الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإذا ثبت وقوع هذين النوعين كما ترى ثبت جوازهما لأن الوقوع أعظم دليل على الجواز كما هو مقرر وإذن بطل ما ذهب إليه المانعون له من ناحية الشرع كأبي مسلم ومن لف لفه ويبطل كذلك ما ذهب إليه المانعون له من ناحية العقل وهم فريق من المعتزلة شذ عن الجماعة فزعم أن هذين النوعين الأخيرين مستحيلان عقلا.
ويمكنك أن تفحم هؤلاء الشذاذ من المعتزلة بدليل على الجواز العقلي الصرف لهذين النوعين فتقول إن ما يتعلق بالنصوص القرآنية من التعبد بلفظها وجواز الصلاة بها وحرمتها على الجنب في قراءتها ومسها شبيه كل الشبه بما يتعلق بها من دلالتها على الوجوب والحرمة ونحوهما في أن كلا من هذه المذكورات حكم شرعي يتعلق بالنص الكريم وقد تقتضي المصلحة نسخ الجميع وقد تقتضي نسخ بعض هذه المذكورات دون بعض وإذن يجوز أن تنسخ الآية تلاوة وحكما ويجوز أن تنسخ تلاوة لا حكما ويجوز أن تنسخ حكما لا تلاوة وإذا ثبت هذا بطل ما ذهب إليه أولئك الشذاذ من الاستحالة العقلية للنوعين الأخيرين.
شبهات أولئك المانعين ودفعها
وتتميما للفائدة نعرض عليك شبهاتهم مفندين لها شبهة شبهة.
الشبهة الأولى ودفعها:
يقولون إن الآية والحكم المستفاد منها متلازمان تلازم المنطوق والمفهوم فلا يمكن انفكاك أحدهما عن الآخر.
والجواب أن التلازم بين الآية وحكمها مشروط فيه انتفاء المعارض وهو الناسخ أما إذا وجد الناسخ فلا تلازم والأمر حينئذ للناسخ إن شاء رفع الحكم وأبقى على التلاوة وإن شاء عكس وإن شاء رفعهما معا على حسب ما تقتضيه الحكمة أو المصلحة ونظير
ذلك أن التلازم بين منطوق اللفظ ومفهومه مشروط فيه انتفاء المعارض أما إذا وجد منطوق معارض للمفهوم فإن المفهوم حينئذ يعطل ويبقى العمل بالمنطوق وحده.
الشبهة الثانية ودفعها:
يقولون إن نسخ الحكم دون التلاوة يستلزم تعطيل الكلام الإلهي وتجريده من الفائدة وهذا عيب لا يرضى به عاقل لأقل نوع من كلامه فكيف يرضى به الله لأفضل كلامه؟.
والجواب أنا لا نسلم هذا اللزوم بل الآية بعد نسخ حكمها دون تلاوتها تبقى مفيدة للإعجاز وتبقى عبادة للناس وتبقى تذكيرا بعناية الله ورحمته بعباده حيث سن لهم في كل وقت ما يساير الحكمة والمصلحة من الأحكام يضاف إلى ذلك أن الآية بعد نسخ حكمها لا تحلو غالبا من دعوة إلى عقيدة أو إرشاد إلى فضيلة أو ترغيب في خير ومثل ذلك لا ينسخ بنسخ الحكم بل تبقى الآية مفيدة له لأن النسخ لا يتعلق به كما مر.
الشبهة الثالثة ودفعها:
يقولون إن بقاء التلاوة بعد نسخ الحكم يوقع في روع المكلف بقاء هذا الحكم وذلك تلبيس وتوريط للعبد في اعتقاد فاسد ومحال على الله أن يشكك أو يورط عبده.
والجواب أن ذلك التلبيس وهذا التوريط كان يصح ادعاوهما واستلزام نسخ الحكم دون التلاوة لهما لو لم ينصب الله دليلا على النسخ أما وقد نصب عليه الدلائل فلا عذر لجاهل ولا محل لتوريط ولا تلبيس لأن الذي أعلن الحكم الأول بالآية وشرعه هو الذي أعلن بالناسخ أنه نسخه ورفعه: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} .
اللهم اهدنا بهداك يا رب العالمين فإنه لا هادي إلا أنت: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} .
الشبهة الرابعة ودفعها:
يقولون إن الآية دليل على الحكم فلو نسخت دونه لأشعر نسخها بارتفاع الحكم وفي ذلك ما فيه من التلبيس على المكلف والتوريط له في اعتقاد فاسد.
وندفع هذه الشبهة بان تلك اللوازم الباطلة تحصل لو لم ينصب الشارع دليلا على نسخ التلاوة وعلى إبقاء الحكم أما وقد نصب الدليل على نسخ التلاوة وحدها وعلى إبقاء الحكم وتقرير استمراره كما في رجم الزناة المحصنين فلا تلبيس من الشارع على عبده ولا توريط.
الشبهة الخامسة ودفعها:
يقولون إن نسخ التلاوة مع بقاء الحكم عبث لا يليق بالشارع الحكيم لأنه من التصرفات التي لا تعقل لها فائدة.
وندفع هذه الشبهة بجوابين:
أحدهما أن نسخ الآية مع بقاء الحكم ليس مجردا من الحكمة ولا خاليا من الفائدة حتى يكون عبثا بل فيه فائدة أي فائدة وهي حصر القرآن في دائرة محدودة تيسر على الأمة حفظه واستظهاره وتسهل على سواد الأمة التحقق فيه وعرفانه وذلك سور محكم وسياج منيع يحمي القرآن من أيدي المتلاعبين فيه بالزيادة أو النقص لأن الكلام إذا شاع وذاع وملأ البقاع ثم حاول أحد تحريفه سرعان ما يعرف وشد
ما يقابل بالإنكار وبذلك يبقى الأصل سليما من التغيير والتبديل مصداقا لقوله سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} .
والخلاصة أن حكمة الله قضت أن تنزل بعض الآيات في أحكام شرعية عملية حتى إذا اشتهرت تلك الأحكام نسخ سبحانه هذه الآيات في تلاوتها فقط رجوعا بالقرآن إلى سيرته من الإجمال وطردا لعادته في عرض فروع الأحكام من الإقلال تيسيرا لحفظه وضمانا لصونه {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} .
ثانيهما أنه على فرض عدم علمنا بحكمة ولا فائدة في هذا النوع من النسخ فإن عدم العلم بالشيء لا يصلح حجة على العلم بعدم ذلك الشيء وإلا فمتى كان الجهل طريقا من طرق العلم ثم إن الشان في كل ما يصدر عن العليم الحكيم الرحمن الرحيم أن يصدر لحكمة أو لفائدة نؤمن بها وإن كنا لا نعلمها على التعيين وكم في الإسلام من أمور تعبدية استأثر الله بعلم حكمتها أو أطلع عليها بعض خاصته من المقربين منه والمحبوبين لديه {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} ، {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} .
ولا بدع في هذا فرب البيت قد يأمر أطفاله بما لا يدركون فائدته لنقص عقولهم على حين أنه في الواقع مفيد وهم يأتمرون بأمره وإن كانوا لا يدركون فائدته والرئيس قد يأمر مرؤوسيه بما يعجزون عن إدراك سره وحكمته على حين أن له في الواقع سرا وحكمة وهم ينفذون أمره وإن كانوا لا يفهمون سره وحكمته.
كذلك شأن الله مع خلقه فيما خفي عليهم من أسرار تشريعه وفيما لم يدركوا من فائدة نسخ التلاوة دون الحكم {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .