الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأحب أن تلتفت إلى أن هذه الشبهة قد أثارها أعداء الإسلام فيما أثاروا وصوبوا منها سهما طائشا إلى القرآن وإعجازه فلنكتف بنقضنا لها هنا عن إعادتها بين ما سنذكره في دفع الشبهات هناك إن شاء الله.
دفع الشبهات الواردة في هذا المقام
لقد كان ما ذكرناه من وجوه الإعجاز الأربعة عشر كافيا للقضاء على كل شبهة ولرد كل فرية ومحو كل تهمة لولا أن المخذولين من أعداء الإسلام وجدوا آذانا صاغية من نفوس عزيزة علينا وفئات متعلمة تعلما مدنيا فتأثروا بدجلهم ثم رضوا أن يكونوا أبواقا لهم يرددون شبهاتهم على تلاميذنا في الجامعات والمدارس ويطلقون بخورهم على جماهيرنا في المطبوعات والأندية والمجالس لهذا كان من واجبنا أن نحشد قوانا لتطهير الجو الإسلامي من هذه الجراثيم الفتاكة والمطاعن الجارية الهدامة وألا نكتفي عند المناسبة بذكر أحد المتلازمين عن الآخر اللهم إلا إذا كان الأمر ظاهرا لا يحتاج إلى تنبيه أما عند الحاجة فقد نكرر ما سبق لنا ذكره ولكن بمقدار الحاجة من غير إكثار.
ونلفت نظرك إلى ما أسلفناه من الكلام على الوحي بين مثبتيه ومنكريه بالمبحث الثالث من هذا الكتاب "ص 57 – 84" من الجزء الأول وإلى ما حواه هذا الكلام من أدلة علمية عقلية ومن تفنيد شبهات عشر تتصل بإعجاز القرآن عن قرب أو بعد.
ثم نلفت نظرك أيضا إلى نقض تلك الشبهات الست التي أثيرت حول المكي والمدني من القرآن "ص 198 - 232 بالجزء الأول".
ونرشدك إلى أننا راعينا عند كلامنا على أسلوب القرآن وإعجازه تفصيلات
وتوجيهات نعتقد أن فيها غناء عن دفع كثير من الشبهات فاحرص عليها ثم اشدد يديك على ما يلقى إليك.
الشبهة الأولى ودفعها:
يقولون إن محمدا لقي بحيرا الراهب فأخذ عنه وتعلم منه وما تلك المعارف التي في القرآن إلا ثمرة هذا الأخذ وذاك التعلم.
وندفع هذا أولا بأنها دعوى مجردة من الدليل خالية من التحديد والتعيين ومثل هذه الدعاوى لا تقبل ما دامت غير مدللة وإلا فليخبرونا ما الذي سمعه محمد من بحيرا الراهب ومتى كان ذلك وأين كان؟.
ثانيا أن التاريخ لا يعرف أكثر من أنه صلى الله عليه وسلم سافر إلى الشام في تجارة مرتين مرة في طفولته ومرة في شبابه ولم يسافر غير هاتين المرتين ولم يجاوز سوق بصرى فيهما ولم يسمع من بحيرا ولا من غيره شيئا من الدين ولم يك أمره سرا هناك بل كان معه شاهد في المرة الأولى وهو عمه أبو طالب وشاهد في الثانية وهو ميسرة غلام خديجة التي خرج الرسول بتجارتها أيامئذ وكل ما هنالك أن بحيرا الراهب رأى سحابة تظلله من الشمس فذكر لعمه أن سيكون لهذا الغلام شأن ثم حذره عليه من اليهود وقد رجع به عمه خوفا عليه ولم يتم رحلته كذلك روي هذا الحادث من طرق في بعض أسانيدها ضعف ورواية الترمذي ليس فيها اسم بحيرا وليس في شيء من الروايات أنه صلى الله عليه وسلم سمع من بحيرا أو تلقى منه درسا واحدا أو كلمة واحدة لا في العقائد ولا في العبادات ولا في المعاملات ولا في الأخلاق فأنى يؤفكون؟.
ثالثا أن تلك الروايات التاريخية نفسها تحيل أن يقف هذا الراهب موقف المعلم المرشد لمحمد لأنه بشره أو بشر عمه بنبوته وليس بمعقول أن يؤمن
رجل بهذه البشارة التي يزفها ثم ينصب نفسه أستاذا لصاحبها الذي سيأخذ عن الله ويتلقى عن جبريل ويكون هو أستاذ الأستاذين وهادي الهداة والمرشدين وإلا كان هذا الراهب متناقضا مع نفسه.
رابعا أن بحيرا الراهب لو كان مصدر هذا الفيض الإسلامي المعجز لكان هو الأحرى بالنبوة والرسالة والانتداب لهذا الأمر العظيم.
خامسها أنه يستحيل في مجرى العادة أن يتم إنسان على وجه الأرض تعليمه وثقافته ثم ينضج النضج الخارق للمعهود فيما تعلم وتثقف بحيث يصبح أستاذ العالم كله لمجرد أنه لقي مصادقة واتفاقا راهبا من الرهبان مرتين على حين أن التلميذ كان في كلتا المرتين مشتغلا عن التعليم بالتجارة وكان أميا لا يعرف القراءة والكتابة وكان صغيرا تابعا لعمه في المرة الأولى وكان حاملا لأمانة ثقيلة في عنقه لا بد أن يؤديها كاملة في المرة الثانية وهي أمانة العمل والإخلاص في مال خديجة وتجارتها.
سادسا أن طبيعة الدين الذي ينتمي إليه الراهب بحيرا تأبى أن تكون مصدرا للقرآن وهداياته خصوصا بعد أن أصاب ذلك الدين ما أصابه من تغيير وتحريف.
وحسبك أدلة على ذلك ما أقمناه من المقارنات السابقة بين تعاليم القرآن وتعاليم غيره وما قررناه من الوفاء في تعاليم القرآن دون غيره وما أشرنا إليه من أن القرآن قد صور علوم أهل الكتاب في زمانه بأنها الجهالات ثم تصدى لتصحيحها وصور عقائدهم بأنها الضلالات ثم عمل على تقويمها وصور أعمالهم بأنها المخازي والمنكرات ثم حض على تركها فارجع إلى ما أسلفناه ثم تذكر أن فاقد الشيء لا يمكن أن يعطيه وأن الخطأ لا يمكن أن يكون مصدرا للصواب وأن الظلام لا يمكن أن يكون مشرقا للنور.
سابعا أن أصحاب هذه الشبهة من الملاحدة يقولون إن القرآن هو الأثر التاريخي
الوحيد الذي يمثل روح عصره أصدق تمثيل فإذا كانوا صادقين في هذه الكلمة فإننا نحاكمهم في هذه الشبهة إلى القرآن نفسه وندعوهم أن يقرؤوه ولو مرة واحدة بتعقل ونصفه ليعرفوا منه كيف كانت الأديان وعلماؤها وكتابها في عصره وليعلموا أنها ما كانت تصلح لأستاذية رشيدة بل كانت هي في أشد الحاجة إلى أستاذية رشيدة إنهم إن فعلوا ذلك فسيستريحون ويريحون الناس من هذا الضلال والزيغ ومن ذلك الخبط والخلط هدانا وهداهم الله فإن الهدي هداه. {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} .
ثامنا أن هذه التهمة لو كان لها نصيب من الصحة لفرح بها قومه وقاموا لها وقعدوا لأنهم كانوا أعرف الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا أحرص الناس على تبهيته وتكذيبه وإحباط دعوته بأية وسيلة لكنهم كانوا أكرم على أنفسهم من هؤلاء الملاحدة فحين أرادوا طعنه بأنه تعلم القرآن من غيره لم يفكروا بأن يقولوا إنه تعلم من بحيرا الراهب كما قال هؤلاء لأن العقل لا يصدق ذلك والهزل لا يسعه بل لجؤوا إلى رجل في نسبة الأستاذية إليه شيء من الطرافة والهزل حتى إذا مجت العقول نسبة الأستاذية إليه لاستحالتها قبلتها النفوس لهزلها وطرافتها فقالوا إنما يعلمله بشر وأرادوا بالبشر حدادا روميا منهمكا بين مطرقته وسندانه ضالا طول يومه في خبث الحديد وناره ودخانه غير أنه اجتمع فيه أمران حسبوهما مناط ترويج تهمتهم أحدهما أنه مقيم بمكة إقامة تيسر لمحمد الاتصال الدائم الوثيق به والتلقي عنه والآخر غريب عنهم وليس منهم ليخيلوا إلى قومهم أن عند هذا الرجل علم ما لم يعلموا هم ولا آباؤهم فيكون ذلك أدنى إلى التصديق بأستاذيته لمحمد وغاب عنهم أن الحق لا يزال نوره ساطعا يدل عليه لأن هذا الحداد الرومي أعجمي لا يحسن العربية فليس بمعقول أن يكون مصدرا لهذا القرآن الذي هو أبلغ نصوص العربية بل هو معجزة المعجزات ومفخرة العرب واللغة العربية. {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} !.
الشبهة الثانية ودفعها:
يقولون نحن لا نشك في صدق محمد في إخباره عما رأى وسمع ولكنا نعتقد أن نفسه هي منبع هذه الأخبار لأنه لم يثبت علميا أن هناك غيبا وراء المادة يصح أن يتنزل منه قرآن أو يفيض عنه علم أو يأتي منه دين ثم ضربوا لذلك مثلا فقالوا إن الفتاة الفرنسية جان دارك الناشئة في القرن الخامس عشر الميلادي قد حدث التاريخ عنها أنها اعتقدت وهي في بيت أهلها بعيدة عن التكاليف السياسية أنها مرسلة من عند الله لإنقاذ وطنها ودفع العدو عنه واعتقدت أنها تسمع صوت الوحي الإلهي يحضها على القتال والجهاد وانطلقت تحت هذا التأثير فجردت حملة على أعداء وطنها وقادت الجيش بنفسها فقهرتهم ثم دارت الدائرة فوقعت أسيرة وماتت ميتة الأبطال في ميدان النزال ولا يزال ذكرها يتلألأ نورا ويعبق أريجا حتى لقد قررت الكنيسة الكاثوليكية قداستها بعد موتها بزمن.
وندفع هذه الشبهة بأمور:
أولها تلك الأدلة العلمية التي أقمناها هناك على إثبات الوحي الإلهي الحقيقي لا الوحي النفسي الخيالي مع دفع الشبهات الواردة عليها بالمبحث الثالث من هذا الكتاب.
ثانيها هذه الأدلة الأربعة عشر التي أقمناها وجوها لإعجاز القرآن في هذا المبحث ففي كل وجه منها دفع كاف لهذه الشبهة عند التأمل والإنصاف لأن الإنسان محدود القوى والمواهب فلا يستطيع أن يخرق النواميس الكونية العادية وما ذكرناه من وجوه إعجاز القرآن فيه أربعة عشر دليلا على حرف القرآن للنواميس الكونية المعتادة وخرقها لا يملكها إلا من قهر الكون ونواميسه وكان له السلطان المطلق على العالم وما فيه وهو الله وحده لا محمد ولا غير محمد لا بالعقل الباطن ولا الظاهر لا بالوحي النفسي ولا الانفعال العصبي.
ثالثها أن الدراس لتاريخ هذه الفتاة يعلم أن أعصابها كانت ثائرة لتلك الانقسامات الداخلية التي مزقت فرنسا والتي كانت تراها وتسمعها كل يوم بين أهلها وفي بلدها جوارد ورمي مع ما شاع في عهدها من خرافات كان لها أثرها في نفسها وعقلها ومخها من تلك الخرافات أن فتاة عذراء ستبعث في هذا الزمن تخلص فرنسا من عدوها يضاف إلى هذا أن الفتاة كانت بعيدة الخيال تسبح فيه يقظة ومناما وتتوهم منذ حداثتها بأنها ترى وتسمع ما لم تر ولم تسمع حتى خيل إليها أنها دعيت لتخلص بلادها وتتوج ملكها ولما تعدى البرغنيور على قريتها التي ولدت فيها قوي عندها هذا الخيال حتى صار عقيدة إلى غير ذلك مما يدل على أن الفتاة كانت أعصابها متهيجة تهيجا ناشئا عن تألمها من الحال السياسة السيئة في بلادها وعن تأثرها بالاعتقادات الخرافية التي سادت زمنها.
وليس هذا بدعا فكم رأينا وسمعنا أصحاب دعايات عريضة يعتمدون فيها على مثل هذه الخيالات الباطلة كالذين قاموا باسم المهدي المنتظر يدعون ويحاربون وكغلام أحمد القادياني والباب البهائي الذين أقام كل منهما نحلته الباطلة على أوهام فارغة.
لكن محمدا لم يك عصبيا ثائرا مهتاجا بل كان وقورا متزن العقل ثابت الفؤاد قوي الأعصاب يثور الشجعان من حوله وهو لا يثور ويشطح الناس ويسرفون في الخيال وهو واقف مع الحجة يكره الشطح والإسراف في الخيال بل يحارب الإسراف في الخيال وما يستلزمه ويرد هؤلاء المسرفين إلى حظيرة الحقائق ويحاكمهم إلى العقل ألم تر إلى القرآن كيف يذم الشعراء الذين يركبون مطايا الخيال إلى حد الغواية ويقول: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} .
وانظر كيف ينفي القرآن أنه شعر وأن الرسول شاعر فيقول: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ ، لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} .
وتأمل ما جاء في صحيح مسلم وغيره من أنه صلى الله عليه وسلم أبى على عائشة أم المؤمنين أن تقول في شأن صبي من الأنصار جيء به ميتا ليصلي عليه طوبى لهذا لم يعمل شرا فقال صلى الله عليه وسلم: "أو غير ذلك يا عائشة؟ إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلا وخلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم وخلق النار وخلق لها أهلا وخلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم". مع أن أطفال المسلمين يعلم الله أنهم في الجنة لكن توقف الرسول صلى الله عليه وسلم وإباءه على عائشة أن تقول هذا كان قبل أن يعلمه الله ذلك فلم يسمح لها أن تسير مع الوهم أو الظن ما دام الأمر غيبا ولا يعلم الغيب إلا الله.
وتدبر ما رواه البخاري من أنه لما توفي عثمان بن مظعون رضي الله عنه قالت أم العلاء امرأة من الأنصار رحمه الله عليك أبا السائب فشهادتي عليك لقد أكرمك الله، فقال صلى عليه وسلم:"وما يدريك أن الله أكرمه؟ " فقالت: بأبي أنت يا رسول الله فمن يكرمه الله؟ الله قال: "أما هو فقد جاءه اليقين. والله إني لأرجو له الخير. والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي"، قالت: فوالله لا أزكى أحدا بعده أبدا وكذلك يقول القرآن الكريم: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} .
فهل يعقل أن يقاس صاحب هذه الدقة البالغة والتثبت الدقيق بفتاة خفيفة سابحة في أوهامها غريقة في أحلامها؟!.
رابعها: أن تلك الفتاة جان دارك لم تأت ولا بدليل واحد معقول على صدق أوهامها وتخيلاتها التي تزعمها وحيا وحديثا من الله إليها لكن محمدا صلى الله عليه وسلم له على وحيه
الذي يدعيه ألف دليل ودليل كما سبق بيانه فأين الثرى من الثريا وأين الظلام من النور؟.
خامسها أن هذه الفتاة الهائجة الثائرة لم تكن صاحبة دعوة إلى إصلاح ولا ذات أثر باق في التاريخ إنما كانت صاحبة سيف ومسعرة حرب في فترة من الزمن لغرض مشترك بين الإنسان والحيوان وهو الدفاع عن النفس والوطن بمقتضى غريزة حب البقاء ثم لم تلبث جذوتها أن بردت وحماستها أن خمدت.
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا
…
أنيس ولم يسمر بمكة سامر
فأين هذه الآنسة الثائرة من أفضل الخلق في دعوته الكبرى وأثره الخالد في إصلاح أديان البشر وشرائعهم وأعمالهم وأخلاقهم وفي إنقاذ الإنسانية العانية وتجديد دمها بدينه الجديد الذي قلب به أوضاع الدنيا ونقل بسببه العالم إلى طور سعيد بل إلى الطور السعيد الذي لولاه لدام يتخبط في الظلمات ولبات في عداد الأموات أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها؟!
الشبهة الثالثة ودفعها:
يقولون إنه: صلى الله عليه وسلم كان يلقى ورقة بن نوفل فيأخذ عنه ويسمع منه وورقة لا يبخل عليه لأنه قريب لخديجة زوج محمد يريدون بهذا أن يوهموا قراءهم وسامعيهم بأن هذا القرآن استمد علومه من هذا النصراني الكبير الذي يجيد اللغة العبرية ويقرأ بها ما شاء الله.
وندفع هذه الشبهة بمثل ما دفعنا به ما قبلها ونقرر أنه لا دليل عندهم على هذا الذي يتوهمونه ويوهمون الناس به بل الدليل قائم عليهم فإن الروايات الصحيحة تثبت أن خديجة ذهبت بالنبي حين بدأه الوحي إلى ورقة ولما قص الرسول قصصه قال:
هذا هو الناموس الذي أنزل الله على موسى ثم تمنى أن يكون شابا فيه حياة وقوة ينصر بهما الرسول صلى الله عليه وسلم ويؤازره حين يخرجه قومه ولم تذكر هذه الروايات الصحيحة أنه ألقى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم عظة أو درس له درسا في العقائد أو التشريع ولا أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتردد عليه كما يتوهمون أو يوهمون فأنى لهم ما يقولون وأي منصف يسمع كلمة ورقة هذه ولا يفهم منها أنه كان يتمنى أن يعيش حتى يكون تلميذا لمحمد وجنديا مخلصا في صفه ينصره ويدافع عنه في وقت المحنة ولكن القوم ركبوا رؤوسهم على رغم ذلك وحاولوا قلب الأوضاع وإيهام أن ورقة هو الأستاذ الخصوصي الذي استقى منه محمد دينه وقرآنه ألا ساء ما يحكمون؟.
الشبهة الرابعة ودفعها:
يقولون: إن إعجاز القرآن للبشر عن أن يأتوا بمثله لا يدل على قدسيته وأنه كلام الله وشاهد ذلك أن لكل متأدب أسلوبا خاصا به يتبع استعداده الأدبي ومزاجه الشخصي وهذا الأسلوب الخاص يستحيل على غيره أن يأتي بمثله ضرورة اختلاف مواهب المتأدبين وأمزجتهم ومع هذا فإعجاز كل أسلوب لغير صاحبه وعجز كل متأدب عن الإتيان بأسلوب غيره لم يضف على الأساليب البشرية شيئا من القدسية وأنها كلام الله فكذلك القرآن يزعمون أنه كلام محمد ويعترفون بإعجازه على هذا النحو.
وندفع هذه الشبهة أولا بوجوه الإعجاز التي بسطناها سابقا غير وجه الإعجاز بالأسلوب.
ثانيا أن هذه الشبهة مغالطة فإن التحدي بالقرآن ليس معناه مطالبة الناس أن يجيئوا بنفس صورته الكلامية ومنهاجه المعين الذي انفرد به أسلوبه حتى ترد هذه الشبهة بل معناه مطالبة الناس أن يجيئوا بكلام من عندهم أيا كانت صورته ومزاجه وأيا كان نمطه ومنهاجه ولكن على شرط ألا يطيش في الميزان إذا قيس هو والقرآن
بمقياس واحد من البيان بل يظهر أنه يماثله أو يقاربه في خصائصه وإن كان على صورة بيانية غير صورته هذا هو ما يتحداهم به الرسول صلى الله عليه وسلم وهو الذي يتنافس فيه البلغاء عادة فيتماثلون أو يتفاضلون مع احتفاظ كل منهم بمنهاجه الخاص ونمطه المعين.
ومثال ذلك أن يتبارى قوم في العدو والجري إلى هدف واحد ويرسم لكل واحد من هؤلاء المتبارين طريق معين بحيث لا يمشي أحدهم من طريق صاحبه ولا يضع قدمه في موضع قدم أخيه بل يمشي في طريقه هو غير مزاحم ولا مزاحم ويسير موازيا لقرنه في المبدأ وفي الاتجاه ثم يمضون جميعا إلى الهدف المشترك الذي إليه يتسابقون وإذا هم بعد ذلك بين سابق مبرز ولاحق متخلف ومساو متكافئ دون أن يكون اختلاف طرقهم قادحا فيما يكون بينهم من هذا التفاضل أو التماثل بل يعرف التناسب بينهم بمعرفة نسبة ما قطعه كل من طريقه إلى ذلك الهدف المشترك كذلك المتنافسون في ميدان البيان يختار كل منهم طريقته التي يستمدها من مزاجه الشخصي واستعداده الخاص للوصول إلى الغاية البيانية العامة ثم هم بعد ذلك يتفاوتون أو يتعادلون بمقدار وفائهم بخصائص البيان أو نقصهم منها فالمدعوون إلى معارضة القرآن إن افترضتهم أكفاء لنبي القرآن فسيأتون بمثل ما جاء به وإن افترضتهم أعلى منه كعبا فسيأتون بأحسن مما جاء به وإن افترضتهم دونه فلن يشق عليهم أن يأتوا بقريب مما جاء به مع احتفاظ كل منهم بنمطه في الكلام ومنهجه في البيان لكن شيئا من هذه المراتب الثلاث لم يكن فلم يستطيعوا أن يأتوا بمثل القرآن ولا بما يعلوه ولا بما يقرب منه لا بالنسبة إليه كله ولا بالنسبة لعشر سور ولا بالنسبة لسورة واحدة من مثله لا منفردين ولا مجتمعين ولو كان معهم الإنس والجن وكان بعضهم لبعض ظهيرا يضاف إلى ذلك أنهم كانوا أئمة البيان ونقدة الكلام وكانوا أهل إباء وضيم يحرصون على الغلبة في هذه الحلبة من معارضة القرآن.
أليس ذلك بدليل كاف على أن هذا الكتاب تنزيل العزيز الرحيم ولا يمكن أن يكون كلام محمد ولا غير محمد من المخلوقين؟!
الشبهة الخامسة ودفعها:
يقولون إن عجز الناس عن الإتيان بمثل القرآن ما هو إلا نظير عجزهم عن الإتيان بمثل الكلام النبوي وإذن فلا يتجه القول بقدسية القرآن وأنه كلام الله كما لا يتجه القول بقدسية الحديث النبوي وأنه كلام الله!.
وندفع هذه الشبهة أولا بأن الحديث النبوي إن عجز عامة الناس عن الإتيان بمثله فلن يعجز أحد خاصتهم عن الإتيان ولو بمقدار سطر واحد منه وإذا عجز أحد هؤلاء الممتازين عن مقدار سطر واحد منه نفسه فلن يعجز عن مقدار سطر واحد من مماثله القريب منه وإن عجز أن يأتي بسطر من هذا المثل وهو وحده فلن يعجز عنه إذا انضم إليه ظهير ومعين أيا كان ذلك الظهير والمعين وإن عجز عن هذا مع الظهير والمعين أيا كان فلن يعجز الإنس والجن جميعا أن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا كما قال القرآن.
ذلك شأن الحديث النبوي مع معارضيه أما القرآن الكريم فله شأن آخر لأن أحدا لا يستطيع الإتيان بمثل أقصر سورة منه لا هو وحده ولا مع غيره ولو اجتمع من بأطرافها من الثقلين.
وإنما قلنا إن الحديث النبوي لا يعجز بعض الخواص الممتازين أن يأتي بمثله لأن التفاوت بين الرسول وبلغاء العرب مما يتفق مثله في مجاري العادة بين بعض الناس وبعض في حدود الطاقة البشرية كالتفاوت بين البليغ والأبلغ والفصيح والأفصح والحسن والأحسن وليس هذا التفاوت بالأمر الشاذ الخارق للنواميس العادية جملة بحيث تنقطع الصلة بين الرسول وسائر البلغاء جميعا لاختصاصه من بينهم بفطرة شاذة لا تمت إلى سائر الفطر بنسب إلا كما ينتسب النقيض إلى النقيض والضد إلى الضد كلا بل إن هذا القول باطل من وجهين:
أحدهما أنه يخالف المعقول والمشاهد لما هو معروف من أن الطبيعة الإنسانية
العامة واحدة ومن أن الطبائع الشخصية يقع بينها التشابه والتماثل في شيء أو أشياء في واحد أو أكثر في زمن قريب أو أزمنة متطاولة في كل فنون الكلام او في بعض فنونه والآخر انه يخالف المنقول في الكتاب والسنة من أن البشرية قدر مشترك بين الرسول وجميع آحاد الأمة ولا ريب أن هذه البشرية المشتركة وجه شبه يؤدي لا محالة إلى المماثلة بين كلامه وكلام من تجمعه بهم رابطة أو روابط خاصة على نحو ما قررنا أليس الله يقول: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً} ويقول: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى} إلي ثم أليس الرسول يقول في الحديث الآنف: "إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي" الخ ويقول لرجل رآه فامتلأ منه فرقا ورعبا: هون عليك فإني لست بملك إنا أنت ابن امرأة من قريش تأكل القديد!.
ثانيا أننا نجد تشابها بين كلام النبوة وكلام بعض الخواص من الصحابة والتابعين حتى لقد نسمع الحديث فيشتبه علينا أمره أهو مرفوع ينتهي إلى النبي صلى الله عليه وسلم أم موقوف عند الصحابي أم مقطوع عند التابعي؟ إلى أن يرشدنا السند إلى عين قائله.
ومن أوتي حاسة بيانية يدرك هذا الشبه كثيرا كلما كان صاحب البيان المشابه تصله بالرسول صلات قوية كتلك الصلات أو العوامل المتآخذة التي توافرت في علي بن أبي طالب حتى مسحت بيانه مسحة نبوية وجعلت نفسه في الكلام من أشبه الأنفاس بكلام رسول الله إن لم يكن أشبهها.
أما القرآن وما أدراك ما القرآن فلن تستطيع أن تجد له شبيها أو ندا لأن الذي صنعه على عينه لن نستطيع أن تجد له شبيها أو ندا! فكيف يقاس القرآن بالحديث في هذا المقام أم كيف يجمع بينهما في قران.
ثالثا أن القرآن لو كان كلام محمد كالحديث الشريف لكان أسلوبهما واحدا ضرورة أنهما على هذا الفرض صادران عن شخص واحد استعداده واحد ومزاجه واحد ولكن الواقع غير ذلك فأسلوب القرآن ضرب وحده تظهر عليه سمات الألوهية التي تجل عن المشابهة
والمماثلة وأسلوب الحديث النبوي ضرب آخر لا يجل عن المشابهة والمماثلة بل هو محلق في جو البيان يعلو أساليب الناس في جملته دون تفصيله ولا يستطيع بحال أن يصعد إلى سماء إعجاز القرآن! فإن افترضت أنه كان له أسلوبا مختلفان أحدهما يحضره ويتعمل له وهو ما سماه بالقرآن والآخر يرسله ولا يحضره وهو ما سمي بالحديث إن افترضت ذلك فانظر علاج الشبهة العاشرة في المبحث الثالث من هذا الكتاب من "ص 78 – 84 الجزء الأول" فإن فيه شفاء ما في نفسك والله يكتب العافية لي ولك.
الشبهة السادسة ودفعها:
يقولون إن أنباء القرآن الغيبية لا تستقيم أن تكون وجها من وجوه الإعجاز الدالة على أنه كلام الله بل هو كلام محمد استقى أبناءه من أهل الكتاب في الشام وغيرها أو رمى فيه الكلام على عواهنه فصادف الحقيقة اتفاقا أو استنبط الأنباء برأيه استنباطا ثم نسبها إلى الله.
وندفع هذه الشبهة أولا بأن أكثر أنباء الغيب التي في القرآن لم يكن لأهل الكتاب علم بها على عهده.
ثانيا أنه صحح أغلاطهم في كثير من هذه الأنباء فليس بمعقول أن يأخذها عنهم وهو الذي صححها لهم!.
ثالثا أن أهل الكتاب في زمنه كانوا أبخل الناس بما في أيديهم من علم الكتاب.
رابعا أنه لو كان لهذه الشبهة ظل من الحقيقة لطار بها أهل الكتاب فرحا وطعنوا بها في محمد وقرآنه ولطبل لها المشركون ورقصوا لكن شيئا من ذلك لم يكن بل إن جلة من علماء أهل الكتاب آمنوا بهذا القرآن ثم لم يمض زمن طويل حتى أعطت قريش مقادتها لها عن إيمان وإذعان.
خامسا أن محمدا كان رجلا عظيما بشهادة هؤلاء الطاعنين وصاحب هذه العظمة البشرية يستحيل أن يكون ممن يرمي الكلام على عواهنه خصوصا أنه رجل مسؤول في موقف الخصومة بينه وبين أعداء ألداء فما يكون له أن يرجم بالغيب ويقامر بنفسه وبدعوته وهو لا يضمن الأيام وما تأتي به مما ليس في الحسبان.
سادسا أنه على فرض رجمه بالغيب جزافا من غير حجة يستحيل في مجرى العادة أن يتحقق كل ما جاء به مع هذه الكثرة بل كان يخطئ ولو مرة واحدة إما في غيوب الماضي أو الحاضر أو المستقبل لكنه لم يخطئ في واحدة منها على كثرتها وتنوعها.
سابعا أن هذه الأنباء الغيبية ليست في كثرتها مما يصلح أن يكون مجالا للرأي ثم إن ما يصلح أن يكون مجالا للرأي أخبر محمد صلى الله عليه وسلم في بعضه بغير ما يقضي به ظاهر الرأي والاجتهاد انظر ما ذكرناه تحت عنوان أنباء الغيب من هذا المبحث وتأمل نبوءة انتصار الروم على الفرس وانتصار المسلمين على المشركين في وقت لم تتوافر فيه عوامل هذا الانتصار كما بينا سابقا.
الشبهة السابعة ودفعها:
يقولون إن ما تذكرونه من علوم القرآن ومعارفه وتشريعاته الكاملة لا يستقيم أن يكون وجها من وجوه الإعجاز فهذا سولون اليوناني وضع وحده قانونا وافيا كان موضع التقدير والإجلال والطاعة وما قال أحد إنه أتى بذلك معجزة ولا إنه صار بهذا التشريع نبيا.
وندفع هذه الشبهة أولا بأن البون شاسع بين ما جاء به القرآن وما جاء به هذا القانون السولوني اليوناني ونحن نتحداهم أن يثبتوا لنا كماله ووفاءه بكافة ضروب الإصلاح البشري على نحو ما شرحنا سابقا بالنسبة إلى القرآن الكريم.
ثانيا أن الفرق بعيد بين ظروف محمد صلى الله عليه وسلم التي جاء فيها بالقرآن وظروف سولون التي وضع فيها القانون وهذا الفرق البعيد له مدخل كبير في إثبات هذا الوجه من الإعجاز بالنسبة إلى محمد صلى الله عليه وسلم دون سولون فمحمد كان أميا نشأ في الأميين أما سولون فكان فيلسوفا نشأ بين فلاسفة ومتعلمين بل هو أحد الفلاسفة السبعة الذين كان يشار إليهم بالبنان في القرن السابع قبل الميلاد المسيحي
…
ومحمد صلى الله عليه وسلم لم يتقلد قبل القرآن أعمالا إدارية ولا عسكرية بل جاءه القرآن بعد أن حببت إليه الخلوة والعزلة أما سولون فقد تولى قبل وضعه القانون أعمالا إدارية وعسكرية وانتخب في عام 594 قبل الميلاد أرجونا أي رئيسا على الأمة بإجماع أحزابها وقلدوه سلطة مطلقة ليغير ما شاء من نظم البلاد وقانونها الذي وضعه زراكوت من قبله فوضع لها نظاما جديدا أقرته الأمة حكومة وشعبا وقررت اتباعه والعمل به عشر سنين.
فهل يجوز حتى في عقول المغفلين أن تقام موازنة ويصاغ قياس مع هذه المفارقات الهائلة بين محمد الأمي الناشئ في الأمين وسولون الفيلسوف والحاكم والقائد والزعيم والناشئ في أعظم أمة من أمم الحكمة والحضارة؟!
ثالثا أين ذلك القانون الذي وضعه أو عدله سولون؟ وما أثره وما مبلغ نجاحه بجانب قانون القرآن الجامع ودستوره الخالد وأثره البارز ونجاحه المعجز ثم ما قيمة قانون وضع تحت تأثير تلك الظروف ومات وأصبح في خبر كان بجانب القرآن الذي جاء في ظروف مضادة جعلته معجزة بل معجزات ثم حي حياة دائمة لا مؤقتة ولا يزال يزداد مع مرور العصور والقرون جدة وحياة وثباتا واستقرارا حتى أصبح كثير من الأمم المتحضرة تستمد منه وقررت مؤتمرات دولية اعتباره مصدرا من مصادر القانون المقارن في هذا العصر إلى غير ذلك مما أشرنا إليه قبلا؟!