الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من مؤمن خصوصا في مقام التعليم والإرشاد وفي موقف النقاش والحجاج لأن القول بأن اللفظ حقيقة أو مجاز لا ينظر فيه إلى علم الله وما هو عنده ولكن ينظر فيه إلى المعنى الذي وضع له اللفظ في عرف اللغة والاستواء في اللغة العربية يدل على ما هو مستحيل على الله في ظاهره فلا بد إذن من صرفه عن هذا الظاهر واللفظ إذا صرف عما وضع له واستعمل في غير ما وضع له خرج عن الحقيقة إلى المجاز لا محالة ما دامت هناك قرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلي ثم إن كلامهم بهذه الصورة فيه تلبيس على العامة وفتنة لهم فكيف يواجهونهم به ويحملونهم عليه وفي ذلك ما فيه من الإضلال وتمزيق وحدة الأمة الأمر الذي نهانا القرآن عنه والذي جعل عمر يفعل ما يفعل بصبغ أو بابن صبيغ وجعل مالكا يقول ما يقول ويفعل ما يفعل بالذي سأله عن الاستواء وقد مر بك هذا وذاك.
لو أنصف هؤلاء لسكتوا عن الآيات والأخبار المتشابهة واكتفوا بتنزيه الله تعالى عما توهمه ظواهرها من الحدوث ولوازمه ثم فوضوا الأمر في تعيين معانيها إلى الله وحده وبذلك يكونوه سلفيين حقا لكنها شبهات عرضت لهم في هذا المقام فشوشت حالهم وبلبلت أفكارهم فلنعرضها عليك مع ما أشبهها والله يتولى هدانا وهداهم ويجمعنا جميعا على ما يحبه ويرضاه آمين.
دفع الشبهات الواردة في هذا المقام
الشبهة الأولى ودفعها:
يقولون إن القول بأن الله لا جهة له وأنه ليس فوقا ولا تحتا ولا يمينا ولا شمالا إلى غير ذلك يستلزم أن الله غير موجود أو هو قول بأن الله غير موجود فإن التجرد من الإنصاف بهذه المتقابلات جملة أمر لا يوسم به إلا المعدوم ومن لم يتشرف بشرف الوجود.
وندفع هذه الشبهة بأمور:
أولها أن هذا قياس للغائب على الشاهد وقياس الغائب على الشاهد فاسد ذلك أن الله تعالى ليس يشبه خلقه حتى يكون حكمه كحكمهم في وجوب أن يكون له جهة من الجهات الست ما دام موجودا وكيف يقاس المجرد عن المادة بما هو مادي ثم كيف يستوي الخلق وخلقه في جريان أحكام الخلق على خالقه إن المادي هو الذي يجب أن يتصف بشيء من هذه المتقابلات وأن تكون له جهة من تلك الجهات أما عين المادي فترتفع عنه هذه الصفات كلها ولا يمكن أن تكون له أية جهة من هذه الجهات جميعها ونظير ذلك أن الإنسان لا بد أن يكون له أحد الوصفين فإما جاهل وإما عالم أما الحجر فلا يتصف بواحد منها ألبتة فلا يقال إنه جاهل ولا إنه عالم بل العلم والجهل مرتفعان عنه بل هما ممتنعان عليه لا محالة لأن طبيعته تأبى قابليته لكليهما وهكذا تنتفي المتقابلات كلها بانتفاء قابلية المحل لها أيا كانت هذه المتقابلات وأيا كان هذا المحل الذي ليس قابلا لها فيمتنع مثلا أن توصف الدار بأنها سمعية أو صماء وأن توصف الأرض بأنها متكلمة أو خرساء وأن توصف السماء بأنها متزوجة أو أيم وهلم جرا.
ثانيا نقول لهؤلاء أين كان الله قبل أن يخلق العرش والفرش والسماء والأرض وقبل أن يخلق الزمان والمكان وقبل أن تكون هناك جهات ست فإن قالوا لم يكن له جهة ولا مكان نقول قد اعترفتم بما نقول نحن به وهو الآن على ما عليه كان لا جهة له ولا مكان وإن زعموا أن العالم قديم بقدم فقد تداووا من داء بداء واستجاروا من الرمضاء بالنار ووجب أن ننتقل بهم إلى إثبات حدوث العالم والله هو ولي الهداية والتوفيق.
ثالثا نقول لهؤلاء إذا كنتم تأخذون بظواهر النصوص على حقيقتها فماذا تفعلون بمثل قوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} مع قوله: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} أتقولون إنه في السماء حقيقة أم في الأرض حقيقة أم فيهما معا حقيقة وإذا كان في الأرض وحدها حقيقة فكيف تكون له جهة فوق وإذا كان فيهما معا حقيقة فلماذا يقال
له جهة فوق ولا يقال له جهة تحت ولماذا يشار إليه فوق ولا يشار إليه تحت ثم ألا يعلمون أن الجهات أمور نسبية فما هو فوق بالنسبة إلينا يكون تحتا بالنسبة إلى غيرنا فأين يذهبون!
رابعا نقول لهؤلاء ماذا تقولون في قوله تعالى: يد الله فوق أيديهم بإفراد اليد مع قوله لما خلقت بيدي بتثنيتها ومع قوله والسماء بنيناها بأييد بجمعها فإذا كنتم تعلمون النصوص على ظواهرها حقيقة فأخبرونا أله يد واحدة بناء على الآية الأولى أم له يدان اثنتان بناء على الآية الثانية أما له أيد أكثر من اثنتين بناء على الآية الثالثة؟!
خامسا نقول لهؤلاء قد ورد في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له رواه البخاري ومسلم وغيرهما فكيف تأخذون بظاهر هذا الخبر مع أن الليل مختلف في البلاد باختلاف المشارق والمغارب وإذا كان ينزل لأهل كل أفق نزولا حقيقيا في ثلث ليلهم الأخير فمتى يستوي على عرشه حقيقة كما تقولون ومتى يكون في السماء حقيقة كما تقولون مع أن الأرض لا تخلو من الليل في وقت من الأوقات ولا في ساعة من الساعات كما هو ثابت مسطور لا يمارى فيه إلا جهول مأفون!
سادسا نقول لهؤلاء ما قاله حجة الإسلام الغزالي ونصه نقول للمتشبث بظواهر الألفاظ إن كان نزوله من السماء الدنيا ليسمعنا نداءه فما أسمعنا نداءه فأي فائدة في نزوله ولقد كان يمكنه أن ينادينا كذلك وهو على العرش أو على السماء العليا فلا بد أن يكون ظاهر النزول غير مراد وأن المراد به شيء آخر غير ظاهره وهل هذا إلا مثل من يريد وهو بالمشرق إسماع شخص في المغرب فتقدم إلى المغرب بخطوات معدودة وأخذ يناديه وهو يعلم أنه لا يسمع نداءه فيكون نقله الأقدام عملا باطلا وسعيه نحو المغرب عبثا صرفا لا فائدة فيه وكيف يستقر مثل هذا في قلب عاقل اهـ.
الشبهة الثانية ودفعها:
قال الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده رحمه الله في حاشيته على العقائد العضدية فإن قلت إن كلام الله وكلام النبي صلى الله عليه وسلم مؤلف من الألفاظ العربية ومدلولاتها معلومة لدى أهل اللغة فيجب الأخذ بمدلول اللفظ كائنا ما كان.
قلت حينئذ لا يكون ناجيا إلا طائفا المجسمة الظاهريون القائلون بوجوب الأخذ بجميع النصوص وترك طريق الاستدلال رأسا مع أنه لا يخفى ما في آراء هذه الطائفة من الضلال والإضلال مع سلوكهم طريقا ليس يفيد اليقين بوجه فإن للتخاطبات مناسبات ترد بمطابقتها فلا سبيل إلا الاستدلال العقلي وتأويل ما يفيد بظاهره نقصا إلى ما يفيد الكمال وإذا صح التأويل للبرهان في شيء صح في بقية الأشياء حيث لا فرق بين برهان وبرهان ولا لفظ ولفظ.
وقال في قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ} إن الوحي من الله للنبي تنزيلا وإنزالا ونزولا لبيان علو مرتبة الربوبية لا أن هناك نزولا حسيا من مكان مرتفع إلى مكان منخفض ومن الغريب أنهم يقولون في الرد على هذا إن علو الله على خلقه حقيقة أثبتها لنفسه في كتابه لا حاجة لتأويله بعلو مرتبة الربوبية وليت شعري إذا لم نؤوله بعلو مرتبة الربوبية فماذا نريد منه وهل بقي بعد ذلك شيء غير العلو الحسي الذي يستلزم الجهة والتحيز ولا يمكن نفي ذلك اللازم عنه متى أردنا العلو الحسي فإن نفي التحيز عن العلو الحسي غير معقول ولا معنى للاستلزام إلا هذا أما هم فينفون اللوازم ولا أدري كيف ننفي اللوازم مع فرضها لوازم هذا خلف ولكن القول ليسوا أهل منطق والمتتبع لكلامهم يجد فيه العبارات الصريحة في إثبات الجهة لله تعالى وقد كفر العراقي وغيره مثبت الجهة لله تعالى وهو واضح لأن معتقد الجهة لا يمكنه
إلا أن يعتقد التحيز والجسمية ولا يتأتى غير هذا فإن سمعت منهم سوى ذلك فهو قول متناقض وكلامهم لا معنى له اهـ.
الشبهة الثالثة ودفعها:
نقل السيوطي عن بعضهم أنه قال إن قيل ما الحكمة في إنزال المتشابه ممن أراد لعباده البيان والهدى قلنا إن كان أي المتشابه مما يمكن علمه فله فوائد منها الحث للعلماء على النظر الموجب للعلم بغوامضه والبحث عن دقائقه فإن استدعاء الهمم لمعرفة ذلك من أعظم القرب ومنها ظهور التفاضل وتفاوت الدرجات إذ لو كان كله محكما لا يحتاج إلى تأويل ونظر لاستوت منازل الخلق ولم يظهر فضل العالم على غيره وإن كان أي المتشابه مما لا يمكن علمه أي بأن استأثر الله به فله فوائد منها ابتلاء العباد بالوقوف عنده والتوقف فيه والتفويض والتسليم والتعبد بالاشتغال به من جهة التلاوة كالمنسوخ وإن لم يجز العمل بما فيه وإقامة الحجة عليهم لأنه لما نزل بلسانهم ولغتهم وعجزوا عن الوقوف اهـ على معناه مع بلاغتهم وأفهامهم دل على أنه نزل من عند الله وأنه هو الذي أعجزهم عن الوقوف.
ونسترعي نظرك هنا إلى ما أسلفناه في الحكم الماضية ثم إلى ما ذكره ابن اللبان في مقدمة كتابه رد الآيات المتشابهات إلى الآيات المحكمات إذ قال ما خلاصته ليس في الوجود فاعل إلا الله وأفعال العباد منسوبة الوجود إليه تعالى بلا شريك ولا معين فهي في الحقيقة فعله وله بها عليهم الحجة {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} .
ومن المعلوم أن أفعال العباد لا بد فيها من توسط الجوارح مع أنها منسوبة إليه تعالى وبذلك يعلم أن لصفاته تعالى في تجلياته مظهرين مظهر عبادي منسوب لعباده وهو الصور والجوارح الجثمانية ومظهر حقيقي منسوب إليه وقد أجرى عليه أسماء المظاهر العبادية
المنسوبة لعباده على سبيل التقريب لأفهامهم والتأنيس لقلوبهم ولقد نبه في كتابه تعالى على القسمين وأنه منزه عن الجوارح في الحالين فنبه على الأول بقوله: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} فهذا يفيد أن كل ما يظهر على أيدي العباد فهو منسوب إليه تعالى ونبه على الثاني بقوله فيما أخبر عنه نبيه صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم: "ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها" وقد حقق الله ذلك لنبيه بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} وبقوله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} وبهذا يفهم ما جاء من الجوارح منسوبا إليه تعالى فلا يفهم من نسبتها إليه تشبيه ولا تجسيم ولكن الغرض من ذلك التقريب للأفهام والتأنيس للقلوب والواجب سلوكه إنما هو رد المتشابه إلى المحكم على القواعد اللغوية وعلى مواضعات العرب وعلى ما كان يفهمه الصحابة والتابعون من الكتاب والسنة اهـ ما أردنا نقله.
الشبهة الرابعة ودفعها:
نقل السيوطي أيضا عن الإمام فخر الدين الرازي أنه قال من الملحدة من طعن في القرآن لأجل اشتماله على المتشابهات وقال إنكم تقولون إن تكاليف الخلق مرتبطة بهذا القرآن إلى قيام الساعة ثم إنا نراه بحيث يتمسك به صاحب كل مذهب على مذهبه فالجبري متمسك بآيات الجبر كقوله تعالى: َ {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً} والقدري يقول هذا مذهب الكفار بدليل أنه تعالى حكى عنهم ذلك في معرض الذم في قوله: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ} وفي موضع آخر {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ} ومنكر الرؤية متمسك بقوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} 1 ومثبت الجهة متمسك بقوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} {الرَّحْمَنُ
1 يظهر أن هنا سقط لعله هكذا: ومثبن الرؤية متمسك بقوله تالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} .
عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} والثاني متمسك بقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ثم يسمي كل واحد الآيات الموافقة لمذهبه محكمة والآيات المخالفة متشابهة وإنما آل في ترجيح بعضها على بعض إلى ترجيحات خفية ووجوه ضعيفة فكيف يليق بالحكيم أن يجعل الكتاب الذي هو المرجوع إليه في كل الدين إلى يوم القيامة هكذا؟.
والجواب أن العلماء ذكروا لوقوع المتشابه فيه فوائد منها أنه يوجب مزيد المشقة في الوصول إلى المراد وزيادة المشقة توجب مزيد الثواب إلى آخر ما نقلناه عنه فيما سبق من بيان حكم الله وأسراره في ذكر المتشابهات فاجعلها على بال منك في رفع هذه الشبهة وأضف إليها ما نقلنا آنفا عن ابن اللبان وما بسطناه في دفع الشبهات السالفة وارجع إلى ما كتبناه في مثل هذا المقام بالمبحث السابع من هذا الكتاب.
الشبهة الخامسة ودفعها:
قال السيوطي في كتابه الإتقان أورد بعضهم سؤالا وهو أنه هل للمحكم مزية على المتشابه أو لا فإن قلتم بالثاني فهو خلاف الإجماع وإلا فقد نقضتم أصلكم في أن جميع كلامه سبحانه سواء وإنه منزل بالحكمة.
وأجاب أبو عبد الله النكرباذي بأن المحكم كالمتشابه من وجه ويخالفه من وجه فيتفقان في أن الاستدلال بهما لا يمكن إلا بعد معرفة حكمة الواضع وأنه لا يختار القبيح ويختلفان في أن المحكم بوضع اللغة لا يحتمل إلا الوجه الواحد فمن سمعه أمكنه أن يستدل به في الحال والمتشابه يحتاج إلى فكرة ونظر ليحمله على الوجه المطابق ولأن المحكم أصل والعلم بالأصل أسبق ولأن المحكم يعلم مفصلا والمتشابه لا يعلم إلا مجملا اهـ.
أقول: ويمكن دفع هذه الشبهة بوجه أقرب وهو أن المحكم له مزية على المتشابه لأنه بنص القرآن هو أم الكتاب على ما سلف بيانه والاعتراض بأن هذا ينقض الأصل المجمع عليه وهو أن جميع كلامه سبحانه سواء وأنه منزل بالحكمة الاعتراض بهذا ساقط من أساسه لأن المساواة بين كلام الله إنما هي في خصائص القرآن العامة ككونه منزلا على النبي صلى الله عليه وسلم بالحق وبالحكمة وكونه متعبدا بتلاوته ومتحدي بأقصر سورة منه ومكتوبا في المصاحف ومنقولا بالتواتر ومحرما حمله ومسه على الجنب ونحو ذلك والمساواة في هذه الخصائص لا تنافي ذلك الامتياز الذي امتازت به المحكمات وكيف يتصور التنافي على حين أن كلا من المحكم والمتشابه له حكمه وله مزاياه فمزية المحكم أنه أم الكتاب إليه ترد المتشابهات ومزية المتشابه أنه محك الاختبار والابتلاء ومجال التسابق والاجتهاد إلى غير ذلك من الفوائد التي عرفتها ثم كيف يتصور هذا التنافي والقرآن كله مختلف باختلاف موضوعاته وأحواله فمنه عقائد وأحكام وأوامر ونواه وعبادات وقصص وتنبؤات ووعد ووعيد وناسخ ومنسوخ وهلم مما يستنفد ذكره وقتا طويلا ولا ريب أن كل نوع من هذه الأنواع له مزيته أو خاصته التي غاير بها الآخر وإن اشترك الجميع بعد ذلك في أنها كلها أجزاء للقرآن متساوية في القرآنية وخصائصها العامة وخلاصة هذا الجواب أن اميتاز المحكم على المتشابه في أمور ومساواته إياه في أمور أخرى فلا تناقض ولا تعارض كما أن كل عضو من أعضاء جسم الإنسان له مزيته وخاصته التي صار بها عضوا والكل بعد ذلك يساوي الآخر في أنه جزء للإنسان في خصائصه العامة من حسن وحياة.
الشبهة السادسة ودفعها:
يقولون إن الناظر في موقف السلف والخلف من المتشابه يجزم بأنهم جميعا مؤولون لأنهم اشتركوا في صرف ألفاظ المتشابهات عن ظواهرها وصرفها عن ظواهرها تأويل لها
لا محالة وإذا كانوا جميعا مؤولين فقد وقعوا جميعا فيما نهى الله عنه وهو اتباع المتشابهات بالتأويل إذ وصف سبحانه هؤلاء بأن في قلوبهم زيغا فقال في الآية السابقة: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} .
وندفع هذه الشبهة أولا بأن القول بكون السلف والخلف مجمعين على تأويل المتشابه قول له وجه من الصحة لكن بحسب المعنى اللغوي أو ما يقرب من المعنى اللغوي أما بحسب الاصطلاح السائد فلا لأن السلف وإن وافقوا الخلف في التأويل فقد خالفوهم في تعيين المعنى المراد باللفظ بعد صرفه عن ظاهره وذهبوا إلى التفويض المحض بالنسبة إلى هذا التعيين أما الخلف فركبوا متن التأويل إلى هذا التعيين كما سبق تفصيله.
ثانيا أن القول بأن السلف واخلف جميعا وقعوا بتصرفهم السابق فيما نهى الله عنه قول خاطئ واستدلالهم عليه بالآية المذكورة استدلال فاسد لأن النهي فيها إنما هو عن التأويل الآثم الناشئ عن الزيغ واتباع الهوى بقرينة قوله سبحانه: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} أي ميل عن الاستقامة والحجة إلى الهوى والشهوة أما التأويل القائم على تحكيم البراهين القاطعة واتباع الهداية الراشدة فليس من هذا القبيل الذي حظره الله وحرمه وكيف ينهانا عنه وقد أمرنا به ضمنا بإيجاب رد المتشابهات إلى المحكمات إذ جعل هذه المحكمات هي أم الكتاب على ما سبق بيانه ثم كيف يكون مثل هذا التأويل الراشد محرما وقد دعا به الرسول صلى الله عليه وسلم لابن عباس فقال في الحديث المشهور اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل؟.
ويتلخص من هذا أن الله أرشدنا في الآية إلى نوع من التأويل وهو ما يكون به رد المتشابهات إلى المحكمات ثم نهانا عن نوع آخر منه وهو ما كان ناشئا عن الهوى والشهوة لا على البرهان والحجة قصدا إلى الضلال والفتنة وهما لونان مختلفان وضربان بعيدان بينهما برزخ لا يبغيان.