الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السادس: مظاهر احتياط الصحابة في قبول الحديث الشريف
1
كما احتاط الصحابة في التحديث احتاطوا أيضًا وتثبتوا في قبول الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خشية الوقوع في الخطأ، ومن مظاهر ذلك ما يلي:
الأول: طلبهم شاهدًا على السماع: قال الحافظ الذهبي: كان أبو بكر رضي الله عنه أول من احتاط في قبول الأخبار، فروى ابن شهاب عن قبيصة بن ذؤيب أن الجدة جاءت إلى أبي بكر تلتمس أن تُورث، فقال: ما أجد لك في كتاب الله شيئًا، وما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر لك شيئًا، ثم سأل الناس، فقام المغيرة فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيها السدس، فقال له: هل معك أحد؟ فشهد محمد بن مسلمة بمثل ذلك، فأنفذه لها أبو بكر رضي الله عنه2.
وروى الإمام البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: "كنت في مجلس من مجالس الأنصار إذ جاء أبو موسى كأنه مذعور، فقال: استأذنت على عمر ثلاثًا، فرجعت فقال: ما منعك؟ قلت: استأذنت ثلاثًا فلم يؤذن لي فرجعت، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا استأذن أحدكم ثلاثًا فلم يؤذن له فليرجع"، فقال: والله لتقيمن عليه ببينة3، أمنكم أحد سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال أُبي بن كعب: والله لا يقوم معك إلا أصغر القوم، فكنت أصغر القوم، فقمت معه، فأخبرت عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك4، فقال عمر لأبي موسى: أما إني لم أتهمك؛ ولكن خشيت أن يتقول الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم5.
1 راجع: المدخل إلى توثيق السنة "ص32-34".
2 تذكرة الحفاظ "1/ 3" والحديث في الموطأ "2/ 513"، وسنن أبي داود "3/ 316، 317""13" كتاب الفرائض "5" باب في الجدة - حديث "2894"، سنن الترمذي "4/ 365، 366""30" كتاب الفرائض "10" باب ما جاء في ميراث الجدة - حديث "2100"، "2101"، سنن ابن ماجه "2/ 108، 109""23" كتاب الفرائض "4" باب ميراث الجدة - حديث "2724".
3 في لفظ مسلم: فقال عمر: أقم عليه البينة وإلا أوجعتك.
4 صحيح البخاري بحاشية السندي "4/ 88"، صحيح مسلم "3/ 1694". وهو في الموطأ "2/ 964".
5 الموطأ "2/ 964".
وروى الإمام مسلم عن المسور بن مخرمة قال: استشار عمر بن الخطاب الناس في ملاص المرأة1، فقال المغيرة بن شعبة: شهدت النبي قضى فيه بغُرَّة2: عبد أو أمة. قال: فقال عمر رضي الله عنه: ائتني بمن يشهد معك. قال: فشهد له محمد بن مسلمة3.
وروى صفوان بن عيسى: أخبرنا محمد بن عمار عن عبد الله بن أبي بكر قال: كان للعباس بيت في قبلة المسجد، فضاق المسجد على الناس، فطلب إليه عمر البيع فأبى، فذكر الحديث4. وفيه: فقال عمر لأُبي: لتأتيني على ما تقول ببينة، فخرجا فإذا ناس من الأنصار قال: فذكرهم، قالوا: قد سمعنا هذا5 من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر: أما إني لم أتهمك؛ ولكني أحببتُ أن أتثبت6.
1 ملاص: هو جنين المرأة، والمشهور لغة: إملاص المرأة.
2 الغرة: العبد والأمة، فعبر عن الكل بالبعض، وأصل الغرة بياض الوجه، وغرة كل شيء أوله وأكرمه.
3 صحيح مسلم "3/ 1311""28" كتاب القسامة "11" باب دية الجنين
…
حديث رقم "39/ 1689".
4 انظر طبقات ابن سعد "4/ 1/ 13، 14" و"3/ 1/ 203" ونصه كما رواه ابن سعد عن سالم أبي النضر أن عمر قال له: اختر مني إحدى ثلاث: إما أن تبيعنيها بما شئت من بيت مال المسلمين، وإما أن أخططك حيث شئت من المدينة وأبنيها لك من بيت مال المسلمين، وإما أن تصدق بها على المسلمين فتوسع بها في مسجدهم، فقال: لا ولا واحدة منها، فقال عمر: بيني وبينك من شئت، فقال: أُبي بن كعب، فانطلقا إلى أُبي، فقصا عليه القصة فقال أبي: إن شئتما حدثتكما بحديث سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم فقالا: حدثنا، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله أوحى إلى داود أن ابن لي بيتًا أُذكر فيه، فخط له هذا الخطة خطة بيت المقدس، فإذا تربيعها بيت رجل من بني إسرائيل، فسأله داود أن يبيعه إياه، فأبَى فحدث داود نفسه أن يأخذه منه، فأوحى الله إليه أن يا داود أمرتك أن تبني لي بيتًا أذكر فيه، فأردت أن تدخل في بيت الغصب، وليس من شأني الغصب، وإن عقوبتك ألا تبنيه، قال: يا رب فمن ولدي، قال: من ولدك". قال: فأخذ عمر رضي الله عنه بمجامع ثياب أبي بن كعب رضي الله عنه وقال: جئتك بشيء فجئت بما هو أشهد منه لتخرجن مما قلت. فجاء يقوده حتى أدخله المسجد فأوقفه على حلقة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم أبو ذر، فقال: إني نشدت إليه رجلًا سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر حديث بيت المقدس حين أمر الله داود أن يبنيه إلا ذكره، فقال أبو ذر: أنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال آخر: أنا سمعته، وقال آخر: لنا سمعته -يعني من الرسول صلى الله عليه وسلم قال: فأرسل عمر أُبيًّا، قال: وأقبل أُبي على عمر فقال: يا عمر، أتتهمني على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال عمر: يا أبا المنذر، لا والله ما اتهمتك عليه؛ ولكني كرهت أن يكون الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهرًا، وقال عمر للعباس: اذهب فلا أعرض لك في دارك، فقال العباس: أما إذ فعلت هذا، فإني قد تصدقت بها على المسلمين أوسِّع بها عليهم في مسجدهم، فأما وأنت تخاصمني فلا، فخط عمر لهم دارهم التي هي لهم اليوم، وبناها من بيت مال المسلمين.
5 أي: حديث بناء بيت المقدس الذي ذكره أبي بن كعب رضي الله عنه.
6 تذكرة الحفاظ "1/ 8" وانظر: طبقات ابن سعد "4/ 1/ 13، 14".
وعن مالك بن أوس قال: سمعت عمر يقول لعبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير وسعد: نشدتكم بالله الذي تقوم السماء والأرض به أعلمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنا لا نورث، ما تركناه صدقة"؟ قالوا: اللهم نعم1.
وعن بُسر بن سعيد قال: أتى عثمانُ المقاعد، فدعا بوضوء، فتمضمض واستنشق ثم غسل وجهه ثلاثًا، ويديه ثلاثًا ثلاثًا، ثم مسح برأسه ورجليه ثلاثًا ثلاثًا، ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا يتوضأ، يا هؤلاء أكذاك؟ "لنفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عنده" قالوا: نعم2.
الثاني: التشدد في الحفظ والأداء خشية أن يكون الواحد منهم سمع الحديث أو حفظه على وجه لا ينبغي فيخطئ في أدائه، ويكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كان غير متعمد، فقللوا من روايتهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن المقل في الرواية أضبط وأتقن لما يُروى. قال عثمان بن عفان رضي الله عنه: ما يمنعني أن أحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أكون أوعى أصحابه عنه؛ ولكني أشهد لَسَمِعتُه يقول: "مَن قال عليَّ ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار"3.
ويقول الإمام علي كرم الله وجهه: "إذا حدثتكم عن رسول الله فلأن أخرَّ من السماء أحب إليَّ من أن أقول عليه ما لم يقل"4.
وصح عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه خطبهم فقال: "إياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار"5. فأبو بكر يبين للناس جميعًا أنه لا يحدث إلا بما يعلم ويثق منه، ثم إنه لم يكتفِ بالحيطة لنفسه؛ بل أمر الناس بذلك أيضًا، وحثهم على التثبت فيما يحدثون به أو يستمعونه، ومن
1 مسند أحمد "1/ 288، 186، 187" وإسناده صحيح.
2 مسند أحمد "1/ 372" بإسناد صحيح.
3 مسند أحمد "1/ 65".
4 صحيح مسلم بشرح النووي "3/ 116".
5 تذكرة الحفاظ "1/ 4"، وفي مقدمة التمهيد "1/ 11" ولفظه: قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: "إياكم والكذب؛ فإنه مجانب الإيمان".
ذلك ما رواه الذهبي من مراسيل ابن أبي مليكة: أن الصديق جمع الناس بعد وفاة نبيهم فقال: "إنكم تحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم أشد اختلافًا، فلا تحدثوا عن رسول الله شيئًا، فمن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله، فاستحِلُّوا حلاله وحرِّموا حرامه".
ثم قال الحافظ الذهبي: "يدلك هذا أن مراد الصديق التثبت في الأخبار والتحري، لا سد باب الرواية، ألا تراه لما نزل به أمر الجدة ولم يجده في الكتاب كيف سأل عنه في السنن، فلما أُخْبِرَه ما اكتفى حتى استظهر بثقة آخر، ولم يقل: حسبنا كتاب الله كما تقوله الخوارج"1.
الثالث: أنهم تشددوا مع الآخرين الذين يتلقون عنهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: كما يوضح ذلك قول البراء بن عازب رضي الله عنه: "ما كل الحديث سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحدثنا أصحابنا وكنا منشغلين في رعاية الإبل، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يطلبون ما يفوتهم سماعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسمعونه من أقرانهم وممن هو أحفظ منهم، وكانوا يشددون على من يسمعون منه"2، فروى الزهري أنا أبا بكر رضي الله عنه حدث رجلًا حديثًا فاستفهمه إياه، فقال أبو بكر: هو كما حدثتك، أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا أنا قلت ما لم يقل3.
الرابع: ومن مظاهر هذا التشدد: أنهم كانوا يستحلفون الراوي عن الرسول مهما كانت منزلته من رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الإسلام؛ فقد روى علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه- حديثًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام إليه عَبِيدَة السلماني فقال: "يا أمير المؤمنين، والله الذي لا إله إلا هو لَسَمِعتَ هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: إي والله الذي لا إله إلا هو" حتى استخلفه ثلاثًا وهو يحلف4.
1 تذكرة الحفاظ "1/ 3، 4"، وانظر: السنة قبل التدوين "ص113".
2 معرفة علوم الحديث للحاكم "ص14".
3 راجع: السنة قبل التدوين لمحمد عجاج الخطيب "ص112، 113" ومصادره.
4 صحيح مسلم بشرح النووي "3/ 118، 119".
وكذلك كان علي رضي الله عنه يفعل، فروى الترمذي في سننه عن أسماء بن الحكيم الفزاري قال: سمعت عليًّا يقول: إني كنت رجلًا إذا سمعتُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا نفعني الله منه بما شاء أن ينفعني به، وإذا حدثني رجل من أصحابه استحلفته، فإذا حلف صدقته، وإنه حدثني أبو بكر -وصدق أبو بكر- قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من رجل يذنب ذنبًا ثم يقوم فيتطهر ثم يصلي ثم يستغفر الله إلا غفر له" الحديث1.
الخامس: ومن مظاهر هذا التشدد أيضًا أن بعضهم حَرَصَ على ألا يأخذ حديثًا منقطعًا لم يسمعه ناقله من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا إذا بيَّن إسناده الموصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومثال ذلك حديث مسلم الذي رواه أربعة من الصحابة: عمرو بن السعدي عن حُويطب، عن السائب، عن عمر بن الخطاب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعطي عمر بن الخطاب رضي الله عنه العطاء فيقول عمر: أعطِه يا رسول الله أفقر إليه مني، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"خذه فتموَّلْه أو تصدق به، وما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه، وإلا فلا تُتْبِعهُ نفسَك"2.
وقال النووي في شرحه للحديث: "وقد جاءت جملة من الأحاديث فيها أربعة صحابيون يروي بعضهم عن بعض، أو أربعة تابعيون يروي بعضهم عن بعض"3.
السادس: ومن مظاهر الحيطة التوقف في قبول الحديث وعرضه على القرآن الكريم: مثاله: إنكار السيدة عائشة رضي الله عنها حديث عمر: "إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه"؛ حيث فهم سيدنا عمر رضي الله عنه أن ذلك عام، وأن التعذيب بسبب بكاء الأهل على الميت، فأنكرت عليه ذلك، وقالت: إنما قال النبي صلى الله عليه وسلم في يهودية
1 سنن الترمذي "2/ 257، 258"، ومسند أحمد "1/ 154، 174، 178".
2 صحيح مسلم بشرح النووي "3/ 84، 85".
و"مشرف" أي: قائم على عمل بالإشراف، "فلا تتبعه نفسك" أي: لا تحرص عليه.
3 المصدر السابق.
أنها تعذب وهم يبكون عليها؛ يعني: تعذب بكفرها في حال بكاء أهلها لا بسبب البكاء، واحتجت بقوله تعالى:{أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [النجم: 38] وقوله: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [فاطر: 18] . فهي رضي الله عنها ترى أن الحديث يخص الكافر وحده ولم تكذِّبْ عمر ولا ابنه عبد الله في رواية الحديث وخاصة الذي جاء فيه لفظ "المؤمن""في الصحيحين"؛ وإنما ترى أنهما أخطآ أو نَسِيَا، واستندت إلى القرآن الكريم في الفَهْم الذي بان لها من روايات الحديث المختلفة.
ففي رواية في الصحيحين قالت: رحم الله عمر، والله ما حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله ليعذب المؤمن ببكاء أهله عليه؛ ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن الله ليزيد الكافر عذابًا ببكاء أهله عليه"، وقالت: حسبكم القرآن: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [فاطر: 18]1.
وفي رواية في المستدرك2: وأما قوله: إن الميت يعذب ببكاء الحي، فلم يكن الحديث على هذا؛ ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بدار رجل من اليهود قد مات وأهله يبكون عليه فقال:"إنهم ليبكون عليه، وإنه ليعذب"{وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [فاطر: 12] وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
وفي رواية عند مسلم قالت: يغفر الله لأبي عبد الرحمن -أي: ابن عمر- أما إنه لم يكذب؛ ولكنه نسي أو أخطأ، إنما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على يهودية يُبكى عليها، فقال:"إنهم يبكون عليها، وإنها لتعذب في قبرها"3.
وفي رواية عند مسلم أيضًا قالت: يرحم الله أبا عبد الرحمن سمع شيئًا فلم يحفظه، إنما مرت على رسول الله صلى الله عليه وسلم جنازة يهودي، وهم يبكون عليه، فقال:"أنتم تبكون عليه وإنه ليعذب"4.
1 صحيح البخاري "1/ 397" كتاب الجنائز "23" باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يعذب الميت ببكاء أهله عليه" - حديث "1286، 288".
صحيح مسلم "2/ 641، 642""11" كتاب الجنائز "9" باب الميت يعذب ببكاء أهله - حديث "928/ 23".
2 المستدرك للحاكم "2/ 215" كتاب العتق.
3 صحيح مسلم "2/ 643""11" كتاب الجنائز "9" باب الميت يعذب ببكاء أهله - حديث "932/ 27".
4 صحيح مسلم "2/ 642" الموضع السابق - الحديث "931/ 25".
وقد جاء في رواية أخرى تصريحها أيضًا بعدم تكذيب عمر وابنه عبد الله رضي الله عنهما ففي رواية: "إنكم لتحدثوني من غير كاذبين ولا مكذِّبين؛ ولكن السمع يخطئ"1، وفي رواية:"رحم الله عمر، ما كذب؛ ولكنه أخطأ، أو نسي"2.
وقد ذكر القرطبي أن عمر وابنه رضي الله عنهما لم ينفردا برواية الحديث؛ وإنما رُوي عن عدة من الصحابة، فلا وجه لإنكار هذا الحديث، والأَوْلَى حمله على محمل صحيح.
قال القرطبي: "إنكار عائشة ذلك وحكمها على الراوي بالتخطئة أو النسيان أو على أنه سمع بعضًا ولم يسمع بعضًا -بعيد؛ لأن الرواة لهذا المعنى من الصحابة كثيرون، وهم جازمون؛ فلا وجه للنفي مع إمكان حمله على محمل الصحيح، ومن هؤلاء: عمر، وابن عمر، والمغيرة بن شعبة، وقيلة بنت مخرمة"3.
وقد ذكر العلماء عدة أوجه محتملة في الجمع بين هذا الأحاديث التي رواها سيدنا عمر وغيره، والتي روتها السيدة عائشة رضي الله عنها.
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: وقد جمع كثير من أهل العلم بين حديثي عمر وعائشة بضروب الجمع:
- منها: أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه إذا أوصى أهله بذلك، وممن قال ذلك: المزي وإبراهيم الحربي وآخرون من الشافعية.
وقال أبو الليث السمرقندي: إنه قول عامة أهل العلم، ونقله النووي عن الجمهور، قالوا: وكان معروفًا للقدماء حتى قال طرفة بن العبد:
إذا مِتُّ فانعيني بما أنا أهله
…
وشُقِّي عليَّ الجيب يابنة مِعبَدِ
1 صحيح مسلم بشرح النووي "2/ 589-593".
2 الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة - للزركشي "ص76، 77".
3 المفهم "2/ 581".
ثم ذكر أن ذلك يقع أيضًا لمن نهى أهله عن ذلك ممن كان شأنهم ذلك، وهو قول داود وابن المرابط وطائفة.
- ويرى الإمام البخاري صحة الحديثين جميعًا؛ ولكن ليسا على إطلاقهما، فحديث عمر إنما هو في النوح المنهي عنه، والذي فيه التفوه بمعارضة القدر والتمرد عليه، وإذا كان من سنته ذلك، ولا يكون فيه معارضة للآية الكريمة:{وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [فاطر: 12] .
وقال نحو ذلك ابن حزم وطائفة، واستدل ابن حزم بحديث ابن عمر عند البخاري في قصة موت إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه:"ولكن يُعذب بهذا"، وأشار إلى لسانه، قال ابن حزم: فصح أن البكاء الذي يُعذب به الإنسان ما كان منه باللسان.
- وقيل: معنى التعذيب: توبيخ الملائكة له بما يَنْدُبه أهله به.
- وقيل: معنى التعذيب: تألم الميت بما يقع من أهله من النياحة وغيرها. اختاره الطبري ورجحه القاضي عياض وابن المرابط وابن تيمية1.
ومما سبق يتبين أنه لا تعارض بين السُّنَّة الصحيحة والقرآن الكريم.
وقد قال العلماء: إن السيدة عائشة حملت اللام للعهد، وحملها سيدنا عمر على الاستغراق، وذلك في رواية:"إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه"2.
السابع: ومن مظاهر الحيطة عرض السُّنَّة على السُّنَّة، ومثاله ما رواه أبو سلمة بن عبد الرحمن قال: دخلتُ على عائشة فقلت: يا أماه! إن جابر بن عبد الله يقول: "الماء من الماء" فقالت: "أخطأ، جابر أعلم مني برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ يقول: "إذا جاوز الختانُ الختانَ فقد وجب الغسل"، أيوجب الرجم ولا يوجب الغسل؟! "3
1 راجع: فتح الباري "3/ 185" وما بعدها في ترجمة الباب السابق للبخاري.
2 راجع: الإجابة للزركشي "ص92".
3 الإجابة "ص145".
ومثاله أيضًا حديث شريك بن عبد الله عن المقدام بن شُريح بن هانئ عن عائشة قالت: "من حدثكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبول قائمًا فلا تصدقوه، ما كان يبول إلا قاعدًا" رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه1.
قال الترمذي: هو أحسن شيء في هذا الباب وأصح.
وقال الإمام بدر الدين الزركشي: وإسناده على شرط مسلم2.
الثامن: ومن مظاهر الحيطة عرض الحديث على القياس: ومثاله: ما رواه الترمذي من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الوضوء مما مست النار ولو من ثور أقط"، فقال له ابن عباس: أنتوضأ من الدهن؟ أنتوضأ من الحميم؟ فقال أبو هريرة: يابن أخي، إذا سمعتَ حديثًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تضرب له مثلًا3.
التاسع: ومن هذه الوسائل أيضًا عرض الحديث على ما يقول به الصحابة، متى كان الحديث مخالفًا لفتواهم دل ذلك على أن الرسول لم يقله أو أنه منسوخ، ومثاله: قال عبيد بن رفاعة الأنصاري: كنا نجلس في مجلس فيه زيد بن ثابت، فتذاكروا الغسل من الإنزال، فقال زيد:"ما على أحدكم إذا جامع فلم ينزل إلا أن يغسل فرجه، ويتوضأ وضوءه للصلاة" فقام رجل من أهل المجلس، فأتى عمر فأخبره بذلك، فقال عمر للرجل: اذهب أنت بنفسك فائتني به، حتى
1 سنن الترمذي "17/ 1" أبواب الطهارة "8" باب ما جاء في النهي عن البول قائمًا - حديث "12". وقال أبو عيسى: حديث عائشة أحسن شيء في الباب وأصح، سنن النسائي "1/ 26""1" كتاب الطهارة "25" باب البول في البيت جالسًا - حديث "29" سنن ابن ماجه "1/ 112""1" كتاب الطهارة "14" في البول قاعدًا - حديث "307".
2 الإجابة "ص166".
3 سنن الترمذي "1/ 114، 115" أبواب الطهارة "58" باب ما جاء في الوضوء مما غيرت النار - حديث "79". قال أبو عيسى: وفي الباب عن أم حبيبة، وأم سلمة، وزيد بن ثابت، وأبي طلحة، وأبي أيوب، وأبي موسى، وقد رأى بعض أهل العلم الوضوء مما غيرت النار، وأكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين من بعدهم على ترك الوضوء مما غيرت النار، و"الأقط": لبن مجفف يابس، كأنه نوع من الجبن، و"الثور": القطعة منه، و"الحميم": الماء الحار.
تكون أنت الشاهد عليه، فذهب فجاء به وعند عمر ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم علي بن أبي طالب، ومعاذ بن جبل، فقال له عمر: أي عُدي نفسه، تفتي الناس بهذا؟! فقال زيد: أما والله ما ابتدعتُه؛ ولكن سمعته من أعمامي: رفاعة بن رافع، ومن أبي أيوب الأنصاري. فقال عمر لمن عنده: يا عباد الله، قد اختلفتم، وأنتم أهل بدر الأخيار، فقال له علي: فأرسل إلى أزواج النبي، فإنه إن كان شيء من ذلك ظَهَرْنَ عليه، فأرسل إلى حفصة فسألها فقالت:"لا علم لي بذلك"، ثم أرسل إلى عائشة فقالت:"إذا جاوز الختانُ الختانَ فقد وجب الغسل"، فقال عمر عند ذلك:"لا أعلم أحدًا فعله ثم لم يغتسل إلا جعلتُه نكالًا"1.
العاشر: ومن مظاهر الحيطة في قبول الحديث الشريف أنهم كانوا إذا وجدوا كتابًا لا يحدثون بما فيه إلا إن تأكدوا من سماعه أو قراءته على صاحبه، فقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يكره تلقي الحديث من الكتب دون سماع أو قراءة، فقال:"إذا وجد أحدكم كتابًا فيه علم لم يسمعه من عالم فليَدْعُ بإناء وماء فلينقعه فيه حتى يختلط سواده مع بياضه"2.
تلك آثار تبين منهج الصحابة في التثبت والتأكد من الأخبار، وهذا لا يعني أبدًا أن الصحابة اشترطوا لقبول الحديث أن يرويه راويان فأكثر أو أن يشهد الناس على الراوي أو يُستحلف، فإذا لم يحصل شيء من هذا رُدَّ خبرُه؛ بل كان الصحابة يثبتون في قبول الأخبار ويتبعون الطريقة التي تطمئن إليها نفوسهم، فلم يكن ذلك شأنهم المستمر؛ بل كان يحصل إذا ما ارتابوا في ضبط الراوي ونحوه، كما كان الهدف حمل المسلمين على جادَّة التثبت العلمي والتحفظ في دين الله حتى لا يتقول أحد على الرسول صلى الله عليه وسلم ما لم يقل، ويتضح هذا في قول عمر رضي الله عنه عندما رجع أبو موسى الأشعري مع أبي سعيد الخدري وشهد له: "أما إني
1 الإجابة لما استدركته السيدة عائشة على الصحابة "ص78".
2 الكفاية في علم الرواية "ص353" طبعة الهند.
لم أتهمك؛ ولكني خشيت أن يتقول الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم"1، وكما قال الذهبي: "إن الخبر إذا رواه ثقتان كان أقوى وأرجح مما انفرد به الواحد، وفي ذلك حض على تكثير طرق الحديث لكي يرتقي عن درجة الظن إلى درجة العلم؛ إذ الواحد يجوز عليه النسيان والوهم، ولا يكاد يجوز ذلك على ثقتين لم يخالفهما أحد"2.
وقال أيضًا بعد إيراد طريقة الصديق في التثبت: "إن مراد الصديق التثبت في الأخبار والتحري، لا سد باب الرواية"3.
وكما طلب الصحابة من الراوي شهادة غيره أيضًا، قبلوا أحاديث كثيرة برواية الآحاد وبَنَوْا عليها أحكامهم4.
فقد قبل عمر رضي الله عنه رواية الضحاك بن سفيان: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إليه أن يورث امرأة أشيم الضبابي من دينه، ولم يطلب بينة، وقد سبق قول سيدنا عمر أيضًا لأُبي: إما إني لم أتهمك؛ ولكن أحببت أن أتثبت.
وقال علي: وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر.
1 موطأ مالك "2/ 964"، والرسالة "435"، وتوجيه النظر "ص16".
2 تذكرة الحفاظ "1/ 6، 7".
3 المصدر السابق "1/ 4".
4 راجع: السنة قبل التدوين "ص116، 117".