوسع من المذاهب والآراء ولئن ضقت ذرعا برأي أخيك اليوم فقد ترى أنت رأيه غدا عندما تقتنع بوجهة نظره فقد رجع كثير من أعلام الأئمة عن آراء رأوها بل عن مذاهب كانوا قد ذهبوا إليها ولعلك لا تجهل أن للشافعي مذهبا قديما ومذهبا جديدا وأن الخلاف في لواحق العقائد والأصول كثير الشبه بالخلاف في الأحكام والفروع.

لهذا كله تراني لا أذهب مع الذاهبين في تضليل المعتزلة وتسفيه أحلامهم ونبزهم

ص: 43

بألقاب الكفر والفسوق كما لا أذهب مع الذاهبين في تجهيل أهل السنة وتحقيرهم ونبزهم بالجهالة والجمود والهوى: {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} .

تحذير:

وأحب ألا يفهم القاريء الكريم أنني أريدها فوضى لكل متأول في القرآن متلاعب بالنصوص عابث بتعاليم الدين بل الذي أريده وأرجوه أن نفرق بين متأول ومتأول ثم ننظر أهذا التأويل سائغ أم غير سائغ أي تساعد عليه قوانين اللغة العربية ومقررات الإسلام المقطوع بها المعلومة من الدين بالضرورة وبراهين العقل والمنطق أم لا.

فالسائغ نقبله ونرحب به وإن خالف رأينا وغير السائغ نرده في غير تردد ونحاربه في غير هوادة لأن تاريخ الإسلام لم يشهد أعداء كانوا أخطر عليه من أولئك العابثين الذين تلاعبوا بنصوصه وعبثوا بمقرراته سواء منهم من ذهب به الماضي كالباطنية ومن برم به الحاضر كالبهائية وقد تسمع قريبا شيئا عن أمثالهم.

سماحة الإسلام ويسر تعاليمه

بان لك مما ذكرنا أن الإسلام دين سمح وأن الله تعالى لم يكلف الخلق من تعاليم دينه إلا ما جاء به كتابه الكريم وشرحه نبيه العظيم على تلك الطريقة السهلة الواضحة البعيدة عن التدقيقات الفلسفية والتعقيدات الفنية.

ولعل من تمام الفائدة في هذا الموضوع الخطير أن نقتطف لك كلمة قالها حجة

ص: 44

الإسلام الغزالي في الإحياء عند بيانه لما بدل الناس من ألفاظ العلوم إذ قال تغمده الله برحمته.

اللفظ الثالث أي من الأسماء المحمودة التي نقلت بالأغراض الفاسدة إلى معان غير ما أراده السلف الصالح والقرن الأول التوحيد وقد جعل الآن عبارة عن صناعة الكلام ومعرفة طريق المجادلة والإحاطة بطرق مناقضات الخصوم والقدرة على التشدق فيها بتكثير الأسئلة وإثارة الشبهات وتأليف الإلزامات حتى لقب طوائف منهم أنفسهم بأهل العدل والتوحيد وسمي المتكلمون بعلماء التوحيد مع أن جميع ما هو خاصة هذه الصناعة لم يكن يعرف منها شيء في العصر الأول بل كان يشتد منهم النكير على من كان يفتح بابا من الجدل والمماراة فأما ما يشتمل عليه القرآن من الأدلة الظاهرة التي تستبق الأذهان إلى قبولها في أول السماع فقد كان ذلك معلوما للكل وكان العلم بالقرآن هو العلم كله وكان التوحيد عندهم عبارة عن أمر آخر لا يفهمه أكثر المتكلمين وإن فهموه لم يتصفوا به وهو أن يرى الأمور كلها من الله عز وجل رؤية تقطع التفاته عن الأسباب والوسائط فلا يرى الخير والشر كله إلا منه جل جلاله إلى أن قال:

والتوحيد جوهر نفيس وله قشران أحدهما أبعد عن اللب من الآخر فخصص الناس الاسم بالقشر وبصنعة الحراسة للقشر وأهملوا اللب بالكلية فالقشر الأول هو أن تقول بلسانك لا إله إلا الله وهذا يسمى توحيدا مناقضا للتثليث الذي صرح به النصارى ولكنه قد يصدر من المنافق الذي يخالف سره جهره والقشر الثاني ألا يكون في القلب مخالفة وإنكار لمفهوم هذا القول بل يشتمل ظاهر القلب على اعتقاده والتصديق به وهو توحيد عوام الخلق والمتكلمون كما سبق حراس هذا القشر عن

ص: 45

تشويش المبتدعة والثالث وهو اللباب أن يرى الأمور كلها من الله تعالى رؤية تقطع التفاته عن الوسائط وأن يعبده عبادة يفرده بها فلا يعبد غيره ويخرج عن هذا التوحيد أتباع الهوى فكل متبع هواه فقد اتخذ هواه معبوده قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} وقال صلى الله عليه وسلم1: "أبغض إله عبد في الأرض عند الله تعالى هو الهوى" وعلى التحقيق من تأمل عرف أن عابد الصنم ليس يعبد الصنم وإنما يعبد هواه إذ نفسه مائلة إلى دين آبائه فيتبع ذلك الميل وميل النفس إلى المألوفات أحد المعاني التي يعبر عنها بالهوى ويخرج من هذا التوحيد التسخط على الخلق والالتفات إليهم فإنه من يرى الكل من الله عز وجل كيف يتسخط على غيره فلقد كان التوحيد عبارة عن هذا المقام وهو مقام الصديقين فانظر إلى ماذا حول وبأي قشر قنع منه وكيف اتخذوا هذا معتصما في التمدح والتفاخر بما اسمه محمود مع الإفلاس عن المعنى الذي يستحق الحمد الحقيقي وذلك كإفلاس من يصبح بكرة ويتوجه إلى القبلة ويقول: {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً} وهو أول كذب يفاتح الله به كل يوم إن لم يكن توجه قلبه توجها إلى الله تعالى على الخصوص فإنه إن أراد بالوجه وجه الظاهر فما وجهه إلا إلى الكعبة وما صرفه إلا عن سائر الجهات والكعبة ليست جهة للذي فطر السماوات والأرض حتى يكون المتوجه إليها متوجها إليه تعالى عن أن تحده الجهات والأقطار وإن أراد به وجه القلب وهو المطلوب التعبد به فكيف يصدق في قوله وقوله متردد في أوطاره وحاجاته الدنيوية ومتصرف في طلب الحيل في جمع الأموال والجاه واستكثار الأسباب ومتوجه بالكلية إليها فمتى وجه وجهه للذي فطر السماوات والأرض وهذه الكلمة خبر عن حقيقة التوحيد فالموحد

1 قال العراقي في تخريج هذا الحديث: رواه الطبراني من الحديث أبي أمامة بإسناد ضعيف.

ص: 46

هو الذي لا يرى إلا الواحد ولا يوجه وجهه إلا إليه وهو امتثال قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} وليس المراد به القول باللسان فإنما اللسان ترجمان يصدق مرة ويكذب أخرى وإنما موقع نظر الله المترجم عنه وهو القلب وهو معدن التوحيد ومنبعه اهـ.

وإياك أن تفهم منه الغض من علم التوحيد خصوصا بعد أن صرح هنا بأنه يحمي قشرة العقيدة عن تشويش المبتدعة ولكن نقده ينصب على الإسراف في القشور وإهمال اللباب كما سمعت.

تحقيق للأستاذ الإمام

وللأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده كلام في هذه المسألة بحاشيته على العقائد العضدية توسع فيه كثيرا مع الفرق المخالفة حين عرض لحديث الترمذي أنه صلى الله عليه وسلم: "ستفترق أمتي ثلاثا وسبعين فزقة كلها في النار إلا واحدة" قيل ومن هم؟ قال: "الذين هم على ما أنا عليه وأصحابي" ثم ختم الشيخ بحثه فقال:

والحق الذي يرشد إليه الشرع والعقل أن يذهب الناظر المتدين إلى إقامة البراهين الصحيحة على إثبات صانع واجب الوجود ثم منه إلى إثبات النبوات ثم يأخذ كل ما جاءت به النبوات بالتصديق والتسليم بدون فحص فيما تكنه الألفاظ إلا فيما يتعلق بالأعمال على قدر الطاقة ثم يأخذ طريق التحقيق في تأسيس جميع عقائده بالبراهين الصحيحة كان ما أدت إليه ما كان لكن بغاية التحري والاجتهاد.

ثم إذا فاء من فكره إلى ما جاء من عند ربه فوجده بظاهره ملائما لما حققه فليحمد الله على ذلك وإلا فليطرق عن التأويل ويقول: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}

ص: 47

فإنه لا يعلم مراد الله ونبيه إلا الله ونبيه على هذا المنوال يكون نسجه فيبوء من الله برضوان حيث أسس عقائده على السديد من البراهين واستقبل الأخبار الإلهية بالقبول والتسليم وتناولها بقلب سليم.

وإن أراد التأويل لغرض كدفع معاند أو إقناع جاحد فلا بأس عليه إذا سلم برهانه من التقليد والتشويش وهذا هو دأب مشايخنا كالشيخ الأشعري والشيخ أبي منصور ومن مائلهم لا يأخذون قولا حتى يسددوه ببراهينهم القوية على حسب طاقتهم وهذا ما يعني باسم السني والصوفي والحكيم وكل متحزب مجادل فإنما يبغي العنت وتشتيت الكلمة فهو في النار وكل مقصر فعليه العار والشنار فاسلك سبيل السلف واحذر فقد خلف من بعدهم خلف.

ولا بد في كمال النجاة ونيل العادة الأبدية من أن ينضم إلى ذلك التخلي عن الرذائل والتحلي بالأخلاق الكاملة والأعمال الفاضلة ومن تلك الأخلاق والأعمال تكميل قوة النظر وارتكاب طريق العدل في كل شيء إذ لا ريب أن كل من خالف ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الهمة والسداد والعدل والأنصاف وسلوك طريق الاستقامة في جميع الأخلاق والأعمال ونور البصيرة فيما يأخذ ويعطي فهو في النار ومن كان على ما كانوا عليه فهو في أعلى غرف الجنان.

وسالك هذا الطريق إما أن يكون سلوكه من قبل الالتفات إلى ما جاء في الكتاب والسنة وكلام أولي الفضل من الراشدين قديما وحديثا فذلك هو الحكيم العلي والمؤمن المتوسط وإما أن يكون مع ذلك قد سلك بنفسه مدارج الأنوار ووقف على ما في ذلك من دقائق الأسرار حتى جلس في حياته هذه في مقعد صدق عند مليك مقتدر فهو الصوفي وهو صاحب المقصد الأسنى والمطلوب الأعلى وفي هذا مراتب لا تحصى ومراق لا تستقصى وهذا وما قبله يشملها اسم المؤمن الصادق.

ص: 48