الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا} ومثل قوله: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} .
رابعها اشتباه البيان عليهم بالنسخ في مثل قوله سبحانه: {وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} فإن منهم من توهم أنه ناسخ لقوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} مع أنه ليس ناسخا له وإنما هو بيان لما ليس بظلم وببيان ما ليس بظلم يعرف الظلم وبضدها تتميز الأشياء.
خامسها توهم وجود تعارض بين نصين على حين أنه لا تعارض في الواقع وذلك مثل قوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ} ، وقوله:{وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} فإن بعضهم توهم أن كلتا الآيتين منسوخة بآية الزكاة لتوهمه أنها تعارض كلا منهما على حين أنه لا تعارض ولا تنافي لأنه يصح حمل الإنفاق في كلتا الآيتين الأوليين على ما يشمل الزكاة وصدقة التطوع ونفقة الأهل والأقارب ونحو ذلك وتكون آية الزكاة معهما من قبيل ذكر فرد من أفراد العام بحكم العام ومثل هذا لا يقوى على تخصيص العام فضلا عن أن ينسخه وذلك لعدم وجود تعارض حقيقي لا بالنسبة إلى كل أفراد العام حتى يكون ناسخا ولا بالنسبة إلى بعضها حتى يكون مخصصا.
الآيات التي اشتهرت بأنها منسوخة
قد عرفت أن المتزيدين أكثروا القول بالآيات المنسوخة غلطا منهم واشتباها ونزيدك هنا أن بعض فطاحل العلماء تعقب هؤلاء المتزيدين بالنقد كالقاضي أبي بكر بن العربي وكجلال الدين السيوطي الذي حصر ما يصح لدعوى النسخ من آيات القرآن في اثنتين وعشرين آية ثم ذكر أن الأصح في آيتي الاستئذان والقسمة الإحكام لا النسخ وها هي ذي مشفوعة بالتعليق عليها مرتبة بترتيب المصحف الشريف:
الآية الأولى
{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} قيل إنها منسوخة بقوله سبحانه: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} لأن الآية الأولى تفيد جواز استقبال غير المسجد الحرام في الصلاة ما دامت الآفاق كلها لله وليست له جهة معينة والثانية تفيد عدم جواز استقبال غيره فيها ما دامت تحتم استقبال المسجد الحرام في أي مكان نكون فيه.
وقيل إن الآية المذكورة ليست منسوخة وإنما هي محكمة وهذا ما نرجحه لأنها نزلت ردا على قول اليهود حين حولت القبلة إلى الكعبة: {مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} إذن فهي متأخرة في النزول عن آية التحويل كما قال ابن عباس وليس بمعقول أن يكون الناسخ سابقا على المنسوخ ثم إن معناها هكذا إن الآفاق كلها لله وليس سبحانه في مكان خاص منها وليس له جهة معينة فيها وإذن فله أن يأمر عباده باستقبال ما يشاء من الجهات في الصلاة وله أن يحولهم من جهة إلى جهة وهذا المعنى كما ترى لا يتعارض وأن يأمر الله عباده وجوبا باستقبال الكعبة دون غيرها بعد أن أمرهم باستقبال بيت المقدس وحيث لا تعارض فلا نسخ بل الآيتان محكمتان ويؤيد إحكام هذه الآية أن جملة {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} وردت بنصها في سياق الآيات النازلة في التحويل إلى الكعبة ردا على من طعنوا فيه اقرأ إن شئت قوله سبحانه: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} وبعضهم يمنع التعارض ويدفع النسخ بأن آية {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} تفيد جواز التوجه إلى غير الكعبة في خصوص صلاة النافلة سفرا على الدابة ويقول إن هذا الحكم باق لم ينسخ أما الآية الثانية فتفيد وجوب استقبال الكعبة في الفرائض وبعضهم يحمل الآية الأولى على التوجه في الدعاء والثانية على التوجه في الصلاة وإذن
لا تعارض على هذين الاحتمالين وحيث لا تعارض فلا نسخ ولكن هذين الرأيين وإن وافقا الرأي السابق في إحكام الآية فهما مبنيان على تأويل في معنى الآية يخالف الظاهر كما هو ظاهر نعم إن آية {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} ناسخة لما كان واجبا بالسنة من وجوب استقبال بيت المقدس على رأي من لا يمنع نسخ السنة بالقرآن.
الآية الثانية
{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} فإنها تفيد أن الوصية للوالدين والأقربين فرض مكتوب وحق واجب على من حضرهم الموت من المسلمين وقد اختلف في نسخ هذه الآية وفي ناسخها فالجمهور على أنها منسوخة وأن ناسخها آيات المواريث وقيل إنها منسوخة بالسنة وهي قوله صلى الله عليه وسلم: "لا وصية لوارث" وقيل منسوخة بإجماع الأمة على عدم وجوب الوصية للوالدين والأقربين وقيل إنها محكمة لم تنسخ ثم اختلف هؤلاء القائلون بالإحكام فبعضهم يحملها على من حرم الإرث من الأقربين وبعضهم يحملها على من له ظروف تقضي بزيادة العطف عليه كالعجزة وكثيري العيال من الورثة.
ورأيي أن الحق مع الجمهور في أن الآية منسوخة وأن ناسخها آيات المواريث أما القول بإحكامها فتكلف ومشي في غير سبيل لأن الوالدين وقد جاء ذكرهما في الآية لا يحرمان من الميراث بحال ثم إن أدلة السنة متوافرة على عدم جواز الوصية لوارث محافظة على كتلة الوارثين أن تتفتت وحماية للرحم من القطعية التي نرى آثارها السيئة بين من زين الشيطان لمورثهم أن يزرع لهم شجرة الضغينة قبل موته بمفاضلته بينهم في الميراث عن طريق الوصية.
وأما القول بأن الناسخ السنة فيدفعه أن هذا الحديث آحادي والآحادي ظني والظني لا يقوى على نسخ القطعي وهو الآية وأما القول بأن الناسخ هو الإجماع فيدفعه ما بيناه من عدم جواز نسخ الإجماع والنسخ به نعم إن نسخ آية الوصية بآيات المواريث فيه شيء من الخفاء والاحتمال ولكن السنة النبوية أزالت الحفاء ورفعت الاحتمال حين أفادت أنها ناسخة إذ قال صلى الله عليه وسلم بعد نزول آية المواريث إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث وفي هذا المعنى ينقل عن الشافعي ما خلاصته إن الله تعالى أنزل آية الوصية وأنزل آية المواريث فاحتمل أن تكون الوصية باقية مع المواريث واحتمل أن تكون المواريث ناسخة للوصية وقد طلب العلماء ما يرجح أحد الاحتمالين فوجدوه في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا وصية لوارث" وهذا الخبر وإن كان آحاديا لا يقوى على نسخ الآية فإنه لا يضعف عن بيانها وترجيح احتمال النسخ على احتمال عدمه فيها.
هذا ولا يفوتنا أن نشير إلى أن الشعبي والنخعي ذهبا إلى عدم نسخ آية الوصية مستندين إلى أن حكمها هو الندب لا الوجوب فلا تعارض بينها وبين آية المواريث كما لا تعارض بينها وبين حديث لا وصية لوارث لأن معناه لا وصية واجبة وهو لا ينافي ندب الوصية وحيث لا تعارض فلا نسخ ولكن هذا الرأي سقيم فيما نفهم لأنه خلاف الظاهر المتبادر من لفظ كتب المعروف في معنى الفرضية ومن لفظ حقا على المتقين المعروف في معنى الإلزام ومن شواهد السنة الناهية عن الوصية لوارث.
الآية الثالثة
{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} فإنها تفيد تخيير من يطيق الصوم بين الصوم
والإفطار مع الفدية وقد نسخ ذلك بقوله سبحانه: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} المفيد لوجوب الصوم دون تخيير على كل صحيح مقيم من المسلمين.
وقيل إ ن الآية محكمة لم تنسخ لأنها على حذف حرف النفي والتقدير {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} ويدل على هذا الحذف قراءة {يُطِيقُونَهُ} بتشديد الواو وفتحها والمعنى يطيقونه بجهد ومشقة وإذن لا تعارض ولا نسخ ويرد هذا الرأي أولا بأنه مبني على أن في الآية حذفا ولا ريب أن الحذف خلاف الأصل أما قراءة يطوقونه بالتشديد فلا تدل على مشقة تصل بصاحبها إلى جواز الفطر بعد إيجاب الصوم من غير تخيير بل تدل على مشقة ما ولا شك أن كل صوم فيه مشقة ما خصوصا أول مشروعيته ثانيا أن أبا جعفر النحاس روى في كتابه الناسخ والمنسوخ عن أبي سلمة بن الأكوع أنه قال لما نزلت هذه الآية: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} كان من شاء منا صام ومن شاء أن يفتدي فعل حتى نسختها الآية بعدها.
الآية الرابعة
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} فإن هذا التشبيه يقتضي موافقة من قبلنا فيما كانوا عليه من تحريم الوطء والأكل بعد النوم ليلة الصوم وقد نسخ ذلك بقوله سبحانه: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} كذلك قالوا ولكنك تعلم أن التشبيه لا يجب أن يكون من كل وجه وإذن فالتشبيه في الآية الأولى لا يقضي بما ذكروه من وجوب موافقة أهل الكتاب فيما كانوا عليه في صومهم استدلالا بالتشبيه في قوله: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} وعلى هذا فلا تعارض بين الآيتين وحيث انتفى التعارض انتفى النسخ.
الآية الخامسة
{يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} فإنها تفيد حرمة القتال في الشهر الحرام وقد روى ابن جرير عن عطاء بن ميسرة أنها منسوخة بقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} ونقل أبو جعفر النحاس إجماع العلماء ما عدا عطاء على القول بهذا النسخ ووجه ذلك أن آية {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} أفادت الإذن بقتال المشركين عموما والعموم في الأشخاص يستلزم العموم في الأزمان وأيدوا ذلك بأن رسول صلى الله عليه وسلم قاتل هوزان بحنين وثقيفا بالطائف في شوال وذي القعدة سنة ثمان من الهجرة ولا ريب أن ذا القعدة شهر حرام وقيل إن النسخ لم يقع بهذه الآية إنما وقع بقوله سبحانه: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} فإن عموم الأمكنة يستلزم عموم الأزمنة.
ذلك رأي الجمهور وهو محجوج فيما نفهم بما ذهب إليه عطاء وغيره من أن عموم الأشخاص في الآية الأولى وعموم الأمكنة في الآية الثانية ولا يستلزم واحد منهما عموم الأزمنة وإذن فلا تعارض ولا نسخ بل الآية الأولى نهت على العموم في الأشخاص والثانية نبهت على العموم في الأمكنة وكلاهما غير مناف لحرمة القتال في الشهر الحرام لأن عموم الأشخاص وعموم الأمكنة يتحققان في بعض الأزمان الصادق بما عدا الأشهر الحرم ويؤيد ذلك أن حرمة القتال في الشهر الحرام لا تزال باقية اللهم إلا إذا كان جزاء لما هو أشد منه فإنه يجوز حينئذ لهذا العارض كما دل عليه قول الله في الآية نفسها: {وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} .
الآية السادسة
{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} فإنها منسوخة بقوله سبحانه: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} لأن الآية الأولى أفادت أن من توفي عنها زوجها يوصي لها بنفقة سنة وبسكنى مدة حول ما لم تخرج فإن خرجت فلا شيء لها وأما الثانية فقد أفادت وجوب انتظارها أربعة أشهر وعشرا ولازم هذا أنه لا يجوز لها أن تخرج في هذه المدة أو تتزوج.
وقيل إن ذلك تخصيص لا نسخ فإن المرأة قد تكون عدتها سنة كاملة إذا كانت حاملا ويرد هذا بأن الآية الأولى تفيد اعتداد المرأة حولا كاملا إذا كانت غير حامل أو كانت حاملا ولم يمكث حملها سنة والآية الثانية قد رفعت هذا جزما وذلك محقق للنسخ على أن الاعتداد حولا كاملا فيما إذا كانت المرأة حاملا ليس لدلالة الآية الأولى عليه بل لآية وأولت الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن وهذا لا يتقيد بعام بل ربما يزيد أو ينقص.
وقيل إن الآية الأولى محكمة ولا منافاة بينها وبين الثانية لأن الأولى فيما إذا كان هناك وصية للزوجة بذلك ولم تخرج ولم تتزوج أما الثانية ففي بيان العدة والمدة التي يجب عليها أن تمكثها وهما مقامان مختلفان ويرد هذا بأن الآية الأولى تجعل للمتوفى عنها حق الخروج في أي زمن وحق الزواج ولم تحرم عليها شيئا منهما قبل أربعة أشهر وعشر أما الثانية فقد حرمتهما وأوجبت عليها الانتظار دون خروج وزواج طوال هذه المدة فالحق هو القول بالنسخ وعليه جمهور العلماء.
الآية السابعة
{وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} فإنها منسوخة بقوله سبحانه: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} لأن الآية الأولى تفيد أن الله يكلف العباد حتى بالخطرات التي لا يملكون دفعها والآية الثانية تفيد أنه لا يكلفهم بها لأنه لا يكلف نفسا إلا وسعها والذي يظهر لنا أن الآية الثانية مخصصة للأولى وليست ناسخة لأن إفادة الأولى لتكليف الله عباده بما يستطيعون مما أبدوا في أنفسهم أو أخفوا لا تزال هذه الإفادة باقية وهذا لا يعارض الآية الثانية حتى يكون ثمة نسخ.
وقال بعضهم: إن الآية محكمة لأنها خاصة بكتمان الشهادة وإظهارها ويرده أنه لا دليل على هذا التخصيص.
وقال بعضهم: إنها محكمة مع بقائها على عمومها والمعنى أن الله يحاسب المؤمنين والكافرين بما أبدوا وبما أخفوا فيغفر للمؤمنين ويعذب الكافرين والمنافقين ويرده أن هذا العموم لا يسلم بعد ما تقرر من أن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها سواء أكانت نفسا مؤمنة أم كافرة لأن لفظ {نَفْساً} نكرة في سياق النفي فيعم.
الآية الثامنة
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} قال السيوطي ليس في آل عمران آية يصح فيها دعوى النسخ إلا هذه الآية فقد قيل إنها منسوخة بقول الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} .اهـ.
والذي يبدو لنا أنها غير منسوخة لأن الآيتين غير مسلم فإن تقوى الله حق تقوه المأمور بها في الآية الأولى معناها الإتيان بما يستطيعه المكلفون من هداية الله دون ما خرج عن استطاعتهم وقد ورد تفسيرها بأن يحفظ الإنسان رأسه وما وعى،
وبطنه وما حوى ويذكر الموت والبلى ولا ريب أن ذلك مستطاع بتوفيق الله فإذن لا تعارض بينها وبين قوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} وحيث لا تعارض فلا نسخ.
الآية التاسعة
{وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً} قيل إنها منسوخة بآيات المواريث والظاهر أنها محكمة لأنها تأمر بإعطاء أولي القربى والمساكين الحاضرين لقسمة التركة شيئا منها وهذا الحكم باق على وجه الندب ما دام المذكورون غير وارثين ولا تعارض ولا نسخ.
نعم لو كان حكم إعطاء هؤلاء هو الوجوب ثم رفع بآيات المواريث وتقرر الندب بدليل آخر بدلا من الحكم الأول فلا مفر من القول بالنسخ ولكن المأثور عن ابن عباس أن الآية محكمة غير أن الناس تهاونوا بالعمل بها وهذا يجعلنا نرجع أن في الآية كان للندب لا للوجوب من أول الأمر حتى يتأتى القول بإحكامها فتأمل.
الآية العاشرة
{وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} نسخها قوله الله: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} وقيل إنها على توريث الموالاة وتوريثهم باق غير أن رتبتهم في الإرث بعد رتبة ذوي الأرحام وبذلك يقول فقهاء العراق.
الآية الحادية عشرة
{وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} فإنها منسوخة بآية النور وهي {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} وذلك بالنسبة إلى البكر رجلا كان أو امرأة أما الثيب من الجنسين فقد نسخ الحكم الأول بالنسبة إليهما وأبدل بالرجم الذي دلت عليه تلك الآية المنسوخة التلاوة وهي الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة دلت عليه السنة أيضا.
وبعضهم يقول بالإحكام وعدم النسخ ذاهبا إلى أن الآية الأولى جاءت فيمن أتين مواضع الريب والفسوق ولم يتحقق زناهن أما الثانية فإنها فيمن تحقق زناهن ولكن هذا مردود من وجهين أحدهما أنه تأويل يصادم الظاهر بدون دليل لأن قوله يأتين الفاحشة يتبادر منه مقارفتهن نفس الفاحشة لا مجرد غشيان مكانها والأخذ بأسبابها: والآخر قوله خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب جلد مائة والرجم.
القربى واليتامى والمساكين الحاضرين لقسمة التركة شيئا منها وهذا الحكم باق على وجه الندب ما دام المذكورون غير وارثين ولا تعارض ولا نسخ.
نعم لو كان حكم إعطاء هؤلاء هو الوجوب ثم رفع بآيات المواريث وتقرر الندب بدليل آخر بدلا من الحكم الأول فلا مفر من القول بالنسخ ولكن المأثور عن ابن عباس أن الآية محكمة غير أن الناس تهاونوا بالعمل بها وهذا يجعلنا نرجح أن في الأمر الآية كان للندب لا للوجوب من أول الأمر حتى يتأتى القول بإحكامها فتأمل
الآية الثانية عشرة
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ} قيل إن قوله ولا الشهر الحرام منسوخ بمقتضى عموم قوله وقاتلوا المشركين كافة وقد سبق القول في هذا فالحق عدم النسخ.
الآية الثالثة عشرة
{فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} فإنها منسوخة بقوله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} وقد قيل بعدم النسخ وأن الآية الثانية متممة للأولى فالرسول مخير بمقتضى الآية الأولى بين أن يحكم بينهم وأن يعرض عنهم وإذا اختار أن يحكم بينهم وجب أن يحكم بما أنزل الله بمقتضى الآية الثانية وهذا ما نرجحه لأن النسخ لا يصح إلا حيث تعذر الجمع.
الآية الرابعة عشرة
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} فإن قوله: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} منسوخ بقوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وقيل إنه لا نسخ لأن الآية الأولى خاصة بما إذا نزل الموت بأحد المسافرين وأراد أن يوصي فإن الوصية تثبت بشهادة اثنين عدلين من المسلمين أو غيرهم توسعة على المسافرين لأن ظرف السفر ظروف دقيقة قد يتعسر أو يتعذر وجود عدلين من المسلمين فيها فلو لم يبح الشارع إشهاد غير المسلمين لضاق الأمر وربما ضاعت الوصية أما الآية الثانية فهي القاعدة العامة في غير ظروف السفر.
الآية الخامسة عشرة
{إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} منسوخة بقوله سبحانه: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} ووجه النسخ أن الآية الأولى أفادت وجوب ثبات الواحد للعشرة وأن الثانية أفادت وجوب ثبات الواحد للاثنين وهما حكمان متعارضان
فتكون الثانية ناسخة للأولى وقيل لا تعارض بين الآيتين ولا نسخ لأن الثانية لم ترفع الحكم الأول بداهة أنه لم يقل فيها لا يقاتل الواحد العشرة إذا قدر على ذلك بل هي مخففة فحسب على معنى أن المجاهد إن قدر على قتال العشرة فله الخيار رخصة من الله له بعد أن اعتز المسلمون ولكنك ترى أن النسخ على هذا الوجه لا مفر منه أيضا لأن الآية الأولى عينت على المجاهد أن يثبت لعشرة والثانية خيرته بين الثبات لعشرة وعدم الثبات لأكثر من اثنين ولا ريب أن التخيير يعارض الإلزام على وجه التعيين.
الآية السادسة عشرة
{نْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} فإنها نسخت بآيات العذر وهي قوله: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} وقوله: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} وقيل إن الآية الأخيرة في النفر للتعليم والتفقه لا للحرب والآيتان قبلها مخصصتان لا ناسختان للآية الأولى كأنه قال من أول الأمر لينفر منكم خفافا وثقالا كل من احتيج إليه وهو قادر لا عذر له.
الآية السابعة عشرة
{الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} فإنها منسوخة بقوله سبحانه: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} لأن الآية خبر بمعنى النهي بدليل قراءة {لا يَنْكِحُ} بالجزم والقراءات يفسر بعضها بعضا وقيل بعدم النسخ تفسير للآية الأولى بأن الزاني المعروف بالزنى لا يستطيع أن ينكح إلا زانية أو مشركة لنفور المحصنات المؤمنات من زواجه وكذلك المرأة المعروفة بالزنى لا يرغب في نكاحها إلا زان أو مشرك لنفور المؤمنين الصالحين من زواجها
والحق أن الآية منسوخة لأنها خبر بمعنى النهي كما سبق ولأن الأمر بالنسبة للمشرك والمشركة لا يستقيم إلا مع القول بالنسخ.
الآية الثامنة عشرة
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ} قيل إن هذه الآية منسوخة لكن لا دليل على نسخها فالحق أنها محكمة وهي أدب عظيم يلزم الخدم والصغار البعد عن مواطن كشف العورات حماية للأعراض من الانتهاك وحفظا للأنظار أن ترى ما لا تليق رؤيته في أوقات التبذل.
الآية التاسعة عشرة
{لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} نسخها قول الله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} .
واعلم أن هذا النسخ لا يستقيم إلا على أن هذه الآية متأخرة في النزول عن الآية الأولى وأن الله قد أحل للرسول في آخر حياته ما كان قد حرمه عليه من قبل في قوله: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} الخ.
وذلك مروي عن علي كرم الله وجهه وعن ابن عباس رضي الله عنه وعن أم سلمة رضوان الله عليها وعن الضحاك رحمه الله وعن الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما أخرج أبو داود في ناسخه والترمذي وصححه والنسائي والحاكم وصححه أيضا،
وابن المنذر وغيرهم عن عائشة رضي الله عنها قالت: "لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل الله تعالى له أن يتزوج من النساء إلا ذات محرم" الخ.
والسر في أن الله حرم على الرسول أولا ما عدا أزواجه ثم أحل له ما حرمه عليهن هو أن التحريم الأول فيه تطبيب لقلوب نسائه ومكافأة لهن على اختيارهن الله ورسوله والدار الآخرة بعد أن نزلت آيات التخيير في القرآن ثم إن إحلال هذا الذي حرم على رسوله مع عدم زواج الرسول صلى الله عليه وسلم من غيرهن بعد هذا الإحلال كما ثبت ذلك فيه بيان صلى الله عليه وسلم لفضله ومكرمته عليهن حيث قصر نفسه ولم يتزوج بغيرهن مع إباحة الله له ذلك.
وقد جاءت روايات أخرى في هذا الموضوع تخالف ما ذكرناه لكن لم يثبت لدينا صحة شيء منها ولهذا رجحنا ما بسطناه ولا يعكر صفو القول بالنسخ هنا ما نلاحظه من تأخر الآية المنسوخة عن الناسخة في المصحف لأن المدار على ترتيب النزول لا على ترتيب المصحف كما تعلم.
الآية العشرون
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} ذلك خير فإنها نسخت بقوله سبحانه: عقب تلك الآية: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} قيل لا نسخ بحجة أن الآية الثانية بيان للصدقة المأمور بها في الأولى وأنه يصح أن تكون صدقة غير مالية من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الله ورسوله وأنت خبير بأن هذا ضرب من التكلف في التأويل يأباه ما هو معروف من معنى الصدقة حتى أصبح لفظها حقيقة عرفية في البذل المالي وحده وقيل إن وجوب تقديم الصدقة إنما زال بزوال سببه وهو تمييز المنافق من غيره وهذا مردود بأن كل حكم منسوخ فإنما نسخه الله لحكمة من نحو مصلحة أو سبب كان يرتبط به الحكم الأول ثم زالت تلك المصلحة أو ذلك السبب.
الآية الحادية والعشرون
{وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا} نسختها آية الغنيمة وهي قوله سبحانه: واعملوا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسة وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل وبيان ذلك أن الآية الأولى تفيد أن زوجات المسلمين اللاتي ارتددن ولحقن بدار الحرب يجب أن يدفع إلى أزواجهن مثل مهورهن من الغنائم التي يغنمها المسلمون ويعاقبون العدو بأخذها والآية الثانية تفيد أن الغنائم تخمس أخماسا ثم تصرف كما رسم الشارع ولكنك بالتأمل تستظهر معنا أنه لا نسخ لأن الآيتين لا تتعارضان بل يمكن الجمع بينهما بأن يدفع من الغنائم أولا مثل مهور هذه الزوجات المرتدات اللاحقات بدار الحرب ثم تخمس الغنائم بعد ذلك أخماسا وتصرف في مصارفها الشرعية.
الآية الثانية والعشرون
{يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} فإنها منسوخة بقوله سبحانه في آخر هذه السورة: {اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} الخ وبيان ذلك أن الآية الأولى أفادت وجوب قيامه من الليل نصفه أو أنقص منه قليلا أو أزيد عليه أما الثانية فقد أفادت أن الله تاب على النبي وأصحابه في هذا بأن رخص لهم في ترك هذا القيام المقدر ورفع عنهم كل تبعة في ذلك الترك كما رفع التبعات عن المذنبين بالتوبة إذا تابوا.