الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولا ريب أن هذا الحكم الثاني رافع للحكم الأول فتعين النسخ.
وقد قيل في تفسير هذه الآيات كلام كثير لا نرى حاجة إلى ذكره والله يكفينا كثرة القيل والقال ويتوب علينا من النزاع والخلاف ويجمع صفوفنا على دينه وحبه آمين وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
المبحث الخامس عشر: في محكم القرآن ومتشابهه
معنى محكم القران ومتشابه
…
المبحث الخامس عشر في محكم القرآن ومتشابهه
المعنى اللغوي:
لهذين اللفظين إطلاقات في اللغة وإطلاقات في الاصطلاح فاللغويون يستعملون مادة الإحكام بكسر الهمز في معان متعددة لكنها مع تعددها ترجع إلى شيء واحد هو المنع فيقولون أحكم الأمر أي أتقنه ومنعه عن الفساد ويقولون أحكمه عن الأمر أي رجعه عنه ومنعه منه ويقولون حكم نفسه وحكم الناس أي منع نفسه ومنع الناس عما لا ينبغي ويقولون أحكم الفرس أي جعل له حكمة بفتحات ثلاث والحكمة ما أحاط بحنكي الفرس من لجامة تمنعه من الاضطراب وقيل: {وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ} أي العدل أو العلم أو الحلم أو النبوة أو القرآن لما في هذه المذكورات من الحوافظ الأدبية عما لا يليق.
وكذلك يستعمل اللغويون مادة التشابه فيما يدل على المشاركة في المماثلة والمشاكلة المؤدية إلى الالتباس غالبا يقال تشابها واشتبها أي أشبه كل منهما الآخر حتى التبسا ويقال أمور مشتبهة ومشبهة على وزان معظمة أي مشكلة والشبهة بالضم الالتباس ويقال شبه عليه الأمر تشبيها أي لبس عليه بضم الأول وتشديد الثاني مع كسره في الفعلين ومنه قول الله سبحانه وصفا لرزق الجنة {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً} ومنه قول حكاية عن بني إسرائيل: {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} انظر القاموس في هاتين المادتين.
القرآن محكم ومتشابه:
ولقد جاء في القرآن الكريم ما يدل على أنه كله محكم إذ قال سبحانه: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} وجاء فيه ما يدل على أنه كله متشابه إذ قال جل ذكره: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً} وجاء فيه ما يدل على أن بعضه محكم وبعضه متشابه إذ قال عز اسمه: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} ولا تعارض بين هذه الإطلاقات الثلاثة لأن معنى إحكامه كله أنه منظم رصين متقن متين لا يتطرق إليه خلل لفظي ولا معنوي كأنه بناء مشيد محكم يتحدى الزمن ولا ينتابه تصدع ولا وهن ومعنى كونه كله متشابها أنه يشبه بعضه بعضا في إحكامه وحسنه وبلوغه حد الإعجاز في ألفاظه ومعانيه حتى أنك لا تستطيع أن تفاضل بين كلماته وآياته في هذا الحسن والإحكام والإعجاز كأنه حلقة مفرغة لا يدري أين طرفاها.
وأما أن بعضه حكم وبعضه متشابه فمعناه أن من القرآن ما اتضحت دلالته على مراد الله تعالى منه ومنه ما خفيت دلالته على هذا المراد الكريم فالأول هو المحكم والثاني هو المتشابه على خلاف يأتي بين العلماء في ذلك بيد أن الذي اتفقوا عليه ولا يمكن أن يختلفوا فيه هو أنه لا تنافي بين كون القرآن كله محكما أي متقنا وبين كونه كله متشابها أي يشبه بعضه بعضا في هذا الإتقان والإحكام وبين كونه منقسما إلى ما اتضحت دلالته على مراد الله وما خفيت دلالته بل إن انقسامه هذا الانقسام محقق لما فيه كله من إحكام وتشابه بالمعنى السابق وسيأتيك نبأ ذلك في بيان الحكمة من وجود متشابهات خفية إلى جانب واضحات ظاهرة في القرآن الكريم.
ويمكنك أن ترجع هذه التأويلات إلى الإطلاقات اللغوية السالفة فالقرآن كله محكم أي متقن لأن الله صاغه صياغة تمنع أن يتطرق إليه خلل أو فساد في اللفظ أو المعنى والقرآن متشابه لأنه يماثل بعضه بعضا في هذا الإحكام مماثلة مفضية إلى التباس التمييز بين آياته وكلماته في ذلك والقرآن منه محكم أي واضح المعنى المراد وضوحا يمنع الخفاء عنه ومنه متشابه فيه وجوه مختلفة من المماثلة مستلزمة لخفاء هذا المعنى المراد.