المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌شبهات المنكرين للنسخ ودفعها - مناهل العرفان في علوم القرآن - جـ ٢

[الزرقاني، محمد عبد العظيم]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الثاني

- ‌المبحث الثاني عشر: في‌‌ التفسيروالمفسرين وما يتعلق بهما

- ‌ التفسير

- ‌ أقسام التفسير

- ‌ التفسير المأثور

- ‌ المفسرون من الصحابة

- ‌ تفسير ابن عباس

- ‌ الرواية عن غير ابن عباس من الصحابة

- ‌ المفسرون من التابعين

- ‌ ضعف الرواية بالمأثور وأسبابه

- ‌ تدوين التفسير بالمأثور

- ‌ التفسير بالرأي

- ‌العلوم التي يحتاجها المفسر

- ‌ منهج المفسرين بالرأي

- ‌ قانون الترجيح عند الاحتمال

- ‌ أوجه بيان السنة للقرآن

- ‌ التعارض بين التفسير بالرأي

- ‌ أهم كتب التفسير بالرأي

- ‌ تفاسير الفرق المختلفة

- ‌ تفاسير المعتزلة

- ‌ تفاسير الباطنية

- ‌ تفاسير الشيعة

- ‌ التفسير الإشاري

- ‌ نصيحة خالصة

- ‌ تفاسير أهل الكلام

- ‌ مزج العلوم الأدبية والكونية

- ‌كلمة ختامية

- ‌المبحث الثالث عشر: في ترجمة القران وحكمها تفصيلا

- ‌مدخل

- ‌القرآن ومعانيه ومقاصده

- ‌مقاصد القرآن الكريم

- ‌حكم ترجمة القرآن تفصيلا

- ‌ترجمة القرآن بمعنى تفسيره بلغة أجنبية

- ‌فوائد الترجمة بهذا المعنى

- ‌دفع الشبهات عن هذه الترجمة

- ‌ ترجمة القرآن بمعنى نقله إلى لغة أخرى

- ‌دفع الشبهات الواردة على منع هذه الترجمة

- ‌حكم قراءة الترجمة والصلاة بها

- ‌توجيهات وتعليقات

- ‌موقف الأزهر من ترجمة القرآن الكريم

- ‌فذلكة المبحث

- ‌المبحث الرابع عشر: في النسخ

- ‌أهمية هذا المبحث:

- ‌ما هو النسخ

- ‌ما لا بد منه في النسخ

- ‌الفرق بين النسخ والبداء

- ‌الفرق بين النسخ والتخصيص

- ‌النسخ بين مثبتيه ومنكريه

- ‌أدلة ثبوت النسخ عقلا وسمعا

- ‌حكمة الله في النسخ

- ‌شبهات المنكرين للنسخ ودفعها

- ‌طرق معرفة النسخ

- ‌ما يتناوله النسخ

- ‌أنواع النسخ في القرآن

- ‌شبهات أولئك المانعين ودفعها

- ‌النسخ ببدل وبغير بدل

- ‌شبهة ودفعها

- ‌نسخ الحكم ببدل أخف أو مساو أو أثقل

- ‌شبهات المانعين ودفعها

- ‌نسخ الطلب قبل التمكن في امتثاله

- ‌شبهات المنكرين ودفعها

- ‌النسخ في دورانه بين الكتاب والسنة

- ‌نسخ القياس والنسخ به

- ‌نسخ الإجماع والنسخ به

- ‌موقف العلماء من الناسخ والمنسوخ

- ‌منشأ غلط المتزيدين تفصيلا

- ‌الآيات التي اشتهرت بأنها منسوخة

- ‌المبحث الخامس عشر: في محكم القرآن ومتشابهه

- ‌معنى محكم القران ومتشابه

- ‌آراء العلماء في معنى المحكم والمتشابه

- ‌منشأ التشابه وأقسامه وأمثلته

- ‌أنواع المتشابهات

- ‌متشابه الصفات

- ‌دفع الشبهات الواردة في هذا المقام

- ‌المبحث السادس عشر: في اسلوب القران الكريم

- ‌معنى الاسلوب

- ‌خصائص أسلوب القرآن:

- ‌تعليق وتمثيل:

- ‌الشبهات الواردة على أسلوب القرآن

- ‌المبحث السابع عشر: في إعجاز القرآن وما يتعلق به

- ‌مدخل

- ‌وجوه إعجاز القرآن

- ‌الوجه الأول لغته وأسلوبه

- ‌الوجه الثاني: طريقة تأليفه

- ‌الوجه الثالث: علومه ومعارفه

- ‌الوجه الرابع: وفاؤه بحاجات البشر

- ‌الوجه الخامس: موقف القرآن من العلوم الكونية

- ‌الوجه السادس: سياسته في الإصلاح

- ‌الوجه السابع: أنباء الغيب فيه

- ‌الوجه الثامن آيات العتاب

- ‌الوجه التاسع: ما نزل بعد طول انتظار

- ‌الوجه العاشر: مظهر النبي صلى الله عليه وسلم عند هبوط الوحي عليه

- ‌الوجه الحادي عشر: آية المباهلة

- ‌الوجه الثاني عشر: عجز الرسول عن الإتيان ببدل له

- ‌الوجه الثالث عشر: الآيات التي تجرد الرسول من نسبتها إليه

- ‌الوجه الرابع عشر: تأثير القرآن ونجاحه

- ‌وجوه معلولة

- ‌شبهة القول بالصرفة

- ‌دفع الشبهات الواردة في هذا المقام

- ‌خلاصة

- ‌كلمة الختام

الفصل: ‌شبهات المنكرين للنسخ ودفعها

أولا لتقرير حكمها ردعا لمن تحدثه نفسه أنه يتلطخ بهذا العار الفاحش من شيوخ وشيخات حتى إذا ما تقرر هذا الحكم في النفوس نسخ الله تلاوته لحكمة أخرى هي الإشارة إلى شناعة هذه الفاحشة وبشاعة صدورها من شيخ وشيخة حيث سلكها مسلك ما لا يليق أن يذكر فضلا عن أن يفعل وسار بها في طريق يشبه طريق المستحيل الذي لا يقع كأنه قال نزهوا الأسماع عن سماعها والألسنة عن ذكرها فضلا عن الفرار منها ومن التلوث برجسها كتب الله لنا الحفظ والعصمة إنه ولي كل نعمة وتوفيق.

ص: 197

‌شبهات المنكرين للنسخ ودفعها

نستطيع أن ننوع المنكرين للنسخ أنواعا فنوع ينكر جوازه عقلا ووقوعه سمعا وهم نصارى هذا العصر وفرقة الشمعونية من اليهود ونوع ينكره سمعا ويجوزه عقلا وهم العنانية من اليهود أيضا ونوع يجوزه ع قلا ويقول بوقوعه سمعا بيد أنه ينكر أن الشريعة الإسلامية ناسخة لليهودية وهم العيسوية تمام فرق اليهود الثلاث ونوع يجوزه عقلا وينكره سمعا ولكن إنكاره صوري يتأول فيه بما يجعل خلافه لجمهرة المسلمين خلافا لفظيا أو شبيها باللفظي وهو أبو مسلم الاصفهاني ومن تبعه.

فبين أيدينا إذن من انفردوا بإنكار النسخ عقلا وهم نصارى هذا العصر وشمعونية اليهود ومن توفقوا على إنكاره سمعا وإن اختلفوا في مدى هذا الإنكار وفي كيفيته وهم نصارى هذا العصر وعنانية اليهود والعيسويون منهم وأبو مسلم الأصفهاني وأتباعه من المسلمين.

ولكل من هؤلاء جميعا شبهات حسبوها أدلة وليست أدلة كما يتبين لك ذلك في هذا الاستعراض الجامع.

ص: 197

1 -

شبهات المنكرين لجوازه عقلا

لا ريب أن مذهب المنكرين لجواز النسخ عقلا هو أخطر المذاهب وأشنعها وأبعدها عن الحق وأوغلها في الباطل ومجرد إنكاره الجواز العقلي يستلزم إنكار الوقوع الشرعي وهل يقع في الوجود ما أحاله العقل لهذا نبدأ بتفنيد هذا المذهب ودفع شبهاته.

الشبهة الأولى ودفعها:

يقولون لو جاز على الله تعالى أن ينسخ حكما من أحكامه لكان ذلك إما لحكمة ظهرت له كانت خافية عليه وإما لغير حكمة وكل هذين باطل أما الأول فلأنه يستلزم تجويز البداء والجهل بالعواقب على علام الغيوب وأما الثاني فلأنه يستلزم تجويز العبث على الحكيم العليم اللطيف الخبير والبداء والعبث مستحيلان عليه سبحانه بالأدلة العقلية والنقلية فما أدى إليهما وهو جواز النسخ محال.

وندفع هذه الشبهة بأن نسخ الله تعالى ما شاء من أحكامه مبني على حكمة كانت معلومة له أولا ظاهرة لم تخف عليه ولن تخفى عليه أبدا غاية الأمر أن مصالح العباد تتجدد بتجدد الأزمان وتختلف باختلاف الأشخاص والأحوال وأسراره وحكمه سبحانه لا تتناهى ولا يحيط بها سواه فإذا نسخ حكما بحكم لم يخل هذا الحكم الثاني من حكمة جديدة غير حكمة الحكم الأول هي مصلحة جديدة للعباد في الحكم الجديد أو هي غير تلك وسبحان من أحاط بكل شي علما وإذن فلا يستلزم نسخ الله لأحكامه بداء ولا عبثا.

ولكن هؤلاء الجاحدين غفلوا أوتغالفوا عن هذا حتى جاء الترديد في شبهتهم ناقصا لم يستوف وجوه الاحتمالات كما ترى ولو استوفوه لقالوا النسخ إما أن يكون لحكمة ظهرت لله كانت خافية عليه أو لحكمة كانت معلومة له لم تكن خافية عليه أو لغير

ص: 198

حكمة وأكبر الظن أنهم لم يفطنوا إلى هذا ولو فطنوا له ما اشتبهوا ولو اشتبهوا بعد فطنتهم له لاخترنا الشق الثاني من هذا الترديد ثم أيدناه بتوافر أدلة العقل والنقل عليه كما قررنا.

الشبهة الثانية ودفعها:

يقولون لو جاز على الله تعالى أن ينسخ حكما بحكم للزم على ذلك أحد باطلين جهله جل وعلا وتحصيل الحاصل وبيان ذلك أن الله تعالى إما أن يكون قد علم الحكم الأول المنسوخ على أنه مؤبد وإما أن يكون قد علمه على أنه مؤقت فإن كان قد علمه على أنه مستمر إلى الأبد ثم نسخه وصيره غير مستمر انقلب علمه جهلا والجهل عليه تعالى محال وإن كان قد علمه على أنه مؤقت بوقت معين ثم نسخه عند ذلك الوقت ورد عليه أن المؤقت ينتهي بمجرد انتهاء وقته فإنهاؤه بالنسخ تحصيل للحاصل وهو باطل.

وندفع هذه الشبهة بأن الله تعالى قد سبق في علمه أن الحكم المنسوخ مؤقت لا مؤبد ولكنه علم بجانب ذلك أن تأقيته إنما هو بورود الناسخ لا بشيء آخر كالتقييد بغاية في دليل الحكم الأول وإذن فعلمه بانتهائه بالناسخ لا يمنع النسخ بل يوجبه وورود الناسخ محقق لما في علمه لا مخالف له شأنه تعالى في الأسباب ومسبباتها وقد تعلق علمه بها كلها ولا تنس ما قررناه ثمة من أن النسخ بيان بالنسبة إلى الله رفع بالنسبة إلينا.

الشبهة الثالثة ودفعها:

يقولون لو جاز النسخ للزم أحد باطلين تحصيل الحاصل وما هو في معناه وبيان ذلك أن الحكم المنسوخ إما أن يكون دليله قد غياه بغاية ينتهي عندها أو يكون قد أبده نصا فإن كان قد غياه بغاية فإنه ينتهي بمجرد وجود هذه الغاية وإذن لا سبيل إلى إنهائه بالنسخ وإلا لزم تحصيل الحاصل وإن كان دليل الحكم الأول قد نص على تأبيده ثم جاء الناسخ على رغم هذا التأبيد لزم المحال من وجوه ثلاثة:

ص: 199

أولها التناقض لأن التأبيد يقتضي بقاء الحكم ولا ريب أن النسخ ينافيه.

ثانيها تعذر إفادة التأبيد من الله للناس لأن كل نص يمكن أن يفيد تبطل إفادته باحتمال نسخه وذلك يفضي إلىالقول بعجز الله وعيه عن بيان التأبيد لعباده فيما أبده لهم تعالى الله عن ذلك.

ثالثها استلزام ذلك لجواز نسخ الشريعة الإسلامية مع أنها باقية إلى يوم القيامة عند القائلين بالنسخ.

وندفع هذه الشبهة أولا بأن حصر الحكم المنسوخ في هذين الوجهين اللذين ذكرهما المانع غير صحيح لأن الحكم المنسوخ يجوز ألا يكون مؤقتا ولا مؤبدا بل يجيء مطلقا عن التأقيت وعن التأبيد كليهما وعليه فلا يستلزم طرو النسخ عليه شيئا من المحالات التي ذكروها وإطلاق هذا الحكم كاف في صحة نسخه لأنه يدل على الاستمرار بحسب الظاهر وإن لم يعرض له النص.

ثانيا أن ما ذكروه من امتناع نسخ الحكم المؤبد غير صحيح أيضا وما استندوا إليه منقوض بوجوه ثلاثة:

أولها أن استدلالهم بأنه يؤدي إلىالتناقض مدفوع بأن الخطابات الشرعية مقيدة من أول الأمر بألا يرد ناسخ كما أنها مقيدة بأهلية المكلف لتكليف وألا يطرأ عليه جنون أو غفلة أو موت وإذن فمجيء الناسخ لا يفضي إلى تناقض بينه وبين المنسوخ بحال.

ثانيها أن استدلالهم بأنه يؤدي إلى أن يتعذر على الله بيان التأبيد لعباده مدفوع بأن التأبيد يفهمه الناس بسهولة من مجرد خطابات الله الشرعية المشتملة على التأبيد وهو ما يشعر به كل واحد منا وذلك لأن الأصل بقاء الحكم الأول وما اتصل به من تأقيت

ص: 200

أو تأبيد وطرو الناسخ احتمال مرجوح واستصحاب الأصل أمر يميل إليه الطبع كما يؤيده العقل والشرع.

ثالثها أن جواز نسخ الشريعة الإسلامية إن لزمنا معاشر القائلين بالنسخ فإنه يلزمنا على اعتبار أنه احتمال عقلي لا شرعي بدليل أننا نتكلم في الجواز العقلي لا الشرعي أما نسخ الشريعة الإسلامية بغيرها من الناحية الشرعية فهو من المحالات الظاهرة لتظافر الأدلة على أن الإسلام دين عام خالد ولا يضير المحال في حكم الشرع أن يكون من قبيل الجائز في حكم العقل.

الشبهة الرابعة ودفعها:

يقولون إن النسخ يستلزم اجتماع الضدين واجتماعهما محال وبيان ذلك أن الأمر بالشيء يقتضي أنه حسن وطاعة ومحبوب لله والنهي عنه يقتضي أنه قبيح ومعصية ومكروه له تعالى فلو أمر الله بالشيء ثم نهى عنه او نهى عن الشيء ثم أمر به لاجتمعت هذه الصفات المتضادة في الفعل الواحد الذي تعلق به الأمر والنهي.

وندفع هذه الشبهة بأن الحسن والقبح وما اتصل بهما ليست من صفات الفعل الذاتية حتى تكون ثابتة فيها لا تتغير بل هي تابعة لتعلق أمر الله ونهيه بالفعل وعلى هذا يكون الفعل حسنا وطاعة ومحبوبا لله ما دام مأمورا به من الله ثم يكون هذا الفعل نفسه قبيحا ومعصية ومكروها له تعالى ما دام منهيا عنه منه تعالى والقائلون بالحسن والقبح العقليين من المعتزلة يقرون بأنهما يختلفان باختلاف الأشخاص والأوقات والأحوال وبهذا التوجيه ينتفي اجتماع الضدين لأن الوقت الذي يكون فيه الفعل حسنا غير الوقت الذي يكون فيه ذلك الفعل قبيحا فلم يجتمع الحسن والقبح في وقت واحد على فعل واحد.

ص: 201

ب - شبهات المنكرين للنسخ سمعا

لقد نوعنا هؤلاء فيما سبق إلى أنواع وقلنا إن لكل منهم طريقة خاصة في تكييف دعواه وفي صياغة شبهته وها هي ذي دعاويهم وشبهاتهم تلقى حتفها بين يديك فيما نسوقه إليك.

1 -

شبهة العنانية والشمعونية:

يقولون إن التوارة التي أنزلها الله على موسى لم تزل محفوظة لدينا منقولة بالتواتر فيما بيننا وقد جاء فيها هذه شريعة مؤبدة ما دامت السموات والأرض وجاء فيها أيضا الزموا يوم السبت أبدا وذلك يفيد امتناع النسخ لأن نسخ شيء من أحكام التوراة لا سيما تعظيم يوم السبت إبطال لما هو من عنده تعالى

وندفع هذه الشبهة بوجوه خمسة:

أولها أن شبهتهم هذه أقصر من مدعاهم قصورا بينا لأن قصارى ما تقتضيه إن سلمت هو امتناع نسخ شريعة موسى عليه السلام بشريعة أخرى أما تناسخ شرائع سواها فلا تدل هذه الشبهة على امتناعه بل يبعد أن ينكر اليهود انتساخ شرائع الإسرائيليين قبل اليهودية بشريعة موسى فكان المنظور أن تجيء دعواهم اقصر مما هو محكى عنهم بحيث تتكافأ ودليلهم الذي زعموه أو أن يجيء دليلهم الذي زعموه أعم من هذا حتى يتكافأ ودعواهم التي ادعوها.

ثانيها أنا لا نسلم لهم ما زعموه من أن التوراة لم تزل محفوظة في أيديهم حتى يصح

ص: 202

استدلالهم بها بل الأدلة متضافرة على أن التوراة الصحيحة لم يعد لها وجود وأنه أصاب من التغيير والتبديل ما جعلها في خبر كان.

من تلك الأدلة أن نسخة التوراة التي بأيدي السامريين تزيد في عمر الدنيا نحوا من ألف سنة على ما جاء في نسخة العنانيين وأن نسخة النصارى تزيد ألفا وثلاثمائة سنة.

ومنها أنه جاء في بعض نسخ التوراة ما يفيد أن نوحا أدرك جميع آبائه إلى آدم وأنه أدرك من عهد آدم نحوا من مائتي سنة وجاء في بعض نسخ أخرى ما يفيد أن نوحا أدرك من عمر إبراهيم ثمانيا وخمسين سنة وكل هذا باطل تاريخيا.

ومنها أن نسخ التوراة التي بأيديهم تحكي عن الله وعن أنبيائه وملائكته أمورا ينكرها العقل ويمجها الطبع ويتأذى بها السمع مما يستحيل معه أن يكون هذا الكتاب صادرا عن نفس بشرية مؤمنة طاهرة فضلا عن أن ينسب إلى ولي فضلا عن أن ينسب إلى نبي فضلا عن أن ينسب إلى الله رب العالمين.

من ذلك أن الله ندم على إرسال الطوفان إلى العالم وأنه بكى حتى رمدت عيناه وأن يعقوب صارعه جل الله عن ذلك كله.

ون ذلك أن لوطا شرب الخمر حتى ثمل وزنى بابنتيه

ومنه أن هارون هو الذي اتخذ العجل لبني إسرائيل ودعاهم إلى عبادته من دون الله.

ومن الأدلة أيضا على فساد دعوى بقاء التوراة وحفظها ما ثبت بالتواتر عند المؤرخين بل عند اليهود أنفسهم من أن بني إسرائيل وهم حملة التوراة وحفاظها قد ارتدوا عن الدين مرات كثيرة وعبدوا الأصنام وقتلوا أنبياءهم شر تقتيل ولا ريب أن هذه

ص: 203

مطاعن شنيعة جارحة لا تبقى لأي واحد منهم أي نصيب من عدالة أو ثقة ولا تحمل لهذه النسخ التي زعموا أنها التوراة أقل شيء من القيمة أو الصحة ما داموا هم رواتها وحفاظها وما دامت هي لم تعرف إلا عن طريقهم وبروايتهم.

ثالثها أن هذا التواتر الذي خلعوه على التوراة لا يسلم لهم أيضا لأنها لو كانت متواترة لحاجوا بها أفضل الرسل ولعارضوا دعواه عموم رسالته بقول التوراة التي يؤمن بها ولا يجحدها بل يجهر بأنه جاء مصدقا لها ويدعو المسلمين أنفسهم إلى الإيمان بها ولكن ذلك لم يكن ولو كان لنقل واشتهر بل الذي نقل واشتهر هو أن كثيرا من أخبار اليهود وعلمائهم كعبد الله بن سلام وأضرابه قد القوا القياد لرسول الله صلى الله عليه وسلم مؤمنين ودنوا لشريعته مسلمين واعترفوا بأنه الرسول صلى الله عليه وسلم الذي بشرت به التوراة والإنجيل.

رابعها أن لفظ التأبيد الذي اعتمدوا عليه فيما نقلوه لا يصلح حجة لهم لأنه يستعمل كثيرا عند اليهود معدولا به عن حقيقة من ذلك ما جاء في البقرة التي أمروا بذبحها هذه سنة لكم أبدا وما جاء في القربان قربوا كل يوم خروفين قربانا دائما مع أن هذين الحكمين منسوخان باعتراف اليهود أنفسهم على رغم التصريح فيهما بما يفيد التأبيد كما ترى.

خامسها أن نسخ الحكم المؤبد لفظا جائز على الصحيح كما أشرنا إلى ذلك قبلا فلتكن هاتان العبارتان اللتان اعتمدوا عليهما منسوختين أيضا وشهبة التناقض تندفع بأن التأبيد مشروط بعدم ورود ناسخ فإذا ورد الناسخ انتفى ذلك التأبيد وتبين أنه كان مجرد تأبيد لفظي للابتلاء والاختبار فتأمل.

2 -

شبهة النصارى:

يقولون إن المسيح عليه السلام قال السماء والأرض تزولان وكلامي لا يزول وهذا يدل على امتناع النسخ سمعا.

ص: 204

وندفع هذه الشبهة أولا بأنا لا نسلم أن الكتاب الذي بأيديهم هو الإنجيل الذي نزل على عيسى إن هو إلا قصة تاريخية وضعها بعض المسيحيين يبين فيها حياة المسيح وولادته ونشأته ودعوته والأماكن التي تنقل فيها والآيات التي ظهرت على يديه ومواعظه ومناظراته كما يتحدث فيها عن ذلك الحادث الخيالي حادث الصلب وعلى رغم أنها قصة فقد عجزوا عن إقامة الدليل على صحتها وعدالة كاتبها وأمانته وضبطه كما أعياهم اتصال السند وسلامته من الشذوذ والعلة بل ثبت علميا تناقض نسخ هذه القصة التي أسموها الإنجيل مما يدل على أنها ليست من عند الله ولو كانت من عند الله ما أتاها الباطل من بين يديها ولا من خلفها وصدق الله في قوله عن القرآن: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} .

ثانيا أن سياق هذه الكلمة في إنجليهم يدل على أن مراده بها تأبيد تنبؤاته وتأكيد أنها ستقع لا محالة أما النسخ فلا صلة لها به نفيا ولاإثباتا وذلك لأن المسيح حدث أصحابه بأمور مستقبلة وبعد أن انتهى من حديثه هذا أتى بهذه الجملة التي تشبثوا بها السماء والأرض تزولان وكلامي لا يزول ولا ريب أن لسياق الكلام تأثيره في المراد منه وهكذا شرحها المفسرون منهم للإنجيل وقالوا إن فهمها على عمومها لا يتفق وتصريح المسيح بأحكام ثم تصريحه بما يخالفها من ذلك أنه قال لأصحابه كما جاء في إنجيل متى إلى طريق أمم لا تمضوا ومدينة للسامريين لا تدخلوا بل اذهبوا بالجري إلى خراف بيت إسرائيل الضالة وهذا اعتراف بخصوص رسالته لنبي إسرائيل ثم قال مرة أخرى كما في إنجيل مرقس:

اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة فالقول الثاني ناسخ للأول.

ص: 205

ثالثا أن هذه الجملة على تسليم صحتها وصحة رواته وكتابها الذي جاءت فيه لا تدل على امتناع النسخ مطلقا إنما تدل على امتناع نسخ شيء من شريعة المسيح فقط فشبهتهم على ما فيه قاصرة قصورا بينا عن مدعاهم.

3 -

شبهة العيسوية:

يقول هؤلاء اليهود أتباع أبي عيسى الأصفهاني لا سبيل إلى إنكار نبوة محمد لأن الله تعالى قد أيده بالمعجزات الكثيرة القاهرة ولأن التوراة قد بشرت بمجيئه ولا سبيل أيضا إلى القول بعموم رسالته لأن ذلك يؤدي إلى انتساخ شريعة إسرائيل بشريعته وشريعة إسرائيل مؤبدة بدليل ما جاء في التوراة من مثل هذه شريعة مؤبدة عليكم ما دامت السموات والأرض وإنما هو رسول إلى العرب خاصة وعلى هذا فالخلاف بينهم وبين من سبقهم أن دعواهم مقصورة على منع انتساخ شريعة موسى بشريعة محمد وشبهتهم التي ساقوها متكافئة مع دعواهم هذه ويفهم من اقتصارهم على هذا أنهم يجوزون أن تتناسخ الشرائع سمعا فيما عدا هذه الصورة.

وندفع شبهتهم هذه بأمرين:

أولهما أن دليلهم الذي زعموه هو دليل العنانية والشمعونية من قبلهم ولقد أشبعناه تزييفا وتوهينا بالوجوه الستة التي أسلفناها آنفا فالدفع هنا هو عين الدفع هناك فيما عدا الوجه الأول.

ثانيهما أن اعترافهم بأن محمدا رسول أيده الله بالمعجزات وجاءت البشارة به في التوراة يقضي عليهم لا محالة أن يصدقوه في كل ما جاء به ومن ذلك أن رسالته عامة وأنها ناسخة للشرائع قبله حتى شريعة موسى نفسه الذي قال فيه بخصوصه لو كان أخي موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي

ص: 206

أما أن يؤمنوا برسالته ثم لا يصدقوه في عموم دعوته فذلك تناقض منهم لأنفسهم ومكابرة للحجة الظاهرة لهم يجادلونك في الحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون!.

4 -

شبهة أبي مسلم:

النقل عن أبي مسلم مضطرب فمن قائل إنه يمنع وقوع النسخ سمعا على الإطلاق ومن قائل إنه ينكر وقوعه في شريعة واحدة ومن قائل إنه ينكر وقوعه في القرآن خاصة ورجحت هذه الرواية الأخيرة بأنها أصح الروايات وبأن التأويلات المنقولة عنه لم تخرج عن حدود ما نسخ من القرآن وأبعد الروايات عن الرجل هي الرواية الأولى لأنه لا يعقل أن مسلما فضلا عن عالم كأبي مسلم ينكر وقوع النسخ جملة اللهم إلا إذا كانت المسألة ترجع إلى التسمية فقط فإنها تهون حينئذ على معنى أن ما نسميه نحن نسخا يسميه هو تخصيصا بالزمان مثلا وإلى ذلك ذهب بعض المحققين قال التاج السبكي إن أبا مسلم لا ينكر وقوع المعنى الذي نسميه نحن نسخا ولكنه يتحاشى أن يسميه باسمه ويسميه تخصيصا اهـ.

احتج أبو مسلم بقوله سبحانه: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} وشبهته في الاستدلال أن هذه الآية تفيد أن أحكام القرآن لا تبطل أبدا والنسخ فيه أبطال لحكم سابق.

وندفع مذهب أبي مسلم وشبهته بأمور أربعة:

أولها أنه لو كان معنى الباطل في الآية هو متروك العمل به مع بقاء قرآنيته لكان دليله قاصرا عن مدعاه لأن الآية لا تفيد حينئذ إلا امتناع نوع خاص من النسخ

ص: 207

وهو نسخ الحكم دون التلاوة فإنه وحده هو الذي يترتب عليه وجود متروك العمل في القرآن أما نسخ التلاوة مع الحكم أو مع بقائه فلا تدل الآية على امتناعه بهذا التأويل.

ثانيها أن معنى الباطل في الآية ما خالف الحق والنسخ حق ومعنى الآية أن عقائد القرآن موافقة للعقل وأحكامه مسايرة للحكمة وأخباره مطابقة للواقع ألفاظه محفوظة من التغيير والتبديل ولا يمكن أن يتطرق إلى ساحته الخطأ بأي حال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} . {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} .

ولعلك تدرك معي أن تفسير الآية بهذا المعنى يجعلها أقرب إلى إثبات النسخ ووقوعه منها إلى نفيه وامتناعه لأن النسخ كما قررنا تصرف إلهي حكيم تقتضيه الحكمة وترتبط به المصلحة.

ثالثها أن أبا مسلم على فرض أن خلافه مع الجمهور لفظي لا يعدو حدود التسمية نأخذ عليه أنه أساء الأدب مع الله في تحمسه لرأي قائم على تحاشي لفظ اختاره جلت حكمته ودفع عن معناه بمثل قوله: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} وهل بعد اختيار الله اختيار وهل بعد تعبير القرآن تعبير قَالُوا {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} .

رابعها أن هناك فروقا بين النسخ والتخصيص وقد فصلناها فيما سبق فارجع إليها إن شئت حتى تعلم شطط صاحبنا فيما ذهب إليها جنبنا الله الشطط وطريق العوج.

ملاحظة

تشيع لأبي مسلم بعض الباحثين من قدامى ومحدثين وحطبوا في حبله قليلا أو كثيرا وذاعت شبهات حديثه فاسدة حول تشريع الإسلام للنسخ ولكنها لا تخرج عند

ص: 208