الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ص -
تفاسير المعتزلة
ولنبدأ بكتاب الكشاف للزمخشري ثم كتاب تنزيه القرآن عن المطاعن للقاضي عبد الجبار وهما نموذجان من تفاسير أهل الكلام من المعتزلة.
كتاب الكشاف:
أما كتاب الكشاف فصاحبه هو محمود بن عمر بن محمد بن عمر النحوي اللغوي المعتزلي الملقب بجار الله ولد سنة 467 هـ سبع وستين وأربعمائة وتوفي سنة 538 ثمان وثلاثين وخمسمائة بعد أن برع في اللغة والأدب والنحو ومعرفة أنساب العرب حتى فاق أقرانه ثم تظاهر بالاعتزال ودعا إليه وكتابه خير كتاب أو من خير الكتب التي يرجع إليها في التفسير من ناحية البلاغة رغم نزعته الاعتزالية وأغلب التفاسير من بعده أخذت منه واعتمدت عليه.
ويمتاز الكشاف بأمور منها خلوه من الحشو والتطويل ومنها سلامته من القصص والإسرائيليات ومنها اعتماده في بيان المعاني على لغة العرب وأساليبهم ومنها عنايته بعلمي المعاني والبيان والنكات البلاغية تحقيقا لوجوه الإعجاز ومنها سلوكه فيما يقصد إيضاحه طريق السؤال والجواب كثيرا ويعنون السؤال بكلمة إن قلت بفتح التاء ويعنون الجواب بكلمة قلت بضم التاء وللكشاف حواش كثيرة منها حاشية ابن كمال باشا زادة وحاشية علاء الدين المعروف بالبهلوان وحاشية الشيخ حيدر وحاشية الرهاوي.
وإليك مواضع من كتابه ينحو فيها نحو الاعتزال ويقرر عقيدة القول بالمنزلة بين المنزلتين وبأن أفعال العباد مخلوقة لهم وبأن رؤية الله في الدار الآخرة مستحيلة.
1 -
يقول عند تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} الخ ما نصه فإن قلت ما الإيمان الصحيح قلت أن يعتقد الحق ويعرب عنه بلسانه ويصدقه بعمله فمن أخل بالاعتقاد وإن شهد وعمل فهو منافق ومن أخل بالشهادة فهو كافر ومن أخل بالعمل فهو فاسق اهـ فأنت تراه فسر الإيمان بما يثبت به المنزلة بين المنزلتين
…
وهي منزلة الفاسق بين منزلة المؤمن ومنزلة الكافر فينفي الإيمان عن سليم العقيدة ما دام أنه قد أخل بواجب العمل وهو محجوج من أهل السنة بأن هذا التفسير لا يوافق اللغة ولا الشرع أما اللغة فلأن معنى الإيمان التصديق لا غير وكذا الشرع بدليل عطف العمل عليه والعطف يقتضي المغايرة بين المتعاطفين.
2 -
ويقول في تفسير قوله سبحانه: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} ما نصه وإسناد الرزق إلى نفسه للإعلام بأنهم ينفقون الحلال المطلق الذي يستأهل أن يضاف إلى الله اهـ وهذا منه إيماء ورمز إلى أن الرزق الحلال من الله وأن الرزق الحرام من العبد.
ويرد عليه أهل السنة بقوله سبحانه: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} فالله هو الخالق الرازق لا غيره سواء أكان الرزق حلالا أم حراما.
3 -
في تفسير قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} الخ ما نصه:
فإن قلت لم أسند الختم إلى الله تعالى وإسناده إليه يدل على المنع من قبول الحق والتوصل إليه بطرقه وهو قبيح والله تعالى منزه عن فعل القبيح بدليل: {وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} . {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} . {إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} الخ ما قال: ثم أول إسناد الختم إلى الله بأن الكلام
استعارة أو مجاز على معنى أن الشيطان هو الخاتم أو الكافر وأسند إلى الله تعالى لأنه هو الذي أقدره ومكنه وهذا المذهب يلزمه في نظر أهل السنة أمور كلها باطلة:
منها مخالفة الدليل العقلي القائم على وحدانية الله تعالى وأنه لا شيء من الكائنات إلا وهو أثر من آثار القادر لا غيره.
ومنها مخالفة الدليل النقلي كقوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} .
ومنها القول بأن هذه الأشياء نفذ فيها مراد الشيطان أو الكافر بخلاف مراد الله وهذا أشنع ما يقال.
ومنها قياس الغائب على الشاهد إذ جعلوا المنع من قبول الحق قبيحا من الله قياسا على قبحه منا.
ومنها الجهل بحقيقة الظلم وحقيقته أنه التصرف في ملك الغير بغير إذنه ولا ملك إلا الله {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} . {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} فلا ظلم في فعله تعالى على أي وجه كان.
ومنها أن ما تمسكوا به من أفعال العباد لو كانت مخلوقة لله تعالى لما نعاها عليهم ولما عاقبهم بها ولما قامت له حجة عليهم كل ذلك مبني على قاعدتهم الخاطئة من التحسين والتقبيح العقليين وعلى قياسهم الغائب على الشاهد كما سبق وكلا هذين لا يسلم لهم ثم يرد عليهم بالمثل فيقال لهم يقبح من الشاهد أن يمكن غيره من فعل شيء ثم يعاقبه عليه فكذلك الغائب وأنتم تقولون إن القدرة التي يخلق بها العبد فعله في زعمكم هي مخلوقة لله تعالى مع علمه بما سيفعله العبد بها ولا يخفى أن ذلك بمثابة إعطاء سيف لمن يبغي به على الناس وذلك قبيح في الشاهد فهو قبيح في الغائب وما تجيبون به عن هذه نجيبكم به عن تلك فالجواب هو الجواب.
4 -
ويقول في تفسير قوله تعالى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} ما نصه: ولا غاية للفوز وراء النجاة من سخط الله والعذاب السرمدي رضوان الله والنعيم المخلد اهـ وأنت ترى أن في ذلك تعريضا بإنكار رؤية الله إذ يصرح بأن النجاة والرضوان والنعيم لا غاية للفوز وراءها مع أنه لم يذكر الرؤية وقد صرح بإنكارها في سورة الأنعام إذ قال في تفسير قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} ما نصه البصر هو الجوهر اللطيف الذي ركبه الله في حاسة النظر به تدرك المبصرات فالمعنى أن الأبصار لا تتعلق به ولا تدركه لأنه متعال عن أن يكون مبصرا في ذاته إذ الأبصار إنما يتعلق بما كان في جهة أصالة أو تبعا وذلك كالأجسام والهيئات اهـ.
ويرد عليه أهل السنة أولا بأن الإدراك المنفي عبارة عن الإحاطة ومنه قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ} أي أحاط به وقوله سبحانه حكاية عن قوم موسى: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} أي محاط بنا فالمنفي إذن عن الأبصار إحاطتها به عز وجل لا مجرد الرؤية ومن المعلوم أنه تعالى لا تحيط به الأفهام وهذا لا يمنع أن تعرفه فالإحاطة للعقل منفية كنفي الإحاطة للبصر وما دون الإحاطة من المعرفة للعقل والرؤية للبصر ثابت غير منفي.
ثانيا أن الزمخشري لم يذكر على إحاطة الرؤية عقلا دليلا ولا شبه دليل سوى أنه يكون المرئي لا في جهة وهذا نعارضه بالمثل فنقول يلزمكم استبعاد أن يكون الموجود لا في جهة إذ الاتباع للوهم ببعدهما جميعا والانقياد للعقل يبطل هذا الوهم ويجيزهما معا.
وحسبنا هذا فحبل النقاش بين أهل السنة والمعتزلة طويل وميدان الأخذ والرد بينهما علم الكلام فارجع إليه إن شئت المزيد عصمني الله وإياك من الزلل ووفقنا للقصد في الاعتقاد والعمل آمين.