الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وندفع هذه الشبهة بأن الخيرية والمثلية في الآية الكريمة ليس المراد منهما ما فهموا من الخفة عن الحكم الأول أو المساواة به بل المراد بها الخيرية والمثلية في النفع والثواب على ما مر تفصيله وعلى هذا فما المانع من أن يكون الأثقل الناسخ أكثر فائدة في الدنيا وأعظم أجرا في الآخرة من الأخف المنسوخ أو يكون مساويا له في الثواب ومماثلا له في الأجر.
نسخ الطلب قبل التمكن في امتثاله
علماؤنا اتفقوا على أن نسخ الطلب قبل التمكن من العلم به ممتنع كما اتفقوا على أن نسخه بعد تمكن المكلف من امتثاله جائز لم يخالف في ذلك إلا الكرخي فيما روي عنه امتناع النسخ قبل تحقق الامتثال بالفعل أما نسخ الطلب بعد التمكن من العلم وقبل التمكن من الامتثال ففيه اختلاف العلماء ذهب جمهور أهل السنة ومن وافقهم إلى جوازه وذهب جمهور المعتزلة ومن وافقهم إلى منعه مثال ذلك قوله سبحانه: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} فإن جمهورنا يجوزون نسخ وجوب الوصية المذكور في هذه الآية بعد التمكن من العلم به وقبل أن يحضر الموت أحد المكلفين أما جمهور المعتزلة فيقولون باستحالة نسخ هذا التشريع إلا بعد احتضار أحد المكلفين وتمكنه من الوصية ولا يكتفي الكرخي فيما روي عنه بمجرد تمكن المكلف من الوصية بل لا بد عنده من أن يوصي بالفعل حتى يجوز النسخ بعده.
أدلة المثبتين لهذا النوع من النسخ:
إن الذين أجازوا هذا النوع من النسخ استدلوا له بثلاثة أدلة:
أحدها: أن نسخ الطلب قبل التمكن من امتثاله لا يترتب على وقوعه محال عقلي وكل ما كان كذلك فهو جائز عقلا.
ثانيها: أن النسخ قبل التمكن من الفعل مانع كسائر الموانع التي تمنع العبد منه إذ لا فارق بينه وبينها يؤثر فلو لم يجز هذا النوع من النسخ لم يجز أن يأمر الله عبده بفعل في مستقبل زمانه ثم يعوقه عنه بمرض أو نوم أو نحوهما لكن المشاهد غير ذلك باعتراف المانعين أنفسهم فكثيرا ما تحول الحوائل بين المرء وما أمره الله في مستقبله فليجز هذا النوع من النسخ أيضا.
ثالثها: أن هذا النوع من النسخ قد وقع فعلا والوقوع دليل الجواز وزيادة.
ثم إن لهم على وقوع هذا النوع من النسخ دليلين:
الدليل الأول أن الله تعالى حين حدثنا عن إبراهيم وولده إسماعيل صلوات الله وسلامه عليهما قال: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ فلما فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} فأنت ترى في هذا العرض الكريم لقصة إبراهيم الخليل وولده الذبيح إسماعيل ما يفيد أنه سبحانه قد أمر إبراهيم بذبح ولده ثم نسخ ما أمره به قبل أن يتمكن من تنفيذه وفعله.
أما أنه أمره بالذبح فيرشد إليه:
أولا قول إبراهيم لولده أني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى لأن رؤيا الأنبياء حق من ناحية ولأن مفاوضة إبراهيم لولده في هذا الأمر الجلل تدل على أن هذا أمر لا بد منه من ناحية أخرى وإلا لما فاوضه تلك المفاوضة الخطيرة المزعجة التي هي أول مراحل السعي إلى التنفيذ.
ثانيا أن إسماعيل أجاب أباه بإعلان خضوعه وامتثاله لأمر ربه: {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} .
ثالثا أن إبراهيم اتخذ سبيله إلى مباشرة الأسباب القريبة للذبح حيث أسلم ولده وأسلم إسماعيل نفسه: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} .
رابعا أن الله ناداه بأنه قد صدق الرؤيا أي فعل فعل من صدقها وحققها ولو لم يكن هذا أمرا من الله واجب الطاعة ما مدحه الله على تصديقه لرؤياه وسعيه إلى تحقيق ما أمره مولاه.
خامسا أن الله فدى إبراهيم يذبح عظيم فلو لم يكن ذبح إسماعيل مطلوبا لما كان ثمة داع يدعو إلى الفداء.
سادسا أن الله امتدح إبراهيم بأنه من المؤمنين ومن المحسنين المستحقين لإكرام الله إياه بالفرج بعد الشدة وقرر سبحانه أن هذا هو البلاء المبين وكافأه بأنه ترك عليه في الآخرين {سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} وكل ذلك يدل على أن الله أمره فأطاع وابتلاه أشد الابتلاء فاستسلم وانصاع.
وأما أن الله نسخ هذا الأمر قبل تمكن إبراهيم من امتثاله فيرشد إليه محاولة إبراهيم للتنفيذ بالخطوات التي خطاها والمحاولات التي حاولها وهي مفاوضة ولده حتى يستوثق منه أو يتخذ إجراء آخر ثم استسلامهما بالفعل لحادث الذبح وصرعه فلذة كبده وقرة عينه على جبينه كيما يضع السكين ويذبحه كما أمره رب العالمين ولكن جاء النداء بالفداء قبل التمكن