الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الترجمة ليست تعريفا منطقيا:
أوجس بعض الباحثين خيفة من أن يظن أحد أن الترجمة من قبيل التعريف اللفظي ولكنا إذا أمعنا النظر رأينا أن الترجمة بالمعنى العرفي الذي قررناه لا يمكن أن تكون تعريفا لفظيا ولا حقيقيا وذلك من وجهين.
أحدهما أن التعاريف كلها من قبيل التصورات أما الترجمة فكلام تام وقضايا كاملة وهي بلا شك من قبيل التصديقات.
ثانيهما أن صيغة التعريف مرتبطة دائما بالمعرف لأنها قول شارح له والشرح والبيان مرتبط في صيغته بالمشروح والمبين أما الترجمة فقد فرغنا من أن صيغتها مستقلة عن الأصل المترجم لأن الغرض منها أن تقوم به بدلا منه وأن يستغني بها عنه فلا معنى لأن يجتمع فيها البدل والمبدل منه.
نعم إن تفسير المفرد بلغة غير لغته يكون من قبيل التعريف الحقيقي إن أفاد حصول صورته في ذهن المفسر له ويكون من قبيل التعريف اللفظي إن أفاد حضور صورته الحاصلة من قبل على نمط قولهم في تعريف الإنسان لمن لا يعرف حقيقته الإنسان حيوان ناطق وقولهم في تعريف البشر لمن يعرف حقيقة الإنسان ولا يعرف دلالة لفظ البشر عليه البشر هو الإنسان ولكننا لسنا هنا بصدد المفردات وتفسيرها فبحثنا في الترجمة لا في التفسير وفي الكلام المفيد لا الكلمات المفردة.
القرآن ومعانيه ومقاصده
الآن وقد انتهينا من الكلام على أول المتضايفين في لفظ ترجمة القرآن نقف معك وقفة أخرى بجانب ثاني هذين المتضايفين وهو القرآن نفسه لنستبين المراد به هنا ولنعرف أنواع معانيه ومقاصده تمهيدا للحكم الصحيح عليه بأنه تمكن ترجمته أو لا تمكن
المراد بالقرآن هنا:
ولقد سبقت كلمتنا في بيان مدلول القرآن وعرض الآراء والمذاهب فيه عرضا واسعا بالمبحث الأول في الجزء الأول من هذا الكتاب فارجع إليه إن شئت.
بيد أنا نلفت نظرك إلى أن المراد هنا في مبحث الترجمة هو اللفظ المعجز لا الصفة القديمة صفة الكلام ولا الكلمات النفسية الحكمية ولا النقوش المكتوبة على ما قررناه ثمة وإنما كان المراد بالقرآن خصوص اللفظ المعجز لأن الترجمة أضيفت إليه وبدهي أن الترجمة لا تتناول إلا ما كان لفظا حقيقيا مصورا بصورة الحرف والأصوات ولا تتناول الصفة القديمة ولا الكلمات الحكمية الغيبية ولا النقوش المكتوبة اللهم إلا بضرب من التأويل.
معاني القرآن نوعان:
وبما أن الترجمة ملحوظ فيها الإحاطة بمعاني الأصل كلها نحيطك علما بأن القرآن الكريم بل أي كلام بليغ لا بد أن يحتوي ضربين من المعاني هما المعاني الأولية والمعاني الثانوية أو المعاني الأصلية والمعاني التابعة فالمعنى الأولي لأي كلام بليغ هو ما يستفاد من هذا الكلام ومن أي صيغة تؤديه سواه ولو بلغة أخرى كمجرد إسناد محكوم به إلى محكوم عليه وسمي معنى أوليا لأنه أول ما يفهم من اللفظ وسمي أصليا لأنه ثابت ثبات الأصول لا يختلف باختلاف المتكلمين ولا المخاطبين ولا لغات التخاطب بل هو مما يستوي فيه العربي والعجمي والحضري والبدوي والذكي والغبي.
أما المعنى الثانوي فهو ما يستفاد من الكلام زائدا على معناه الأولي وسمي ثانويا لأنه متأخر في فهمه عن ذلك وسمي تابعا لأنه أشبه بقيد فيه والقيد تابع للمقيد
أو لأنه يتغير بتغير التوابع فيختلف باختلاف أحوال المخاطبين وبإختلاف مقدرة المتكلمين وباختلاف الألسنة واللغات عكس ما تقدم ولنضرب لك أمثالا توضح دقائق هذين النوعين.
إذا أردت أن تخبر عن حاتم بالجود قلت جاد حاتم إن كنت تخاطب خالي الذهن من هذا الخبر وقلت حاتم جواد إذا كنت تخاطب شاكا مترددا فيه وقلت إن حاتما جواد إذا كنت تخاطب منكرا غير مسرف في إنكاره وقلت والله إن حاتما لجواد إذا كان مخاطبك مسرفا في الإنكار وقلت حاتم سخي جواد كريم معطاء إذا كان المقام مقام مدح وقلت ما جواد إلا حاتم إذا كان مخاطبك يعتقد العكس وأن غير حاتم هو الجواد وقلت حاتم ممدود السماط أو كان في بني طيء بحر كثير الفيضان إذا كان على شيء من الذكاء وقلت حاتم مهزول الفصيل أو غمر حاتم بإنعامه الأنام إذا كان مخاطبك على جانب عظيم من الذكاء.
فأنت ترى أن هذه الأمثلة كلها دارت على معنى واحد إستوت جميعها في أدائه هو نسبة الجود إلى حاتم فذلك هو المعنى الأولي أو الأصلي ثم أنت ترى بعد ذلك أن المعنى الأولي زيدت وعليه خصوصيات مختلفة ومزايا متغايرة هذه الأمثلة ففي المثال الأول تجرد من مؤكدات الحكم لأن المخاطب خالي الذهن وفي الثاني تأكيد باسمية الجملة استحسانا لأن المخاطب شاك وفي الثالث تأكيد بمؤكدين اسمية الجملة وإن لأن المخاطب منكر إنكارا يقتضيهما وفي الرابع تأكيد بمؤكدات أربعة اسمية الجملة وإن واللام والقسم لأن المخاطب مسرف في الإنكار وفي الخامس إطناب لأن المقام للمدح وهو يقتضي الإطناب وفي السادس قصر للجود على حاتم لأن المخاطب يعتقد العكس فقصرت انت قصر قلب لتعكس مراده عليه وفي السابع تجوز في التعبير بكناية قريبة واستعارة تصريحية لأن المخاطب على شيء من الذكاء وفي الثامن تجوز في التعبير بكناية بعيدة واستعارة مكنية لأن المخاطب على جانب عظيم من الذكاء بحيث تكفيه الإشارة الخفية واللمحة القصية.