المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وإذن فمن لم يصرف لفظ المتشابه عن ظاهره الموهم للتشبيه - مناهل العرفان في علوم القرآن - جـ ٢

[الزرقاني، محمد عبد العظيم]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الثاني

- ‌المبحث الثاني عشر: في‌‌ التفسيروالمفسرين وما يتعلق بهما

- ‌ التفسير

- ‌ أقسام التفسير

- ‌ التفسير المأثور

- ‌ المفسرون من الصحابة

- ‌ تفسير ابن عباس

- ‌ الرواية عن غير ابن عباس من الصحابة

- ‌ المفسرون من التابعين

- ‌ ضعف الرواية بالمأثور وأسبابه

- ‌ تدوين التفسير بالمأثور

- ‌ التفسير بالرأي

- ‌العلوم التي يحتاجها المفسر

- ‌ منهج المفسرين بالرأي

- ‌ قانون الترجيح عند الاحتمال

- ‌ أوجه بيان السنة للقرآن

- ‌ التعارض بين التفسير بالرأي

- ‌ أهم كتب التفسير بالرأي

- ‌ تفاسير الفرق المختلفة

- ‌ تفاسير المعتزلة

- ‌ تفاسير الباطنية

- ‌ تفاسير الشيعة

- ‌ التفسير الإشاري

- ‌ نصيحة خالصة

- ‌ تفاسير أهل الكلام

- ‌ مزج العلوم الأدبية والكونية

- ‌كلمة ختامية

- ‌المبحث الثالث عشر: في ترجمة القران وحكمها تفصيلا

- ‌مدخل

- ‌القرآن ومعانيه ومقاصده

- ‌مقاصد القرآن الكريم

- ‌حكم ترجمة القرآن تفصيلا

- ‌ترجمة القرآن بمعنى تفسيره بلغة أجنبية

- ‌فوائد الترجمة بهذا المعنى

- ‌دفع الشبهات عن هذه الترجمة

- ‌ ترجمة القرآن بمعنى نقله إلى لغة أخرى

- ‌دفع الشبهات الواردة على منع هذه الترجمة

- ‌حكم قراءة الترجمة والصلاة بها

- ‌توجيهات وتعليقات

- ‌موقف الأزهر من ترجمة القرآن الكريم

- ‌فذلكة المبحث

- ‌المبحث الرابع عشر: في النسخ

- ‌أهمية هذا المبحث:

- ‌ما هو النسخ

- ‌ما لا بد منه في النسخ

- ‌الفرق بين النسخ والبداء

- ‌الفرق بين النسخ والتخصيص

- ‌النسخ بين مثبتيه ومنكريه

- ‌أدلة ثبوت النسخ عقلا وسمعا

- ‌حكمة الله في النسخ

- ‌شبهات المنكرين للنسخ ودفعها

- ‌طرق معرفة النسخ

- ‌ما يتناوله النسخ

- ‌أنواع النسخ في القرآن

- ‌شبهات أولئك المانعين ودفعها

- ‌النسخ ببدل وبغير بدل

- ‌شبهة ودفعها

- ‌نسخ الحكم ببدل أخف أو مساو أو أثقل

- ‌شبهات المانعين ودفعها

- ‌نسخ الطلب قبل التمكن في امتثاله

- ‌شبهات المنكرين ودفعها

- ‌النسخ في دورانه بين الكتاب والسنة

- ‌نسخ القياس والنسخ به

- ‌نسخ الإجماع والنسخ به

- ‌موقف العلماء من الناسخ والمنسوخ

- ‌منشأ غلط المتزيدين تفصيلا

- ‌الآيات التي اشتهرت بأنها منسوخة

- ‌المبحث الخامس عشر: في محكم القرآن ومتشابهه

- ‌معنى محكم القران ومتشابه

- ‌آراء العلماء في معنى المحكم والمتشابه

- ‌منشأ التشابه وأقسامه وأمثلته

- ‌أنواع المتشابهات

- ‌متشابه الصفات

- ‌دفع الشبهات الواردة في هذا المقام

- ‌المبحث السادس عشر: في اسلوب القران الكريم

- ‌معنى الاسلوب

- ‌خصائص أسلوب القرآن:

- ‌تعليق وتمثيل:

- ‌الشبهات الواردة على أسلوب القرآن

- ‌المبحث السابع عشر: في إعجاز القرآن وما يتعلق به

- ‌مدخل

- ‌وجوه إعجاز القرآن

- ‌الوجه الأول لغته وأسلوبه

- ‌الوجه الثاني: طريقة تأليفه

- ‌الوجه الثالث: علومه ومعارفه

- ‌الوجه الرابع: وفاؤه بحاجات البشر

- ‌الوجه الخامس: موقف القرآن من العلوم الكونية

- ‌الوجه السادس: سياسته في الإصلاح

- ‌الوجه السابع: أنباء الغيب فيه

- ‌الوجه الثامن آيات العتاب

- ‌الوجه التاسع: ما نزل بعد طول انتظار

- ‌الوجه العاشر: مظهر النبي صلى الله عليه وسلم عند هبوط الوحي عليه

- ‌الوجه الحادي عشر: آية المباهلة

- ‌الوجه الثاني عشر: عجز الرسول عن الإتيان ببدل له

- ‌الوجه الثالث عشر: الآيات التي تجرد الرسول من نسبتها إليه

- ‌الوجه الرابع عشر: تأثير القرآن ونجاحه

- ‌وجوه معلولة

- ‌شبهة القول بالصرفة

- ‌دفع الشبهات الواردة في هذا المقام

- ‌خلاصة

- ‌كلمة الختام

الفصل: وإذن فمن لم يصرف لفظ المتشابه عن ظاهره الموهم للتشبيه

وإذن فمن لم يصرف لفظ المتشابه عن ظاهره الموهم للتشبيه أو المحال فقد ضل كالظاهرية والمشبهة ومن فسر لفظ المتشابه تفسيرا بعيدا عن الحجة والبرهان قائما على الزيغ والبهتان فقد ضل أيضا كالباطنية والإسماعيلية وكل هؤلاء يقال فيهم إنهم متبعون للمتشابه ابتغاء الفتنة أما من يؤول المتشابه أي يصرفه عن ظاهره بالحجة القاطعة لا طلبا للفتنة ولكن منعا لها وتثبيتا للناس على المعروف من دينهم وردا لهم إلى محكمات الكتاب القائمة وأعلامه الواضحة فأولئك هم الهادون المهديون حقا وعلى ذلك درج سلف الأمة وخلفها وأئمتها وعلماؤها روي عن البخاري عن سعيد بن جبير أن رجلا قال لابن عباس إنني أجد في القرآن أشياء تختلف علي قال ما هو قال: {فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} وقال: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} وقال: {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} وقال: {قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} قال ابن عباس {فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ} في النفخة الأولى {وَلا يَتَسَاءَلُونَ} ثم في النفخة الثانية {أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} فأما قوله: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} فإن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم فيقول المشركون تعالوا نقول ما كنا مشركين فيختم الله على أفواههم فتنطق جوارحهم بأعمالهم فعند ذلك {لا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} إلى آخر الحديث نسأل الله أن يسلمنا وأن يهدينا سواء الصراط وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آهل وصحبه وسلم آمين.

ص: 302

‌المبحث السادس عشر: في اسلوب القران الكريم

‌معنى الاسلوب

المبحث السادس عشر: في أسلوب القرآن الكريم

الأسلوب في اللغة:

يطلق الأسلوب في لغة العرب إطلاقات مختلفة فيقال للطريق بين الأشجار وللفن وللوجه وللمذهب وللشموخ بالانف ولعنق الأسد ويقال لطريقة المتكلم في كلامه

ص: 302

أيضا وأنسب هذه المعاني بالاصطلاح الآتي هو المعنى الأخير أو هو الفن أو المذهب لكن مع التقييد.

الأسلوب في الاصطلاح:

تواضع المتأدبون وعلماء العربية على أن الأسلوب هو الطريقة الكلامية التي يسلكها المتكلم في تأليف كلامه واختيار ألفاظه أو هو المذهب الكلامي الذي انفرد به المتكلم في تأدية معانيه ومقاصده من كلامه او هو طابع الكلام أو فنه الذي انفرد به المتكلم كذلك.

معنى أسلوب القرآن:

وعلى هذا فأسلوب القرآن الكريم هو طريقته التي انفرد بها في تأليف كلامه واختيار ألفاظه ولا غرابة أن يكون للقرآن الكريم أسلوب خاص به فإن لكل كلام إلهي أو بشري أسلوبه الخاص به وأساليب المتكلمين وطرائقهم في عرض كلامهم من شعر أو نثر تتعدد بتعدد أشخاصهم بل تتعدد في الشخص الواحد بتعدد الموضوعات التي يتناولها والفنون التي يعالجها.

الأسلوب غير المفردات والتراكيب:

ونلفت نظرك إلى أن الأسلوب غير المفردات والتراكيب التي يتألف منها الكلام وإنما هو الطريقة التي انتهجها المؤلف في اختيار المفردات والتراكيب لكلامه.

وهذا هو السر في أن الأساليب مختلفة باختلاف المتكلمين من ناثرين وناظمين مع أن المفردات التي يستخدمها الجميع واحدة والتراكيب في جملتها واحدة وقواعد صوغ المفردات وتكوين الجمل واحدة وهذا هو السر أيضا في أن القرآن لم يخرج عن معهود العرب في لغتهم العربية من حيث ذوات المفردات والجمل وقوانينها العامة بل جاء كتابا عربيا جاريا على مألوف العرب من هذه الناحية فمن حروفهم تألفت كلماته ومن كلماتهم

ص: 303

تألفت تراكيبه وعلى قواعدهم العامة في صياغة هذه المفردات وتكوين التراكيب جاء تأليفه ولكن المعجز والمدهش والمثير لأعجب العجب أنه مع دخوله على العرب من هذا الباب الذي عهدوه ومع مجيئه بهذه المفردات والتراكيب التي توافروا على معرفتها وتنافسوا في حلبتها وبلغوا الشأو الأعلى فيها نقول إن القرآن مع ذلك كله وبرغم ذلك كله قد أعجزهم بأسلوبه الفذ ومذهبه الكلامي المعجز ولو دخل عليهم من غير هذا الباب الذي يعرفونه لأمكن أن يلتمس لهم عذر أو شبه عذر وأن يسلم لهم طعن أو شبه طعن {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} ولهذا المعنى وصف الله كتابه بالعروبة في غير آية فقال جل ذكره في سورة يوسف {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} وقال في سورة الزخرف: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} وقال في سورة الزمر: {قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} .

مثال لهذا الفارق:

وبما أن الأمر قد اشتبه على بعض الناس حتى ضلوا فيه أو كادوا نمثل للفرق ين الأسلوب وبين المفردات والتركيب بمثالين حسيين أحدهما صناعة الخياطة والآخر صناعة الصيدلة أو تحضير العقاقير والأدوية فالخياطون يختلفون فيما بينهم اختلافا بعيدا ما بين خامل ونابه في صنعته وضعيف وبارع في حرفته وهذا الاختلاف لم يجيء من ناحية مواد الثياب المخيطة ولا من ناحية الآلات والأدوات والطرق العامة التي تستخدم في الخياطة إنما جاء الاختلاف من جهة الطريقة الخاصة التي اتبعت في اختيار هذه المواد وتأليفها واستخدام قواعد هذه الصناعة في شكلها وهندستها وكذلك الصيادلة يختلفون فيما بينهم نباهة وخمولا وبراعة وقصورا لا من حيث مواد الأدوية وعناصرها ولا من حيث القواعد الفنية العامة في تركيبها بل من حيث حسن اختيار هذه المواد ودقة تطبيق هذه القواعد في تحضير العقاقير والأدوية حتى لقد نشاهد أن مزاج الجيد منها وأثره ونفعه يختلف بوضوح عن مزاج الرديء منها وأثره وضرره وقل مثل هذا في كل ما حولك من صناعات يختلف فيها الصناعون ومصنوعاتهم جودة ورداءة مع اتحاد مواد الصناعة الأولى وقواعدها العامة في الجميع

ص: 304

لذالكم البيان اللغوي في أية لغة ما هو إلا صناعة موادها وقواعدها واحدة في المفردات والتراكيب ولكن البيان يختلف بعد ذلك باختلاف الطرائق والأساليب وإن شئت فقل يختلف باختلاف الأذواق والمواهب التي انتقت هذه المفردات اللغوية واصطفت تلك الجمل التركيبية حتى إنك لترى أهل اللغة الواحدة يؤدون الغرض الواحد بوجوه مختلفة من المفردات ومذاهب شتى من التراكيب يتفاوت حظها من الجودة والرداءة ومن الحسن والدمامة ومن القبول والرد بمقدار ما بينهم من اختلاف في طرائق اختيارهم لما اختاروه من مواد اللغة إفرادا وتركيبا ولما لاحظوه من المناسبات مع هذا الاختيار فإذا سلم ذوق المتكلم وسمت حاسته البيانية حسن اختياره وسما كلامه سموا قد يأخذ عليك حسك ويملك قلبك ولبك وإذا فسد ذوق المتكلم وانحطت حاسته البيانية ساء اختياره ونزل كلامه نزولا قد تتقزز منه نفسك ويتأذى به سمعك وربما فررت منه وأنت تتمثل بقول الشاعر:

عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى

وصوت إنسان فكدت أطير

بيان ذلك في اللغة العربية:

بيان ذلك في لغتنا المحبوبة العربية أن مفرداتها منها متآلف في حروفه ومتنافر وواضح مستأنس وخفي غريب ورقيق خفيف على الأسماع وثقيل كرية تمجه الأسماع وموافق لقياس اللغة ومخالف له ثم من هذه المفردات عام وخاص ومطلق ومقيد ومجمل ومبين ومعرف ومنكر وظاهر ومضمر وحقيقة ومجاز وكذلك التراكيب العربية منها ما هو حقيقة ومجاز ومنها متآلف الكلمات ومتنافرها وواضح المعاني ومعقدها وموافق للقياس اللغوي والخارج عليه ومنها الاسمية والفعلية والخبرية والإنشائية وفيها النفي والإثبات والإيجاز والإطناب والتقديم والتأخير والفصل والوصل إلى غير ذلك مما هو مفصل في علوم اللغة وكتبها.

ص: 305

ثم إن ما يؤيده معهود اللغة من المتنوعات المذكورة وما أشبهها هو المسلك العام الذي ينفذ منه المتكلمون إلى أغراضهم ومقاصدهم ولكن ليس شيء من هذه المتنوعات بالذي يحسن استعماله إطلاقا ولا شيء منها بالذي يسوء استعماله إطلاقا أي في كافة الأحوال وجميع المقامات بل لكل مقام مقال فما يجعل في موطن قد يقبح في موطن آخر وما يجب في مقام قد يمتنع في مقام آخر ولولا هذا لكان الوصول إلى الطرف الأعلى من البلاغة هينا ولأصبح كلام الناس لونا واحدا وطعما واحدا ولكن الأمر يرجع إلى حسن الاختيار من هذه المتنوعات بحسب ما يناسب الأحوال والمقامات فخطاب الأذكياء غير خطاب الأغبياء وموضوع العقائد التي يتحمس لها الناس غير موضوع القصص وميدان الجدل الصاخب غير مجلس التعليم الهادئ ولغة الوعد والتبشير غير لغة الوعيد والإنذار إلى غير ذلك مما يجعل اختيار المناسبات عسيرا ضرورة أن الإحاطة بجميع أحوال المخاطبين قد تكون متعسرة أو متعذرة ومما يجعل اللفظ الواحد في موضع من المواضع كأنه نجمة وضاءة لامعة وفي موضع آخر كأنه نكتة سوداء مظلمة.

ولعلمائنا أكرمهم الله أذواق مختلفة في استنباط الفروق الدقيقة بين استعمال حرف أو كلمة مكان حرف أو كلمة ومن السابقين في حلبة هذا الاستنباط الخطيب الإسكافي المتوفى سنة 412هـ في كتابه درة التنزيل وغرة التأويل وهاك مثالا منه يفيدنا فيما نحن فيه إذ يتحدث عن سر التعبير بالفاء في لفظ {كُلُوا} من قوله سبحانه في سورة البقرة: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ} وعن سر التعبير بالواو لا بالفاء في لفظ {كُلُوا} أيضا لكن من قوله سبحانه في سورة الأعراف: {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ} مع أن القصة واحدة ومدخول الحرف واحد قال رحمه الله الأصل أن كل فعل عطف عليه ما تعلق به تعلق الجواب بالابتداء وكان الأول مع الثاني بمعنى الشرط والجزاء فالأصل فيه عطف الثاني على الأول بالفاء ومنه {وَإِذْ قُلْنَا

ص: 306

ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا} فإن وجود الأكل متعلق بالدخول والدخول موصل إلى الأكل فالأكل وجوده معلق بوجوده بخلاف {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا} لأن السكنى مقام مع طول لبث والأكل لا يختص وجوده بوجوده لأن من يدخل بستانا قد يأكل منه مجتازا فلما لم يتعلق الثاني بالأول تعلق الجواب بالابتداء وجب العطف بالواو دون الفاء اهـ.

تفاوت القوى والقدر:

ولا ريب أن القوى والقدر تتفاوت تفاوتا بعيدا فيما نعرف من الأحوال ومناسباتها وأن ميدان الاختيار فسيح مليء بشتى الألوان والصور للمفردات ومركباتها فماذا عسى أن تبلغ قدرة الإنسان في استعراض كل هذه الألوان والصور وفي إقامة ميزان دقيق بينها تمهيدا لحسن الاختيار على ضوء تلك الأحوال المقتضية لما ينبغي أن يكون منها هنا ينفسح المجال ثم ينفسح فما يهتدي إليه متكلم قد يغفل عنه متكلم وما يتيقظ له كاتب قد يغفل عنه كاتب وما يدركه شاعر قد يفوت شاعرا آخر بل ما يدركه الإنسان الواحد في موضع قد يخطئه في موضع سواه وهكذا.

وليس من غرضنا هنا أن نستقصي الأحوال والمناسبات ولا أن نضرب الأمثال والشواهد لكل حال وما يناسبها فلذلك محله من علوم اللغة وكتبها كما قلنا ولكن الذي نريد أن نضع يدك عليه في هذا المقام هو أن أسلوب أي كلام بليغ معناه صورته الفنية أو طابعه الخاص أو مزاجه الشخصي الذي تهيأ له برعاية صاحبه لجملة الأحوال ومناسباتها في هذا الكلام وأنه على حسب ما تحتوي أساليب الكلام من الأحوال والمناسبات يتفاوت هذا الكلام في درجات البلاغة علوا ونزولا وفي حظه عند السامعين ردا وقبولا وأنه لم يظفر الوجود بكلام إلهي ولا بشري بلغ الطرف الأعلى في البلاغة ووصل إلى قمة الإعجاز من هذه الناحية غير القرآن الكريم لأن منشئ هذا الكتاب هو وحده الذي تعلقت إرادته بأن تكون معجزة نبي الإسلام من هذا الطراز لحكمة شرحناها وقد تعرض لها فيما يأتي ولأنه سبحانه هو الذي انتهت إليه الإحاطة بجميع أحوال الخلق وحده

ص: 307

ولأنه عز سلطانه هو القادر وحده على تضمين كلامه كل المناسبات التي اقتضتها تلك الأحوال الكثيرة التي لم يحط ولن يحيط بها سواه ومن الذي يستطيع أن يحيط بكل أحوال الخلق وفيها الخفي الذي لا يعلمه إلا من يعلم السر وأخفي ثم من ذا الذي يستطيع أن يحيط بكل أحوال الخلق وهم أجيال متعددة منهم من لم يخلقوا وقت نزول القرآن ومنهم من لم يعرفوا لنا إلى الآن بعد بضعة عشر قرنا من نزول هذا القرآن وأنت خبير بأن القرآن هو كتاب الساعة الذي يخاطب الأجيال كافة حتى يرث الله الأرض ومن عليها فلا غرو أن يضمنه منزله كل ما تحتاج إليه الأمم على اختلاف أجيالها من المناسبات الملائمة لأحوالهم وليس ذلك في قدرة أحد إلا العليم بأسرار الخلق وخفيات السموات والأرض {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} {تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} .

ومن شواهد ما نذكر أننا نلاحظ في كثير من ألفاظ القرآن أنها اختيرت اختيارا يتجلى فيه وجه الإعجاز من هذا الاختيار وذلك في الألفاظ التي نمر بها على القرون والأجيال منذ نزل القرآن إلى اليوم فإذا بعض الأجيال يفهم منها ما يناسب تفكيره ويلائم ذوقه ويوائم معارفه وإذا أجيال أخرى تفهم من هذه الألفاظ عينها غير ما فهمته تلك الأجيال ولو استبدلت هذه الألفاظ بغيرها لم يصلح القرآن لخطاب الناس كافة وكان ذلك قدحا في أنه كتاب الدين العام الخالد ودستور البشرية في كل عصر ومصر فسبحان من أنزل هذا القرآن مشبعا لحاجات الجميع وافيا تجارب الجميع ملائما لأذواق الجميع متفقا ومعارف الجميع مما يدل دلالة واضحة على أنه كلام الله وحده أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا.

ولعل لنا عودة لمثل هذا الكلام في فرصة أخرى فلنمسك القلم عن الجولان في هذا الميدان ولنرجع عودا على بدء إلى أسلوب القرآن ولنذكر شيئا من خصائص

ص: 308