الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
واجتهادهم في تعلم لفظه وتعلم معانيه وما يتشعب عن ذلك من جليل الفوائد وما يتكاثر في إتعاب النفوس وكد القرائح فيه من القرب والطاعات المفضية إلى جزيل الثواب ولأنه أبعد من التحريف والتبديل وأسلم من التنازع والاختلاف ولأنه لو نزل بألسنة الثقلين كلها مع وكثرتها وكان مستقلا بصفة الإعجاز في كل واحد منها وكلم الرسول العربي كل أمة بلسانها كما كلم أمته التي هو منها يتلوه عليهم معجزا لكان ذلك أمرا قريبا من الإلجاء اهـ باختصار طفيف.
وقوله قامت التراجم ببيانه وتفهيمه يشعر بأن مراده تفاسير القرآن بلغات أجنبية لا ترجمات القرآن نفسه بالمعنى العرفي وذلك لأن التفسير هو الذي يبين القرآن ويفهمه أما الترجمة فتصوير للأصل فحسب وليس من وظيفتها البيان والتفهيم ولو كان مراده بالترجمات ترجمات القرآن نفسه لم يستقم كلامه لأن الذين فهموا القرآن عن الرسول والذين نقلوه عنه لم يقوموا بترجمة القرآن الكريم إلى الأمم المختلفة إنما شرحوه لهم بعد أن بلغوهم نفس ألفاظه العربية.
ومما يؤيد ذلك قوله مع ما في ذلك من اتفاق أهل البلاد المتباعدة الخ لأن اجتماع الجميع على كتاب واحد لا يتأتى مع وجود ترجمات لنفس الكتاب بل هو مدعاة إلى الانصراف عن الأصل اكتفاء بالترجمات كما تقدم تفصيل ذلك فتأمل.
4 -
ترجمة القرآن بمعنى نقله إلى لغة أخرى
هذا هو الإطلاق الرابع المستند إلى اللغة ثم هو الإطلاق الوحيد في عرف التخاطب الأممي العام.
ويمكننا أن نعرف ترجمة القرآن بهذا الإطلاق تعريفا مضغوظا على نمط تعريفهم فنقول هي نقل القرآن من لغته العربية إلى لغة أخرى ويمكننا أن نعرفها تعريفا
مبسوطا فنقول ترجمة القرآن هي التعبير عن معاني ألفاظه العربية ومقاصدها بألفاظ غير عربية مع الوفاء بجميع هذه المعاني والمقاصد.
ثم إن لوحظ في هذه الترجمة ترتيب ألفاظ القرآن فتلك ترجمة القرآن الحرفية أو اللفظية أو المساوية وإن لم يلاحظ فيها هذا الترتيب فتلك ترجمة القرآن التفسيرية أو المعنوية.
والناظر فيما سلف من الكلام على معنى الترجمة وتقسيمها والفروق بينها وبين التفسير يستغني هنا عن شرح التعريف والتمثيل للمعرف في قسميه كما يستغني عن التدليل على أن هذا المعنى وحده هو المعنى الاصطلاحي الفريد في لسان التخاطب العام بين الأمم ويعلم أن ترجمة القرآن بهذا المعنى خلاف تفسيره بلغته العربية وخلاف تفسيره بغير لغته العربية وخلاف ترجمة تفسيره العربي ترجمة حرفية أو تفسيرية فارجع إلى هذا الذي أسلفناه إن شئت.
الحكم على هذه الترجمة بالاستحالة العادية:
أما حكم ترجمة القرآن بهذا المعنى فالاستحالة العادية والشرعية أي عدم إمكان وقوعها عادة وحرمة محاولتها شرعا ولنا على استحالتها العادية طريقان في الاستدلال:
الطريق الأول أن ترجمة القرآن بهذا المعنى تستلزم المحال وكل ما يستلزم المحال محال والدليل على أنها تستلزم المحال أنه لا بد في تحققها من الوفاء بجميع معاني القرآن الأولية والثانوية وبجميع مقاصده الرئيسية الثلاثة وكلا هذين مستحيل أما الأول فلأن المعاني الثانوية للقرآن مدلولة لخصائصه العليا التي هي مناط بلاغته وإعجازه كما بينا من قبل وما كان لبشر أن يحيط بها فضلا عن أن يحاكيها في كلام له وإلا لما تحقق هذا الإعجاز وأما الثاني فلأن المقصد الأول من القرآن وهو كونه هداية إن
أمكن تحقيقه في الترجمة بالنسبة إلى كل ما يفهم من معاني القرآن الأصلية فهو لا يمكن تحقيقه بالنسبة إلى كل ما يفهم من معاني القرآن التابعة لأنها مدلولة لخصائصه العليا التي هي مناط إعجازه البلاغي كما سبق.
وكذلك مقصد القرآن الثاني وهي كونه آية لا يمكن تحقيقه فيما سواه من كلام البشر عربيا كان أو عجميا وإلا لما صح أن يكون أية خارقة ومعجزة غير ممكنة حين تتناول هذا المقصد قدرة البشر كيف والمفروض أن القرآن آية بل آيات ومعجزة بل معجزات لا يقدر عليها إلا الله وحده جل وعلا؟!.
ويجري هذا المجرى مقصد القرآن الثالث وهو كونه متعبدا بتلاوته فإنه لا يمكن أن يتحقق في الترجمة لأن ترجمة القرآن غير القرآن قطعا والتعبد بالتلاوة إنما ورد في خصوص القرآن وألفاظه عينها بأساليبها وترتيباته نفسها دون أي ألفاظ أو أساليب أخرى ولو كانت عربية مرادفة الألفاظ الأصل وأساليبه.
الطريق الثاني أن ترجمة القرآن بهذا المعنى مثل للقرآن وكل مثل للقرآن مستحيل أما أنها مثل له فلأنها جمعت معانيه كلها ومقاصده كلها لم تترك شيئا والجامع لمعاني القرآن ومقاصده مثل له أي مثل وأما أن كل مثل للقرآن مستحيل فلأن القرآن تحدى العرب أن يأتوا بمثل أقصر سورة منه فعجزوا عن المعارضة والمحاكاة وهم يومئذ أئمة البلاغة والبيان وأحرص ما يكونون على الغلبة والفوز في هذا الميدان وإذا كان هؤلاء قد عجزوا وانقطعوا فغيرهم ممن هم دونهم بلاغة وبيانا أشد عجزا وانقطاعا وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صدقين فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين وإذا كان الإنس والجن قد حقت عليهم كلمة العجز عن أن يأتوا بمثل أقصر سورة منه بلغته العربية فأحرى أن يكون عجزهم أظهر لو حاولوا هذه المعارضة بلغة غير عربية لأن اتحاد اللغة في المساجلة بين كلامين من شأنه أن يقرب
التشابه والتماثل إذا كانا ممكنين نظرا إلى أن الخصائص البلاغية واحدة فيما به التحدي وما به المعارضة أما إذا اختلفت لغة التحدي ولغة المعارضة فهيهات أن يتحقق التشابه والتماثل بدقة لأن الخصائص البلاغية في أحد اللسانين غير الخصائص البلاغية في اللسان الآخر ويوجد منها في أحدهما ما يوجد في الآخر فيتعين التفاضل ويتعذر التماثل قطعا ولهذا يصرح كثير من المتمكنين في اللغات بأن ترجمة النصوص الأدبية في أية لغة ترجمة دقيقة أمر مستحيل وأن ما يتداوله الناس مما يزعمونة ترجمات لبعض كتب أدبية فهو مبني على ضرب من التسامح في نقل معاني الأصل وأغراضه بالتقريب لا بالتحقيق وذلك غير الترجمات الدقيقة لمثل العلوم والقوانين والوثائق المنضبطة فإنها ترجمات حقيقية مبنية على نقل معاني الأصل وأغراضه كلها بالتحقيق لا بالتقريب.
ولكي نوضح لك معنى المثلية المستحيلة في ترجمة القرآن بهذا المعنى نرشدك إلى أن هذه الترجمة لا تتحقق إلا بأمور بعضها مستحيل وبعضها ممكن ذلك أنه لا بد فيها على ضوء ما تقدم من أن تكون وافية بجميع معاني القرآن الأصلية والتابعة على وجه مطمئن وأن تكون وافية كذلك بجميع مقاصده الثلاثة الرئيسية وتلك أمور مستحيلة التحقق كما سبق بيانه ثم لا بد فيها أيضا من أن تكون صيغتها صيغة استقلالية خالية من الاستطراد والتزيد وتلك أمور ممكنة الوقوع في ذاتها لكنها إذا أضيفت إلى سابقتها كان المجموع مستحيلا لأن المؤلف من الممكن والمستحيل مستحيل.
فإذا أريد بعد ذلك أن تكون ترجمة القرآن هذه حرفية وجب أن يعتبر فيها أمران زائدان وجود مفردات في لغة الترجمة مساوية لمفردات القرآن ووجود ضمائر وروابط في لغة الترجمة مساوية لروابط القرآن حتى يمكن أن يحل كل مفرد من الترجمة محل نظيرة من الأصل كما هو المشروط في الترجمة الحرفية وهذا لعمر الله مما يزيد التعذر استفحالا والاستحالة إيغالا ويجعل هذه الترجمة لو وجدت مثلا للقرآن يا له من مثل وشبيها لا يطاوله شبيه ومعارضا لا يغالبه معارض وقد عرفت دليل
بطلان كل ما يصدق عليه أنه مثل للقرآن وفي هذا يقول الله سبحانه: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} فنفي المثلية عن القرآن كما نفى المثلية عن نفسه في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وبالغ في النفي وفي التحدي فجمع الإنس والجن على هذا العجز ثم أكد هذا النفي وهذا التحدي مرة أخرى بتقرير عجز الثقلين عن المثلية على فرض معاونة بعضهم لبعض فيها واجتماع قواهم البيانية والعلمية عليها.
الحكم على هذه الترجمة بالاستحالة الشرعية:
الآن وقد تقرر أن ترجمة القرآن بهذا المعنى العرفي من قبيل المستحيل العادي لا نتردد أن نقرر أيضا أنها من قبيل المستحيل الشرعي أي المحظور الذي حرمه الله وذلك من وجوه ثمانية:
الوجه الأول أن طلب المستحيل العاجي حرمه الإسلام أيا كان هذا الطلب ولو بطريق الدعاء وأيا كان هذا المستحيل ترجمة أو غير ترجمة لأنه ضرب من العبث وتضييع للوقت والمجهود في غير طائل والله تعالى يقول: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا ضرر ولا ضرار" رواه الحاكم في المستدرك وقال صحيح على شرط مسلم يضاف إلى ذلك أن طلب المستحيل العادي غفلة أو جهل بسنن الله الكونية وبحكمته في ربط الأسباب بمسبباتها العادية تطمينا لخلقه ورجمة بعباده: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} .
ولقد يعذر بعض الجهلة إذا ظنوا أن بعض المحالات أمور ممكنة فطلبوها ولكن الذي يحاول ترجمة القرآن بهذا المعنى لا يعذر بحال لأن القرآن نفسه أعذر حين أنذر بأنه لا يمكن أن يأتي الجن والإنس بمثله وإن اجتمعوا له وكان بعضهم لبعض ظهيرا وبذلك قطعت جهيزة قول كل خطيب.
الوجه الثاني أن محاولة هذه الترجمة فيها ادعاء عمل لإمكان وجود مثل أو أمثال للقرآن وذلك تكذيب شنيع لصريح الآية السابقة ولقوله سبحانه: {قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} .
فإن المتأمل في هاتين الآيتين يجد فيهما وجوها دالة على التحريم حيث عنون الله عن طلاب التبديل بأنهم لا يرجون لقاءه وأمر الرسول أن ينفى نفيا عاما إمكانه تبديله من تلقاء نفسه كما أمره أن يعلن أن اتباعه مقصور على ما يوحى إليه نسخا أو إحكاما ومعنى هذا أن التبديل هو هوى من الأهواء الباطلة والرسول لا يتبع أهواءهم ولا هوى نفسه ولا هوى أحد: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} وفي ختام الآية الأولى إشارة إلى أن هذه المحاولة التي يحاولونها عصيان لله وأنه يخاف منها عذاب يوم عظيم وفي الآيه الثانية إعلام بأن القرآن من محض فضل الله وأن الرسول ما كان يستطيع تلاوته عليهم ولا كان يعلمهم به على لسان رسوله لولا مشيئة الله وإيحاؤه به ثم حاكمهم إلى الواقع وهو أن الرسول نشأ بينهم وعاش عمرا طويلا فيهم حتى عرفوا حديثه وأسلوبه وأنه مهما حلق في سماء البلاغة فبينه وبين حديث القرآن وأسلوبه بعد ما بين مكانة الخالق وأفضل الخلق وأنه ما كان ينبغي أن يفتري الكذب على الله ويدعي أنه أوحى إليه ولم يوح إليه على حين أنه معروف بينهم بأنه الصادق الأمين فما كان ليذر الكذب على الناس ثم يكذب على الله ثم أعلن القرآن أخيرا أن هذا الطلب إهمال منهم لمقتضى العقل والنظر وانحطاط إلى دركة الحيوان والحجر إذ قال لهم: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} .
وإذا كان هذا مبلغ نعي القرآن على طلاب بدل للقرآن أو مثيل له من الرسول صلى الله عليه وسلم الأعظم وهو أفصح الناس لسانا وبيانا وأعلمهم بمعاني القرآن ومقاصده وأعرفهم بإسرار الإسلام وروح تشريعه فما بالك بطلاب هذه الترجمة والساعين إليها ممن هل أقل شأنا من الرسول صلى الله عليه وسلم مهما قيل في علمهم وفضلهم وجلالة قدرهم؟.
الوجه الثالث أن محاولة هذه الترجمة تشجع الناس على انصرافهم عن كتاب ربهم مكتفين ببدل أو أبدال يزعمونها ترجمات له وإذا امتد الزمان بهذه الترجمات فسيذهب عنها اسم الترجمة ويبقى اسم القرآن وحده علما عليها ويقولون هذا قرآن بالانجليزية وذاك قرآن بالفرنسية وهكذا ثم يحذفون هذا المتعلق بعد يجتزئون بإطلاق لفظ القرآن على الترجمة ومن كان في شك فليسأل متعارف الأمم فيما بين أيديهم من ترجمات وما لنا نذهب بعيدا فلنسائل أنفسنا نحن ما بالنا نقول بملء فمنا هذه رواية ماجدولين لترجمتها العربية والأصل فرنسي وهذا إنجيل برنابا أو يوحنا لترجمتهما العربية والأصل غير عبري إلى غير ذلك من إطلاقاتنا الكثيرة على ترجمات شتى في الدين والعلم والأدب والقوانين والوثائق ونحوها.
وهاك شاهدا أبلغ من ذلك كله جاء في ملحق لمجلة الأزهر أن أهالي جاوه المسلمين يقرؤون الترجمة الإفرنجية ويقرئونها أولادهم ويعتقدون أن ما يقرؤون هو القرآن الصحيح اهـ فقل لي بربك ما الذي يمنع كل قطر من الأقطار الإسلامية وغير الإسلامية إذن أن يكون له قرآن من هذا الطراز لو ذهبنا إلى القول بجواز هذه الترجمة وهل تشك بعد ذلك في حرمة كل ما يؤدي إلى صرف الناس عن كتاب الله وإلى تفرقهم عنه وضلالهم في مسماه؟.
الوجه الرابع أننا لو جوزنا هذه الترجمة ووصل الأمر إلى حد أن يستغني الناس عن القرآن بترجمانه لتعرض الأصل العربي للضياع كما ضاع الأصل العبري للتوراة
والإنجيل وضياع الأصل العربي نكبة كبرى تغري النفوس على التلاعب بدين الله تبديلا وتغييرا ما دام شاهد الحق قد ضاع ونور الله قد أنطفأ والمهيمن على هذه الترجمات قد زال لا قدر الله ولا ريب أن كل ما يعرض الدين للتغيير والتبديل وكل مل يعرض القرآن للإهمال والضياع حرام بإجماع المسلمين.
الوجه الخامس أننا إذا فتحنا باب هذه الترجمات الضالة تزاحم الناس عليها بالمناكب وعملت كل أمة وكل طائفة على أن تترجم القرآن في زعمها بلغتها الرسمية والعامية ونجم عن ذلك ترجمات كثيرات لا عداد لها وهي بلا شك مختلفة فيما بينها فينشأ عن ذلك الاختلاف في الترجمات خلاف حتمي بين المسلمين أشبه باختلاف اليهود والنصارى في التوراة والإنجيل وهذا الخلاف يصدع بناء المسلمين ويفرق شملهم ويهيء لأعدائهم فرصة للنيل منهم ويوقظ بينهم فتنة عمياء كقطع الليل المظلم فيقول هؤلاء لأولئك قرآننا خير من قرآنكم ويرد أولئك على هؤلاء تارة بسب اللسان وأخرى بحد الحسام ويخرون ضحايا هذه الترجمات بعد أن كانوا بالأمس إخوانا يوحد بينهم القرآن ويؤلف بينهم الإسلام وهذه الفتنة لا أذن بها الله أشبه بل هي أشد من الفتنة التي أوجس خيفة منها أمير المؤمنين عثمان بن عفان وأمر بسببها أن تحرق جميع المصاحف الفردية وأن يجتمع المسلمون على تلك المصاحف العثمانية الإجماعية.
الوجه السادس أن قيام هذه الترجمات الآثمة يذهب بمقوم كبير من مقومات وجود المسلمين الاجتماعي كأمة عزيزة الجناب قوية السناد ذلك أنهم سيقنعون غدا بهذه الترجمات كما قلنا ومتى قنعوا بها فسيستغنون لا محالة عن لغة الأصل وعلومها وآدابها وأنت تعلم التاريخ يشهد أنها رباط من أقوى الروابط فيما بينها وكان لهذا الرباط أثره الفعال العظيم في تدعيم وحدة الأمة وبنائها حين كانوا يقرؤون القرآن نفسه ويدرسون من أجله علوم لغته العربية وآدابها تذرعا إلى حسن أدائه وفهمه حتى خدموا هذه العلوم ونبغوا فيها ولمع في سمائها رجال من الأعجام بزوا كثيرا من أعلام
العرب في خدمتها وخدمة كتاب الله وعلومه بها وبهذا قامت اللغة العربية لسانا عاما للمسلمين ورابطا مشتركا بينهم على اختلاف أجناسهم ولغاتهم الإقليمية بل ذاب كثير من اللغات الإقليمية في هذه اللغة الجديدة لغة القرآن الكريم.
وإن كنت في ريب فسائل التاريخ عن وحدة المسلمين وعزتهم يوم كانت اللغة العربية صاحبة الدولة والسلطان في الأقطار الإسلامية شرقية وغربية عربية وعجمية يوم كانت لغة التخاطب بينهم ولغة المراسلات ولغة الأذان والإقامة والصلوات ولغة الخطابة في الجمع والأعياد والجيوش والحفلات ولغة المكاتبات الرسمية بين خلفاء المسلمين وأمرائهم وقوادهم وجنودهم ولغة مدارسهم ومساجدهم وكتبهم ودواوينهم.
ونحن في هذا العصر الذي زاحمتنا فيه اللغات الأجنبية وصارت جربا على لغتنا العربية حتى تبلبلت ألسنتنا وألسنة أبنائنا وخاصتنا وعامتنا يتأكد علينا أمام هذا الغزو اللغوي الجائح أن نحشد قوانا لحماية لغتنا والدفاع عن وسائل بقائها وانتشارها وفي مقدمة هذه الوسائل إبقاء القرآن على عربيته والضرب على أيدي العاملين على ترجمته وما ينبغي لنا أن نحطب في حبلهم ولا أن نسايرهم في قياس ترجمة القرآن بهذا المعنى على ترجمة غيره في الجواز والإمكان فأين الثرى من الثريا وأين كلام العبد العاجز من كلام الله المعجز وما أشبه هؤلاء بالمفتونين من أمة موسى حين جاوز الله بهم البحر وأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم: {قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ نَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} !.
جاء في كتاب الرسالة للشافعي ما خلاصته إنه يجب على غير العرب أن يكونوا تابعين للسان العرب وهو لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعا كما يجب أن يكونوا تابعين له دينا وأن الله تعالى قضى أن ينذروا بلسان العرب خاصة ثم قال فعلى كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما بلغه جهده حتى يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ويتلو به كتاب الله وينطق بالذكر فيما افترض عليه من التكبير
وأمر به من التسبيح والتشهد وغير ذلك وكلما ازداد من العلم باللسان الذي جعله الله لسان من ختم به نبوته وأنزل به آخر كتبه كان خيرا له.
وجاء في كتاب الرسالة أيضا أن المسور بن مخرمة رأى رجلا أعجمي أراد أن يتقدم للصلاة فمنعه المسور بن مخرمة وقدم غيره ولما سأله عمر رضي الله عنه في ذلك قال له إن الرجل كان أعجمي اللسان وكان في الحج فخشيت أن يسمع بعض الحاج قراءته فيأخذ بعجمته فقال له عمر أصبت وقال الشافعي لقد أحببت ذلك اهـ قال في الكشاف الأعجمي من لا يفهم كلامه للكنته أو لغرابة لغته فجاز أن يكون لسانه ألكن أو تكون لغته غريبة.
الوجه السابع أن الأمة أجمعت على عدم جواز رواية القرآن بالمعنى وأنت خبير بأن ترجمة القرآن بهذا المعنى العرفي تساوي روايته بالمعنى فكلتاهما صيغة مستقلة وافية بجميع معاني الأصل ومقاصده لا فرق بينهما إلا في القشرة اللفظية فالرواية بالمعنى لغتها لغة الأصل وهذه الترجمة لغتها غير لغة الأصل وعلى هذا يقال إذا كانت رواية القرآن بالمعنى في كلام عربي ممنوعة إجماعا فهذه الترجمة ممنوعة كذلك قياسا على هذا المجمع عليه بل هي أحرى بالمنع للاختلاف بين لغتها ولغة الأصل.
الوجه الثامن أن الناس جميعا مسلمين وغير مسلمين تواضعوا على أن الأعلام لا يمكن ترجمتها سواء أكانت موضوعة لأشخاص من بني الإنسان أم لأفراد من الحيوان أم لبلاد وأقاليم أم لكتب ومؤلفات حتى إذا وقع علم من هذه الأعلام أثناء ترجمة ما ألفيته هو هو ثابتا لا يتغير عزيزا لا ينال متمتعا بحصانته العلمية لا ترزؤه الترجمة شيئا ولا تنال منه منالا وما ذاك إلا لأن واضعي هذه الأعلام قصدوا ألفاظها بذاتها واختاروها دون سواها للدلالة على مسمياتها فكذلك القرآن الكريم علم رباني قصد الله سبحانه ألفاظه دون غيرها وأساليبه دون سواها لتدل على هداياته وليؤيد بها