المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الثاني

- ‌المبحث الثاني عشر: في‌‌ التفسيروالمفسرين وما يتعلق بهما

- ‌ التفسير

- ‌ أقسام التفسير

- ‌ التفسير المأثور

- ‌ المفسرون من الصحابة

- ‌ تفسير ابن عباس

- ‌ الرواية عن غير ابن عباس من الصحابة

- ‌ المفسرون من التابعين

- ‌ ضعف الرواية بالمأثور وأسبابه

- ‌ تدوين التفسير بالمأثور

- ‌ التفسير بالرأي

- ‌العلوم التي يحتاجها المفسر

- ‌ منهج المفسرين بالرأي

- ‌ قانون الترجيح عند الاحتمال

- ‌ أوجه بيان السنة للقرآن

- ‌ التعارض بين التفسير بالرأي

- ‌ أهم كتب التفسير بالرأي

- ‌ تفاسير الفرق المختلفة

- ‌ تفاسير المعتزلة

- ‌ تفاسير الباطنية

- ‌ تفاسير الشيعة

- ‌ التفسير الإشاري

- ‌ نصيحة خالصة

- ‌ تفاسير أهل الكلام

- ‌ مزج العلوم الأدبية والكونية

- ‌كلمة ختامية

- ‌المبحث الثالث عشر: في ترجمة القران وحكمها تفصيلا

- ‌مدخل

- ‌القرآن ومعانيه ومقاصده

- ‌مقاصد القرآن الكريم

- ‌حكم ترجمة القرآن تفصيلا

- ‌ترجمة القرآن بمعنى تفسيره بلغة أجنبية

- ‌فوائد الترجمة بهذا المعنى

- ‌دفع الشبهات عن هذه الترجمة

- ‌ ترجمة القرآن بمعنى نقله إلى لغة أخرى

- ‌دفع الشبهات الواردة على منع هذه الترجمة

- ‌حكم قراءة الترجمة والصلاة بها

- ‌توجيهات وتعليقات

- ‌موقف الأزهر من ترجمة القرآن الكريم

- ‌فذلكة المبحث

- ‌المبحث الرابع عشر: في النسخ

- ‌أهمية هذا المبحث:

- ‌ما هو النسخ

- ‌ما لا بد منه في النسخ

- ‌الفرق بين النسخ والبداء

- ‌الفرق بين النسخ والتخصيص

- ‌النسخ بين مثبتيه ومنكريه

- ‌أدلة ثبوت النسخ عقلا وسمعا

- ‌حكمة الله في النسخ

- ‌شبهات المنكرين للنسخ ودفعها

- ‌طرق معرفة النسخ

- ‌ما يتناوله النسخ

- ‌أنواع النسخ في القرآن

- ‌شبهات أولئك المانعين ودفعها

- ‌النسخ ببدل وبغير بدل

- ‌شبهة ودفعها

- ‌نسخ الحكم ببدل أخف أو مساو أو أثقل

- ‌شبهات المانعين ودفعها

- ‌نسخ الطلب قبل التمكن في امتثاله

- ‌شبهات المنكرين ودفعها

- ‌النسخ في دورانه بين الكتاب والسنة

- ‌نسخ القياس والنسخ به

- ‌نسخ الإجماع والنسخ به

- ‌موقف العلماء من الناسخ والمنسوخ

- ‌منشأ غلط المتزيدين تفصيلا

- ‌الآيات التي اشتهرت بأنها منسوخة

- ‌المبحث الخامس عشر: في محكم القرآن ومتشابهه

- ‌معنى محكم القران ومتشابه

- ‌آراء العلماء في معنى المحكم والمتشابه

- ‌منشأ التشابه وأقسامه وأمثلته

- ‌أنواع المتشابهات

- ‌متشابه الصفات

- ‌دفع الشبهات الواردة في هذا المقام

- ‌المبحث السادس عشر: في اسلوب القران الكريم

- ‌معنى الاسلوب

- ‌خصائص أسلوب القرآن:

- ‌تعليق وتمثيل:

- ‌الشبهات الواردة على أسلوب القرآن

- ‌المبحث السابع عشر: في إعجاز القرآن وما يتعلق به

- ‌مدخل

- ‌وجوه إعجاز القرآن

- ‌الوجه الأول لغته وأسلوبه

- ‌الوجه الثاني: طريقة تأليفه

- ‌الوجه الثالث: علومه ومعارفه

- ‌الوجه الرابع: وفاؤه بحاجات البشر

- ‌الوجه الخامس: موقف القرآن من العلوم الكونية

- ‌الوجه السادس: سياسته في الإصلاح

- ‌الوجه السابع: أنباء الغيب فيه

- ‌الوجه الثامن آيات العتاب

- ‌الوجه التاسع: ما نزل بعد طول انتظار

- ‌الوجه العاشر: مظهر النبي صلى الله عليه وسلم عند هبوط الوحي عليه

- ‌الوجه الحادي عشر: آية المباهلة

- ‌الوجه الثاني عشر: عجز الرسول عن الإتيان ببدل له

- ‌الوجه الثالث عشر: الآيات التي تجرد الرسول من نسبتها إليه

- ‌الوجه الرابع عشر: تأثير القرآن ونجاحه

- ‌وجوه معلولة

- ‌شبهة القول بالصرفة

- ‌دفع الشبهات الواردة في هذا المقام

- ‌خلاصة

- ‌كلمة الختام

الفصل: ‌الوجه الأول لغته وأسلوبه

لأنه لم يبق على وجه الأرض شاهد مقبول الشهادة إلا هذا الكتاب الذي أنزله الله مقررا لنبوة الأنبياء السابقين وأديانهم ومصححا لأغلاط اللاغطين فيها والمحرفين لها {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} .

الله أكبر إن دين محمد

وكتابه أهدى وأقوم قيلا

لا تذكروا الكتب السوالف عنده

طلع الصباح فأطفئ القنديلا

ص: 332

‌وجوه إعجاز القرآن

‌الوجه الأول لغته وأسلوبه

الناظر في هذا الكتاب الكريم بإنصاف تتراءى له وجوه كثيرة مختلفة من الإعجاز كما تتراءى للناظر إلى قطعة من الماس ألوان عجيبة متعددة بتعدد ما فيها من زوايا وأضلاع ومختلفة باختلاف ما يكون عليه الناظر وما تكون عليه قطعة الماس من الأوضاع وسنبدأ بما نراه سليما من المطاعن ثم نقفي بما لا يسلم في نظرنا من طعن.

أما الوجه الأول فلغته وأسلوبه على نحو ما فصلناه في المبحث السابق وبيان ذلك أن القرآن جاء بهذا الأسلوب الرائع الخلاب الذي اشتمل على تلك الخصائص العليا التي تحدثنا عنها والتي لم تجتمع بل لم توجد خاصة واحدة منها في كلام على نحو ما وجدت في القرآن وكل ما كان من هذا القبيل فهو لا شك معجز خصوصا أن النبي صلى الله عليه وسلم تحدى به فأعجز أساطين الفصحاء وأعيا مقاويل البلغاء وأخرس ألسنة فحول البيان من أهل صناعة اللسان وذلك في عصر كانت القوى فيه قد توافرت على الإجادة والتبريز في هذا الميدان وفي أمة كانت مواهبها محشودة للتفوق في هذه الناحية وإذا كان أهل الصناعة هؤلاء قد عجزوا عن معارضة القرآن فغيرهم أشد عجزا وأفحش عيا.

وها قد مرت على اللغة العربية من عهد نزول القرآن إلى عصرنا هذا أدوار مختلفة

ص: 332

بين علو ونزول واتساع وانقباض وحركة وجمود وحضارة وبداوة والقرآن في كل هذه الأدوار واقف في عليائه يطل على الجميع من سمائه وهو يشع نورا وهداية ويفيض عذوبة وجلالة ويسيل رقة وجزالة ويرف جدة وطلاوة ولا يزل كما كان غضا طريا يحمل راية الإعجاز ويتحدى أمم العالم في يقين وثقة قائلا في صراحة الحق وقوته وسلطان الإعجاز وصولته {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} .

القدر المعجز من القرآن

ومن عجيب أمر هذا القرآن وأمر هؤلاء العرب أنه طاولهم في المعارضة وتنازل لهم عن التحدي بجميع القرآن إلى التحدي بعشر سور مثله ثم إلى التحدي بسورة واحدة من مثله وهم على رغم هذه المطاولة ينتقلون من عجز إلى عجز ومن هزيمة إلى هزيمة وهو في كل مرة من مرات هذا التحدي وهذه المطاولة ينتقل من فوز إلى فوز ويخرج من نصر إلى نصر.

تصور أنه قال لهم في سورة الطور أول ما تحداهم: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ؟ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ ، فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} فلما انقطعوا مد لهم في الحبل وقال في سورة هود: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ، فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} فلما عجزوا هذه المرة أيضا طاولهم مرة أخرى وأرخى لهم الحبل إلى آخره وقال في سورة البقرة: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} فكان عجزهم بعد ذلك أشنع وأبشع وسجل الله عليهم الهزيمة أبد الدهر فلم يفعلوا ولن يفعلوا ودحضت

ص: 333

حجتهم وافتضح أمرهم وظهر أمر الله وهم كارهون.

بهذا يتبين لك أن القدر المعجز من القرآن هو ما يقدر بأقصر سورة منه وأن القائلين بأن المعجز هو كل القرآن لا بعضه وهم المعتزلة والقائلين بأن المعجز كل ما يصدق عليه أنه قرآن ولو كان أقل من سورة كل أولئك بمنأى عن الصواب وهم محجوجون بما بين يديك من الآيات.

معارضة القرآن

وهل أتاك نبأ الخصم إذ هموا أن يعارضوا القرآن؟ فكان ما أتوا به باسم المعارضة لا يخرج عن أن يكون محاولات مضحكة مخجلة أخجلتهم أمام الجماهير وأضحكت الجماهير منهم فباؤوا بغضب من الله وسخط من الناس وكان مصرعهم هذا كسبا جديدا للحق وبرهانا ماديا على أن القرآن كلام الله القادر وحده لا يستطيع معارضته إنسان ولا جان ومن ارتاب فأمامه الميدان.

يذكر التاريخ أن مسيلمة الكذاب رغم أنه أوحي إليه بكلام كالقرآن ثم طلع على الناس بهذا الهذر إنا أعطيناك الجماهر فصل لربك وجاهر وبهذا السخف والطاحنات طحنا والعاجنات عجنا والخابزات خبزا وأنت خبير بأن مثل ذلك الإسفاف ليس من المعارضة في قليل ولا كثير وأين محاكاة الببغاء من فصاحة الإنسان وأين هذه الكلمات السوقية الركيكة من ألفاظ القرآن الرفيعة ومعانيه العالية وهل المعارضة إلا الإتيان بمثل الأصل في لغته وأسلوبه ومعانيه أو بأرقى منه في ذلك؟

يقول حجة الأدب العربي فقيدنا الرافعي عليه سحائب الرحمة إن مسيلمة لم يرد أن يعرض للقرآن من ناحية الصناعة البيانية إذ كانت هذه الناحية أوضح من أن يلتبس أمرها عليه أو أن يستطيع تلبيسها على أحد من العرب وإنما أراد أن يتخذ سبيله إلى استهواء قومه من ناحية أخرى ظنها أهون عليه وأقرب تأثيرا في نفوسهم ذلك أنه رأى معرب تعظم

ص: 334

الكهان في الجاهلية وكانت عامة أساليب الكهان من هذا السجع القلق الذي يزعمون أنه من كلام الجن كقولهم يا جليح أمر نجيح رجل فصيح يقول لا إله إلا الله البخاري في المناقب إسلام عمر فكذلك جعل يطبع مثل هذه الأسجاع في محاكاة القرآن ليوهمهم أنه يوحى إليه كما يوحى إلى محمد كأنما النبوة والكهانة ضرب واحد على أنه لم يفلح في هذه الحيلة أيضا فقد كان كثيرون من أشياعه يعرفونه بالكذب والحماقة ويقولون إنه لم يكن في تعاطيه الكهانة حاذقا ولا في دعوى النبوة صادقا وإنما كان اتباعهم إياه كما قال قائلهم كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر.

ويروي التاريخ أن أبا العلاء المعري وأبا الطيب المتنبي وابن المقفع حدثتهم نفوسهم مرة أن يعارضوا القرآن فما كادوا يبدؤون هذه المحاولة حتى انتهوا منها بتكسير أقلامهم وتمزيق صحفهم لأنهم لمسوا بأنفسهم وعورة الطريق واستحالة المحاولة وأكبر ظني وظن الكاتبين من قبلي أنهم كان يعتقدون من أعماق قلوبهم بلاغة القرآن وإعجازه من أول الأمر وإنما أرادوا أن يضموا دليلا جديدا إلى ما لديهم من أدلة ذاقوها بحاستهم البيانية من باب ولكن ليطمئن قلبي ويا ليت شعري إن لم يتذوق أمثال هؤلاء بلاغة القرآن وإعجازه فمن غيرهم؟!

وتحدثنا الأيام القريبة أن زعماء البهائية والقاديانية وضعوا كتبا يزعمون أنهم يعارضون بها القرآن ثم خافوا وخجلوا أن يظهروها للناس فأخفوها ولكن على أمل أن تتغير الظروف ويأتي على الناس زمان تروج فيه أمثال هذه السفاسف إذ ما استحر فيهم الجهل باللغة العربية آدابها والدين الإسلامي وكتابه ألا خيبهم الله وخيب ما يأملون.

في القرآن آلاف المعجزات

علمنا من قبل أن القرآن يزيد على مائتي آية وستة آلاف آية وعلمنا اليوم أن حبل التحدي قد طال حتى صار بسورة وان السورة تصدق بسورة الكوثر وهي ثلاث آيات

ص: 335

قصار وأن مقدارها من آية أو آيات طويلة له حكم السورة وان لأسلوب التنزيل سبع خواص لا توجد واحدة منها على كمالها في أي كلام آخر كما بسطنا القول في ذلك بالمبحث الآنف فيخلص لنا في ضوء هذه الحقائق أن القرآن مشتمل على آلاف من المعجزات لا معجزة واحدة كما يبدو لبعض السذج والسطحيين وإذا أضفنا إلى هذا ما يحمل القرآن من وجوه الإعجاز التالية تراءت لنا معجزات متنوعات شتى تجل عن الإحصاء والتعداد وسبحان من يجعل من الواحد كثرة ومن الفرد أمة! {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} . {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} . {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} أي لكان هذا القرآن!.

معجزات القرآن خالدة

وهنا نلفت النظر إلى أن القرآن بما اشتمل عليه من هذه المعجزات الكثيرة قد كتب له الخلود فلم يذهب بذهاب الأيام ولم يمت بموت الرسول عليه الصلاة والسلام بل هو قائم في فم الدنيا يحاج كل مكذب ويتحدى كل منكر ويدعو أمم العالم جمعاء إلى ما فيه من هداية الإسلام وسعادة بني الإنسان ومن هذا يظهر الفرق جليا بين معجزات نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم ومعجزات إخوانه الأنبياء عليهم أزكى الصلاة وأتم السلام فمعجزات محمد في القرآن وحده آلاف مؤلفة وهي متمتعة بالبقاء إلى اليوم وإلى ما بعد اليوم حتى يرث الله الأرض ومن عليها أما معجزات سائر الرسل فمحدودة العدد قصيرة الأمد ذهبت بذهاب زمانهم وماتت بموتهم ومن يطلبها الآن لا يجدها إلا في خبر كان ولا يسلم له شاهد بها إلا هذا القرآن وتلك نعمة يمنها القرآن على سائر الكتب والرسل وما صح من الأديان كافة قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} وقال عز اسمه: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} .

ص: 336

حكمة بالغة في هذا الاختيار

وهنا نقف هنيهة لنعلم أن حكمة الله البالغة قضت أن تكون معجزة الإسلام باقية بجانبه تؤيده وتعززه إلى قيام الساعة حتى لا يكون لأحد عذر في ترك هذا الدين الأخير الذي هو خاتمة الأديان والشرائع لذلك اختار سبحانه أن تكون معجزة الإسلام شيئا يصلح للبقاء فكانت دون سواها كلاما يتلى في أذن الدهر وحديث يقرأ على سمع الزمان وكان من أسرار الإعجاز فيه بلوغه من الفصاحة والبيان مبلغا يعجز الخلق أجمعين وكان من عدله تعالى ورحمته أن اللغة التي صيغت بها هذه المعجزة هي اللغة العربية دون غيرها من اللغات لأن اللغة العربية حين مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم كانت قد بلغت لدى الشعب العربي أوج عظمتها من الاعتناء بها والاعتداد بالنابغين فيها والاعتزاز بالجيد منها وكان هذا الشعب العربي قد استكملت له حينذاك ملكة في النقد والمفاضلة تؤهله بسهولة ويسر للحكم على جيد الكلام وزيفه ووضع كل كلام في درجته من العلو أو النزول وترجع براعتهم في هذه الناحية إلى أنهم كانوا قد وقفوا عليها حياتهم والتمسوا من ورائها عظمتهم وعلقوا عليها آمالهم.

ولا يغيبن عنك أن هذا الشعب العربي كان مطبوعا أيامئذ على الصراحة في الرأي لا يعرف النفاق ولا الذبذبة وكانوا فوق ذلك شجعانا يأنفون الذل ويعافون الضيم مهما كلفتهم سجاياهم هذه من بذل مال وسفك دم فلما نزل القرآن لم يسع هذا الشعب الحر الصريح الأبي المتمهر في لغته إلا أن يلقي السلاح من يده ويخضع لسلطان هذا التنزيل وبلاغته ويدين له ويؤمن به عن إدراك ووجدان بعد أن ذاق حلاوته ولمس إعجازه وحكم بملكته العربية الناقدة وصراحته المعروفة السافرة وشجاعته النادرة الفائقة أن هذا الذكر الحكيم لا يمكن أن يكون كلام مخلوق من البشر ولا غير البشر إنما هو تنزيل من حكيم حميد

ص: 337

بهذه الشهادة ينجح العالم كله

شهادة هذا شانها وهذا شان من شهد بها جديرة أن ينجح بها العالم حين يتلقاها بالقبول كما يتلقى بالقبول شهادة لجان التحكيم في هذا العصر ثقة منه بأنهم فنيون يحسنون المقارنة والموازنة واطمئنانا إلى انهم عادلون لا يعرفون المحاباة والمداهنة بل شهادة أولئك العرب أزكى وأطهر وأحكم وأقوم لأنها صدرت عن أعداء القرآن حين نزوله بعد محاولات ومصاولات مخضتهم مخضا عنيفا وأفحمتهم إفحاما مريرا والفضل ما شهدت به الأعداء.

أسلوب القرآن وأسلوب الحديث النبوي

ومما يفيد في هذا المقام ويدفع التلبيس أن تعرف بعد ما بين أسلوب القرآن وأسلوب الحديث النبوي الشريف ولا أدل على ذلك من أن بين يدي التاريخ إلى يوم الناس هذا آلافا مؤلفة من كتب السنة تملأ دون الكتب في الشرق والغرب وتنادي كل من له إلمام وذوق في البيان العربي أن هلم لتحس بحاستك البيانية المدى البعيد بين أسلوبي القرآن والحديث ولتؤمن عن وجدان بأن أسلوب التنزيل أعلى وأجل من أسلوب الأحاديث النبوية علوا خارقا للعادة خارجا عن محيط الطاقة البشرية وإن بلغ كلام الرسول صلى الله عليه وسلم في جودته وروعته وجلالته ما جعله خير بيان لخير إنسان.

غير أن هذه الفوارق كما قلنا فوارق فنية لا يدركها إلا الذين أوتوا حظا عظيما من معرفة اللسان العربي والذوق العربي ولقد نزل القرآن أول ما نزل على أمة العرب وهم مطبوعون على اللغة الفصحى منقطعون لإحيائها وترقيتها وكانوا يتفاضلون بينهم بالتفوق في علو البيان وفصاحة اللسان حتى بلغ في تقديسهم لهذا أنهم كانوا يقيمون المعارض العامة للتفاخر والتفاضل بفصيح المنظوم وبليغ المنثور وحتى إن القبيلة كان يرفعها بيت

ص: 338

واحد من الشعر يكون رائعا في مدحها ويضعها بيت يكون لاذعا في ذمها ولقد كان هؤلاء العرب يعرفون نبي الإسلام ويعرفون مقدرته الكلامية من قبل أن يوحى إليه فلم يخطر ببال منصف منهم أن يقول إن هذا القرآن كلام محمد وذلك لما يرى من المفارقات الواضحة بين لغة القرآن ولغة الرسول صلى الله عليه وسلم عليه الصلاة والسلام.

يضاف إلى هذا أنه لم يعرف في نشأته بينهم بالخطابة ولا بالكتابة ولا بالشعر ولم يؤثر أنه شاركهم في معارضهم وأسواقهم العامة التي كانوا يقيمونها للتسابق في البيان بل كان مقبلا على شأنه زاهدا في الظهور ميالا إلى العزلة وكل ما اشتهر به قبل النبوة أنه كان صادقا لم يجربوا عليه كذبا أمينا ما خان أبدا ميمون النقيبة عالي الأخلاق علوا ممتازا فهل يعقل أن رجلا سلخ عهد شبابه وكهولته على هذا النمط يجيء في سن الشيخوخة فينافس العالم كله ويتحداه بشيء من لدنه وهو الذي ما نافس أحدا قبل ذلك ولا تحداه بل كان من خلقه الحياء والتواضع وعدم الاستطالة على خلق الله ثم هل يتصور أن هذا الإنسان الكامل يتورع عن الكذب على الناس في صباه وشبابه وكهولته ثم يجيء في سن الشيخوخة فيكذب أفظع الكذب على الله؟ {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} .

ألا إن وجود القرآن كلاما متلوا لم ينقص كلمة ولا حرفا لرحمة واسعة من الله بعباد لم تتسن لأي كتاب في أمة غير هذا الكتاب الذي ينهل الظامئون من بحره الروي في كل عصر ويأوي المنصفون إلى هدية الرباني في كل مصر ويكتسب بما فيه من سمات الألوهية أتباعا في كل أفق مصداقا لقوله سبحانه: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} ولقوله صلى الله عليه وسلم: "ما من نبي من الأنبياء إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما

ص: 339