المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الثاني

- ‌المبحث الثاني عشر: في‌‌ التفسيروالمفسرين وما يتعلق بهما

- ‌ التفسير

- ‌ أقسام التفسير

- ‌ التفسير المأثور

- ‌ المفسرون من الصحابة

- ‌ تفسير ابن عباس

- ‌ الرواية عن غير ابن عباس من الصحابة

- ‌ المفسرون من التابعين

- ‌ ضعف الرواية بالمأثور وأسبابه

- ‌ تدوين التفسير بالمأثور

- ‌ التفسير بالرأي

- ‌العلوم التي يحتاجها المفسر

- ‌ منهج المفسرين بالرأي

- ‌ قانون الترجيح عند الاحتمال

- ‌ أوجه بيان السنة للقرآن

- ‌ التعارض بين التفسير بالرأي

- ‌ أهم كتب التفسير بالرأي

- ‌ تفاسير الفرق المختلفة

- ‌ تفاسير المعتزلة

- ‌ تفاسير الباطنية

- ‌ تفاسير الشيعة

- ‌ التفسير الإشاري

- ‌ نصيحة خالصة

- ‌ تفاسير أهل الكلام

- ‌ مزج العلوم الأدبية والكونية

- ‌كلمة ختامية

- ‌المبحث الثالث عشر: في ترجمة القران وحكمها تفصيلا

- ‌مدخل

- ‌القرآن ومعانيه ومقاصده

- ‌مقاصد القرآن الكريم

- ‌حكم ترجمة القرآن تفصيلا

- ‌ترجمة القرآن بمعنى تفسيره بلغة أجنبية

- ‌فوائد الترجمة بهذا المعنى

- ‌دفع الشبهات عن هذه الترجمة

- ‌ ترجمة القرآن بمعنى نقله إلى لغة أخرى

- ‌دفع الشبهات الواردة على منع هذه الترجمة

- ‌حكم قراءة الترجمة والصلاة بها

- ‌توجيهات وتعليقات

- ‌موقف الأزهر من ترجمة القرآن الكريم

- ‌فذلكة المبحث

- ‌المبحث الرابع عشر: في النسخ

- ‌أهمية هذا المبحث:

- ‌ما هو النسخ

- ‌ما لا بد منه في النسخ

- ‌الفرق بين النسخ والبداء

- ‌الفرق بين النسخ والتخصيص

- ‌النسخ بين مثبتيه ومنكريه

- ‌أدلة ثبوت النسخ عقلا وسمعا

- ‌حكمة الله في النسخ

- ‌شبهات المنكرين للنسخ ودفعها

- ‌طرق معرفة النسخ

- ‌ما يتناوله النسخ

- ‌أنواع النسخ في القرآن

- ‌شبهات أولئك المانعين ودفعها

- ‌النسخ ببدل وبغير بدل

- ‌شبهة ودفعها

- ‌نسخ الحكم ببدل أخف أو مساو أو أثقل

- ‌شبهات المانعين ودفعها

- ‌نسخ الطلب قبل التمكن في امتثاله

- ‌شبهات المنكرين ودفعها

- ‌النسخ في دورانه بين الكتاب والسنة

- ‌نسخ القياس والنسخ به

- ‌نسخ الإجماع والنسخ به

- ‌موقف العلماء من الناسخ والمنسوخ

- ‌منشأ غلط المتزيدين تفصيلا

- ‌الآيات التي اشتهرت بأنها منسوخة

- ‌المبحث الخامس عشر: في محكم القرآن ومتشابهه

- ‌معنى محكم القران ومتشابه

- ‌آراء العلماء في معنى المحكم والمتشابه

- ‌منشأ التشابه وأقسامه وأمثلته

- ‌أنواع المتشابهات

- ‌متشابه الصفات

- ‌دفع الشبهات الواردة في هذا المقام

- ‌المبحث السادس عشر: في اسلوب القران الكريم

- ‌معنى الاسلوب

- ‌خصائص أسلوب القرآن:

- ‌تعليق وتمثيل:

- ‌الشبهات الواردة على أسلوب القرآن

- ‌المبحث السابع عشر: في إعجاز القرآن وما يتعلق به

- ‌مدخل

- ‌وجوه إعجاز القرآن

- ‌الوجه الأول لغته وأسلوبه

- ‌الوجه الثاني: طريقة تأليفه

- ‌الوجه الثالث: علومه ومعارفه

- ‌الوجه الرابع: وفاؤه بحاجات البشر

- ‌الوجه الخامس: موقف القرآن من العلوم الكونية

- ‌الوجه السادس: سياسته في الإصلاح

- ‌الوجه السابع: أنباء الغيب فيه

- ‌الوجه الثامن آيات العتاب

- ‌الوجه التاسع: ما نزل بعد طول انتظار

- ‌الوجه العاشر: مظهر النبي صلى الله عليه وسلم عند هبوط الوحي عليه

- ‌الوجه الحادي عشر: آية المباهلة

- ‌الوجه الثاني عشر: عجز الرسول عن الإتيان ببدل له

- ‌الوجه الثالث عشر: الآيات التي تجرد الرسول من نسبتها إليه

- ‌الوجه الرابع عشر: تأثير القرآن ونجاحه

- ‌وجوه معلولة

- ‌شبهة القول بالصرفة

- ‌دفع الشبهات الواردة في هذا المقام

- ‌خلاصة

- ‌كلمة الختام

الفصل: ‌خصائص أسلوب القرآن:

أسلوب القرآن ومزاياه التي انفرد بها وكانت هي السر في إعجازه اللغوي أو البلاغي أو الأسلوبي.

ص: 309

‌خصائص أسلوب القرآن:

إن الخصائص التي امتاز بها أسلوب القرآن والمزايا التي توافرت فيه حتى جعلت له طابعا معجزا في لغته وبلاغته أفاض العلماء فيها بين مقل ومكثر ولكنهم بعد أن طال بهم المطاف وبعد أن دميت أقدامهم وحفيت أقلامهم لم يزيدوا على أن قدموا إلينا قلا من كثره وقطرة من بحر معترفين بأنهم عجزوا عن الوفاء وأن ما خفي عليهم فلم يذكروه أكثر مما ظهر لهم فذكروه وأنهم لم يزيدوا على أن قربوا لنا البعيد بضرب من التمثيل رجاء الإيضاح والتبيين أما الاستقصاء والإحاطة بمزايا الأسلوب القرآني وخصائصه على وجه الاستيعاب فأمر استأثر به منزله الذي عنده علم الكتاب.

وإذن فلنذكر نحن بدورنا شيئا من خصائص أسلوب القرآن على وجه التمثيل والتقريب أيضا وما لا يدرك كله لا يترك أقله.

الخاصة الأولى:

مسحة القرآن اللفظية فإنها مسحة خلابة عجيبة تتجلى في نظامه الصوتي وجماله اللغوي.

1 -

ونريد بنظام القرآن الصوتي اتساق القرآن وائتلافه في حركاته وسكناته ومداته وغناته واتصالاته وسكتاته اتساقا عجيبا وائتلافا رائعا يسترعي الأسماع ويستهوي النفوس بطريقة لا يمكن أن يصل إليها أي كلام آخر من منظوم ومنثور وبيان ذلك أن من ألقى سمعه إلى مجموعة القرآن الصوتية وهي مرسلة على وجه السذاجة

ص: 309

في الهواء مجردة من هيكل الحروف والكلمات كأن يكون السامع بعيدا عن القارئ المجود بحيث لا تبلغ إلى سمعه الحروف والكلمات متميزا بعضها عن بعض بل يبلغه مجرد الأصوات الساذجة المؤلفة من المدات والغنات والحركات والسكنات والاتصالات والسكتات نقول إن من ألقى سمعه إلى هذه المجموعة الصوتية الساذجة يشعر من نفسه ولو كان أعجميا لا يعرف العربية بأنه أمام لحن غريب وتوقيع عجيب يفوق في حسنه وجماله كل ما عرف من توقيع الموسيقى وترنيم الشعر لأن الموسيقى تتشابه أجراسها وتتقارب أنغامها فلا يفتأ السمع أن يملها والطبع أن يمجها ولأن الشعر تتحد فيه الأوزان وتتشابه القوافي في القصيدة الواحدة غالبا وإن طالت على نمط يورث سامعه السأم والملل بينما سامع لحن القرآن لا يسأم ولا يمل لأنه يتنقل فيه دائما بين ألحان متنوعة وأنغام متجددة على أوضاع مختلفة يهز كل وضع منها أوتار القلوب وأعصاب الأفئدة.

وهذا الجمال الصوتي أو النظام التوقيعي هو أول شيء أحسته الآذان العربية أيام نزول القرآن ولم تكن عهدت مثله فيما عرفت من منثور الكلام سواء أكان مرسلا أم مسجوعا حتى خيل إلى هؤلاء العرب أن القرآن شعر لأنهم أدركوا في إيقاعه وترجيعه لذة وأخذتهم من لذة هذا الإيقاع والترجيع هزة لم يعرفوا شيئا قريبا منها إلا في الشعر ولكن سرعان ما عادوا على أنفسهم بالتخطئة فيما ظنوا حتى قال قائلهم وهو الوليد بن المغيرة وما هو بالشعر معللا ذلك بأنه ليس على أعاريض1 الشعر في رجزه2 ولا في قصيدة بيد انه تورط في خطأ أفحش من هذا الخطأ حين زعم في ظلام العناد

1 جمع عروض على غير قياس كأنهم جمعوا عريضا. وهو ميزان الشعر أو الجزء الذي في آخر النصف الأول من البيت؟ مختار.

2 الرجز ضرب من الشعر وزنه مستفعلن ست مرات. وزعم الخليل أمه ليس بشعر وإنما هو أنصاف أبيات أو ثلاثة؟ قاموس.

ص: 310

والحيرة أنه سحر لأنه اخذ من النثر جلاله وروعته ومن النظم جماله ومتعته ووقف منهما في نقطة وسط خارقة لحدود العادة البشرية بين إطلاق النثر وإرساله وتقييد الشعر وأوزانه ولو أنصف هؤلاء لعلموا أنه كلام منثور لكنه معجز ليس كمثله كلام لأنه صادر من متكلم قادر ليس كمثله شيء وما هو بالشعر ولا بالسحر لأن الشعر معروف لهم بتقفيته ووزنه وقانونه ورسمه والقرآن ليس منه ولأن السحر محاولات خبيثة لا تصدر إلا من نفس خبيثة ولقد علمت قريش أكثر من غيرهم طهارة النفس المحمدية وسموها ونبلها إذ كانوا أعلم الناس به وأعرفهم بحسن سيرته وسلوكه وقد نشأ فيه وشب وشاب بينهم هذا إلى أن القرآن كله ما هو إلا دعوة طيبة لأهداف طيبة لا محل فيها إلى خبث ورجس بل هي تحارب السحر وخبثه ورجسه وتسمه بأنه كفر إذ قال: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} .

ثم إن السحر معروف المقدمات والوسائل فليس بمعجز ولا يمكنه ولن يمكنه أن يأتي في يوم من الأيام بمثل هذا الذي جاء به القرآن

عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الوليد بن المغيرة جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قرأ عليه القرآن كأنه رق له فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه فقال له يا عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا ليعطوكه فإنك أتيت محمدا لتعرض لما قبله بكسر القاف وفتح الباء قال الوليد لقد علمت قريش أني من أكثرها مالا قال فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك منكر له وكاره قال وماذا أقول فوالله ما فيكم من رجل أعلم مني بالشعر لا برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن والله ما يشبه الذي يقوله شيئا من هذا ووالله إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإنه لمنير أعلاه مشرق أسفله وإنه ليعلو ولا يعلى وإنه ليحطم ما تحته قال أبو جهل للوليد لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه فقال الوليد دعني أفكر فلما فكر قال هذا سحر يأثره عن غيره وفي ذلك نزل

ص: 311

قوله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً ، وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً ، وَبَنِينَ شُهُوداً ، وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً ، ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ ، كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآياتنَا عَنِيداً ، سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً ، إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ، فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ، ثم قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ، ثُمَّ نَظَرَ ، ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ، ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ ، فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ، إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} رواه الحاكم وقال صحيح على شرط البخاري فانظر إلى الرجل حين أرسل نفسه على سجيتها العربية وبديهتها الفطرية كيف أنصف في حكمه حين تجرد ساعة من عناده وكفره وقال والله ما يشبه الذي يقوله شيئا من هذا إلى أن قال وإنه ليحطم ما تحته ثم انظر إلى الرجل حين غلبت عليه شقوته وعاوده عناده وتعصبه كيف قاوم فطرته وأكره نفسه على مخالفة شعوره ووجدانه وقال ما قال بعد أن حار وذهب كل مذهب في ضلاله وحيرته على نحو ما يصور القرآن تلك الحيرة والمقاومة والاستكراه بقوله إنه فكر وقدر الخ نسأل الله الحماية والهداية بمنه وكرمه آمين.

2 -

ونريد بجمال القرآن اللغوي تلك الظاهرة العجيبة التي امتاز بها القرآن في رصف حروفه وترتيب كلماته ترتيبا دونه كل ترتيب ونظام تعاطاه الناس في كلامهم وبيان ذلك أنك إذا استمعت إلى حروف القرآن خارجة من مخارجها الصحيحة تشعر بلذة جديدة في رصف هذه الحروف بعضها بجانب بعض في الكلمات والآيات هذا ينقر وذاك يصفر وهذا يخفى وذاك يظهر وهذا يهمس وذاك يجهر إلى غير ذلك مما هو مقرر في باب مخارج الحروف وصفاتها في علم التجويد ومن هنا يتجلى لك جمال لغة القرآن حين خرج إلى الناس في هذه المجموعة المختلفة المؤتلفة الجامعة بين اللين والشدة والخشونة والرقة والجهر والخفية على وجه دقيق محكم وضع كلا من الحروف وصفاتها المتقابلة في موضعه بميزان حتى تألف من المجموع قالب لفظي مدهش وقشرة سطحية أخاذة امتزجت فيها جزالة البداوة في غير خشونة برقة الحضارة من غير ميوعة وتلاقت عندها أذواق القبائل العربية على اختلافها بكل يسر وسهولة ولقد وصل هذا الجمال اللغوي إلى قمة الإعجاز بحيث

ص: 312

لو داخل في القرآن شيء من كلام الناس لاعتل مذاقه في أفواه قارئيه واختل نظامه في آذان سامعيه.

ومن عجيب أمر هذا الجمال اللغوي وذاك النظام الصوتي أنهما كما كانا دليل إعجاز من ناحية كانا سورا منيعا لحفظ القرآن من ناحية أخرى وذلك أن من شأن الجمال اللغوي والنظام الصوتي أن يسترعي الأسماع ويثير الانتباه ويحرك داعية الإقبال في كل إنسان إلى هذا القرآن الكريم وبذلك يبقى أبد الدهر سائدا على ألسنة الخلق وفي آذانهم ويعرف بذاته ومزاياه بينهم فلا يجرؤ أحد على تغييره وتبديله مصداقا لقوله سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} .

الخاصة الثانية:

إرضاؤه العامة والخاصة ومعنى هذا أن القرآن الكريم إذا قرأته على العامة أو قرئ عليهم أحسوا جلاله وذاقوا حلاوته وفهموا منه على قدر استعدادهم ما يرضي عقولهم وعواطفهم وكذلك الخاصة إذا قرؤوه أو قرئ عليهم أحسوا جللاه وذاقوا حلاوته وفهموا منه أكثر مما يفهم العامة ورأوا أنهم بين يدي كلام ليس كمثله كلام لا في إشراق ديباجته ولا في امتلائه وثروته ولا كذلك كلام البشر فإنه إن أرضى الخاصة والأذكياء لجنوحه إلى التجوز والإغراب والإشارة لم يرض العامة لأنهم لا يفهمونه وإن أرضى العامة لجنوحه إلى التصريح والحقائق العارية المكشوفة لم يرض الخاصة لنزوله إلى مستوى ليس فيه متاع لأذواقهم ومشاربهم وعقولهم.

الخاصة الثالثة:

إرضاؤه العقل والعاطفة ومعنى هذا أن أسلوب القرآن يخاطب العقل والقلب معا

ص: 313

ويجمع الحق والجمال معا انظر إليه مثلا وهو في معمعان الاستدلال العقلي على البعث والإعادة في مواجهة منكريهما كيف يسوق استدلاله سوقا يهز القلوب هزا ويمتع العاطفة إمتاعا بما جاء في طي هذه الأدلة المسكتة المقنعة إذ قال الله سبحانه في سورة فصلت {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وإذا قال في سورة ق: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ ، وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ، تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ، وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ ، وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ ، رِزْقاً لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} تأمل في الأسلوب البارع الذي أقنع العقل وأمتع العاطفة في آن واحد حتى في الجملة التي هي بمثابة النتيجة من مقدمات الدليل إذ قال في الآية الأولى إن الذي أحياها لمحي الموتى وفي الآيات الأخيرة كذلك الخروج يا للجمال الساحر ويا للإعجاز الباهر الذي يستقبل عقل الإنسان وقلبه معا بأنصع الأدلة وأمتع المعروضات في هذه الكلمات المعدودات!.

ثم انظر إلى القرآن وهو يسوق قصة يوسف مثلا كيف يأتي في خلالها بالعظات البالغة ويطلع من خلالها بالبراهين الساطعة على وجوب الاعتصام بالعفاف والشرف والأمانة إذ قال في فصل من فصول تلك الرواية الرائعة {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} فتأمل في هذه الآية كيف قوبلت دواعي الغواية الثلاث بدواعي العفاف الثلاث مقابلة صورت من القصص الممتع جدالا عنيفا بين جند الرحمن وجند الشيطان ووضعتها أمام العقل المنصف في كفتي ميزان! وهكذا تجد القرآن كله مزيجا حلوا سائغا يخفف على النفوس أن تجرع الأدلة العقلية ويرفه عن العقول باللفتات العاطفية ويوجه العقول والعواطف معا جنبا إلى جنب لهداية الإنسان وخير الإنسان!.

ص: 314

وهل تسعد بمثل هذا في كلام البشر؟ لا ثم لا بل كلامهم إن وفى بحق العقل بخس العاطفة حقها وإن وفى بحق العاطفة بخس العقل حقه وبمقدار ما يقرب من أحدهما يبعد عن الآخر حتى لقد بات العرف العام يقسم الأساليب البشرية إلى نوعين لا ثالث لهما أسلوب علمي وأسلوب أدبي فطلاب العلم لا يرضيهم أسلوب الأدب وطلاب الأدب لا يرضيهم أسلوب العلم وهكذا تجد كلام العلماء والمحققين فيه من الجفاء والعري ما لا يهز القلوب ويحرك النفوس وتجد في كلام الأدباء والشعراء من الهزال والعقم العلمي ما لا يغذي الأفكار ويقنع العقول ذلك لأن القوى العاقلة والقوى الشاعرة في بني الإنسان غير متكافئة وعلى فرض تكافئها في شخص فإنهما لا تعملان دفعة واحدة بل على سبيل البدع والمناوبة فكلام الشخص إما وليد فكرة وإما وليد عاطفة وإما ثوب مرقع يتألف من جمل نظرية تكون ثمرة للتفكير ومن جمل عاطفية تكون ثمرة للشعور أما إن تأتي كل جملة من جملة جامعة للغايتين معا فدون ذلك صعود السماء وكيف يتسنى ذلك للإنسان وهو لم يوهب القوتين متكافئتين ولو تكافأتا لديه فإنه لا يستطيع أن يوجههما اتجاها واحدا في آن واحد متقارنتين {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} أما القرآن فإنه انفرد بهذه الميزة بين أنواع الكلام لأنه تنزيل من القادر الذي لا يشغله شأن عن شأن والذي جمع بين الروح والجسد في قران {فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} .

الخاصة الرابعة:

جودة سبك القرآن وإحكام سرده1 ومعنى هذا أن القرآن بلغ من ترابط أجزائه وتماسك كلماته وجملة وآياته وسورة مبلغا لا يداينه فيه أي كلام آخر مع طول نفسه

1 يقال درع مسردة أي منسوجة متداخلة حلفها بعضها في بعض فالمراد هنا أن القرآن مترابط الأجزاء متناسب تناسب قويا.

ص: 315

وتنوع مقاصده وافتنانه وتلوينه في الموضوع الواحد وآية ذلك أنك إذا تأملت في القرآن الكريم وجدت منه جسما كاملا تربط الأعصاب والجلود والأغشية بين أجزائه ولمحت فيه روحا عاما يبعث الحياة والحس على تشابك وتساند بين أعضائه فإذا هو وحدة متماسكة متآلفة على حين أنه كثرة متنوعة متخالفة فبين كلمات الجملة السورة الواحدة من والتناسق ما جعلها رائعة التجانس والتجاذب وبين حمل السورة الواحدة من التشابك والترابط ما جعلها وحدة صغيرة متآخذة الأجزاء متعانقة الآيات وبين سور القرآن من التناسب ما جعله كتابا سوي الخلق حسن السمت {قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} فكأنما هو سبيكة واحدة تأخذ بالأبصار وتلعب بالعقول والأفكار على حين أنها مؤلفة من حلقات لكل حلقة منها وحدة مستقلة في نفسها ذات أجزاء ولكل جزء موضع خاص من الحلقة ولكل حلقة وضع خاص من السبيكة لكن على وجه من جودة السبك وإحكام السرد جعل من هذه الأجزاء المنتشرة المتفرقة وحدة بديعة متآلفة تريك كمال الانسجام بين كل جزء وجزء ثم بين كل حلقة وحلقة ثم بين أوائل السبيكة وأواخرها وأواسطها.

يعرف هذا الإحكام والترابط في القرآن كل من ألقى باله إلى التناسب الشائع فيه من غير تفكك ولا تخاذل ولا انحلال ولا تنافر بينما الموضوعات مختلفة متنوعة فمن تشريع إلى قصص إلى جدل إلى وصف إلى غير ذلك وكتب التفسير طافحة ببيان المناسبات فنحيلك عليها ونكتفي بمثل واحد نضربه مع الاختصار والاقتصار.

هذه سورة الفاتحة تأمل كيف تترابط وتتناسق في حسن تخلص من معنى إلى معنى ومن مقصد إلى مقصد لقد افتتحت متوجة "باسم الله" كما يتوج القاضي كل حكم من أحكامه باسم جلالة الملك لإعلان الجهة التي يستمد منها نفوذه في صدور أحكامه ثم انتقل الكلام فيها سريعا إلى الاستدلال على أن الاستعانة إنما هي به تعالى وحده وذلك بإضافة الاسم إلى لفظ الجلالة الذي هو اسم الذات الجامع لصفات الكمال وبوصف لفظ الجلالة

ص: 316

بأنه {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ثم انتقل الكلام إلى إعلان أنه تعالى مستحق للمحامد كلها ما دام أنه المستعان وحده بالدليل ثم انتقل الكلام إلى تدعيم هذا الاستحقاق بأدلة ثلاثة جرت على اسم الجلالة مجرى الأوصاف في مقام حمده {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ثم انتقل الكلام إلى إعلان وحدانيته في ألوهيته وربوبيته {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ما دام أنه هو المعين وحده ومستحق المحامد كلها وحده ثم انتقل الكلام في براعة إلى بيان المطمح الأعلى للإنسان وأن هذا المطمح الأعلى هو الهداية إلى الصراط المستقيم وأنه لا سبيل إلى الوصول إلى هذا المطمح عن طريق أحد إلا عن طريق الله وحده بقرينة ما سبق من أدلة التوحيد والتمجيد قبله {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} ثم انتقل الكلام من حيث لا تشعر أو من حيث تشعر إلى تقسيم الخلق بالنسبة إلى هذه الهداية ثلاثة أقسام تنبيها وإغراء على المقصود وتحذيرا وتنفيرا من الوقوع في نقيض هذا المقصود {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} وإذا الناس أمام عينيك بين منعم عليه بمعرفة الحق واتباعه ومغضوب عليه بمخالفة الحق مع العلم به وضال رضي أن يعيش عيشة الأنعام في متاهة الجهالة والحيرة والضلال لا يكلف نفسه عناء البحث عن الحق ليتشرف بمعرفته ويسعد باتباعه ثم تنظر في سورة البقرة فإذا هي وما بعدها ترتبط بالفاتحة ارتباط المفصل بالمجمل فالهداية إلى الصراط المستقيم صراط من أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين تشرحها سور البقرة وما وليها من سورة القرآن حيث جاءتنا بتفاصيل هذه الهداية في بيان كامل وعرض شامل.

أما بعد فقد يظن بعض الجهلة أن هذه الوحدة الفنية البيانية في القرآن أمر تافه هين لا يسمو إلى حد التنويه به فضلا عن أن ينظم في عداد ما هو مناط للإعجاز ولأجل الرد على هؤلاء نطلب منهم أن ينظروا نظرة فاحصة في كلام البلغاء وحملة الأقلام فإن لم يكن عندهم نظر ولا ذوق فليستمعوا إلى حكم نقدة البيان وصيارفته عليهم بأنهم

ص: 317

كثيرا ما يخطئون في تنظيم أغراضهم إذا قالوا بل يأتون بها شتيتا مفككا غير متماسك ولا متجاذب مما يعاب الشعراء من أجله بسوء التخلص حين ينتقلون من غرض إلى غرض في القصيدة الواحدة ومما يضطر الكاتب والعلماء والمؤلفين إلى تلافي هذا النقص بما يستخدمون في تنقلاتهم بين أغراضهم من أسماء الإشارة وأدوات التنبيه والحديث عن النفس وكثرة التقسيم والترقيم والتبويب والعنونة ولفظ أما بعد نحو هذا وان ألا وإن قلنا كذا ونقول كذا ينقسم الكتاب إلى مباحث المبحث الأول في كذا الخ ينقسم هذا المبحث إلى نقاط أولها كذا الخ ملاحظة تنبيه فذلكة أما بعد الخ.

هذا في كلام البشر أما كلام مالك القوى والقدر فإنه على تنوع أغراضه وطول نفسه في سوره وآياته ينتقل من مقصد إلى مقصد وينقلك أنت معه بين هذه المقاصد غير مستعين بوسائل العجز المذكورة بل بطريقة سحرية قد تشعر بها وقد لا تشعر وحسبك أن تنظر في المثال الآنف الذي قدمناه لك في سورة الفاتحة وحبذا أن تنظر في أطول سور القرآن وهي سورة البقرة فإنك ستطرب وتعجب وسيذهب بك الطرب والعجب إلى حد الذوق البالغ لهذا اللون من الإعجاز القاهر وأدلك على كتاب النبأ العظيم فقد أجاد في بيان هذا اللون وأبدع وأشبع العقول والقلوب وأمتع بما عرض من التناسب والترابط بين آحاد هذه السورة!.

الخاصة الخامسة:

براعته في تصريف القول وثروته في أفانين الكلام ومعنى هذا أنه يورد المعنى الواحد بألفاظ وبطرق مختلفة بمقدرة فائقة خارقة تنقطع في حلبتها أنفاس الموهوبين من الفصحاء والبلغاء ولسنا هنا بسبيل الاستيعاب والاستقراء ولكنها أمثلة تهديك ونماذج تكفيك.

ص: 318

أ - منها تعبيره عن طلب الفعل من المخاطبين بالوجوه الآتية:

1 -

الإتيان بصريح مادة الأمر نحو قوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}

2 -

والأخبار بأن الفعل مكتوب على المكلفين نحو {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} .

3 -

والإخبار بكونه على الناس نحو {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} .

4 -

والإخبار عن المكلفين بالفعل المطلوب منه نحو {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} قروء أي مطلوب منهن أن يتربصن.

5 -

والإخبار عن المبتدأ بمعنى يطلب تحقيقه من غيره نحو {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} أي مطلوب من المخاطبين تأمين دخل الحرم.

6 -

وطلب الفعل بصيغة فعل الأمر نحو حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى أو بلام الأمر نحو {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} .

7 -

والإخبار عن الفعل بأنه خير {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} .

8 -

ووصف الفعل وصفا عنوانيا بأنه بر نحو {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} .

9 -

ووصف الفعل بالفريضة نحو {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} أي من بذل المهور والنفقة

10 -

وترتيب الوعد والثواب على الفعل نحو مَنْ {ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} .

11 -

وترتيب الفعل على شرط قبله نحو {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} .

ص: 319

12 -

وإيقاع الفعل منفيا معطوفا عقب استفهام نحو {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} أي تذكروا.

13 -

وإيقاع الفعل عقب ترج نحو {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} .

14 -

وترتيب وصف شنيع على ترك الفعل نحو {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} .

ب - ومنها تعبيره عن النهي بالوسائل الآتية:

1 -

الإتيان في جانب الفعل بمادة الفعل بمادة النهي نحو {إِِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ} .

2 -

والإتيان في جانبه بمادة التحريم نحو {إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} .

3 -

ونفي الحل عنه نحو {لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً} .

4 -

والنهي عنه بلفظ لا نحو {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} .

5 -

ووصفه بأنه ليس برا نحو {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} .

6 -

ووصفه بأنه شر نحو {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ} .

7 -

وذكر الفعل مقرونا بالوعيد نحو {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} الخ.

8 -

وذكر الفعل منسوبا إليه الإثم نحو {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} .

ص: 320

9 – 15 ونظم الأمر في سلك ما هو بالغ الإثم والحرمة والإخبار عن الفعل بأنه رجس ووصفه بأنه من عمل الشيطان والأمر باجتنابه ورجاء الفلاح في تركه وترتيب مضار مؤذية على فعله والأمر بالانتهاء عنه في صورة الاستفهام ونمثل لهذه الطرق كلها بتحريم الخمر والميسر في قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ، إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} .

ج - ومنها تعبيره عن إباحة الفعل بالطرق الآتية:

1 -

التصريح في جانبه بمادة الحل نحو {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} .

2 -

والأمر به مع قرينه صارفة عن الطلب نحو {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} .

3 -

ونفي الإثم عن الفعل نحو {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} .

4 -

ونفي الحرج عنه نحو {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} أي في ترك القتال أو في الأكل من البيوت1.

5 -

ونفي الجناح عنه في غير ما ادعى فيه الحرمة نحو {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} الخ2 أما ما ادعى

1 تجد هذا النص الكريم في سورة الفتح عقب توعد من يتخلف عن القتال في قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ} إلخ. ثم تجد هذا النص الكريم أيضا في سورة النور نازلا بسبب وهو أن المسلمين كانوا إذا خرجوا إلى الغزو ووضعوا مفاتح بيوتهم عند الأعمى والمريض والأعرج وعند أقاربهم ويأذنونهم أن يأكلوا من بيوتهم فكانوا يتحرجون ويقولون.. نخشى ألا تكون نفوسهم بذلك طيبة.

2 نزلت فيمن تعاطى شيئا من الخمر والميسر قبل التحريم. فقرر لهم أن ذلك مباحا لهم

ص: 321

فيه الحرمة فإن نفى الجناح عنه يصدق بوجوبه نحو {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} .

6 -

وإنكار تحريمه في صورة استفهام نحو {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} .

7 -

والامتنان بالشي ووصفه بأنه رزق حسن نحو {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً} .

وهكذا تجد القرآن يفتن في أداء المعنى الواحد بألفاظ وطرق متعددة بين إنشاء وإخبار وإظهار وإضمار وتكلم وغيبة وخطاب ومضي وحضور واستقبال واسمية وفعليه واستفهام وامتنان ووصف ووعد ووعيد إلى غير ذلك ومن عجب أنه في تحويله الكلام من نمط إلى نمط كثيرا ما تجده سريعا لا يجاري في سرعته ثم هو على هذه السرعة الخارقة لا يمشي مكبا على وجهه مضطربا أو متعثرا بل هو محتفظ دائما بمكانته العليا من البلاغة {يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .

ولقد خلع هذا التصرف والافتنان لباسا فضفاضا من الجدة والروعة على القرآن ومسحه بطابع من الحلاوة والطلاوة حتى لا يمل قارئه ولا يسأم سامعه مهما كثرت القراءة والسماع بل ينتقل كل منهما من لون إلى لون كما ينتقل الطائر في روضة غناء من فنن إلى فنن ومن زهر إلى زهر.

واعلم أن تصريف القول في القرآن على هذا النحو كان فنا من فنون إعجازه الأسلوبي كما ترى وكان في الوقت نفسه منة يمنها الله على الناس ليستفيدوا عن طريقها كثرة النظر في القرآن والإقبال عليه قراءة وسماعا وتدبرا وعملا وأنه لا عذر معها لمن أهمل هذه النعمة وسفه نفسه اقرأ إن شئت قوله سبحانه: في سورة الإسراء: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً}

ص: 322

وقوله سبحانه: في سورة الكهف: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} وقوله سبحانه: في سورة الرعد: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} .

الخاصة السادسة:

جمع القرآن بين الإجمال والبيان مع أنهما غايتان متقابلتان لا يجتمعان في كلام واحد للناس بل كلامهم إما مجمل وإما مبين1. لأن الكلمة إما واضحة المعنى لا تحتاج إلى بيان وإما خفية المعنى تحتاج إلى بيان ولكن القرآن وحده هو الذي انحرقت له العادة فتسمع الجملة منه وإذا هي بينة مجملة في آن واحد أما أنها بينة أو مبينة بتشديد الياء وفتحها فلأنها واضحة المغزى وضوحا يريح النفس من عناء التنقيب والبحث لأول وهلة فإذا أمنعت النظر فيها لاحت منها معان جديدة كلها صحيح أو محتمل لأن يكون صحيحا وكلما أمنعت فيها النظر زادتك من المعارف والأسرار بقدر ما تصيب أنت من النظر وما تحمل من الاستعداد على حد قول القائل:

يزيدك وجهه حسنا

إذا ما زدته نظرا

ولهذا السر وسع كتاب الله جميع أصحاب المذهب الحضر من أبناء البشر ووجد أصحاب هذه المذاهب المختلفة والمشارب المتباينة شقاء أنفسهم وعقولهم فيه وأخذت الأجيال المتعاقبة من مدده الفياض ما جعلهم يجتمعون عليه ويدينون به ولا كذلك البشر

1 المجمل ما له درلة واضحة فخرج المهمل والمبين. والمبين ما لا خفاء فيه لا ما وقع إليه السياق. مثال الأول لفظ القرء ولفظ مختار وقوقله تعالى: {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} لأن الأول متردد بين الحيض والطهر والثاني بين الفاعل والمفعول والثالث مجهول معناه قبل نزول آية {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} . والمبين نحو: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} – و – {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} .

ص: 323

في كلامهم فإنهم إذا قصدوا إلى توضيح أغراضهم ضاقت ألفاظهم ولم تتسع لاستنباط وتأويل وإذا قصدوا إلى إجمالها لم يتضح ما أرادوه وربما التحق عندئذ بالألغاز وما لا يفيد.

والأمر في هذه الخاصة ظاهر غني بظهوره عن التمثيل وحسبك أن ترجع إلى كتب التفسير ففيها من ذلك الشيء الكثير {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} .

الخاصة السابعة:

قصد القرآن في اللفظ مع وفائه بالمعنى ومعنى هذا إنك في كل من جمل القرآن تجد بيانا قاصدا مقدرا على حاجة النفوس البشرية من الهداية الإلهية دون أن يزيد اللفظ على المعنى أو يقصر عن الوفاء بحاجات الخلق من هداية الخالق ومع هذا القصد اللفظي البريء من الإسراف والتقتير تجده قد جلى لك المعنى في صورة كاملة لا تنقص شيئا يعتبر عنصرا أصليا فيها أو حلية مكملة لها كما أنها لا تزيد شيئا يعتبر دخيلا فيها وغريبا عنها بل هو كما قال الله: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} .

ولا يمكن أن تظفر في غير القرآن بمثل هذا الذي تظفر به في القرآن بل كل منطيق بليغ مهما تفوق في البلاغة والبيان تجده بين هاتين الغايتين كالزوج بين ضرتين بمقدار ما يرضي إحداهما يغضب الأخرى فإن ألقى البليغ باله إلى القصد في اللفظ وتخليصه مما عسى أن يكون من الفضول فيه حمله ذلك في الغالب على أن يغض من شأن المعنى فتجيء صورته ناقصة خفية ربما يصل اللفظ معها إلى حد الإلغاز والتعمية وإذا ألقى البليغ باله إلى الوفاء بالمعنى وتجلية صورته كاملة حمله ذلك على أن يخرج عن حد القصد في اللفظ راكبا متن الإسهاب والإكثار حرصا على أن يفوته شيء من المعنى الذي يقصده ولكن ينذر حينئذ أن يسلم هذا اللفظ من داء التخمة في إسرافه وفضوله تلك التخمة التي تذهب ببهائه ورونقه وتجعل السامع يتعثر في ذيوله لا يكاد يميز بين زوائد المعنى وأصوله.

ص: 324

وإذا افترضنا أن بليغا كتب له التوفيق بين هاتين الغايتين وهما القصد في اللفظ مع الوفاء بالمعنى في جملة أو جملتين من كلامه فإن الكلال والإعياء لا بد لاحقا به في بقية هذا الكلام وندر أن يصادفه هذا التوفيق مرة ثانية إلا في الفينة بعد الفينة كما تصادف الإنسان قطعة من الذهب أو الماس في الحين بعد الحين وهو يبحث في التراب أو ينقب بين الصخور.

وإن كنت في شك فسائل أئمة البيان وصيارفته هل ظفرتم بقطعة من النثر أو بقصيدة من الشعر كانت كلها أو أكثرها جامعا بين وفاء المعنى وقصد اللفظ؟ ها هم أولاء يعلنون حكمهم صريحا بأن أبرع الشعراء لم يكتب له التبريز والإجادة والجمع بين المعنى الناصع واللفظ الجامع إلا في أبيات معدودة من قصائد محدودة أما سائر شعرهم بعد فبين متوسط ورديء وها هم أولاء يعلنون حكمهم هذا نفسه أو أقل منه على الناثرين من الخطباء والكتاب.

وإن أردت أن تلمس بيدك هذه الخاصة فافتح المصحف الشريف مرة واعمد إلى جملة من كتاب الله وأحصها عددا ثم خذ بعدد تلك الكلمات من أي كلام آخر وقارن بين الجملتين ووازن بين الكلامين وانظر أيهما أملأ بالمعاني مع القصد في الألفاظ ثم انظر أي كلمة تستطيع أن تسقطها أو تبدلها بما هو خير منها في ذلك الكلام الإلهي وكم كلمة يجب أن تسقطها أو تبدلها في ذلك الكلام البشري؟ إنك إذا حاولت هذه المحاولة فستنتهي إلى هذه الحقيقة التي أعلنها ابن عطية فيما يحكي السيوطي عنه وهو يتحدث عن القرآن الكريم إذ يقول لو نزعت منه لفظة ثم أدير لسان العرب على لفظة أحسن منها لم توجد اهـ وذلك بخلاف كلام الناس مهما سما وعلا حتى كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أوتي جوامع الكلم وأشرقت نفسه بنور النبوة والوحي وصيغ على أكمل ما خلق الله فإنه مع تحليقه في سماء البيان وسموه على كلام كل إنسان لا يزال هناك بون بعيد بينه وبين القرآن وسبحان الله وبحمده سبحانه الله العظيم!.

ص: 325