الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رسوله وليتعبد بتلاوتها عباده وكان سبحانه حكيما في هذا التخصيص والاختيار لمكان الفضل والامتياز في هذه الأساليب والألفاظ المختارة.
ومن تفقه في أساليب اللغة العربية وعرف أن لخفة الألفاظ على الأسماع وحسن جرسها في فصاحة الكلام وبلاغته أيقن أن القرآن فذ الأفذاذ في بابه وعلم الأعلام في بيانه لأن ما فبه من الأساليب البلاغية والموسيقى اللفظية أمر فاق كل فوق وخرج عن كل طوق: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً} فأنى لمخلوق بعد هذا أن يحاكيه بترجمة مساوية أو مماثلة: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} .
دفع الشبهات الواردة على منع هذه الترجمة
الشبهة الأولى ودفعها:
يقولون: إن تبليغ هداية القرآن إلى الأمم الأجنبية واجب لما هو معروف من أن الدعوة إلى الإسلام عامة لا تختص بجيل ولا بقبيل وهذا التبليغ الواجب يتوقف على ترجمة القرآن لغير العرب بلغاتهم لأنهم لا يحذقون لغة العرب بينما القرآن عربي وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ونجيب على هذه الشبهة
أولا بأن هذا التبليغ لا يتوقف على ترجمة القرآن لهم تلك الترجمة العرفية الممنوعة بل يمكن أن يحصل بترجمته على المعنى اللغوي السالف وهو تفسيره بغير لغته على ما شرحناه آنفا ويمكن أن يكون بتبليغهم هداية القرآن وتعاليمه ومحاسن الإسلام ومزاياه ودفع الشبهات التي تعترضهم في ذلك إما بمحادثات شفهية وإنما بمؤلفات على شكل رسائل تنشر أو مجلات تذاع أو كتب تطبع يختار الداعي من ذلك ما هو أنسب بحال المدعوين وما هو أيسر له وأنجح لدعوته فيهم.
ثانيا أن الله تعالى لم يكلفنا بالمستحيل: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} وقد أشبعنا القول في بيان استحالة ترجمة القرآن بذلك المعنى العرفي استحالة عادية فواضح ألا يكلفنا الله إياها.
ثالثا أن القول بوجوب هذه الترجمة يستلزم المحال وهو التناقض في أحكام الله تعالى ذلك أن الله حرمها كما تقرر من قبل فكيف يستقيم القول بأنه أوجبها مع أن الحاكم واحد وهو الله ومحل الحكم واحد وهو الترجمة والمحكوم عليه واحد وهم المكلفون في كل زمان ومكان.
رابعا أن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو أعرف الناس بأحكام الله وأنشط الخلق في الدعوة إلى الله لم يتخذ هذه الترجمة وسيلة إلى تبليغ الأجانب مع أنه قد دعا العرب والعجم وكاتب كسرى وقيصر وراسل المقوقس والنجاشي وكانت جميع كتبه لهم عربية العبارة ليس فيها آية واحدة مترجمة فصلا عن ترجمة القرآن كله وكان كل ما في هذه الكتب دعوة صريحة جريئة إلى نبذ الشرك واعتناق التوحيد والاعتراف برسالته صلى الله عليه وسلم ووجوب طاعته واتباعه وكان صلى الله عليه وسلم يدفع كتبه هذه إلى سفراء يختارهم من أصحابه فيؤدونها على وجهها وهؤلاء الملوك والحكام قد يدعون تراجم يفسرونها لهم وقد يسألون السفراء ومن يتصل بهم عن تعاليم الإسلام وشمائل نبي الإسلام وصفات الذين اتبعوه ومدى نجاح هذه الرسالة مما عساه أن يلقي ضوءا على حقيقة الداعي ودعوته.
انظر حديث هرقل في أوائل صحيح البخاري
خامسا أن الصحابة رضوان الله عليهم وهم مصابيح الهدى وأفضل طبقة في سلف هذه الأمة الصالح وأحرص الناس على مرضاة الله ورسوله وأعرفهم بأسرار الإسلام وروح تشريعه ولم يفكروا يوما ما في هذه الترجمة فضلا عن أن يحاولوها أو يأتوها بل كان شأنهم شأن الرسول صلى الله عليه وسلم الأعظم يدعون بالوسائل التي دعا بها على نشاط رائع
عجيب في النشر والدعوة والفتح فلو كانت هذه الترجمة العرفية من مواجب الإسلام لكان أسرع الخلق إليها رسول الله وأصحابه ولو فعلوه لنقل وتواتر لأن مثله مما تتوافر الدواعي على نقله وتواتره.
الشبهة الثانية ودفعها:
يقولون إن كتبه إلى العظماء من غير العرب يدعوهم إلى الإسلام تستلزم إقراره على ترجمتها لأنها مشتملة على قرآن وهم أعجام ولأن الروايات الصحيحة ذكرت في صراحة أن هرقل وهو من هؤلاء المدعوين دعا ترجمانه فترجم له الكتاب النبوي وفيه قرآن.
والجواب أن هذه الكتب النبوية لا تستلزم إقرار الرسول صلى الله عليه وسلم على تلك الترجمة العرفية الممنوعة بل هي إذا استلزمت فإنما تستلزم الإقرار على نوع جائز من الترجمة وهو التفسير بغير العربية لأن التفسير بيان ولو من وجه وهو كاف في تفهم مضمون الرسائل المرسلة على أن هذه الرسائل الكريمة لم تشتمل على القرآن كله ولا على آيات كاملة منه بل كل ما فيها مقتبسات نادرة جدا ولا ريب أن المقتبسات من القرآن ليس لها حكم القرآن.
وهاكم نماذج تتبينون منها مبلغ هذه الحقيقة:
1 -
فكتابه صلى الله عليه وسلم الذي أرسله مع دحية بن خليفة الكلبي إلى هرقل هذا نصه: "بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم.
سلام على من أتبع الهدى أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين وإن توليت فإنما عليك إثم الأريسين - أي الفلاحين- ويأهل الكتاب
تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا أشهدوا بأنا مسلمون".
فأنت ترى أن ما في هذا الكتاب من القرآن لم يبلغ آية تامة لأن الآية مبتدأة بقوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} ولكن الكتاب حذف منه لفظ: {قُلْ} وزيد فيه حرف الواو والحذف والزيادة دليلان ماديان على الاقتباس".
2 -
وكتابه الذي بعث به مع عبد الله بن حذافة إلى كسرى هذا نصه: "بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم الفرس:
سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله وأدعوك بدعاية الله فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة لأنذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين أسلم تسلم فأن توليت فعليك إثم المجوس".
فأنت ترى في هذه الرسالة النبوية أنها اشتملت على كلمة لأنذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين على حين أن نص الآية في القرآن الكريم: {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً} وهذا دليل الاقتباس.
3 -
وقل مثل ذلك في سائر رسائله صلى الله عليه وسلم فإن كتابه إلى المقوقس هو نص كتابه إلى هرقل لا فرق بينهما إلا في كلمة الأريسيين إذا أبدلت بها كلمة القبط وإلا في اسم المرسل إليه ومكانته كما هو واضح.
4 -
وكذلك كتابه إلى جيفر وعبد ملكي عمان ليس فيه إلا كلمة لأنذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين وهي التي في رسالته إلى كسرى1
1 راجع ذلك ما كتبه الزرقاني على المواهب "ص 226 – 369 ج 3" والسيرة الحلبية "ص 362 – 378 ج 2". وكتاب العلم من صحيح البخاري.
الشبهة الثالثة ودفعها:
يقولون إن جميع المحذورات التي تخشى من الترجمة موجودة في التفسير باللفظ العربي نفسه وقد أجمعت الأمة على عدم التحاشي عن هذه المحذورات فيجب ألا يتحاشى عنها في الترجمة أصلا إذ لا فرق بين التعبير باللفظ العربي والتعبير بالفظ العجمي عن المراد بالآيات بعد أن يكون المعبر والمفسر والمترجم مستكملا للشروط والمؤهلات الواجبة لمن يعرض نفسه للتفسير والترجمة.
والجواب: أنهم إن أرادوا بالترجمة في كلامهم تلك الترجمة العرفية فقد بسطنا من وجوه المحذورات فيها ما جعلها حجرا محجورا وإثما محظورا ورسمنا من الفروق ما جعل بينها وبين التفسير بونا بعيدا سواء أكانت هي ترجمة حرفية أم تفسيرية وسواء أكان هو تفسيرا بلغة الأصل أم بغير لغة الأصل.
وإن أرادوا بالترجمة في كلامهم تلك الترجمة اللغوية على معنى التفسير بلغة أجنبية فكلامهم في محل التسليم والقبول ولكن لا يجوز أن تخاطب العرف العالمي العام بهذا الإطلاق اللغوي الخاص بنا لأنه لا يعرفه.
الشبهة الرابعة ودفعها:
يقولون إن الترجمة العرفية للقرآن إذا تعذرت بالنسبة إلى معانيه التابعة فإنها تمكن بالنسبة إلى معانيه الأصلية وعلى هذا فلنترجم القرآن بمعنى أننا ننقل معانيه الأصلية وحدها لا سيما أنها هي المشتملة على الهداية المقصودة منه دون معانية التابعة.
ونجيب على هذه الشبهة أولا بأن نقل معاني القرآن الأصلية لا يسمى ترجمة للقرآن عرفا لأن مدلول ألفاظ القرآن مؤلف من المعاني الأصلية والتابعة فترجمته نقل معانية كلها لا فرق بين ما كان منها أوليا وما كان ثانويا ونقل مقاصده كلها كذلك ومحال
نقل جميع هذا كما سبق وعلى هذا لا يجوز أن يعتبر مجرد نقل المعاني الأصلية دون التابعة ودون بقية مقاصده ترجمة له اللهم إلا إذا جاز أن تسمى يد الإنسان إنسانا ورجل الحيوان حيوانا.
ثم إن إطلاق الترجمة على هذا المعنى المراد لو كان مقصورا على قائليه ولم يتصل بالعرف العام لهان الخطب وسهل الأمر وأمكن أن يلتمس وجه للتجوز ولو بعيدا ولكن العرف الذي نخاطبه لا يفهم من كلمة ترجمة إلا أنها صورة مطابقة للأصل وافية بجميع معانيه ومقاصده لا فرق بينهما إلا في القشرة اللفظية فإذا نحن نقلنا المعاني الأصلية للقرآن وحدها ثم قلنا لأهل هذا العرف العالمي العام هذه هي ترجمة القرآن نكون قد ضللنا أهل هذا العرف من ناحية ثم نكون قد بخسنا القرآن حقه من الإجلال والإكبار من ناحية أخرى فزعمنا أن له مثلا يناصيه وشبيها يحاكيه على حين أن الذي جئنا به ما هو إلا صورة مصغرة لجزء منه وبين هذه الصورة وجلال الأصل مراحل شتى كالذي يصور الجزء الأسفل من إنسان عظيم ثم يقول للناس هذه صورة فلان العظيم.
ثانيا أن تلك المعاني التابعة الثانوية فياضة بهدايات زاخرة ومعارف واسعة فلا نسلم أن معاني القرآن الأولية وحدها هي مصدر هداياته وارجع إلى ما ذكرناه سابقا في هذا الصدد فإن فيه الكفاية.
الشبهة الخامسة ودفعها:
يقولون إن الذين ترجموا القرآن إلى اللغات الأجنبية غيروا معانيه وشوهوا جماله وأخطأوا أخطاء فاحشة فإذا نحن ترجمنا القرآن بعناية أمكن أن نصحح لهم تلك الأخطاء وأن نرد إلى القرآن الكريم اعتباره في نظر أولئك الذين يقرؤون تلك الترجمات الضالة وأن نزيل العقبات التي وضعت في طريقهم إلى هداية الإسلام وبذلك نكون قد أدينا رسالتنا في النشر والدعوة إلى هذا الدين الحنيف.
ونجيب على هذا بأن الذين زعموا ترجموا القرآن ترجمة عربية شوهوا جماله وغضوا من مقامه باعترافكم فإن أنتم ترجمتم ترجمتهم وحاولتم محاولتهم فستقعون لا محالة في قريب مما وقعوا فيه وستمسون بدوركم عظمة هذا القرآن وجلاله مهما بالغتم في الحيطة وأمعنتم في الدقة ونبغتم في العلم وتفوقتم في الفهم لأن القرآن أعز وأمنع من أن تناله ريشة أي مصور كان من إنس أو جان كما بينا ذلك أوفى بيان.
أما إذا حاولتم ترجمة القرآن على معنى تفسيره بلغة أجنبية فذلك موقف آخر نؤيدكم فيه ونوافقكم عليه وندعو القادرين إليه.
الشبهة السادسة ودفعها:
يقولون: جاء في صريح السنة ما يؤيد القول بجواز ترجمة القرآن فقد قال الشربنلالي في كتابهة النفحة القدسية ما نصه:
روي أن أهل فارس كتبوا إلى سلمان أن يكتب لهم الفاتحة بالفارسية فكتب لهم: "بسم الله الرحمن الرحيم بنام يزدان يحشايند" فكانوا يقرؤون ذلك في الصلاة حتى لانت ألسنتهم وبعد ما كتب عرضه على النبي صلى الله عليه وسلم كذا في المبسوط قاله في النهاية والدراية.
ونجيب على هذا من وجوه أولها أن هذا خبر مجهول الأصل لا يعرف له سند فلا يجوز العمل به ثانيها أن الخبر لو كان لنقل وتواتر لأنه مما تتوافر الدواعي على نقله وتواتره ثالثها أنه يحمل دليل وهنه فيه ذلك أنهم سألوه أن يكتب لهم ترجمة الفاتحة فلم يكتبها لهم إنما كنب لهم ترجمة البسملة ولو كانت الترجمة ممكنة وجائزة لأجابهم إلى ما طلبوا وجوبا وإلا كان كاتما وكاتم العلم ملعون رابعها أن المتأمل في الخبر يدرك أن البسملة نفسها لم تترجم لهم كاملة لأن هذه