المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الثاني

- ‌المبحث الثاني عشر: في‌‌ التفسيروالمفسرين وما يتعلق بهما

- ‌ التفسير

- ‌ أقسام التفسير

- ‌ التفسير المأثور

- ‌ المفسرون من الصحابة

- ‌ تفسير ابن عباس

- ‌ الرواية عن غير ابن عباس من الصحابة

- ‌ المفسرون من التابعين

- ‌ ضعف الرواية بالمأثور وأسبابه

- ‌ تدوين التفسير بالمأثور

- ‌ التفسير بالرأي

- ‌العلوم التي يحتاجها المفسر

- ‌ منهج المفسرين بالرأي

- ‌ قانون الترجيح عند الاحتمال

- ‌ أوجه بيان السنة للقرآن

- ‌ التعارض بين التفسير بالرأي

- ‌ أهم كتب التفسير بالرأي

- ‌ تفاسير الفرق المختلفة

- ‌ تفاسير المعتزلة

- ‌ تفاسير الباطنية

- ‌ تفاسير الشيعة

- ‌ التفسير الإشاري

- ‌ نصيحة خالصة

- ‌ تفاسير أهل الكلام

- ‌ مزج العلوم الأدبية والكونية

- ‌كلمة ختامية

- ‌المبحث الثالث عشر: في ترجمة القران وحكمها تفصيلا

- ‌مدخل

- ‌القرآن ومعانيه ومقاصده

- ‌مقاصد القرآن الكريم

- ‌حكم ترجمة القرآن تفصيلا

- ‌ترجمة القرآن بمعنى تفسيره بلغة أجنبية

- ‌فوائد الترجمة بهذا المعنى

- ‌دفع الشبهات عن هذه الترجمة

- ‌ ترجمة القرآن بمعنى نقله إلى لغة أخرى

- ‌دفع الشبهات الواردة على منع هذه الترجمة

- ‌حكم قراءة الترجمة والصلاة بها

- ‌توجيهات وتعليقات

- ‌موقف الأزهر من ترجمة القرآن الكريم

- ‌فذلكة المبحث

- ‌المبحث الرابع عشر: في النسخ

- ‌أهمية هذا المبحث:

- ‌ما هو النسخ

- ‌ما لا بد منه في النسخ

- ‌الفرق بين النسخ والبداء

- ‌الفرق بين النسخ والتخصيص

- ‌النسخ بين مثبتيه ومنكريه

- ‌أدلة ثبوت النسخ عقلا وسمعا

- ‌حكمة الله في النسخ

- ‌شبهات المنكرين للنسخ ودفعها

- ‌طرق معرفة النسخ

- ‌ما يتناوله النسخ

- ‌أنواع النسخ في القرآن

- ‌شبهات أولئك المانعين ودفعها

- ‌النسخ ببدل وبغير بدل

- ‌شبهة ودفعها

- ‌نسخ الحكم ببدل أخف أو مساو أو أثقل

- ‌شبهات المانعين ودفعها

- ‌نسخ الطلب قبل التمكن في امتثاله

- ‌شبهات المنكرين ودفعها

- ‌النسخ في دورانه بين الكتاب والسنة

- ‌نسخ القياس والنسخ به

- ‌نسخ الإجماع والنسخ به

- ‌موقف العلماء من الناسخ والمنسوخ

- ‌منشأ غلط المتزيدين تفصيلا

- ‌الآيات التي اشتهرت بأنها منسوخة

- ‌المبحث الخامس عشر: في محكم القرآن ومتشابهه

- ‌معنى محكم القران ومتشابه

- ‌آراء العلماء في معنى المحكم والمتشابه

- ‌منشأ التشابه وأقسامه وأمثلته

- ‌أنواع المتشابهات

- ‌متشابه الصفات

- ‌دفع الشبهات الواردة في هذا المقام

- ‌المبحث السادس عشر: في اسلوب القران الكريم

- ‌معنى الاسلوب

- ‌خصائص أسلوب القرآن:

- ‌تعليق وتمثيل:

- ‌الشبهات الواردة على أسلوب القرآن

- ‌المبحث السابع عشر: في إعجاز القرآن وما يتعلق به

- ‌مدخل

- ‌وجوه إعجاز القرآن

- ‌الوجه الأول لغته وأسلوبه

- ‌الوجه الثاني: طريقة تأليفه

- ‌الوجه الثالث: علومه ومعارفه

- ‌الوجه الرابع: وفاؤه بحاجات البشر

- ‌الوجه الخامس: موقف القرآن من العلوم الكونية

- ‌الوجه السادس: سياسته في الإصلاح

- ‌الوجه السابع: أنباء الغيب فيه

- ‌الوجه الثامن آيات العتاب

- ‌الوجه التاسع: ما نزل بعد طول انتظار

- ‌الوجه العاشر: مظهر النبي صلى الله عليه وسلم عند هبوط الوحي عليه

- ‌الوجه الحادي عشر: آية المباهلة

- ‌الوجه الثاني عشر: عجز الرسول عن الإتيان ببدل له

- ‌الوجه الثالث عشر: الآيات التي تجرد الرسول من نسبتها إليه

- ‌الوجه الرابع عشر: تأثير القرآن ونجاحه

- ‌وجوه معلولة

- ‌شبهة القول بالصرفة

- ‌دفع الشبهات الواردة في هذا المقام

- ‌خلاصة

- ‌كلمة الختام

الفصل: ‌مقاصد القرآن الكريم

ثم إن هذه النكات البلاغية والاعتبارات الزائدة يختص بها اللسان العربي كما أن لكل لغة خصائصها.

وهذه الاعتبارات مع فصاحة المفردات هي مناط بلاغة الكلام والمتكلم وعلوم البلاغة على سعتها ووفرة مباحثها وحسن بلاء الباحثين فيها لا تكفي وحدها لتصل بدارسها إلى مصاف البلغاء وذوي اللسن والبيان بل غايتها أن يعرف بها أن هذه الحال تقتضي هذا الاعتبار وأن تلك الحال تقتضي ذلك الاعتبار وهكذا أما التطبيق والقدرة على الصياغة البلاغية فشأو بعيد يتوقف على أمور كثيرة منها الإلمام بظروف الكلام وأحوال المخاطبين ومنها الإحاطة بدرجة تلك الأحوال قوة وضعفا ومنها الإتيان بالخصوصيات المناسبة لهذه الأحوال والمقامات ومنها الذوق البلاغي أو الحاسة البيانية التي تكتسب بممارسة كلام البلغاء وأساليبهم وترويض النفس على محاكاتهم وتقليدهم وإلا فكم رأينا من مهرة في علوم اللسان لا يحسنون صناعة الكلام ولا يستطيعون حيلة إلى أقل درجات البيان فضلا عن أن يبرزوا في هذا الميدان.

والكلام البليغ يتفاوت تفاوتا بعيد المدى تبعا لدرجة توافر هذه الأمور فيه كلا أو بعضا ولم تعرف الدنيا ولن تعرف كلاما بلغ الطرف الأعلى والنهاية العظمى في الإحاطة بكل الخواص البلاغية سوى القرآن الكريم الذي انقطعت دونه أعناق الفحول من البلغاء في حلبته أنفاس الموهوبين من الفصحاء حتى شهدوا على أنفسهم بالعجز حين شاهدوا روائع الإعجاز ورأوا أن كلامهم وإن علا فهو طبعة الخلق أما القرآن فهو طبعة الخلاق!.

{صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ}

ص: 123

‌مقاصد القرآن الكريم

بما أن الترجمة عرفا لا بد أن تتناول مقاصد الأصل جميعا فإنا نقفك على أن تعالى

ص: 123

في إنزال كتابه العزيز ثلاثة مقاصد رئيسية أن يكون هداية للثقلين وأن يقوم آية لتأييد النبي صلى الله عليه وسلم وأن يتعبد الله خلقه بتلاوة هذا الطراز الأعلى من كلامه المقدس.

هداية القرآن:

وهداية القرآن تمتاز بأنها عامة وتامة وواضحة.

أما عمومها فلأنها تنتظم الإنس والجن في كل عصر ومصر وفي كل زمان ومكان قال الله سبحانه: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} وقال جلت حكمته: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} وقال عز اسمه: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} وقال عمت رحمته: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} .

وأما تمام هذه الهداية فلأنها احتوت أرقى وأوفى ما عرفت البشرية وعرف التاريخ من هدايات الله والناس وانتظمت كل ما يحتاج إليه الخلق في العقائد والأخلاق والعبادات والمعاملات على اختلاف أنواعها وجمعت بين مصالح البشر في العاجلة والآجلة ونظمت علاقة الإنسان بربه وبالكون الذين يعيش فيه ووفقت بطريقة حكيمة بين مطالب الروح والجسد اقرأ إن شئت قوله سبحانه: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ

ص: 124

وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} وقال جل جلاله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} وقال عز من قائل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} وقال تعالت حكمته: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} إلى غير ذلك من آيات كثيرة.

وأما وضوح هذه الهداية فلعرضها عرضا رائعا مؤثرا توافرت فيه كل وسائل الإيضاح وعوامل الإقناع أسلوب فذ معجز في بلاغته وبيانه واستدلال بسيط عميق يستمد بساطته وعمقه من كتاب الكون الناطق وأمثال خلابة تخرج أدق المعقولات في صورة أجلى الملموسات وحكم بالغات تبهر الألباب بمحاسن الإسلام وجلال التشريع وقصص حكيم مختار يقوي الإيمان واليقين ويهذب النفوس والغرائز ويصقل الأفكار والعواطف ويدفع الإنسان دفعا إلى التضحية والنهضة ويصور له مستقبل الأبرار والفجار تصويرا يجعله كأنه حاضر تراه الأبصار في رابعة النهار والأمثلة على ذلك كثيرة في القرآن يخرجنا استعراضها عما نحن بسبيله الآن.

والمهم أن نعلم في هذا المقام أن الهدايات القرآنية الكريمة منها ما استفيد من معاني القرآن الأصلية ومنها ما استفيد من معانيه التابعة أما القسم الأول فواضح لا يحتاج إلى تمثيل وهو موضع اتفاق بين الجميع وأما القسم الثاني ففيه دقة جعلت بعض الباحثين يجادل فيه وإنا نوضحه لك بأمثلة نستمدها من فاتحة الكتاب العزيز:

منها استفادة أدب الابتداء بالبسملة في كل أمر ذي بال أخذا من ابتداء الله كتابه بها ومن افتتاحه كل سورة من سورة بها عدا سورة التوبة.

ص: 125

ومنها: استفادة أن الاستعانة في أي شيء لا تستمد إلا من اسم الله وحده أخذا من إضافة الاسم إلى لفظ الجلالة موصوفا بالرحمن الرحيم ومن القصر المفهوم من البسملة على تقدير عامل الجار والمجرور متأخرا ومن تقدير هذا العامل عاما لا خاصا.

ومنها: استفادة الاستدلال على أن الحمد مستحق لله بأمور ثلاثة تربيته تعالى للعوالم كلها ورحمته الواسعة التي ظهرت آثارها وتأصل اتصافه تعالى بها وتصرفه وحده بالجزاء العادل في يوم الجزاء وذلك أخذا من جريان هذه الأوصاف على اسم الجلالة في مقام حمد بقوله سبحانه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}

ومنها: استفادة التوحيد بنوعيه توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية من القصر الماثل في قوله سبحانه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} .

ومنها: استفادة دليل هذا التوحيد من الآيات السابقة عليه ووقوعه هو في سياقها عقيبها كما تقع النتيجة عقب مقدماتها.

ومنها استفادة أن الهداية إلى الصراط المستقيم هي المطمع الأسمى الذي يجب أن يرمي إليه الناس ويتنافس فيه المتنافسون يدل على ذلك اختيارها والاقتصار على طلبها والدعاء بها ثم انتهاء سورة الفاتحة بها كما تنتهي البدايات بمقاصدها.

ومنها: استفادة أن الهداية لا يرجى فيها إلا الله وحده لأنها انتظمت مع آيات التوحيد قبلها في سمط واحد.

ومنها: استفادة أدب من الآداب هو أن يقدم الداعي ثناء الله على دعائه استنتاجا من ترتيب هذه الآيات الكريمة حيث تقدم فيها ما يتصل بحمد الله وتمجيده وتوحيده على ما يتصل بدعائه واستهدائه.

هذه أمثلة اقتبسناها من سورة الفاتحة ونحن لا نظن أن أحدا يخاصم فيها هاك مثالين مما وقع فيه خلاف العلماء.:

ص: 126

المثال الأول استفادة وجوب الترتيب بين أعضاء الوضوء في الطهارة أخذا من مخالفة مقتضى الظاهر في ذكر هذه الأعضاء بآية الوضوء إذ يقول الله سبحانه يأيها الذين ءامنوا إذا قمتم إلى الصلوة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين فأنت ترى أنه تعالت حكمته ذكر الرأس وهو ممسوح بين الأعضاء الأخرى وهي مغسولة وكان مقتضى الظاهر أن تتصل المغسولات بعضها ببعض وتذكر قبل الممسوح أو بعده لأن المغسولات متماثلة والعرب لا تفصل بين المتماثلات إلا لحكمة والحكمة هنا هي إفادة وجوب الترتيب بين أعضاء الوضوء في الطهارة على نمط الترتيب الماثل في هذه الآية.

وثمة وجه آخر لاستفادة حكم هذا الترتيب أيضا ذلك أن الآية المذكورة لم تعرض فيها أعضاء الوضوء مرتبة ترتيبا تصاعديا ولا ترتيبا تنازليا فلم يبدأ فيها بالأعالي متبوعة بالأسافل ولا بالأسافل متبوعة بالأعالي بل ذكر فيها عال ثم سافل ثم أعلى ثم أسفل وذلك خلاف مقتضى الظاهر ومثله لا يصدر في لغة العرب إلا لحكمة وما الحكمة هنا فيما نفهم إلا إفادة وجوب الترتيب في الوضوء وبهذا قال الشافعية والحنابلة وإن خالفهم الحنفية والمالكية.

المثال الثاني استفادة وجوب مسح ربع الرأس في الوضوء أخذا من مخالفة مقتضى الظاهر أيضا في قوله سبحانه: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} حيث دخلت باء على الرؤوس وهي الممسوحة مع أن الظاهر كان يقتضي دخولها على آلة المسح وهي راحة اليد ولكن مخالفة هذا الظاهر في كلام عربي بليغ دلتنا على أنه نزل الرأس منزلة آلة المسح إرشادا إلى أن اليد توضع على الرأس وتحرك كأننا مسحنا اليد بالرأس وبهذه الطريقة تنمسح الناصية عادة وهي تقدر بربع الرأس فالواجب إذن هو مسح ربع الرأس وبهذا أخذ الحنفية وإن خالفهم الأئمة الثلاثة رضوان الله عليهم أجمعين.

ص: 127

ولسنا هنا بصدد مقارنات فقهية أو موازنات مذهبية حتى نناصر رأيا على رأي أو نرجح فهما على فهم فسحبنا في هذا الموضوع بيان دلالة نظم القرآن الكريم باعتبار معانيه الثانوية على هدايات متنوعة من عقائد وأحكام وآداب وأدلة ولطائف وإن اختلف الناس في إدراكها على مقدار اختلاف مواهبهم واستعدادهم لأن هذه المعاني الثانوية دقيقة الطرق لطيفة المسالك ومن شأن الدقائق واللطائف أن يكون مجال التفاوت بين الفاهمين لها بعيدا بخلاف دلالة نظم القرآن الكريم على هداياته باعتبار معانيه الأصلية فإنها واضحة قل أن يقع فيها تفاوت أو خلاف لأن هذه المعاني كما قررنا يستوي فيها العربي والعجمي والحضري والبدوي والذكي والغبي.

واعلم أن قرآنية القرآن وامتيازه ترتبط بمعانيه الثانوية وما استفيد منها أكثر مما ترتبط بمعانيه الأصلية وما استفيد منها للاعتبارات الآنفة ولأن المعاني الأصلية ضيقة الدائرة محدودة الأفق أما المعاني الثانوية فبحر زاخر متلاطم الأمواج تتجلى فيها علوم الله وحكمته وعظمته الإلهية وتظهر منها فيوضات الله وإلهاماته العلوية على من وهبهم هذه الفيوضات والإلهامات من عباده المصطفين وورثة كلامه المقربين وأهل الذوق والصفاء من العلماء العاملين جعلنا الله منهم بمنه وكرمه آمين.

إعجاز القرآن:

المقصد الثاني من نزول القرآن الكريم أن يقوم في فم الدنيا آية شاهدة برسالة سيدنا محمد وأن يبقى على جبهة الدهر معجزة خالدة تنطق بالهدى ودين الحق ظاهرا على الدين كله ووجوه إعجاز القرآن كثيرة نفصلها في مبحثها إن شاء الله بيد أنا ننبهك هنا إلى أن بلاغته العليا وجه بارز من هذه الوجوه بل هي أبرز وجوهه وجودا وأعظمها أفرادا لأن كل مقدار ثلاث آيات قصار معجز ولو كان هذا

ص: 128

المقدار من آية واحدة طويلة فقد تحدى الله أئمة البيان أن يأتوا بسورة من مثله وأقصر سورة هي سورة الكوثر وآياتها ثلاث قصار وإذا كان أئمة البيان في عصر ازدهاره والنباغة فيه قد عجزوا فسائر الخلق أشد عجزا ولقد فرغنا من أن بلاغة القرآن منوطة بما اشتمل عليه من الخصوصيات والاعتبارات الزائدة وأنت خبير بأنها سارية فيه سريان الماء في العود الأخضر أو سريان الروح في الجسم وأن نظم القرآن الكريم مصدر لهداياته كلها سواء منها ما كان طريقه هيكل النظم وما كان طريقه تلك الخصوصيات الزائدة عليه وهنا يطالعك العجب العاجب حين تجد دليل صدق الهداية الإسلامية قد آخاها واتحد مطلعهما في سماء القرآن فأداه وأداها!!.

التعبد بتلاوة القرآن:

المقصد الثالث من نزول القرآن أن يتعبد الله خلقه بتلاوته ويقربهم إليه ويأجرهم على مجرد ترديد لفظه ولو من غير فهمه فإذا ضموا إلى التلاوة فهما زادوا أجرا على أجر قال الله تعالى: {إِِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ ِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} .

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ حرفا من كتاب الله تعالى فله حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول ألم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف" رواه الترمذي وقال: حسن صحيح وروى الحاكم مثله مرفوعا وقال صحيح الإسناد وجاء في حديث آخر عن أنس أنه قال أفضل عبادة أمتي قراءة القرآن وسنده ضعيف غير أنه يتقوى بغيره ثم إن هذه خصيصة امتاز بها القرآن هي عماد الدين أما غيرها فلا أجر على مجرد تلاوته بل لا بد من التفكر فيه وتدبره حتى الصلاة هي عماد الدين ليس للمرء من ثوابها إلا بمقدار ما عقل منها..

ص: 129

وإنما انفرد القرآن بهذه المزية لحكم وسامية وفوائد ذات شأن:

أولها توفير عامل مهم من عوامل المحافظة على القرآن وبقائه مصونا من التغيير والتبديل اللذين أصابا كتب الله من قبل ذلك أن هذا الأجر العظيم الذي وعده الله من يتلو كتابه العزيز ولو غير متفهم لمعانيه من شأنه أن يحبب الناس في قراءة القرآن ويدفعهم إلى الإكثار منها ويحركهم إلى استظهاره وحفظه ولا ريب أن انتشار القراءة والقراء والحفاظ يجعل القرآن كثير الدوران على الألسنة واضح المعالم في جميع الأوساط والطبقات وهنا لا يجرؤ أحد على تغيير شيء فيه وإلا لقي أشد العنت من عارفيه كما حدث لبعض من حاولوا هذا الإجرام من أعداء الإسلام.

ثانيها إيجاد وحدة للمسلمين لغوية تعزز وحدتهم الدينية وتيسر وسائل التفاهم والتعاون فيما بينهم فتقوى بذلك صفوفهم وتعظم شوكتهم وتعلو كلمتهم

وتلك سياسة إلهية عالية فطن لها الإسلام على يد هذا النبي صلى الله عليه وسلم الأمي في عهد قديم من عهود التاريخ ونجحت هذه السياسة نجاحا باهرا حتى انضوى تحت اللسان العربي أمم كثيرة مختلفة اللغات ونبغ منهم نابغون سبقوا كثيرا من العرب في علوم القرآن وعلوم لغة القرآن بينما أمم كبيرة في هذا العصر الحديث الذي يزعمونه عصر العلم والنور قد حاولت مثل هذه المحاولة بتقرير لسان عام ولغة عالمية مشتركة أسموها لغة الاسبرنتو فكانت محاولة فاشلة فضلا عن أنها جاءت مسبوقة متأخرة.

ثالثها استدراج القارئ إلى التدبر والاهتداء بهدي القرآن عن طريق هذا الترغيب المشوق وبوساطة هذا الأسلوب الحكيم.

فإن من يقرأ القرآن في يومه وهو غافل عن معانيه يقرؤه في غده وهو ذاكر لها ومن قرأه في غده وهو ذاكر لها أوشك أن يعمل بعد غد بهديها وهكذا ينتقل القارئ من درجة إلى درجة أرقى منها حتى يصل إلى الغاية بعد تلك البداية كل من سار على

ص: 130