الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الثالث: العلوم التي علمها الله تعالى لنبيه مما أمر بتبليغه وهذا النوع قسمان قسم لا يجوز الكلام فيه بطريق السمع كالكلام في الناسخ والمنسوخ والقراءات وقصص الأمم الماضية وأسباب النزول وأخبار الحشر والنشر المعاد وقسم يعرف بطريق النظر والاستدلال وهذا منه المختلف في جوازه وهو ما يتعلق بالآيات المتشابهات ومنه المتفق على جوازه وهو ما يتعلق بآيات الأحكام والمواعظ والأمثال والحكم ونحوها لمن له أهلية الاجتهاد.
العلوم التي يحتاجها المفسر
وقد بين العلماء أنواع العلوم التي يجب توافرها في المفسر فقالوا هي اللغة والنحو والصرف وعلوم البلاغة وعلم أصول الفقه وعلم التوحيد ومعرفة أسباب النزول والقصص والناسخ والمنسوخ والأحاديث المبينة للمجمل والمبهم وعلم الموهبة وهو علم يورثه الله تعالى لمن عمل بما علم ولا يناله من في قلبه بدعة أو كبر أو حب دنيا أو ميل إلى المعاصي قال تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} وقال الإمام الشافعي.
شكوت إلى وكيع سوء حفظي
…
فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخبرني بأن العلم نور
…
ونور الله لا يهدى لعاصي
ملاحظة:
هذه الشروط التي ذكرناها وهذه العلوم كلها إنما هي لتحقيق أعلى مراتب التفسير مع إضافة تلك الاعتبارات المهمة المسطورة في الكلمات القيمة الآتية أما المعاني العامة التي يستشعر منها المرء عظمة مولاه والتي يفهمها الإنسان عند إطلاق اللفظ الكريم فهي قدر يكاد يكون مشتركا بين عامة الناس وهو المأمور به للتدبر والتذكر لأنه سبحانه سهله ويسره وذلك أدنى مراتب التفسير.
قال العلامة المرحوم الشيخ محمد عبده ما خلاصته:
للتفسير مراتب: أدناها أن يبين بالإجمال ما يشرب القلب عظمة الله وتنزيهه ويصرف النفس عن الشر ويجذبها إلى الخير وهذه هي التي قلنا إنها متيسرة لكل أحد {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} .
وأما المرتبة العليا فهي لا تتم إلا بأمور:
أحدها: فهم حقائق الألفاظ المفردة التي أودعها القرآن بحيث يحقق المفسر ذلك من استعمالات أهل اللغة غير مكتف بقول فلان وفهم فلان فإن كثيرا من الألفاظ كانت تستعمل في زمن التنزيل لمعان ثم غلبت على غيرها بعد ذلك بزمن قريب أو بعيد ومن ذلك لفظ التأويل اشتهر بمعنى التفسير مطلقا أو على وجه مخصوص ولكنه جاء في بمعان أخرى كقوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} . فإن المراد به العاقبة وما يعد به القرآن من المثوبة والعقوبة أي ما يؤدي إليه الأمر في وعده ووعيده فعلى المحقق المدقق أن يفسر القرآن بحسب المعاني التي كانت مستعملة في عصر نزوله والأحسن أن يفهم اللفظ من القرآن نفسه بأن يجمع ما تكرر في مواضع منه وينظر فيه فربما استعمل بمعان مختلفة كلفظ الهداية وغيره ويحقق كيف يتفق معناه مع جملته من الآية فيعرف المعنى المطلوب من بين معانيه وقد قالوا إن القرآن يفسر بعضه بعضا وإن أفضل قرينة تقوم على حقيقة معنى اللفظ موافقته لما سبق له من القول واتفاقه مع جملة المعنى وائتلافه مع القصد الذي جاء له الكتاب بجملته.
ثانيها: الأساليب فينبغي أن يكون عنده من علمها ما يفهم به هذه الأساليب الرفيعة وذلك يحصل بممارسة الكلام البليغ ومزاولته مع التفطن لنكته ومحاسنه والوقوف على مراد المتكلم منه نعم إننا لا نتسامى إلى فهم مراد الله تعالى كله على وجه الكمال
والتمام ولكن يمكننا فهم ما نهتدي به بقدر الطاقة ويحتاج في هذه إلى علم الإعراب وعلم الأساليب المعاني والبيان ولكن مجرد العلم بهذه الفنون وفهم مسائلها وحفظ أحكامها لا يفيد المطلوب ترون في كتب العربية ان العرب كانوا مسددين في النطق يتكلمون بما يوافق القواعد قبل أن توضع أتحسبون ان ذلك كان طبيعيا لهم كلا وإنما هي ملكة مكتسبة بالسماع والمحاكاة لذلك صار أبناء العرب أشد عجمة من العجم عندما اختلطوا بهم لو كان طبيعيا ذاتيا لهم لما فقدوه في مدة خمسين سنة من بعد الهجرة.
ثالثها: علم أحوال البشر فقد أنزل الله هذا الكتاب وجعله آخر الكتب وبين فيه ما لم يبينه في غيره وبين فيه كثيرا من أحوال الخلق وطبائعه وسننه الإلهية في البشر وقص علينا أحسن القصص عن الأمم وسيرها الموافقة لسنته فيها فلا بد للنظر في هذا الكتاب من النظر في أحوال البشر في أطوارهم وأدوارهم ومناشىء اختلاف أحوالهم من قوة وضعف وعز وذل وعلم وجهل وإيمان وكفر ومن العلم بأحوال العالم الكبير علويه وسفليه ويحتاج في هذا إلى فنون كثيرة من أهمها التاريخ بأنواعه.
أجمل القرآن الكلام عن الأمم وعن السنن الإلهية وعن آياته في السموات والأرض وفي الآفاق والأنفس وهو إجمال صادر عمن أحاط بكل شيء علما وأمرنا بالنظر والتفكر والسير في الأرض لنفهم إجماله بالتفصيل الذي يزيدنا ارتقاء وكمالا ولو اكتفينا من علم الكون بنظرة في ظاهره لكنا كمن يعتبر الكتاب بلون جلده لا بما حواه من علم وحكمة.
رابعها: العلم يوجه هداية البشر كلهم القرآن فيجب على المفسر القائم بهذا الفرض الكفائي أن يعلم ما كان عليه الناس في عصر النبوة من العرب وغيرهم لأن القرآن ينادي بأن الناس كلهم كانوا في شقاء وضلال وأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث به لهدايتهم وإسعادهم وكيف يفهم المفسر ما قبحته الآيات من عوائدهم على وجه الحقيقة
أو ما يقرب منها إذا لم يكن عارفا بأحوالهم وما كانوا عليه.. يروى عن عمر رضي الله عنه أنه قال إن أجهل الناس بأحوال الجاهلية هو الذي يخشى ان ينقض عرى الإسلام عروة عروة اهـ بالمعنى والمراد أن من نشأ في الإسلام ولم يعرف حال الناس قبله يجهل تأثير هدايته وعناية الله بجعله مغيرا لأحوال البشر ومخرجا لهم من الظلمات إلى النور.
ومن جهل هذا يظن أن الإسلام أمر عادي كما ترى بعض الذين يتربون في النظافة والنعيم يعدون التشديد في الأمر بالنظافة والسواك من قبيل اللغو لأنه من ضروريات الحياة عندهم ولو اختبروا غيرهم من طبقات الناس لعرفوا الحكمة في تلك الأوامر وتأثير تلك الآداب من اين جاء؟.
خامسها العلم بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وما كانوا عليه من علم وعمل وتصرف في الشؤون دنيويها وأخرويها انتهى من تفسير المنار بتصرف قليل.
الاختلاف في جواز التفسير بالرأي:
يختلف العلماء في التفسير بالرأي بين مجيز ومانع والتحقيق ما قدمناه بين يديك من الجواز بشروطه والمنع عند عدم توافر شروطه وأن ذلك في غير أدنى مراتب التفسير أما هذا الأدنى فهو جائز من غير اعتبار تلك الشروط لأن الله يسره حتى للعامة كما أسلفنا ونسوق إليك هنا أدلة المانعين والمجيزين لتزداد بصيرة وتنورا في هذا الموضوع:
أدلة المعانعين:
يستدل المانعون بأدلة الأول أن التفسير بالرأي قول على الله بغير علم والقول على الله بغير علم منهي عنه فالتفسير بالرأي منهي عنه.
دليل الصغرى أن المفسر بالرأي ليس متيقنا أنه مصيب وقصارى أمره أنه يظن والقائل بالظن قائل على الله بغير علم ودليل الكبرى قوله تعالى: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} المعطوف على ما قبله من المحرمات في قوله سبحانه: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} .
لكن أجاب المجيزون عن هذا الدليل بمنع الكبرى لأن القائل بالظن فيما لا يوجد عليه نص قاطع ولا دليل عقلي إنما يستند إلى علم الله أي إلى دليل قطعي منه سبحانه على صحة العمل بهذا الظن كقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} وكقوله صلى الله عليه وسلم ما معناه "من اجتهد وأخطأ فله أجر وإن أصاب فله أجران".
الدليل الثاني الحديثان الآتيان:
1 -
ما يرويه الترمذي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اتقوا الحديث علي إلا ما علمتم فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ومن قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار".
2 -
ما يرويه أبو داود عن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ".
وأجيب عن هذين الحديثين بأجوبة ثلاثة:
أولها أنهما محمولان على من قال برأيه في نحو مشكل القرآن ومتشابهه مما لا يعلم إلا من طريق النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه
ثانيها أنهما محمولان على من قال في القرآن قولا وهو يعلم أن الحق خلافه كأصحاب المذاهب الفاسدة الذي يتأولون القرآن على وفق هواهم ليحتجوا به على صحة آرائهم.
ثالثها أنهم محمولان على قول من يأخذ بظاهر الكلام من غير أن يستند إلى نقل أو يكلف نفسه البحث عن مبهمات القرآن وما فيه من حذف وإضمار وتقديم وتأخير ونحو ذلك فالنقل لا بد منه بكل مفسر كيلا يقع في الخطأ أما التوسع في الفهم واستنباط صحيح الآراء فهو خطوة أخرى بعد النقل لأن الأخذ بظاهر العربية وحده غير كاف ولا سديد تأمل قوله سبحانه: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا} فإن معناه وآتينا ثمود الناقة معجزة واضحة وبينة لائحة تدلهم على صدق صالح عليه الصلاة والسلام وصدق ما جاء به فظلموا بعقرها أنفسهم.
والواقف عند ظاهر اللغة العربية يظن أن المراد من الإبصار نظر العين ولا يدري بماذا ظلموا أظلموا أنفسهم بعقرها أم غيرهم؟.
هذه احتمالات في الحديثين والدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال ويجاب عن حديث جندب زيادة على سابقه بأنه حديث لم يثبت صحته وعلى فرض فإنه يحتمل أن يكون معناه فقد أخطأ طريق التماس المعنى ذلك لأن السبيل في معرفة ألفاظ القرآن إنما هي اللغة وعلومها والسبيل إلى معرفة أسباب نزوله وتمييز ناسخه ومنسوخه ونحو ذلك إنما هو النقل الصحيح والسبيل إلى القطع بمراد الله إنما هو الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم فإن لم يظفر بوارد فلا بأس من أن يقيس ويجتهد ويستدل بما ورد على ما لم يرد.
الدليل الثالث: ما ورد عن الصحابة والتابعين من أنهم كانوا يتحرجون عن القول في القرآن بآرائهم ومن ذلك ما روي عن الصديق رضي الله عنه أنه قال:
أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في القرآن برأيي أو بما لا أعلم وما ورد عن سعيد بن المسيب أنه كان إذا سئل عن تفسير آية من القرآن قال أنا لا أقول في القرآن شيئا وروي عن الشعبي أنه قال ثلاث لا أقول فيهن حتى أموت القرآن والروح والرؤى أي تأويل الأحلام إلى غير ذلك من الأخبار التي تدل على امتناعهم من أن يقولوا في القرآن بآرائهم.
وأجيب عن ذلك أولا: بأن إحجامهم عن القول ورعا خشية ألا يصيبوا عين اليقين والورع ترك ما لا بأس به حذرا من الوقوع فيما به بأس.
ثانيا: أن إحجامهم يحتمل أنه مقيد بما لم يعرفوا وجه الصواب فيه أما إذا عرفوا وجه الصواب فإنهم لا يمتنعون ولو كان وجه الصواب ظنيا لا قطيعا هذا أبو بكر نفسه يفتي في الكلالة حين سئل عنها من الآية الكريمة، َ {سْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} الخ ويقول أقول فيها برأيي فإن كان صوابا فمن الله وإن كان غير ذلك فمني ومن الشيطان الكلالة كذا وكذا ومثل هذا ورد عن علي وابن عباس وغيرهما من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين.
ثالثا: أن إحجامهم يحتمل أيضا التقييد بما كان من التفسير على وجه قاطعا فيما لم يقم دليل قاطع.
رابعا: ان إحجامهم يحتمل أيضا التقييد بما إذا قام غيرهم عنهم بواجب تفسير القرآن وبيانه أما إذا انحصرت المسؤولية فيهم فمعقول أنهم لا يمتنعون وقتئذ وإلا كانوا كاتمين للعلم وآثمين حاشاهم من ذلك حاشاهم رحمهم الله وأحسن جزاءهم ومثواهم.
أدلة المجيزين للتفسير بالرأي:
استدل المجيزون للتفسير بالرأي استدلالات عدة أيضا:
أولها أن الله تعالى يقول: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} ويقول: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} ويقول: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} وجه الاستدلال أن الله تعالى حث على تدبر القرآن والاعتبار بآياته والاتعاظ بمواعظه وهذا يدل على أن أولي الألباب بما لهم من العقل السليم واللب الصافي عليهم أن يتأولوا ما لم يستأثر الله بعلمه إذا التدبر والاتعاظ فرع الفهم والتفقه في كتاب الله والآية الكريمة تدل على أن في القرآن ما يستنبطه أي يستخرجه أولو الألباب والفهم الثاقب.
ثانيها: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في دعائه لابن عباس: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل" فلو كان التأويل مقصورا على السماع والنقل للفظ التنزيل لما كان هناك فائدة لتخصيصه فدل على أن التأويل خلاف النقل وإذن فهو التفسير بالاجتهاد والرأي.
ثالثها: لو كان التفسير بالرأي غير جائز لتعطل كثير من الأحكام واللازم باطل ووجه الملازمة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر تفسير كل آية والمجتهد مأجور وإن أخطأ ما دام أنه قد استفرغ وسعه ولم يهمل الوسائل الواجبة في الاجتهاد وكان غرضه الوصول إلى الحق والصواب.
ويمكن أن يجعل الخلاف لفظيا بأن يحمل كلام المجيزين للتفسير بالرأي على التفسير بالرأي المستوفي لشروطه الماضية فإنه يكون حينئذ موافقا لكتب الله وسنة رسوله كلام العرب وهذا جائز ليس بمذموم ولا منهي عنه ثم يحمل كلام المانعين للتفسير بالرأي على ما فقدت شروطه السابقة فإنه يكون حينئذ مخالفا للأدلة الشرعية واللغة العربية وهذا غير جائز بل هو محط النهي ومصب الذم. وعليه