الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذلك طائعا مختارا وهبط على اسم الله حتى إذا لقي موسى سأله موسى ما فعل ربك قال فرض علي وعلى أمتي خمسين صلاة فقال له موسى ارجع إلى ربك واسأله التخفيف وذكر له أنه خبر بني إسرائيل من قبله فعجزوا وما زال به حتى رجع إلى مقام المناجاة وسأل التخفيف من مولاه فحط عنه خمسا وعاد إلى موسى فراجعه وما زال يرجع بين موسى وربه وفي كل مرة يحط الله عنه خمسا حتى لم يبق إلا خمس من الخمسين وأشار عليه موسى أيضا أن يرجع ويسأل التخفيف فاعتذر بأنه سأل حتى استحيى فهل بعد ذلك كله يصح في الأذهان أن يقال أو أن يفهم أن فرض الخمسين لم يكن فرضا عزما وأن الله فرض الأمر في اختيار الخمسين أو الخمس إلى مشيئة رسوله؟ {إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً} .
النسخ في دورانه بين الكتاب والسنة
النسخ في الشريعة الإسلامية قد يرد به القرآن وقد ترد به السنة والمنسوخ كذلك قد يرد به القرآن وقد ترد به السنة فالأقسام أربعة.
1 -
نسخ القرآن بالقرآن
القسم الأول نسخ القرآن بالقرآن وقد أجمع القائلون بالنسخ من المسلمين على جوازه ووقوعه أما جوازه فلأن آيات القرآن متساوية في العلم بها وفي وجوب العمل بمقتضاها وأما وقوعه فلما ذكرنا وما سنذكر من الآيات الناسخة والمنسوخة وهذا القسم يتنوع إلى أنواع ثلاثة نسخ التلاوة والحكم معا ونسخ الحكم دون التلاوة ونسخ التلاوة دون الحكم وقد أشبعنا الكلام عليها فيما سبق.
2 -
نسخ القرآن بالسنة
القسم الثاني نسخ القرآن بالسنة وقد اختلف العلماء في هذا القسم بين مجوز ومانع ثم اختلف المجوزون بين قائل بالوقوع وقائل بعدمه وإذن يجري البحث في مقامين اثنين مقام الجواز ومقام الوقوع.
أ - مقام الجواز
القائلون بالجواز هم مالك وأصحاب أبي حنيفة وجمهور المتكلمين من الأشاعرة والمعتزلة وحجتهم أن نسخ القرآن بالسنة ليس مستحيلا لذاته ولا لغيره أما الأول فظاهر وأما الثاني فلأن السنة وحي من الله كما أن القرآن كذلك لقوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} ولا فارق بينهما إلا أن ألفاظ القرآن من ترتيب الله وإنشائه وألفاظ السنة من ترتيب الرسول وإنشائه والقرآن له خصائصه وللسنة خصائصها وهذه الفوارق لا أثر لها فيما نحن بسبيله ما دام أن الله هو الذي ينسخ وحيه بوحيه وحيث لا أثر لها فنسخ أحد هذين الوحيين بالآخر لا مانع يمنعه عقلا كما أنه لا مانع يمنعه شرعا أيضا فتعين جوازه عقلا وشرعا.
هذه حجة المجيزين أما المانعون وهم الشافعي وأحمد في إحدى روايتين عنه وأكثر أهل الظاهر فيستدلون على المنع بأدلة خمسة وها هي ذي مشفوعة بوجوه نقضها:
دليلهم الأول أن الله تعالى يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} وهذا يفيد أن وظيفة الرسول منحصرة في بيان القرآن والسنة إن نسخت القرآن لم تكن حينئذ بيانا له بل تكون رافعة إياه.
وننقض هذا الاستدلال أولا بأن الآية لا تدل على انحصار وظيفة السنة في البيان لأنها خالية من جميع طرق الحصر وكل ما تدل عليه الآية هو أن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم مبينة للقرآن وذلك لا ينفي أن تكون ناسخة له ونظير هذه الآية قول سبحانه تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا فإنه يفيد أنه نذير للعالمين ولا تنفي عنه أنه بشير أيضا للعالمين.
ثانيا أن وظيفة السنة لو انحصرت في بيان القرآن ما صح أن تستقل بالتشريع من نحو إيجاب وتحريم مع أن إجماع الأمة قائم على أنها قد تستقل بذلك كتحريمه صلى الله عليه وسلم كل ذي مخلب من الطيور وكل ذي ناب من السباع وكحظره أن يورث بقوله: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة".
ثالثها أن السنة نفسها نصت على أنها قد تستقل بالتشريع وإفادة الأحكام يحدثنا العرباض بن سارية رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فقال: "أيحسب أحدكم متكئا على أريكة يظن أن الله لم يحرم شيئا إلا ما في هذا القرآن ألا إني قد أمرت ووعظت ونهيت عن أشياء إنها لمثل القرآن أو أكثر وإن الله لم يحل لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلا بإذن ولا ضرب نسائهم ولا أكل ثمارهم إلا إذا أعطوكم الذي فرض عليهم".
رابعا أنه على فرض دلالة الآية على الحصر فالمراد بالبيان فيها التبليغ لا الشرح وقد بلغ الرسول كل ما أنزله الله إلى الناس وهذا لا ينافي أنه نسخ ما شاء الله نسخه بالسنة.
خامسا أنه على فرض دلالة الآية على الحصر ودلالة البيان على خصوص الشرح فإن المراد بما أنزل إلى الناس هو جنسه الصادق ببعضه وهذا لا ينافي
أن تكون السنة ناسخة لبعض آخر فيكون الرسول مبينا لما ثبت من الأحكام وناسخا لما ارتفع منها.
دليلهم الثاني أن القرآن نفسه هو الذي أثبت أن السنة النبوية حجة فلو نسخته السنة لعادت على نفسها بالإبطال لأن النسخ رفع وإذا ارتفع الأصل ارتفع الفرع والدليل على أن القرآن هو الذي أثبت حجية السنة ما نقرؤه فيه من مثل قوله سبحانه: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} ، {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ، {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}
وننقض هذا الاستدلال أولا بأن كلامنا ليس في جواز نسخ السنة لنصوص القرآن الدالة على حجيتها حتى ترجع على نفسها بالإبطال بل هو في جواز نسخ ما عدا ذلك مما يصح أن يتعلق به النسخ.
ثانيا أن ما استدلوا به حجة عليهم لأن وجوب طاعة الرسول وابتاعه يقضي بوجوب قبول ما جاء به على أنه ناسخ.
دليلهم الثالث أن قوله تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} قد جاء ردا على من أنكروا النسخ وعابوا به الإسلام ونبي الإسلام بدليل قوله سبحانه قبل هذه الآية: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} ومعلوم أن روح القدس إنما ينزل بالقرآن وإذن فلا ينسخ القرآن إلا بقرآن.
وننقض هذه الاستدلال بأن الكتاب والسنة كلاهما وحي من الله وكلاهما نزل به روح القدس بدليل قوله سبحانه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} فالذهاب إلى أن ما ينزل به روح القدس هو خصوص القرآن باطل
دليلهم الرابع أن الله تعالى يقول: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} وهذا يفيد أن السنة لا تنسخ القرآن لأنها نابعة من نفس الرسول صلى الله عليه وسلم.
وندفع هذا الاستدلال بمثل ما دفعنا به سابقه وهو أن السنة ليست نابعة من نفس الرسول على أنها هوى منه وشهوة بل معانيها موحاة من الله تعالى إليه وكل ما استقل به الرسول صلى الله عليه وسلم أنه عبر عنها بألفاظ من عنده فهي وحي يوحى وليست من تلقاء نفسه على هذا الاعتبار وإذن فليس نسخ القرآن بها تبديلا له من تلقاء نفسه إنما هو تبديل يوحى.
دليلهم الخامس أن آية ما ننسخ من آية أو ننسها تدل على امتناع نسخ القرآن بالسنة من وجوه ثلاثة أولها أن الله تعالى قال نأت بخير منها أو مثلها والسنة ليست خيرا من القرآن ولا مثله.
ثانيها أن وقوله نأت يفيد أن الآتي هو الله والسنة لم يأت بها الله إنما الذي أتى بها رسوله.
ثالثها أن قوله: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} يفيد أن النسخ لا يصدر إلا عمن له الاقتدار الشامل والملك الكامل والسلطان المطلق وهو الله وحده.
وندفع الوجه الأول من هذا الاستدلال بأن النسخ في الآية الكريمة أعم من أن يكون في الأحكام أو في التلاوة والخيرية والمثلية أعم من أن تكونا في المصلحة أو في الثواب وقد سبق بيان ذلك وإذن فقد تكون السنة الناسخة خيرا من القرآن المنسوخ من هذه الناحية وإن كان القرآن خيرا من السنة من ناحية امتيازه بخصائصه العليا دائما.
وندفع الوجه الثاني بأن السنة وحي من الله وما الرسول صلى الله عليه وسلم إلا مبلغ ومعبر عنها فقط فالآتي بها على الحقيقة هو الله وحده.
وندفع الوجه الثالث بانا نقول بموجبه وهو أن الناسخ في الحقيقة هو الله وحده والسنة إذا نسخته فإنما تنسخه من حيث إنها وحي صادر منه سبحانه.
شبهتان ودفعهما
1 -
لقائل أن يقول إن من السنة ما يكون ثمرة لاجتهاده صلى الله عليه وسلم وهذا ليس وحيا أوحي إليه به بدليل العتاب الذي وجهه القرآن إلى الرسول في لطف تارة وفي عنف أخرى فكيف يستقيم بعد هذا أن نقول إن السنة وحي من الله؟.
والجواب أن مرادنا هنا بالسنة ما كانت عن وحي جلي أو خفي أما السنة الاجتهادية فليست مرادة هنا ألبتة لأن الاجتهاد لا يكون إلا عند عدم النص فكيف يعارضه ويرفعه وقد شرحنا أنواع السنة في كتابنا المنهل الحديث في علوم الحديث فارجع إليه إن شئت.
2 -
ولقائل أن يقول إن من السنة ما كان آحاديا وخبر الواحد مهما صح فإنه لا يفيد القطع والقرآن قطعي المتن فكيف ينسخ بالسنة التي لا تفيد القطع ومتى استطاع الظن أن يرفع اليقين؟.
والجواب أن المراد بالسنة هنا السنة المتواترة دون الآحادية والسنة المتواترة قطيعة الثبوت أيضا كالقرآن فهما متكافئان من هذه الناحية فلا مانع أن ينسخ أحدهما الآخر أما خبر الواحد فالحق عدم جواز نسخ القرآن به للمعنى المذكور وهو أنه ظني والقرآن قطعي والظني أضعف من القطعي فلا يقوى على رفعه.
والقائلون بجواز نسخ القرآن بالسنة الأحادية اعتمادا على أن القرآن ظني للدلالة حجتهم داحضة لأن القرآن إن لم يكن قطعي الدلالة فهو قطعي
الثبوت والسنة الآحادية ظنية الدلالة والثبوت معا فهي أضعف منه فكيف ترفعه؟.
ب - مقام الوقوع:
ما أسلفناه بين يديك كان في الجواز أما الوقوع فقد اختلف المجوزون فيه منهم من أثبته ومنهم من نفاه {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} وهاك وجهة كل من الفريقين لتعرف أن الحق مع النافين.
استدل المثبتون على الوقوع بأدلة أربعة:
الدليل الأول أن آية الجلد وهي: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} تشمل المحصنين وغيرهم من الزناة ثم جاءت السنة فنسخت عمومها بالنسبة إلى المحصنين وحكمت بأن حزاءهم الرجم.
وقد ناقش النافون هذا الدليل بأمرين أحدهما أن الذي ذكروه تخصيص لا نسخ والآخر أن آية الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموها ألبتة هي المخرجة لصور التخصيص وإن جاءت السنة موافقة لها وقد سبق الكلام على آية الشيخ والشيخة في عداد ما نسخت تلاوته وبقي حكمه فلا تغفل.
الدليل الثاني أن قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} منسوخ بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا وصية لوارث".
وقد ناقشه النافون بأمرين:
أولهما أن الحديث المذكور خبر آحاد وقد تقرر أن الحق عدم جواز نسخ القرآن بخبر الآحاد.
ثانيهما أن الحديث بتمامه يفيد أن الناسخ هو آيات المواريث لا هذا الحديث وإليك النص الكامل للحديث المذكور: "إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث".
ويؤيد ذلك ما أخرجه أبو داود في صحيحه ونصه عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} وكانت الوصية كذلك حتى نسختها آية المواريث.
الدليل الثالث أن قوله سبحانه: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} منسوخ بقوله صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم".
وقد ناقشه النافون أولا بأن الناسخ هنا هو آية الجلد وآية الشيخ والشيخة وإن جاء الحديث موافقا لهما.
ثانيا بأن ذلك تخصيص لا نسخ لأن الحكم الأول جعل الله له غاية هو الموت أو صدور تشريع جديد في شأن الزانيات وقد حققنا أن رفع الحكم ببلوغ غايته المضروبة في دليله الأول ليس نسخا.
الدليل الرابع أن نهيه عن كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطيور ناسخ لقوله سبحانه: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} .
وقد ناقشه النافون بأن الآية الكريمة لم تتعرض لإباحة ما عدا الذي ذكر فيها
إنما هو مباح بالبراءة الأصلية والحديث المذكور ما رفع إلا هذه البراءة الأصلية ورفعها لا يسمى نسخا كما سلف بيانه.
من هذا العرض يخلص لنا أن نسخ القرآن بالسنة لا مانع يمنعه عقلا ولا شرعا غاية الأمر أنه لم يقع لعدم سلامة أدلة الوقوع كما رأيت.
3 -
نسخ السنة بالقرآن
هذا هو القسم الثالث وفيه خلاف العلماء أيضا بين تجويز ومنع على نمط ما مر في القسم الثاني بيد أن صوت المانعين هنا خافت وحجتهم داحضة أما المثبتون فيؤيدهم دليل الجواز كما يسعفهم برهان الوقوع ولهذا نجد في صف الإثبات جماهير الفقهاء والمتكلمين ولا نرى في صف النفي سوى الشافعي في أحد قوليه ومعه شرذمة من أصحابه ومع ذلك فنقل هذا عن الشافعي فيه شيء من الاضطراب أو إرادة خلاف الظاهر.
دليل الجواز:
استدل المثبتون على الجواز هنا بمثل ما استدلوا على القسم السالف فقالوا إن نسخ السنة بالقرآن ليس مستحيلا لذاته ولا لغيره أما الأول فظاهر وأما الثاني فلأن السنة وحي كما أن القرآن وحي ولا مانع من نسخ وحي بوحي لمكان التكافؤ بينهما من هذه الناحية.
أدلة للوقوع والجواز:
واستدلوا على الوقوع بوقائع كثيرة كل واقعة منها دليل على الجواز كما هي دليل على الوقوع لما علمت من أن الوقوع يدل على الجواز وزيادة.
من تلك الوقائع أن استقبال بيت المقدس في الصلاة لم يعرف إلا من السنة وقد نسخه قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} .
ومنها أن الأكل والشرب والمباشرة كان محرما في ليل رمضان على من صام ثم نسخ هذا التحريم بقوله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} .
ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أبرم مع أهل مكة عام الحديبية صلحا كان من شروطه أن من جاء منهم مسلما رده عليهم وقد وفى بعده في أبي جندل وجماعة من المكيين جاؤوا مسلمين ثم جاءته امرأة فهم أن يردها فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ} الآية.
شبهة للمانعين ودفعها:
أورد المانعون على هذا الاستدلال المعتمد على تلك الوقائع شبهة قالوا في تصويرها يجوز أن يكون النسخ فيما ذكرتم ثابتا بالسنة ثم جاء القرآن موافقا لها وبهذا يؤول الأمر إلى نسخ السنة بالسنة ويجوز أن الحكم المنسوخ كان ثابتا أولأ بقرآن نسخت تلاوته ثم جاءت السنة موافقة له وبهذا يؤول الأمر إلى نسخ قرآن بقرآن.
وندفع هذه الشبهة بأنها قائمة على مجرد احتمالات واهية لا يؤيدها دليل ولو فتحنا بابها وجعلنا لها اعتبارا لما جاز لففيه أن يحكم على نص بأنه ناسخ لآخر إلا إذا ثبت ذلك صريحا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن ذلك باطل بإجماع الأمة على خلافه واتفاقها على أن الحكم إنما يسند إلى دليله الذي لا يعرف سواه بعد الاستقراء الممكن.
أدلة المانعين ونقضها:
1 -
قالوا إن قوله سبحانه وتعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} يفيد أن السنة ليست إلا بيانا للقرآن فإذا نسخها القرآن خرجت عن كونها بيانا له.
وننقض هذا بأن الآية ليس فيها طريق من طرق الحصر وعلى فرض وجود الحصر فالمراد بالبيان في الآية التبليغ لا الشرح ولا ريب أن التبليغ إظهار وعلى فرض أن الآية حاصرة للسنة في البيان بمعنى الشرح لا التبليغ فبيانها بعد النسخ باق في الجملة وذلك بالنسبة لما لم ينسخ منها وأنت تعلم أن بقاء الحكم الشرعي مشروط بعدم ورود ناسخ فتدبر ولاحظ التفصيل الذي ذكرناه هناك في نقض الدليل لمانعي نسخ القرآن بالسنة فإنه يفيدك هنا.
2 -
قال المانعون أيضا إن نسخ السنة بالقرآن يلبس على الناس دينهم ويزعزع ثقتهم بالسنة ويوقع في روعهم أنها غير مرضية لله وذلك يفوت مقصود الشارع من وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته واقتداء الخلق به في أقواله وأفعاله ولا ريب أن هذا باطل فما استلزمه وهو نسخ السنة بالقرآن باطل.
وننقض هذا الاستدلال أولا بأن مثله يمكن أن يقال في أي نوع آخر من أنواع النسخ التي تقولون بها فما يكون جوابا لكم يكون مثله جوابا لنا.
ثانيا أن ما ذكروه من استلزام نسخ السنة بالقرآن لهذه الأمور الباطلة غير صحيح لأن أدلة القرآن متوافرة على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى وذلك يمنع لزوم هذه المحاولات الفاسدة ويجعل نسخ السنة بالقرآن كنسخ السنة بالسنة والقرآن بالقرآن في نظر أي منصف كان.
4 -
نسخ السنة بالسنة
نسخ السنة بالسنة يتنوع إلى أنواع أربعة نسخ سنة متواترة بمتواترة ونسخ سنة آحادية بآحاديه ونسخ سنة آحادية بسنة متواترة ونسخ سنة متواترة بسنة آحادية أما الثلاثة الأول فجائزة عقلا وشرعا وأما الرابع وهو نسخ سنة متوارترة بآحادية فاتفق علماؤنا على جوازه عقلا ثم اختلفوا في جوازه شرعا فنفاه الجمهور وأثبته أهل الظاهر
أدلة الجمهور:
استدل الجمهور على مذهبهم بدليلين:
أولهما أن المتواتر قطعي الثبوت وخبر الواحد ظني والقطعي لا يرتفع بالظني لأنه أقوى منه والأقوى لا يرتفع بالأضعف.
ثانيهما أن عمر رضي الله عنه رد خبر فاطمة بنت قيس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجعل لها سكنى مع أن زوجها طلقها وبت طلاقها وقد أقر الصحابة عمر على رده هذا فكان إجماعا وما ذاك إلا لأنه خبر آحادي لا يفيد إلا الظن فلا يقوى على معارضة ما هو أقوى منه وهو كتاب الله إذ يقول: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} وسنة رسوله المتواترة في جعل السكن حقا من حقوق المبتوتة.
ملاحظة:
روت كتب الأصول في هذا الموضوع خبر فاطمة بنت قيس بصيغة مدخولة فيها أن عمر قال حين بلغه الخبر لا نترك كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت حفظت أم نسيت وعزا بعضهم هذه الرواية المدخولة إلى الإمام مسلم في صحيحة والحقيقة أن الرواية بهذا الصورة غير صحيحة كما أن عزوها إلى مسلم غير صحيح.
والرواية الصحيحة في مسلم وغيره ليس فيها كلمة أصدقت أم كذبت بل اقتصرت على كلمة أحفظت أم نسيت ومثلك حماك الله يعلم أن الشك في حفظ فاطمة ونسيانها لا يقدح في عدالتها وصدقها فإياك أن تخوض مع الخائضين من المستشرفين وأذنابهم فتطعن في الصحابة وتجرحهم في تثبتهم لمثل هذا الخبر المردود.
وإن شئت المزيد من التعليق على هذا الخبر وما شابهه فاقرأ ما كتبناه تحت عنوان دفع شبهات في هذا المقام من كتابنا المنهل الحديث في علوم الحديث.
أدلة الظاهر:
اعتمد أهل الظاهر في جواز نسخ المتواتر بالآحاد شرعا على شبهات ظنوها أدلة وما هي بأدلة.
منها أن النسخ تخصيص لعموم الأزمان فيجوز بخبر الواحد وإن كان المنسوخ متواترا كما أن تخصيص عموم الأشخاص يجوز بخبر الواحد وإن كان العام المخصوص متواترا.
وندفع هذا أولا بأن المقصود من النص المنسوخ جميع الأزمان وليس المقصود منه استمرار الحكم إلى وقت النسخ فقط وإذن فالنسخ رفع لمقتضى العموم لا تخصيص للعموم فكيف يقاس النسخ على التخصيص الذي هو بيان محض للمقصود من اللفظ.
ثانيا أننا نمنع جواز تخصيص المتواتر بخبر الواحد كما هو رأي الحنفية.
ومنها أن أهل قباء كانوا يصلون متجهين إلى بيت المقدس فأتاهم آت يخبرهم بتحويل القبلة إلى الكعبة فاستجابوا له وقبلوا خبره واستداروا وهم في صلاتهم وبلغ ذلك رسول الله فأقرهم وهذا دليل على أن خبر الواحد ينسخ المتواتر.
وندفع هذا بأن خبر الواحد في هذه الحادثة احتفت به قرائن جعلته يفيد القطع وكلامنا