الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث عشر: في ترجمة القران وحكمها تفصيلا
مدخل
…
المبحث الثالث عشر: في ترجمة القرآن وحكمها تفصيلا
أهمية هذا المبحث.
نوجه الأذهان في فاتحة هذا المبحث إلى أهميته وخطره من نواح ثلاث:
أولاها دقته وغموضه إلى حد جعل علماءنا يختلفون فيه قديما وحديثا وجعل مصرنا العزيزة منذ أعوام ميدانا لتطاحن الأفكار والآراء فيه منعا وتجويزا.
ثانيها أن كثيرا من الناس قاموا في زعمهم بنقل القرآن إلى لغات كثيرة وترجمات متعددة بلغت بإحصاء بعض الباحثين مائة وعشرين ترجمة في خمس وثلاثين لغة ما بين شرقية وغربية وتكرر طبع هذه الترجمات حتى إن ترجمة واحدة هي ترجمة جورج سيل الانجليزي طبعت أربعا وثلاثين مرة.
وأوفر هذه الترجمات وأكثرها طبعا هي الترجمات الانكليزية فالفرنسية فالألمانية فالإيطالية وهناك خمس ترجمات في كل من اللغتين الفارسية والتركية وأربع ترجمات باللغة الصينية وثلاث باللاتينية واثنتان بالأفغانية وواحدة بالجاوية وأخرى بالأوردية.
ومن هؤلاء الذين ترجموه من يحمل للإسلام عداوة ظاهرة ومنهم من يحمل حبا له ولكنه جاهل به وعدو عاقل خير من صديق جاهل.
ثالثتها وقوع أغلاط فاحشة في هذه التي سموها ترجمات وكان وجودها معولا هداما لبناء مجد الإسلام ومحاولة سيئة لزلزلة الوحدة الدينية واللغوية والاجتماعية لأمتنا الإسلامية صانها الله.
أمام هذه الوقائع القائمة والحقائق الماثلة والمحاولات الخطيرة ما كان ينبغي لنا أن نقف مكتوفي الأيدي مكممي الأفواه كأن الأمر لا يعنينا في قليل ولا كثير على حين أن الذي وضع منهم فكرة هذه الترجمات وتولي كبر هذه المؤامرة رجل من رجال
دينهم ومطران من مطارنتهم يدعى يعقوب بن الصليبي إذ خيل إلى قومه أنه ترجم آيات جمة من القرآن باللسان السرياني في القرن الثاني عشر الميلادي ثم نشرت خلاصتها في هذا القرن سنة 1925 خمس وعشرين وتسعمائة وألف ميلادية نقلا عن نسخة مخطوطة بالمتحف البريطاني بلندن مشفوعة بترجمة إنكليزية لها وتابع هذا المطران أحبار ورهبان كانوا أسبق من غيرهم في هذا الميدان.
وأنت خبير بما يريدون والله أعلم بما يبيتون.
راجع في ذلك محاضرات الفيكنت دي طرازي1 ثم انظر ما كتبه العلامة أبو عبد الله الزنجاني في كتابه تاريخ القرآن إذ يقول:
ربما كانت أول ترجمة إلى اللغة اللاتينية لغة العلم في أوربا وذلك سنة 1143 بقلم كنت الذي استعان في عمله ببطرس الطليطلي وعالم ثان عربي فيكون القرآن قد دخل أوربا عن طريق الأندلس وكان الغرض من ترجمته عرضه على دي كلوني بقصد الرد عليه ونجد فيما بعد أن القرآن ترجم ونشر باللاتينية 1509 ولكن لم يسمح للقراء أن يقتنوه ويتداولوه لأن طبعته لم تكن مصحوبة بالردود وفي عام 1594 أصدر هنكلمان ترجمته وجاءت على الأثر 1598 طبعة مراتشي مصحوبة بالردود انتهى ما أردنا نقله أفلا ترى معي أنه يجب علينا بإزاء ذلك أن ندلي برأي سديد في هذا الأمر الجلل لنعلم ما يراد بنا وبقرآننا ولننظر إلى أي طريق نحن مسوقون عسى أن يدفعنا هذا التحري والتثبت إلىاتخاذ إجراء حازم نتصف فيه للحق من الباطل ونؤدي به رسالتنا في نشر هداية الإسلام والقرآن على بصيرة ونور.
ثم ألا ترى معي أنه يجب علينا بإزاء ذلك أيضا أن نتجرد في هذا البحث عن العصبية
1 هي محاضرات ظفرت بها عليننا في نسخة مخطوطة تحت عنوان "القرآن: محاضرات علمية تاريخية" ألقاها سنة 1941م الفيكنت فليب طرازي مؤسس دار الكتب في بيروت. والعضو في عدة مجامع علمية شرقية وغربية.
والغايات الشخصية فنمسه مسا رفيقا هادئا وندرسه دراسة واسعة منظمة ونلتزم فيه أدب البحث وإنصاف الباحث ونجعل الله وحده غايتنا فيما نحاول ونعالج؟ والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
ولنبدأ الكلام ببيان معنى الترجمة لغة وعرفا ثم بتقسيمها إلى حرفية وتفسيرية ثم ببيان الفرق بين الترجمة والتفسير فإن تحديد معاني الألفاظ وتحقيق المراد منها مجهود مهم ومفيد لا سيما ما كان من الأبحاث الخلافية كهذا البحث الذي نعانيه فلقد هدانا الاستقراء إلى أن تحديد معاني الأمور الخلافية أو تحرير محل النزاع بعبارة فنية أزهرية كثيرا ما قرب بين وجهات النظر المختلفة وطالما أظهر أن خلاف المختلفين كان لفظيا لا حقيقيا لأن النفي والإثبات بينهم لم يتواردا على أمر واحد بل إن ما أثبته بعضهم لم يخالف أحد في إثباته بالمعنى الذي أراده وما نفاه البعض الآخر لم يخالف أحد في نفيه بالمعنى الذي أراده كذلك ورجع الأمر أخيرا إلى مجرد اختلاف في العبارات لاختلاف في الاعتبارات ولو أنهم اتفقوا بادئ ذي بدء على هذه الاعتبارات لما اختلفت العبارات ولما حدث خلاف ألبتة.
إذن فإننا نستميح قارئنا الكريم عذرا إذا أطنبنا في توضيح المعنى المراد الذي يدور عليه الكلام في هذا الموضوع وإذا استطردنا ببيان ما اشتبه به وكان سببا في النزاع فنذكر أن لفظ ترجمة يطلق على معان متعددة بعضها لغوي وبعضها عرفي عام.
الترجمة في اللغة:
وضعت كلمة ترجمة في اللغة العربية لتدل على أحد معان أربعة:
أولها تبليغ الكلام لمن لم يبلغه ومنه قول الشاعر:
إن الثمانين - وبلغتها
…
قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
ثانيها تفسير الكلام بلغته التي جاء بها ومنه قيل في ابن عباس إنه ترجمان القرآن ولعل الزمخشري في كتابه أساس البلاغة يقصد هذا المعنى إذ يقول: كل ما ترجم
عن حال شيء فهو تفسرته.
ثالثها تفسير الكلام بلغة غير لغته وجاء في لسان العرب وفي القاموس أن الترجمان هو المفسر للكلام وقال شارح القاموس ما نصه وقد ترجمه وترجم عنه إذا فسر كلامه بلسان آخر قاله الجوهري اهـ.
وجاء في تفسير ابن كثير والبغوي أن كلمة ترجمة تستعمل في لغة العرب بمعنى التبيين مطلقا سواء اتحدت اللغة أم اختلفت.
رابعها نقل الكلام من لغة إلى أخرى قال في لسان العرب الترجمان بالضم والفتح1 هو الذي يترجم الكلام أي ينقله من لغة إلى أخرى والجمع تراجم2 اهـ وشارح القاموس بعد أن أورد المعنى السابق في ترجمه وترجم عنه قال وقيل نقله من لغة إلى أخرى اهـ.
ولكون هذه المعاني الأربعة فيها بيان جاز على سبيل التوسع إطلاق الترجمة على كل ما فيه بيان مما عدا هذه الأربعة فقيل ترجم لهذا الباب بكذا أي عنون له وترجم لفلان أي بين تاريخه وترجم حياته أي بين ما كان فيها وترجمة هذا الباب كذا أي بيان المقصود منه وهلم جرا.
الترجمة في العرف:
نريد بالعرف هنا عرف التخاطب العام لا عرف طائفة خاصة ولا أمة معينة جاء هذا العرف الذي تواضع عليه الناس جميعا فخص الترجمة بالمعنى الرابع اللغوي في إطلاقات اللغة السابقة وهو نقل الكلام من لغة إلى أخرى ومعنى نقل الكلام من لغة إلى أخرى التعبير عن معناه بكلام آخر من لغة أخرى مع الوفاء بجميع معانيه ومقاصده كأنك نقلت الكلام نفسه من لغته الأولى إلى اللغة الثانية.
1 عبارة القاموس تدل على أنه يضبط بضم التاء والجيم وبفتحهما، وبفتح التاء وضم الجيم.
2 وهذا خلاف ماذاع على الألسنة من استعمال تراجم جمعا لترجمة. فاحفظ ذلك.
وهذا هو السر في تعبيرهم بنقل الكلام مع العلم بأن الكلام نفسه لا ينقل من لغته بحال
ويمكننا أن نعرف الترجمة في هذا العرف العام بعبارة مبسوطة فنقول هي التعبير من معنى كلام في لغة بكلام آخر في لغة أخرى مع الوفاء بجميع معانيه ومقاصده فكلمة التعبير جنس وما بعده من القيود فصل وقولنا عن معنى كلام يخرج به التعبير عن المعنى القائم بالنفس حين يخرج في صورة اللفظ أول مرة وقولنا بكلام آخر يخرج به التعبير عن المعنى بالكلام الأول نفسه ولو تكرر ألف مرة.
وقولنا من لغة أخرى يخرج به التفسير بلغة الأصل ويخرج به أيضا التعبير بمرادف مكان مرادفة أو بكلام بدل آخر مساو له على وجه لا تفسير فيه واللغة واحدة في الجميع.
قولنا مع الوفاء بجميع معاني الأصل ومقاصده يخرج به تفسير الكلام بلغة غير لغته فإن التفسير لا يشترط فيه الوفاء بكل معاني الأصل المفسر ومقاصده بل يكفي فيه البيان ولو من وجه وسنوافيك قريبا بتفصيل ذلك.
تفسير الترجمة:
وتنقسم الترجمة بهذا المعنى العرفي إلى قسمين حرفية وتفسيرية فالترجمة الحرفية هي التي تراعى فيها محاكاة الأصل في نظمه وترتيبه فهي تشبه وضع المرادف مكان مرادفه وبعض الناس يسمي هذه الترجمة لفظية وبعضهم يسميها مساوية.
والترجمة التفسيرية هي التي لا تراعى فيها تلك المحاكاة أي محاكاة الأصل في نظمه وترتيبه بل المهم فيها حسن تصوير المعاني والأغراض كاملة ولهذا تسمى أيضا بالترجمة المعنوية وسميت تفسيرية لأن حسن تصوير المعاني والأغراض فيها جعلها تشبه التفسير وما هي بتفسير كما يتبين لك بعد.
فالمترجم ترجمة حرفية يقصد إلى كل كلمة في الأصل فيفهمها ثم يستبدل بها كلمة تساويها في اللغة الأخرى مع وضعها موضعها وإحلالها محلها وإن أدى ذلك إلى خفاء المعنى المراد
من الأصل بسبب اختلاف اللغتين في مواقع استعمال الكلام في المعاني المرادة إلفا واستحسانا.
أما المترجم ترجمة تفسيرية فإنه يعمد إلى المعنى الذي يدل عليه تركيب الأصل فيفهمه ثم يصبه في قالب يؤديه من اللغة الأخرى موافقا لمراد صاحب الأصل من غير أن يكلف نفسه عناء الوقوف عند كل مفرد ولا استبدال غيره به في موضعه.
ولنضرب مثالا للترجمة بنوعيها على فرض إمكانها في آية من الكتاب الكريم قال الله تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} فإنك إذا أردت ترجمتها ترجمة حرفية أتيت بكلام من لغة الترجمة يدل على النهي عن ربط اليد في العنق وعن مدها غاية المد مع رعاية ترتيب الأصل ونظامه بأن تأتي بأداة النهي أولا يليها الفعل المنهي عنه متصلا بمفعوله ومضمرا فيه فاعله وهكذا ولكن هذا التعبير الجديد قد يخرج في أسلوب غير معروف ولا مألوف في تفهيم المترجم لهم ما يرمي إليه الأصل من النهي عن التقتير والتبذير بل قد يستنكر المترجم لهم هذا الوضع الذي صيغ به هذا النهي ويقولون ما باله ينهى عن ربط اليد بالعنق وعن مدها غاية المد وقد يلصقون هذا العيب بالأصل ظلما وما العيب إلا فيما يزعمونه ترجمة للقرآن من هذا النوع.
أما إذا أردت ترجمة هذا النظم الكريم ترجمة تفسيرية فإنك بعد أن تفهم المراد وهو النهي عن التقتير والتبذير في أبشع صورة منفرة منها تعمد إلى هذه الترجمة فتأتي منها بعبارة تدل على هذا النهي المراد في أسلوب يترك في نفس المترجم لهم أكبر الأثر في استبشاع التقتير والتبذير ولا عليك من عدم رعاية الأصل في نظمه وترتيبه اللفظي.
وإنما قلنا عند عرض هذا المثال على فرض إمكانها لما ستعرفه بعد من استحالة الترجمة بهذا المعنى العرفي في القرآن الكريم والمثال لا يشترط صحته كما هو معلوم.
ما لا بد منه في الترجمة مطلقا:
لا بد لتحقيق معنى الترجمة مطلقا حرفية كانت أو تفسيرية من أمور أربعة:
أولها معرفة المترجم لأوضاع اللغتين لغة الأصل ولغة الترجمة!.
ثانيها معرفته لأساليبهما وخصائصهما.
ثالثها وفاء الترجمة بجميع معاني الأصل ومقاصده على وجه مطمئن.
رابعها أن تكون صيغة الترجمة مستقلة عن الأصل بحيث يمكن أن يستغني بها عنه أن تحل محله كأنه لا أصل هناك ولا فرع وسيأتي بيان ذلك في الفروق بين الترجمة والتفسير.
ما لا بد منه في الترجمة الحرفية:
ثم إن الترجمة الحرفية تتوقف بعد هذه الأربعة على أمرين آخرين:
أحدهما وجود مفردات في لغة الترجمة مساوية للمفردات التي تألف منها الأصل: حتى يمكن أن يحل كل مفرد من الترجمة محل نظيره من الأصل كما هو ملحوظ في معنى الترجمة الحرفية.
ثانيهما تشابه اللغتين في الضمائر المستترة والروابط التي تربط المفردات لتأليف التراكيب سواء في هذا التشابه ذوات الروابط وأمكنتها وإنما اشترطنا هذا التشابه لأن محاكاة هذه الترجمة لأصلها في ترتيبه تقتضيه ثم إن هذين الشرطين عسيران وثانيهما أعسر من الأول فهيهات أن تجد في لغة الترجمة مفردات مساوية لجميع مفردات الأصل ثم هيهات هيهات أن تظفر بالتشابه بين اللغتين المنقول منها والمنقول إليها في الضمائر المستترة وفي دوام الروابط بين المفردات لتأليف المركبات
ومن أجل هذه العزة والندرة قال بعضهم إن الترجمة الحرفية مستحيلة وقال آخرون إنها ممكنة في بعض الكلام دون بعض ولقد علمت أنها بعد هذه الصعوبات يكتنفها الغموض وخفاء المعنى المقصود كما مر في المثال السابق أما الترجمة التفسيرية فميسورة فيما لا يعجز عنه البشر والمعاني المرادة من الأصل واضحة فيها غالبا ولهذا اعتمدوا عليها في الترجمات الزمنية وفضلها التراجم والمشتغلون بالترجمات على قسيمتها الترجمة الحرفية.
فروق بين الترجمة والتفسير:
ومهما تكن الترجمة حرفية أو تفسيرية فإنها غير التفسير مطلقا سواء أكان تفسيرا بلغة الأصل أم تفسيرا بغير لغة الأصل وقد أشرنا إلى ذلك إجمالا في شرح تعريف الترجمة آنفا ولكن كثيرا من الكاتبين اشتبه عليهم الأمر فحسبوا أن الترجمة التفسيرية هي التفسير بغير لغة الأصل أو هي ترجمة تفسير الأصل.
ثم رتبوا على ذلك أن خلعوا حكمها على ترجمة الأصل نفسه وكان لهذا اللبس والاشتباه مدخل في النزاع والخلاف لهذا نستبيح لأنفسنا أن نقف هنا وقفة طويلة نرسم فيها فروقا أربعة لا فرقا واحدا بين هذين المشتبهين في نظرهم.
الفارق الأول أن صيغة الترجمة صيغة استقلالية يراعى فيها الاستغناء بها عن أصلها وحلولها محله ولا كذلك التفسير فإنه قائم أبدا على الارتباط بأصله بأن يؤتى مثلا بالمفرد أو المركب ثم يشرح هذا المفرد أو المركب شرحا متصلا به اتصالا يشبه اتصال المبتدأ بخبره إن لم يكن إياه ثم ينتقل إلى جزء آخر مفرد أو جمله وهكذا من بداية التفسير إلى نهايته بحيث لا يمكن تجريد التفسير وقطع
وشائج اتصاله بأصله مطلقا ولو جرد لتفكك الكلام وصار لغوا أو أشبه باللغو فلا يؤدي معنى سليما فضلا عن أن يحل في جملته وتفصيله محل أصله.
الفارق الثاني أن الترجمة لا يجوز فيها الاستطراد أما التفسير فيجوز بل قد يجب فيه الاستطراد وذلك لأن الترجمة مفروض فيها أنها صورة مطابقة لأصلها حاكية له فمن الأمانة أن تساويه بدقة من زيادة ولا نقص حتى لو كان في الأصل خطأ لوجب أن يكون الخطأ عينه في الترجمة بخلاف التفسير فإن المفروض فيه أنه بيان لأصله وتوضيح له وقد يقتضي هذا البيان والإيضاح أن يذهب المفسر مذاهب شتى في الاستطراد توجيها لشرحه أو تنويرا لمن يفسر لهم على مقدار حاجتهم إلى استطراده ويظهر ذلك في شرح الألفاظ اللغوية خصوصا إذا أريد بها غير ما وضعت له وفي المواضع التي يتوقف فهمها أو الاقتناع بها على ذكر مصطلحات أو سوق أدلة أو بيان حكمة.
وهذا هو السر في أن أكثر تفاسير القرآن الكريم تشتمل على استطرادات متنوعة في علوم اللغة وفي العقائد وفي الفقه وأصوله وفي أسباب النزول وفي الناسخ والمنسوخ وفي العلوم الكونية والاجتماعية وغير ذلك.
ومن ألوان هذا الاستطراد تنبيهه على خطأ الأصل إذا أخطأ كما نلاحظ ذلك في شروح الكتب العلمية ويستحيل أن تجد مثل هذا في الترجمة وإلا كان خروجا عن واجب الأمانة والدقة فيها.
الفارق الثالث أن الترجمة تتضمن عرفا دعوى الوفاء بجميع معاني الأصل ومقاصده ولا كذلك التفسير فإنه قائم على كمال الإيضاح كما قلنا سواء أكان هذا الإيضاح بطريق إجمالي أو تفصيلي متناولا كافة المعاني والمقاصد أو مقتصرا على بعضها دون بعض طوعا للظروف التي يخضع لها المفسر ومن يفسر لهم.
والدليل على هذا الفارق هو حكم العرف العام الذي نتحدث الآن بلسانه وإليك مثلا من أمثاله.
رجل عثر في مخلفات أبيه على صحيفتين مخطوطتين بلغة أجنبية وهو غير عالم بهذا اللسان الأجنبي فدفعهما إلى خبير باللغات يستفسره عنهما وإذا الخبير يجيبه قائلا إن الصحيفة الأولى خطاب تافه من معوز أجنبي يستجدي أباك فيه ويستعينه أما الثانية فوثيقة بدين كبير لأبيك على أجنبي هناك مزق الرجل خطاب الاستجداء ولم يحفل به أما الوثيقة فاعتد بها وطلب من هذا المتمكن في اللغات أن يترجمها له ليقاضي المدين أمام محكمة لغتها لغة الترجمة.
أليس معنى هذا أن التفسير لم يكفه بدليل أنه طلب الترجمة من المترجم علما بأنها هي التي تفي بكل ما تضمنته تلك الوثيقة وبكل ما يقصد منها فلا تضعف له بها حجة ولا يضيع عليه حق؟.
ثم ألست ترى في هذا المثال أيضا أن العرف يحكم بأن التفسير لا يشترط أن يعرض لجميع التفاصيل بل يكفي فيه بيان المضمون على حين أنه يرى الترجمة صورة مطابقة لأصلها وافية بكافة معانيه ومقاصده؟.
الفارق الرابع أن الترجمة تتضمن عرفا دعوى الاطمئنان إلى أن جميع المعاني والمقاصد التي نقلها المترجم هي مدلول كلام الأصل وأنها مرادة لصاحب الأصل منه ولا كذلك التفسير بل المفسر تارة يدعي الاطمئنان وذلك إذا توافرت لديه أدلته وتارة لا يدعيه وذلك عندما نعوزه تلك الأدلة ثم هو طورا يصرح بالاحتمال ويذكر وجوها محتملة مرجحا بعضها على بعض وطورا يسكت عن التصريح أو عن الترجيح وقد يبلغ به الأمر أن يعلن عجزه عن فهم كلمة أو جملة ويقول رب الكلام أعلم بمراده على نحو ما نحفظه لكثير من المفسرين إذا عرضوا لمتشابهات القرآن ولفواتح السور المعروفة.
ودليلنا على أن الترجمة تتضمن دعوى الاطمئنان إلى ما حوت معان ومقاصد هو شهادة العرف العام أيضا بذلك وجريان عمل الناس جميعا في الترجمات على هذا الاعتبار فهم يحلونها محل أصولها إذا شاؤوا ويستغنون بها عن تلك الأصول بل قد ينسون هذه الأصول جملة ويغيب عنهم أن الترجمات ترجمات فيحذفون لفظ ترجمة من الاسم ويطلقون عليها اسم الأصل نفسه كأنما الترجمة أصل أو كأنه لا أصل هناك ولا فرع.
وإن كنت في ريب فاسأل ما بين أيدينا من ترجمات عربية لطائفة من كتبهم التي يقدسونها ويطلقون على بعضها اسم توراة وعلى بعضها اسم إنجيل وما هما بالتوارة ولا بالإنجيل إنما هما ترجمتان عربيتان لأصلين عبريين1 باعترافهم ولكنهم أسقطوا وأسقط العرف العام معهم لفظ ترجمة من العنوانين الاثنين وما ذاك إلا لما وقر في النفوس من أن الترجمة صورة مطابقة للأصل مطمئنة إلى أنها تؤدي جميع مؤداه لا فرق بينهما إلا في القشرة اللفظية وقل مثل ذلك فيما نعرفه من ترجمات للقوانين والوثائق الدولية والشخصية ومن ترجمات للكتب العلمية والفنية والأدبية وهي كثيرة غنية عن التنويه والتمثيل.
يقال كل هذا في الترجمات ولا يمكن أن يقال مثله في التفسير فإننا ما سمعنا ولا سمع الدهر أن كلمة تفسير أسقطت من عنوان كتاب من كتبه بل المعروف عكس ذلك فكثيرا ما يسقط في الاستعمال اسم الأصل المفسر على حين أن لفظ التفسير لا يسقط بحال ويدل على هذا تلك الإطلاقات الشائعة تفسير البيضاوي تفسير النسفي تفسير الجلالين وما أشبهها من تفسيرات القرآن الكريم ألم يكن بهذا سندا على
1 صوبه: غير عربيين وذلك لأن إنجيل مرقس ولوقا ويوحنا أصلها يوناني، أما إنجيل متى فأصله عبري.
أن التفسير مراعى فيه أنه بيان لا يمكن أن يقوم مقام المبين ولا أن يدعى فيه الاطمئنان إلى أنه واف بجميع أغراضه ومعانيه.
الترجمة والتفسير الإجمالي بغير لغة الأصل:
بيد أن هنا دقيقة نرشدك إليها هي أن التفسير بغير لغة الأصل يشبه الترجمة التفسيرية شبها قريبا إذا كان هذا التفسير إجماليا قائما على اختيار معنى واحد من المعاني المحتملة ولعل هذا التشابه هو الذي أوقع بعضهم في الاشتباه ودعوى الاتحاد بين الترجمة التفسيرية وترجمة التفسير أو التفسير بغير لغة الأصل ولكن النظر الصحيح لا يزال يقضي بوجود الفوارق الأربعة السابقة بين هذين النوعين أيضا فالمفسر يقتضيه واجب البيان ألا يسوق المعنى الإجمالي المختار من بين عدة معان محتملة حتى يوجه هذا الاختيار وهذا التوجيه محقق للاستطراد الزائد على مدلول الأصل ثم إن صنيعه هذا سيشعر القارئ أن للأصل معاني أخرى قد يكون هذا الذي اختير من بينها غير سديد وقد يتوقف المفسر جملة ويعلن عجزه إذا ما أشكل عليه المعنى ورأى أن يلوذ بالصمت هذا محقق لعدم الوفاء بجميع معاني الأصل ولعدم الاطمئنان الذي نوهنا به ثم إن صيغة هذا التفسير لا بد من أن ترتبط بالأصل ولو بالإشارة والتلويح فيقال معنى هذه الآية أو الجملة هو كذا أو يقال معنى الآية المرقومة برقم كذا من سورة كذا هو كذا وكذا وذلك محقق لعدم استقلال الصيغة بخلاف الترجمة في ذلك كله.
فإن افترضت أن هذا المفسر سيترك وجه الاختيار وسيقطع الصلة قطعا بين التفسير وأصله أجبناك بأن هذا التصرف في الحقيقة لا تفسير ولا ترجمة بل هو ذبذبة خرج بها الكلام عما يجب في التفسير وفي الترجمة جميعا لأنه لم يشرح ولم يبين حتى يكون مفسرا كما يجب ولم يصور معاني الأصل ومقاصده كلها حتى يكون مترجما كما يجب فإن أدى ذلك إلى الناس بعنوان أنه ترجمة للأصل فإما أن يكون صادرا في هذا الأداء عن قصور أو عن تقصير فإن كان عن قصور فهو العجز والجهالة وإن كان عن تقصير فهو تضليل
للناس وإيهام لهم أن ما أتاه ترجمة وما هو بترجمة وتلك خيانة لهم ولما زعم ترجمته والله لا يهدي كيد الخائنين.
تنبيهان مفيدان:
أولهما أنه لا فرق بين الترجمة الحرفية والتفسيرية من حيث الحقيقة فكلتاهما تعبير عن معنى كلام في لغة بكلام آخر من لغة أخرى مع الوفاء بجميع معاني الأصل ومقاصده وما الفرق بينهما إلا شكلي وهو أن يحل كل مفرد في الترجمة الحرفية محل مقابله من الأصل بخلاف التفسيرية كما بينا فلا تظن بعد هذا أن كلمة ترجمة تنصرف إلى الحرفية أكثر مما تنصرف إلى التفسيرية كما يظن بعض الناس بل التفسيرية أثبت قدما وأعرق وجودا وأقرب إلى الأذهان عند الإطلاق لأنها هي الميسورة وهي الواضحة وهي التي يتداولها المترجمون والقراء جميعا أما الحرفية فإنها تكاد تكون نظرية بحتة وذلك من تعسرها أو تعذرها ومن غموضها وخفائها أحيانا ومن ندرة إقبال التراجم والقراء عليها كما سبق.
ثانيهما أن تفسير الأصل بلغته يساوي تفسيره بغير لغته فيما عدا القشرة اللفظية ألا ترى أنك إذا قرأت درس تفسير للخاصة كاشفا فيه عن معان معينة باللغة العربية ثم قرأت هذا الدرس عينه للعامة كاشفا عن هذه المعاني نفسها ولكن بلغة المخاطبين العامية فهل تشك في مساواة هذا التفسير لذلك في بيان المعاني المعينة التي فهمتها من الأصل وهل تجد بينهما خلافا إلا في لغة التعبير وقشرة اللفظ؟.
إذا لاحظنا ذلك أمنا الاشتباه من هذه الناحية وأمكن أن نستغني في بحثنا هذا بذكر المساوي عن ذكر مساويه ثقة بأن ما يقال في أحدهما يقال مثله في الآخر فتنبه إلى ذلك دائما وبالله توفيقي وتوفيقك.