الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
متشابه الصفات
عرفنا أن المتشابهات تجمع ألوانا مختلفة ونزيدك هنا أن من بينها لونين كثر الكلام فيهما أولهما فواتح السور نحو آلم ق طس وما أشبهها وقد أفضنا القول فيها بالمبحث السابع من الجزء الأول من هذا الكتاب ثانيهما الآيات المشكلة الواردة في شأن الله تعالى وتسمى آيات الصفات أو متشابه الصفات ولابن اللبان فيها تصنيف مفرد سماه رد المتشابهات إلى الآيات المحكمات مثل قوله سبحانه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وما أشبهه وإنما أفرد هذا النوع بالذكر وبالتأليف لأنه كثر فيه القيل والقال وكان فتنة ارتكس فيها كثير من القدامى والمحدثين.
الرأي الرشيد في متشابه الصفات
علماؤنا أجزل الله مثوبتهم قد اتفقوا على ثلاثة أمور تتعلق بهذه المتشابهات ثم اختلفوا فيما وراءها.
فأول ما اتفقوا عليه صرفها عن ظواهرها المستحيلة واعتقاد أن هذه الظواهر غير مرادة للشارع قطعا كيف وهذه الظواهر باطلة بالأدلة القاطعة وبما هو معروف عن الشارع نفسه في محكماته؟.
ثانيه أنه إذا توقف الدفاع عن الإسلام على التأويل لهذه المتشابهات وجب تأويلها بما يدفع شبهات المشتبهين ويدر طعن الطاعنين.
ثالثه أن المتشابه إن كان له تأويل واحد يفهم منه فهما قريبا وجب القول به إجماعا وذلك كقوله سبحانه: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} فإن الكينونة بالذات مع الخلق مستحيلة قطعا وليس لها بعد ذلك إلا تأويل واحد هو الكينونة معهم بالإحاطة علما وسمعا وبصرا وقدرة وإرادة.
وأما اختلاف العلماء فيما وراء ذلك فقد وقع على ثلاثة مذاهب:
المذهب الأول مذهب السلف ويسمى مذهب المفوضة بكسر الواو وتشديدها وهو تفويض معاني هذه المتشابهات إلى الله وحده بعد تنزيهه تعالى عن ظواهرها المستحيلة ويستدلون على مذهبهم هذا بدليلين.
أحدهما عقلي وهو أن تعيين المراد من هذه المتشابهات إنما يجري على قوانين اللغة واستعمالات العرب وهي لا تفيد إلا الظن مع أن صفات الله من العقائد التي لا يكفي فيها الظن بل لا بد فيها من اليقين ولا سبيل إليه فلنتوقف ولنكل التعيين إلى العليم الخبير.
والدليل الثاني نقلي يعتمدون فيه على عدة أمور منها حديث عائشة السابق وفيه: فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذرهم
ومنها ما رواه الطبراني في الكبير عن أبي مالك الأشعري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا أخاف على أمتي إلا ثلاث خلال أن يكثر لهم المال فيتحاسدوا فيقتتلوا وأن يفتح لهم الكتاب فيأخذه المؤمن يبتغي تأويله {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} الحديث.
ومنها ما أخرجه ابن مردويه عن أبيه عن جده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضا فما عرفتم منه فاعملوا وما تشابه فآمنوا به".
ومنها ما أخرجه الدارمي عن سليمان بن يسار أن رجلا يقال له ابن صبيغ1 قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن فأرسل إليه عمر وقد أعد له عراجين النخل فقال له:
1 كذلك جاء اسم ابن صبيغ في كتاب الإتقان للسيوطي، بلفظ ابن، ويالغين المجمعة في صبيغ مع صورة التصغير.
ولكني رأيت شيخ الإسلام المالكي بتونس وهو السيد محمد الطاهر بن عاشور، يصوب في بحث له أن اسمه صبغ بن شريك أو ابن عسل التميمي من غير كلمة ابن وبصاد مهملة مفتوحة، وباء مكسورة، وغين معجمة. ثم ذكر بعد هذا التصويت أن كثيرا من الناس يحرفونه فيقولون ضبيع بضاد مجمعة، وعين مهملة، وبصيغة التصغير ثم قال: ويقولون: أبو ضيبغ.
من أنت فقال: أنا عبد الله بن صبيغ فأخذ عمر عرجونا فضربه حتى دمى رأسه وجاء في رواية أخرى فضربه حتى ترك ظهره دبرة ثم تركه حتى برأ ثم عاد ثم تركه حتى برأ فدعا به ليعود فقال إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلا جميلا فأذن له إلى أرضه وكتب إلى أبي موسى الأشعري ألا يجالسه أحد من المسلمين اهـ والدبرة بفتحات ثلاثة هي قرحة الدابة في أصل الوضع اللغوي والمراد هنا أنه صير في ظهره من الضرب جرح داميا كأنه قرحة في دابة ورضي الله عن عمر فإن هذا الأثر يدل على أن ابن صبيغ فتح أو حاول أن يفتح باب فتنة بتتبعه متشابهات القرآن يكثر الكلام فيها ويسأل الناس عنها.
ومنها ما ورد من أن الإمام مالكا رضي الله عنه سأل عن الاستواء في قوله سبحانه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} فقال الاستواء معلوم والكيف مجهول والسؤال عن هذا بدعة وأظنك رجل سوء أخرجوه عني يريد رحمة الله عليه أن الاستواء معلوم الظاهر بحسب ما تدل عليه الأوضاع اللغوية ولكن هذا الظاهر غير مراد قطعا لأنه يستلزم التشبيه المحال على الله بالدليل القاطع والكيف مجهول أي تعيين مراد الشارع مجهول لنا لا دليل عندنا عليه ولا سلطان لنا به والسؤال عنه بدعة أي الاستفسار عن تعيين هذا المراد اعتقاد أنه مما شرعه الله بدعة لأنه طريقة في الدين مخترعة مخالفة لما أرشدنا إليه الشارع من وجوب تقديم المحكمات وعدم اتباع المتشابهات وما جزاء المبتدع
إلا أن يطرد ويبعد عن الناس خوف أن يفتنهم لأنه رجل سوء وذلك سر قوله: وأظنك رجل سوء أخرجوه عني اهـ.
قال ابن الصلاح على هذه الطريقة مضى صدر الأمة وساداتها وإياها اختار أئمة الفقهاء وقادتها وإليها دعا أئمة الحديث وأعلامه ولا أحد من المتكلمين من أصحابنا يصدف عنها ويأباها اهـ.
المذهب الثاني مذهب الخلف ويسمى مذهب المؤولة بتشديد الواو وكسرها وهم فريقان فريق يؤولها بصفات سمعية غير معلومة على التعيين ثابتة له تعالى زيادة على صفاته المعلومة لنا بالتعيين وينسب هذا إلى أبي الحسن الأشعري وفريق يؤولها بصفات أو بمعان نعلمها على التعيين فيحمل اللفظ الذي استحال ظاهره من هذه المتشابهات على معنى يسوغ لغة ويليق بالله عقلا وشعرا وينسب هذا الرأي إلى ابن برهان وجماعة من المتأخرين قال السيوطي وكان إمام الحرمين يذهب إليه ثم رجع عنه فقال في الرسالة النظامية الذي نرتضيه دينا وندين الله به عقدا اتباع سلف الأمة فإنهم درجوا على ترك التعرض لمعانيها اهـ.
أما حجة أصحاب هذا المذهب فيما ذهبوا إليه فهو أن المطلوب صرف اللفظ عن مقام الإهمال الذي يوجب الحيرة بسبب ترك اللفظ لا مفهوم له وما دام في الإمكان حمل كلام الشارع على معنى سليم فالنظر قاض بوجوبه انتفاعا بما ورد عن الحكيم العليم وتنزيها له عن أن يجري مجرى العجوز العقيم.
المذهب الثالث مذهب المتوسطين وقد نقل السيوطي هذا المذهب فقال وتوسط ابن دقيق العيد فقال إذا كان التأويل قريبا من لسان العرب لم ينكر أو بعيدا توقفنا عنه وآمنا بمعناه على الوجه الذي أريد مع التنزيه وما كان معناه من هذه الألفاظ
ظاهرها مفهوما من تخاطب العرب قلنا به من غير توقف كما في قوله تعالى: {يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} فنحمله على حق الله وما يجب له اهـ.
تطبيق وتمثيل:
ولنطبق هذه المذاهب على قوله سبحانه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} فنقول يتفق الجميع من سلف وخلف على أن ظاهر الاستواء على العرش وهو الجلوس عليه مع التمكن والتحيز مستحيل لأن الأدلة القاطعة تنزه الله عن أن يشبه خلقه أو يحتاج إلى شيء منه سواء أكان مكانا يحل فيه أم غيره وكذلك اتفق السلف والخلف على أن هذا الظاهر غير مراد لله قطعا لأنه تعالى نفى عن نفسه المماثلة لخلقه وأثبت لنفسه الغنى عنهم فقال ليس كمثله شيء وقال: {هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} فلو أراد هذا الظاهر لكان متناقضا.
ثم اختلف السلف والخلف بعد ما تقدم فرأى السلفيون أن يفوضوا تعيين معنى الاستواء إلى الله هو أعلم بما نسبه إلى نفسه وأعلم بما يليق به ولا دليل عندهم على هذا التعيين ورأى الخلف أن يؤولوا لأنه يبعد كل البعد أن يخاطب الله عباده بما لا يفهمون وما دام ميدان اللغة متسعا للتأويل وجب التأويل بيد أنهم افترقوا في هذا التأويل فرقتين فطائفة الأشاعرة يؤولون من غير تعيين ويقولون إن المراد من الآية إثبات أنه تعالى متصف بصفة سمعية لا نعلمها على التعيين تسمى صفة الاستواء وطائفة المتأخرين يعينون فيقولون إن المراد بالاستواء هنا هو الاستيلاء والقهر من غير معاناة ولا تكلف لأن اللغة تتسع لهذا المعنى ومنه قول الشاعر العربي:
قد استوى بشر على العراق
…
من غير سيف ودم مهراق
أي استوى وقهر أو دبر وحكم فكذلك يكون معنى النص الكريم الرحمن
استولى على عرش العالم وحكم العالم بقدرته ودبره بمشيئته وابن دقيق العيد يقول بهذا التأويل إن رآه قريبا ويتوقف إن رآه بعيدا.
ومثل ذلك في نحو {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} {وَجَاءَ رَبُّكَ} {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} فالسلف يفوضون في معانيها تفويضا مطلقا بعد تنزيه الله عن ظواهرها المستحيلة والأشاعرة يفسرونها بصفات سمعية زائدة على الصفات التي نعلمها ولكنهم يفوضون الأمر في تعيين هذه الصفات إلى الله فهم مؤولون من وجه مفوضون من وجه والمتأخرون يفسرون الوجه بالذات ولفظ {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} بتربية موسى ملحوظا بعناية الله وجميل رعايته ولفظ اليد بالقدرة ولفظ اليمين بالقوة والفوقية بالعلو المعنوي دون الحسي والمجيء في قوله وجاء ربك بمجيء أمره والعندية في قوله {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} بالإحاطة والتمكن أو بمثل ذلك في الجميع.
إرشاد وتحذير:
لقد أسرف بعض الناس في هذا العصر فخاضوا في متشابه الصفات بغير حق وأتوا في حديثهم عنها وتعليقهم عليها بما لم يأذن به الله ولهم فيها كلمات غامضة تحتمل التشبيه والتنزيه وتحتمل الكفر والإيمان حتى باتت هذه الكلمات نفسها من المتشابهات ومن المؤسف أنهم يواجهون العامة وأشباههم بهذا ومن المحزن أنهم ينسبون ما يقولون إلى سلفنا الصالح ويخيلون إلى الناس أنهم سلفيون من ذلك قولهم إن الله تعالى يشار إليه بالإشارة الحسية وله من الجهات الست جهة الفوق ويقولون إنه استوى على عرشه بذاته استواء حقيقا بمعنى أنه استقر فوقه استقرارا حقيقيا غير أنهم يعودون فيقولون ليس كاستقرارنا وليس على ما نعرف وهكذا يتناولون أمثال هذه الآية وليس لهم مستند فيما نعلم إلا التشبث بالظواهر ولقد تجلى لك مذهب السلف والخلف فلا نطيل بإعادته
ولقد علمت أن حمل المتشابهات في الصفات على ظواهرها مع القول بأنها باقية على حقيقتها ليس رأيا لأحد من المسلمين وإنما هو رأي لبعض أصحاب الأديان الأخرى كاليهود والنصارى وأهل النحل الضالة كالمشبهة والمجسمة أما نحن معاشر المسلمين فالعمدة عندنا في أمور العقائد هي الأدلة القطعية التي توافرت على أنه تعالى ليس جسما ولا متحيزا ولا متجزئا ولا متركبا ولا محتاجا لأحد ولا إلى مكان ولا إلى زمان ولا نحو ذلك ولقد جاء القرآن بهذا في محكماته إذ يقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ويقول: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} ويقول: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} ويقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} وغير هذا كثير في الكتاب والسنة فكل ما جاء مخالفا بظاهره لتلك القطعيات والمحكمات فهو من المتشابهات التي لا يجوز اتباعها كما تبين لك فيما سلف.
ثم إن هؤلاء المتحمسين في السلف متناقضون لأنهم يثبتون تلك المتشابهات على حقائقها ولا ريب أن حقائقها تستلزم الحدوث وأعراض الحدوث كالجسمية والتجزؤ والحركة والانتقال لكنهم بعد أن يثبتوا تلك المتشابهات على حقائقها ينفون هذه اللوازم مع أن القول بثبوت الملزومات ونفي لوازمها تناقض لا يرضاه لنفسه عاقل فضلا عن طالب أو عالم فقولهم في مسألة الاستواء الآنفة إن الاستواء باق على حقيقته يفيد أنه الجلوس المعروف المستلزم للجسمية والتحيز وقولهم بعد ذلك ليس هذا الاستواء على ما نعرف يفيد أنه ليس الجلوس المعروف المستلزم للجسمية والتحيز فكأنهم يقولون إنه مستو غير مستو ومستقر فوق العرش غير مستقر أو متحيز غير متحيز وجسم غير جسم أو أن الاستواء على العرش ليس هو الاستواء على العرش والاستقرار فوقه ليس هو الاستقرار فوقه إلى غير ذلك من الإسفاف والتهافت فإن أرادوا بقولهم الاستواء على حقيقته أنه على حقيقته التي يعلمها الله ولا نعلمها نحن فقد اتفقنا لكن بقي أن تعبيرهم هذا موهم لا يجوز أن يصدر