الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإذن فمن لم يصرف لفظ المتشابه عن ظاهره الموهم للتشبيه أو المحال فقد ضل كالظاهرية والمشبهة ومن فسر لفظ المتشابه تفسيرا بعيدا عن الحجة والبرهان قائما على الزيغ والبهتان فقد ضل أيضا كالباطنية والإسماعيلية وكل هؤلاء يقال فيهم إنهم متبعون للمتشابه ابتغاء الفتنة أما من يؤول المتشابه أي يصرفه عن ظاهره بالحجة القاطعة لا طلبا للفتنة ولكن منعا لها وتثبيتا للناس على المعروف من دينهم وردا لهم إلى محكمات الكتاب القائمة وأعلامه الواضحة فأولئك هم الهادون المهديون حقا وعلى ذلك درج سلف الأمة وخلفها وأئمتها وعلماؤها روي عن البخاري عن سعيد بن جبير أن رجلا قال لابن عباس إنني أجد في القرآن أشياء تختلف علي قال ما هو قال: {فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} وقال: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} وقال: {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} وقال: {قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} قال ابن عباس {فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ} في النفخة الأولى {وَلا يَتَسَاءَلُونَ} ثم في النفخة الثانية {أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} فأما قوله: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} فإن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم فيقول المشركون تعالوا نقول ما كنا مشركين فيختم الله على أفواههم فتنطق جوارحهم بأعمالهم فعند ذلك {لا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} إلى آخر الحديث نسأل الله أن يسلمنا وأن يهدينا سواء الصراط وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آهل وصحبه وسلم آمين.
المبحث السادس عشر: في اسلوب القران الكريم
معنى الاسلوب
…
المبحث السادس عشر: في أسلوب القرآن الكريم
الأسلوب في اللغة:
يطلق الأسلوب في لغة العرب إطلاقات مختلفة فيقال للطريق بين الأشجار وللفن وللوجه وللمذهب وللشموخ بالانف ولعنق الأسد ويقال لطريقة المتكلم في كلامه
أيضا وأنسب هذه المعاني بالاصطلاح الآتي هو المعنى الأخير أو هو الفن أو المذهب لكن مع التقييد.
الأسلوب في الاصطلاح:
تواضع المتأدبون وعلماء العربية على أن الأسلوب هو الطريقة الكلامية التي يسلكها المتكلم في تأليف كلامه واختيار ألفاظه أو هو المذهب الكلامي الذي انفرد به المتكلم في تأدية معانيه ومقاصده من كلامه او هو طابع الكلام أو فنه الذي انفرد به المتكلم كذلك.
معنى أسلوب القرآن:
وعلى هذا فأسلوب القرآن الكريم هو طريقته التي انفرد بها في تأليف كلامه واختيار ألفاظه ولا غرابة أن يكون للقرآن الكريم أسلوب خاص به فإن لكل كلام إلهي أو بشري أسلوبه الخاص به وأساليب المتكلمين وطرائقهم في عرض كلامهم من شعر أو نثر تتعدد بتعدد أشخاصهم بل تتعدد في الشخص الواحد بتعدد الموضوعات التي يتناولها والفنون التي يعالجها.
الأسلوب غير المفردات والتراكيب:
ونلفت نظرك إلى أن الأسلوب غير المفردات والتراكيب التي يتألف منها الكلام وإنما هو الطريقة التي انتهجها المؤلف في اختيار المفردات والتراكيب لكلامه.
وهذا هو السر في أن الأساليب مختلفة باختلاف المتكلمين من ناثرين وناظمين مع أن المفردات التي يستخدمها الجميع واحدة والتراكيب في جملتها واحدة وقواعد صوغ المفردات وتكوين الجمل واحدة وهذا هو السر أيضا في أن القرآن لم يخرج عن معهود العرب في لغتهم العربية من حيث ذوات المفردات والجمل وقوانينها العامة بل جاء كتابا عربيا جاريا على مألوف العرب من هذه الناحية فمن حروفهم تألفت كلماته ومن كلماتهم
تألفت تراكيبه وعلى قواعدهم العامة في صياغة هذه المفردات وتكوين التراكيب جاء تأليفه ولكن المعجز والمدهش والمثير لأعجب العجب أنه مع دخوله على العرب من هذا الباب الذي عهدوه ومع مجيئه بهذه المفردات والتراكيب التي توافروا على معرفتها وتنافسوا في حلبتها وبلغوا الشأو الأعلى فيها نقول إن القرآن مع ذلك كله وبرغم ذلك كله قد أعجزهم بأسلوبه الفذ ومذهبه الكلامي المعجز ولو دخل عليهم من غير هذا الباب الذي يعرفونه لأمكن أن يلتمس لهم عذر أو شبه عذر وأن يسلم لهم طعن أو شبه طعن {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} ولهذا المعنى وصف الله كتابه بالعروبة في غير آية فقال جل ذكره في سورة يوسف {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} وقال في سورة الزخرف: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} وقال في سورة الزمر: {قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} .
مثال لهذا الفارق:
وبما أن الأمر قد اشتبه على بعض الناس حتى ضلوا فيه أو كادوا نمثل للفرق ين الأسلوب وبين المفردات والتركيب بمثالين حسيين أحدهما صناعة الخياطة والآخر صناعة الصيدلة أو تحضير العقاقير والأدوية فالخياطون يختلفون فيما بينهم اختلافا بعيدا ما بين خامل ونابه في صنعته وضعيف وبارع في حرفته وهذا الاختلاف لم يجيء من ناحية مواد الثياب المخيطة ولا من ناحية الآلات والأدوات والطرق العامة التي تستخدم في الخياطة إنما جاء الاختلاف من جهة الطريقة الخاصة التي اتبعت في اختيار هذه المواد وتأليفها واستخدام قواعد هذه الصناعة في شكلها وهندستها وكذلك الصيادلة يختلفون فيما بينهم نباهة وخمولا وبراعة وقصورا لا من حيث مواد الأدوية وعناصرها ولا من حيث القواعد الفنية العامة في تركيبها بل من حيث حسن اختيار هذه المواد ودقة تطبيق هذه القواعد في تحضير العقاقير والأدوية حتى لقد نشاهد أن مزاج الجيد منها وأثره ونفعه يختلف بوضوح عن مزاج الرديء منها وأثره وضرره وقل مثل هذا في كل ما حولك من صناعات يختلف فيها الصناعون ومصنوعاتهم جودة ورداءة مع اتحاد مواد الصناعة الأولى وقواعدها العامة في الجميع
لذالكم البيان اللغوي في أية لغة ما هو إلا صناعة موادها وقواعدها واحدة في المفردات والتراكيب ولكن البيان يختلف بعد ذلك باختلاف الطرائق والأساليب وإن شئت فقل يختلف باختلاف الأذواق والمواهب التي انتقت هذه المفردات اللغوية واصطفت تلك الجمل التركيبية حتى إنك لترى أهل اللغة الواحدة يؤدون الغرض الواحد بوجوه مختلفة من المفردات ومذاهب شتى من التراكيب يتفاوت حظها من الجودة والرداءة ومن الحسن والدمامة ومن القبول والرد بمقدار ما بينهم من اختلاف في طرائق اختيارهم لما اختاروه من مواد اللغة إفرادا وتركيبا ولما لاحظوه من المناسبات مع هذا الاختيار فإذا سلم ذوق المتكلم وسمت حاسته البيانية حسن اختياره وسما كلامه سموا قد يأخذ عليك حسك ويملك قلبك ولبك وإذا فسد ذوق المتكلم وانحطت حاسته البيانية ساء اختياره ونزل كلامه نزولا قد تتقزز منه نفسك ويتأذى به سمعك وربما فررت منه وأنت تتمثل بقول الشاعر:
عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى
…
وصوت إنسان فكدت أطير
بيان ذلك في اللغة العربية:
بيان ذلك في لغتنا المحبوبة العربية أن مفرداتها منها متآلف في حروفه ومتنافر وواضح مستأنس وخفي غريب ورقيق خفيف على الأسماع وثقيل كرية تمجه الأسماع وموافق لقياس اللغة ومخالف له ثم من هذه المفردات عام وخاص ومطلق ومقيد ومجمل ومبين ومعرف ومنكر وظاهر ومضمر وحقيقة ومجاز وكذلك التراكيب العربية منها ما هو حقيقة ومجاز ومنها متآلف الكلمات ومتنافرها وواضح المعاني ومعقدها وموافق للقياس اللغوي والخارج عليه ومنها الاسمية والفعلية والخبرية والإنشائية وفيها النفي والإثبات والإيجاز والإطناب والتقديم والتأخير والفصل والوصل إلى غير ذلك مما هو مفصل في علوم اللغة وكتبها.
ثم إن ما يؤيده معهود اللغة من المتنوعات المذكورة وما أشبهها هو المسلك العام الذي ينفذ منه المتكلمون إلى أغراضهم ومقاصدهم ولكن ليس شيء من هذه المتنوعات بالذي يحسن استعماله إطلاقا ولا شيء منها بالذي يسوء استعماله إطلاقا أي في كافة الأحوال وجميع المقامات بل لكل مقام مقال فما يجعل في موطن قد يقبح في موطن آخر وما يجب في مقام قد يمتنع في مقام آخر ولولا هذا لكان الوصول إلى الطرف الأعلى من البلاغة هينا ولأصبح كلام الناس لونا واحدا وطعما واحدا ولكن الأمر يرجع إلى حسن الاختيار من هذه المتنوعات بحسب ما يناسب الأحوال والمقامات فخطاب الأذكياء غير خطاب الأغبياء وموضوع العقائد التي يتحمس لها الناس غير موضوع القصص وميدان الجدل الصاخب غير مجلس التعليم الهادئ ولغة الوعد والتبشير غير لغة الوعيد والإنذار إلى غير ذلك مما يجعل اختيار المناسبات عسيرا ضرورة أن الإحاطة بجميع أحوال المخاطبين قد تكون متعسرة أو متعذرة ومما يجعل اللفظ الواحد في موضع من المواضع كأنه نجمة وضاءة لامعة وفي موضع آخر كأنه نكتة سوداء مظلمة.
ولعلمائنا أكرمهم الله أذواق مختلفة في استنباط الفروق الدقيقة بين استعمال حرف أو كلمة مكان حرف أو كلمة ومن السابقين في حلبة هذا الاستنباط الخطيب الإسكافي المتوفى سنة 412هـ في كتابه درة التنزيل وغرة التأويل وهاك مثالا منه يفيدنا فيما نحن فيه إذ يتحدث عن سر التعبير بالفاء في لفظ {كُلُوا} من قوله سبحانه في سورة البقرة: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ} وعن سر التعبير بالواو لا بالفاء في لفظ {كُلُوا} أيضا لكن من قوله سبحانه في سورة الأعراف: {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ} مع أن القصة واحدة ومدخول الحرف واحد قال رحمه الله الأصل أن كل فعل عطف عليه ما تعلق به تعلق الجواب بالابتداء وكان الأول مع الثاني بمعنى الشرط والجزاء فالأصل فيه عطف الثاني على الأول بالفاء ومنه {وَإِذْ قُلْنَا
ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا} فإن وجود الأكل متعلق بالدخول والدخول موصل إلى الأكل فالأكل وجوده معلق بوجوده بخلاف {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا} لأن السكنى مقام مع طول لبث والأكل لا يختص وجوده بوجوده لأن من يدخل بستانا قد يأكل منه مجتازا فلما لم يتعلق الثاني بالأول تعلق الجواب بالابتداء وجب العطف بالواو دون الفاء اهـ.
تفاوت القوى والقدر:
ولا ريب أن القوى والقدر تتفاوت تفاوتا بعيدا فيما نعرف من الأحوال ومناسباتها وأن ميدان الاختيار فسيح مليء بشتى الألوان والصور للمفردات ومركباتها فماذا عسى أن تبلغ قدرة الإنسان في استعراض كل هذه الألوان والصور وفي إقامة ميزان دقيق بينها تمهيدا لحسن الاختيار على ضوء تلك الأحوال المقتضية لما ينبغي أن يكون منها هنا ينفسح المجال ثم ينفسح فما يهتدي إليه متكلم قد يغفل عنه متكلم وما يتيقظ له كاتب قد يغفل عنه كاتب وما يدركه شاعر قد يفوت شاعرا آخر بل ما يدركه الإنسان الواحد في موضع قد يخطئه في موضع سواه وهكذا.
وليس من غرضنا هنا أن نستقصي الأحوال والمناسبات ولا أن نضرب الأمثال والشواهد لكل حال وما يناسبها فلذلك محله من علوم اللغة وكتبها كما قلنا ولكن الذي نريد أن نضع يدك عليه في هذا المقام هو أن أسلوب أي كلام بليغ معناه صورته الفنية أو طابعه الخاص أو مزاجه الشخصي الذي تهيأ له برعاية صاحبه لجملة الأحوال ومناسباتها في هذا الكلام وأنه على حسب ما تحتوي أساليب الكلام من الأحوال والمناسبات يتفاوت هذا الكلام في درجات البلاغة علوا ونزولا وفي حظه عند السامعين ردا وقبولا وأنه لم يظفر الوجود بكلام إلهي ولا بشري بلغ الطرف الأعلى في البلاغة ووصل إلى قمة الإعجاز من هذه الناحية غير القرآن الكريم لأن منشئ هذا الكتاب هو وحده الذي تعلقت إرادته بأن تكون معجزة نبي الإسلام من هذا الطراز لحكمة شرحناها وقد تعرض لها فيما يأتي ولأنه سبحانه هو الذي انتهت إليه الإحاطة بجميع أحوال الخلق وحده
ولأنه عز سلطانه هو القادر وحده على تضمين كلامه كل المناسبات التي اقتضتها تلك الأحوال الكثيرة التي لم يحط ولن يحيط بها سواه ومن الذي يستطيع أن يحيط بكل أحوال الخلق وفيها الخفي الذي لا يعلمه إلا من يعلم السر وأخفي ثم من ذا الذي يستطيع أن يحيط بكل أحوال الخلق وهم أجيال متعددة منهم من لم يخلقوا وقت نزول القرآن ومنهم من لم يعرفوا لنا إلى الآن بعد بضعة عشر قرنا من نزول هذا القرآن وأنت خبير بأن القرآن هو كتاب الساعة الذي يخاطب الأجيال كافة حتى يرث الله الأرض ومن عليها فلا غرو أن يضمنه منزله كل ما تحتاج إليه الأمم على اختلاف أجيالها من المناسبات الملائمة لأحوالهم وليس ذلك في قدرة أحد إلا العليم بأسرار الخلق وخفيات السموات والأرض {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} {تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} .
ومن شواهد ما نذكر أننا نلاحظ في كثير من ألفاظ القرآن أنها اختيرت اختيارا يتجلى فيه وجه الإعجاز من هذا الاختيار وذلك في الألفاظ التي نمر بها على القرون والأجيال منذ نزل القرآن إلى اليوم فإذا بعض الأجيال يفهم منها ما يناسب تفكيره ويلائم ذوقه ويوائم معارفه وإذا أجيال أخرى تفهم من هذه الألفاظ عينها غير ما فهمته تلك الأجيال ولو استبدلت هذه الألفاظ بغيرها لم يصلح القرآن لخطاب الناس كافة وكان ذلك قدحا في أنه كتاب الدين العام الخالد ودستور البشرية في كل عصر ومصر فسبحان من أنزل هذا القرآن مشبعا لحاجات الجميع وافيا تجارب الجميع ملائما لأذواق الجميع متفقا ومعارف الجميع مما يدل دلالة واضحة على أنه كلام الله وحده أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا.
ولعل لنا عودة لمثل هذا الكلام في فرصة أخرى فلنمسك القلم عن الجولان في هذا الميدان ولنرجع عودا على بدء إلى أسلوب القرآن ولنذكر شيئا من خصائص