المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أولا: الإمام البخاري "194-256ه - منهاج المحدثين في القرن الأول الهجري وحتى عصرنا الحاضر

[على عبد الباسط مزيد]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌التمهيد

- ‌الفصل الأول: منكرو السنة والرد عليهم

- ‌المبحث الأول: مزاعم منكري السنة قديما، والرد عليها

- ‌المبحث الثاني: منكرو السُّنَّة حديثًا، وتفنيد مزاعمهم

- ‌الفصل الثاني: مكانة السُّنَّة في التشريع الإسلامي

- ‌الباب الأول: مناهج المحدثين في القرن الأول الهجري

- ‌الفصل الأول: مظاهر اهتمام الصحابة بالسنة

- ‌الفصل الثاني: كتابة السُّنَّة في العهد النبوي

- ‌الفصل الثالث: أشهر الصحف والكتابات في العهد النبوي

- ‌الفصل الرابع: الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم

- ‌الفصل الخامس: بواعث كتابة الحديث في القرن الأول الهجري

- ‌الفصل السادس: مظاهر احتياط الصحابة في قبول الحديث الشريف

- ‌الفصل السابع: منهج الصحابة في رواية الحديث الشريف

- ‌الفصل الثامن: الصحابة المكثرون لرواية الحديث الشريف

- ‌أبو هريرة راوية الإسلام

- ‌ عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما

- ‌ أنس بن مالك رضي الله عنه

- ‌ عائشة رضي الله عنها

- ‌ عبد الله بن عباس رضي الله عنهما

- ‌ جابر بن عبد الله

- ‌ أبو سعيد الخدري

- ‌الفصل التاسع: أسباب تفاوت الصحابة في رواية الحديث الشريف

- ‌الفصل العاشر: دور أمهات المؤمنين في خدمة الحديث الشريف

- ‌مدخل

- ‌دور أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في رواية الحديث:

- ‌دور أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها في رواية الحديث:

- ‌دور أم المؤمنين ميمونة رضي الله عنها في رواية الحديث:

- ‌دور أم المؤمنين حبيبة رضي الله عنها

- ‌دور أم المؤمنين حفصة بنت عمر رضي الله عنها:

- ‌دور أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها:

- ‌دور أم المؤمنين صفية رضي الله عنها:

- ‌دور أم المؤمنين جويرية بنت الحارث رضي الله عنها:

- ‌دور أم المؤمنين سودة بنت زمعة رضي الله عنها:

- ‌الفصل الحادى عشر: أسباب تفاوت أمهات المؤمنين رضي الله عنها في الرواية

- ‌الباب الثاني: مناهج المحدثين في القرن الثاني الهجري

- ‌الفصل الأول: المستجدات في هذا العصر

- ‌الفصل الثاني: التدوين الشامل للسنة في هذا العصر ومنهج العلماء في التصنيف

- ‌الفصل الثالث: جهود التابعين في توثيق السُّنَّة وحفظها وتدوينها في النصف الأول من القرن الثاني الهجري

- ‌الفصل الرابع: أشهر الصحف والكتابات في القرن الثاني الهجري

- ‌الفصل الخامس: ضوابط الرواية عند التابعين

- ‌الفصل السادس: التصنيف في القرن الثاني وبداية الثالث الهجريين

- ‌الفصل السابع: الأئمة الأربعة، وأثرهم في الحديث وعلومه

- ‌مدخل

- ‌الإمام مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو الأصبحي

- ‌الإمام الشافعي "150-204ه

- ‌الإمام أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني، أبو عبد الله المروزي ثم البغدادي "164-241ه

- ‌الباب الثالث: منهاج المحدثين في القرن الثالث الهجري وحتى عصرنا الحاضر

- ‌الفصل الأول: مناهج المحدثين في القرن الثالث الهجري

- ‌المبحث الأول: أهم المشكلات التى واجهت المحدثين في القرن الثالث الهجري

- ‌المبحث الثاني: تدوين الحديث وعلومه في القرن الثالث الهجري

- ‌المبحث الثالث: مناهج العلماء في تدوين الحديث في القرن الثالث الهجري

- ‌المبحث الرابع: أئمة القرن الثالث الهجري ومناهجهم

- ‌أولًا: الإمام البخاري "194-256ه

- ‌مقارنة بين الصحيحين:

- ‌ثالثًا: أبو داود السجستاني "202-275ه

- ‌خامسًا: أحمد بن شعيب النسائي "215-303ه

- ‌سادسًا: ابن ماجه "209-273ه

- ‌سابعًا: الإمام أحمد بن محمد بن حنبل "164-241ه

- ‌الفصل الثاني: مناهج المحدثين في القرن الرابع الهجري

- ‌ابن خزيمة

- ‌الطحاوي:

- ‌الدارقطني:

- ‌الطبراني:

- ‌ابن حبان:

- ‌ابن السكن:

- ‌الحاكم النيسابوري "321-405ه

- ‌الفصل الثالث: منهج التصنيف في القرن الخامس إلى السقوط الخلافة العباسية [من عام "400هـ" حتى عام "656ه

- ‌الجمع بين الصحيحين

- ‌ الجمع بين الكتب الستة

- ‌ الجمع بين أحاديث من كتب مختلفة:

- ‌ كتب منتقاة في أحاديث الأحكام والمواعظ، ومنها:

- ‌ كتب الأطراف:

- ‌الفصل الرابع: منهج التصنيف من سقوط الخلافة العباسية إلى عصرنا الحاضر

- ‌المبحث الأول: السنة من عام 656هـ حتى عام 911 ه

- ‌مدخل

- ‌أولًا: منهج العلماء في خدمة السُّنَّة في هذه الفترة:

- ‌ثانيًا: طريقة العلماء في خدمة الحديث الشريف في هذه الفترة

- ‌المبحث الثاني: دور العلماء في خدمة السُّنَّة بعد عام "911هـ" حتى آخر القرن الرابع عشر الهجري

- ‌المبحث الثالث: دور أشهر الممالك التي كان لها أثر ملموس في خدمة السُّنَّة في هذا العصر

- ‌ دور مصر في العناية بالسُّنَّة وعلومها:

- ‌ دور علماء الهند في العناية بالسُّنَّة:

- ‌ دور المملكة العربية السعودية في خدمة السُّنَّة:

- ‌المبحث الرابع: جهود علماء المسلمين في خدمة السُّنَّة في العصر الحاضر

- ‌قائمة بأسماء المصادر والمراجع:

- ‌الفهرس:

الفصل: ‌أولا: الإمام البخاري "194-256ه

‌المبحث الرابع: أئمة القرن الثالث الهجري ومناهجهم

‌أولًا: الإمام البخاري "194-256ه

ـ" 1

هو: أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بَرْدِزْبَة2، ولد ببخارَى يوم الجمعة الموافق الثالث عشر من شهر شوال سنة 194هـ، ومات ليلة السبت عند صلاة العشاء ليلة عيد الفطر سنة 256هـ3.

قضى عمره في طلب الحديث وحفظه وتدوينه متنفلًا من بلد إلى بلد، ومن مكان إلى مكان، ومن شيخ إلى شيخ، وحيثما كانت السُّنَّة جذبته إليها، فرحل إلى: مكة، والمدينة، وبغداد، وواسط، والبصرة، والكوفة، ومصر، ومرو، وهراء، ونيسابور، وقيسارية، وعسقلان، وحمص، وخراسان، وغيرهم. وقال:"كتبتُ عن ألف ثقة من العلماء وزيادة، وليس عندي حديث لا أذكر إسناده"4. وقال مرة أخرى: "كتبت عن ألف وثمانين نفسًا ليس فيهم إلًا صاحب حديث، وليس فيهم صاحب بدعة، ولا زنديق"5.

ومنهم: إبراهيم بن المنذر الحزامي، ومطرف بن عبد الله، وإبراهيم بن حمزة، ويحيى بن قزعة، وعبد العزيز بن عبد الله الأويسي، وأبو بكر الحميدي،

1 للإمام البخاري ترجمة في مواضع كثيرة؛ منها: تهذيب الكمال "24/ 430-468"، تهذيب التهذيب "9/ 47-55"، التقريب "2/ 144"، خلاصة الخزرجي "2/ ترجمة 6052"، شذرات الذهب "2/ 134"، طبقات السبكي "2/ 212"، وفيات الأعيان "4/ 188"، سير أعلام النبلاء "12/ 391"، تذكرة الحفاظ "2/ 555"، الكاشف "3/ ترجمة 4786"، شروط الأئمة الستة "ص10".

2 هكذا ضبطها غير واحد، وهي فارسية، ومعناها: الزراع، راجع: هدى الساري "ص477"، تهذيب الأسماء واللغات "1/ 67".

3 راجع: هدى الساري "ص477"، تهذيب التهذيب "9/ 48"، تهذيب الأسماء واللغات "1/ 67، 68"، تذكرة الحفاظ "2/ 556"، سير أعلام النبلاء "12/ 468"، تاريخ بغداد "2/ 6"، "2/ 34".

4 مقدمة شرح صحيح مسلم للنووي "1/ 8".

5 راجع: هدى الساري "ص479"، عمدة القاري "1/ 22"، سير أعلام النبلاء "12/ 395".

ص: 261

وإسماعيل بن سالم الصائغ، وعبد الله بن يزيد المقري، وأبو نعيم، وطلق بن غنام، وعمرو بن حفص، وخلاد بن يحيى، وأبو عاصم النبيل، وأبو الوليد الطيالسي، وسليمان بن حرب، وعارم: محمد بن الفضل، وعفان بن مسلم، ومحمد بن يوسف الفريابي، وحيوة بن شريح، ومحمد بن سلام البيكندي، ومحمد بن يوسف البيكندي، وعبد الله بن محمد الْمُسْنِدِي، وآدم بن أبي إياس، وأبو اليمان: الحكم بن نافع، ومحمد بن يحيى الصائغ، ومحمد بن يحيى الذهلي، وقتيبة بن سعيد، ومحمد بن مقاتل، وعبدان بن عبد الله بن عثمان، وإسحاق بن راهويه، وخلائق من الأئمة وغيرهم.

ومن تلاميذه: محمد بن يوسف الفربري، وأحمد بن محمد البزار، ومحمد بن إسحاق الخزاعي، ومحمد بن دلويه الوراق، وأبو أحمد: محمد بن سليمان بن فارس، وعبد الله بن أحمد بن عبد السلام الخفاف، وآدم بن موسى، وعبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الأشقر، وأبو عبد الله: محمد بن أبي حاتم "وراقه".

ومن شيوخه الذين رووا عنه: عبد الله بن محمد المسندي، وإسحاق بن أحمد بن خلف، ومحمد بن خلف بن قتيبة وغيرهم.

ومن الحفاظ من أقرانه فمن بعدهم: أبو زرعة وأبو حاتم الرازيان، وأبو بكر بن أبي عاصم، ومحمد بن نصر المروزي، وأبو بكر البزار صاحب المسند، ومسلم بن الحجاج في غير الصحيح، وأبو عيسى الترمذي، وأبو عبد الرحمن النسائي، وأبو عمرو الخفاف، وجعفر بن محمد بن موسى النيسابوري، ومحمد بن عبد الله الحضرمي مطين الحافظ الكوفي، وأبو داود السجستاني، وأبو بكر بن إسحاق بن خزيمة، ومحمد بن إسحاق الفاكهي، ويحيى بن يحيى بن محمد بن صاعد، والحسين بن إسماعيل المحاملي، وهو آخر من حدث عنه ببغداد، وأمم لا يحصون، ويكفي ما حكاه الفربري أنه سمع معه الصحيح من البخاري تسعون ألفًا.

وقد مكث في تصنيف صحيحه ست عشرة سنة، وانتقاه من زُهَاء ستمائة ألف حديث قال: "لقد خرجت كتابي الصحيح هذا من زهاء ستمائة ألف

ص: 262

حديث، وما وضعت فيه حديثًا إلا واغتسلت وصليت ركعتين لله سبحانه وتعالى"1.

وقد اتفق الجمهور على أنه أصح كتاب بعد كتاب الله سبحانه وتعالى، وأطبق على قبوله بلا خلاف علماء الأسلاف والأخلاف2، وأطنب العلماء في الثناء عليه وبيان منزلته، ومن ذلك ما قاله العلامة الشيخ محمد بن يوسف البنوري:"أصح كتاب بعد كتاب الله، أصبح تلو كتاب الله في المزايا التي قالها صلى الله عليه وسلم في كتاب الله الحكيم: "لا يخلق على كثرة الرد، ولا يمل قاريه، ولا يشبع منه العلماء، ولا تنقضي عجائبه"، فأضحى كالشمس في كبد السماء بلغ إلى أقصى القبول والمجد والثناء، فانتهض أعيان الأمة وأعلام العلم في كل عصر من أقدم العصور إلى اليوم لشرحه والتعليق عليه، وتلخيصه، واختصاره أو ترتيبه، وتأليف أطرافه، أو شرح تراجمه، أو ترجمة رجاله، أو بيان غريبه، أو وصل مرسله، وتعليقاته أو مبهمه، وإبراز فوائده، ولطائفه، حديثًا وفقهًا وعربية وبلاغة ووضعًا وترتيبًا وتوزيعًا وتبويبًا حتى في تعديد حروفه وكلماته وما إلى ذلك"3.

وقال الإمام العيني: لم يحظَ كتاب من كتب الحديث بتناول العلماء -علماء فن الحديث- له شرحًا وإيضاحًا من المتقدمين والمتأخرين كما حظي صحيح البخاري4، وانتهى الشيخ المباركفوري بقوله:"إنه الكتاب الوحيد -بعد كتاب الله تعالى- الذي يحل مشاكل الدين والدنيا كلها، ويشهد على المواهب وبراعة المؤلف في كل هذه الميادين"5.

قال ابن الصلاح: "وجملة ما في كتاب البخاري سبعة آلاف حديث، إلا أن هذه العبارة قد يندرج تحتها عندهم آثار الصحابة

1 راجع: تهذيب التهذيب "9/ 49"، عمدة القاري "1/ 22"، طبقات السبكي "2/ 221"، تهذيب الأسماء واللغات "1/ 74".

2 عمدة القاري "1/ 5".

3 من مقدمة كتاب: لامع الدراري على جامع البخاري "أ-ب".

4 عمدة القاري "1/ 26".

5 سيرة الإمام البخاري "ص322".

ص: 263

والتابعين وربما عد الحديث الواحد المروي بإسنادين حديثين"1، وكلها صحيحة بالإجماع.

قال أبو جعفر محمود بن عمرو العقيلي: "لما ألف البخاري كتاب الصحيح عرضه على الإمام أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، وغيرهم، فاستحسنوه وشهدوا له بالصحة، إلا في أربعة أحاديث، قال العقيلي: والقول فيها قول البخاري، وهي صحيحة"2.

- مؤلفات الإمام البخاري:

الجامع الصحيح، والأدب المفرد، ورفع اليدين في الصلاة، والقراءة خلف الإمام، والتاريخ الكبير، والتاريخ الأوسط، والتاريخ الصغير، والضعفاء الصغير، والمسند الكبير، والتفسير الكبير، والجامع الكبير "وهو غير الجامع الصحيح"، وخلق أفعال العباد، والرد على الجهمية وأصحاب التعطيل، وبر الوالدين، وأسامي الصحابة، والوحدان، والهبة، والمبسوط، والعلل، والكنى، والفوائد، والاعتقاد أو السنة، والسنن في الفقه، وأخبار الصفات، وقضايا الصحابة والتابعين، والأشربة3.

- شروط البخاري في جامعه الصحيح، ومنهجه فيه:

هناك شروط معتبرة ومذكورة عند الأئمة، مَن احتوى عليها وتحلى بها لزم قبول خبره، وإخراج حديثه في الصحيح، وهذه الشروط هي:

1-

الإسلام.

2-

العقل.

3-

الصدق.

1 المقدمة "ص10، 11".

2 هدى الساري "ص7"، "ص489"، ونحوه في مجموع الفتاوى لابن تيمية "1/ 256"، "18/ ص19".

3 راجع هذه المؤلفات وتقريرًا عن كل واحد منها في رسالتي للماجستير - مرويات البخاري في غير الصحيح "1/ 46-69".

ص: 264

4-

ألا يكون مدلسًا.

5-

العدالة: وهي اتباع أوامر الشرع، واجتناب نواهيه، وتجنب الفواحش، وتحري العدل، وتوقي اللفظ.

6-

أن يكون معروفًا بطلب الحديث الشريف، والرحلة من أجله والعناية به.

7-

أن يكون حفظه مأخوذًا عن العلماء لا عن الصحف.

8-

أن يكون ضابطًا لما يسمعه.

9-

أن يكون متيقظًا، سليم الذهن غير مغفل.

10-

أن يكون قليل الغلط والوهم.

11-

أن يكون حسن السمت، موصوفًا بالوقار.

12-

أن يكون مجانبًا للأهواء تاركًا للبدع.

وإذا كانت الشروط السابقة شروطًا عامة في الراوي، فإن الإمام البخاري قد زاد عليها مما يؤكد لنا أن ما أدخله في جامعه الصحيح لا يتطرق إليه الشك، وهذه هي شروط الإمام البخاري في جامعه الصحيح1.

من الملاحظ أنه لم ينقل عن الإمام البخاري أنه قال: شرطت أن أخرج ما يكون على الشرط الفلاني، وإنما يعرف ذلك من سَبَرَ صحيحه ومصنفاته الأخرى.

- وقد ذكر علماء الحديث -الذين درسوا صحيحه- الشروط الآتية:

الشرط الأول:

طول ملازمة الراوي لشيخه، وذلك أدعى إلى حفظه وضبطه للحديث الذي يرويه عنه.

1 راجع: تدريب الراوي "1/ 127"، مقدمة ابن الصلاح "ص7"، هدى الساري "ص9، 10"، شروط الأئمة الخمسة "ص43-50"، شروط الأئمة الستة "ص17-19"، المدخل إلى توثيق السنة "ص73، 76"، سيرة الإمام البخاري "ص177-179"، الإمام البخاري محدثًا وفقيهًا "ص90، 91"، كتب السُّنَّة - دراسة توثيقية "الجزء الأول""ص73-77".

ص: 265

الشرط الثاني:

يشترط الإمام البخاري اللقاء والمعاصرة وعدم التدليس؛ بحيث يكون الراوي قد ثبت به لقاء من حدث عنه ولو مرة واحدة، مع اشتراط أن يكون ثقة، فإذا ثبت ذلك عنه حملت عنده "عنعنته" على السماع، وبعبارة أخرى: إذا قال الراوي: عن فلان، فإن الإمام البخاري يتوقف في إخراج الحديث حتى يتأكد من لقاء الراوي بشيخه، وأن هذه اللفظة تساوي عنده:"سمعت فلانًا"، وهذا ينطبق على جميع العنعنات الموجودة في جامعه الصحيح.

قال ابن حجر: وقد أظهر البخاري هذا المذهب في تاريخه وجرى عليه في صحيحه، وأكثر منه، حتى أنه ربما خرج الحديث الذي لا تعلق له بالباب جملة إلا ليبين سماع راوٍ من شيخه؛ لكونه قد أخرج له قبل ذلك شيئًا معنعنًا"1.

وللتأكد من السماع والاتصال ترك الإمام البخاري حديث بعض الأئمة مثل حماد بن سلمة -وهو إمام في علم الحديث- لما تكلم فيه بعض منتحلي المعرفة؛ بسبب أن بعض الكذبة أدخل في حديثه ما ليس منه، ولم يخرج له إلا في بعض مواضع الاستشهاد؛ ليبين أنه ثقة، وأخذ أحاديثه التي يرويها من أقرانه الذين لا تحوم حولهم شبهة، مثل: شعبة بن الحجاج، وحماد بن زيد، وأبي عوانة، وأبي الأحوص، وغيرهم، كما ترك سهيل بن أبي صالح لما تكلم بعض النقاد في سماعه من أبيه فقالوا: إنه أخذ أحاديث أبيه من صحفه ولم يسمعها منه2، فلم يخرج له البخاري إلا مقرونًا أو تعليقًا3.

وعلى أساس من هذه الشروط جاء صحيح البخاري مختصرًا، ولم يستوعب كل الصحيح؛ بل إنه ترك كثيرًا من الصحيح. يقول الإمام البخاري:"لم أخرج في هذا الكتاب إلا صحيحًا، وما تركت من الصحيح أكثر"4.

1 هدى الساري "ص288".

2 شروط الأئمة الستة "ص12، 13".

3 تقريب التهذيب "ص259" ترجمة رقم "2675".

4 شروط الأئمة الخمسة "ص64"، وهدى الساري "ص5".

ص: 266

وإذا كانت الأحاديث المسندة الموصولة في الصحيح كما عدها عدًّا دقيقًا الإمام ابن حجر العسقلاني "2602" حديثًا1، فإن الأحاديث الصحيحة تفوق هذا العدد كثيرًا.

- منهج الإمام البخاري في صحيحه 2:

يقول الدهلوي: "أول ما صنف أهل الحديث في علم الحديث جعلوه مدونًا في أربعة فنون: فن السنة أعني الذي يُقال له: الفقه، مثل موطأ مالك، وجامع سفيان. وفن التفسير مثل كتاب ابن جريج. وفن السِّير مثل كتاب محمد بن إسحاق. وفن الزهد والرقاق مثل كتاب ابن المبارك، فأراد البخاري رحمه الله أن يجمع الفنون الأربعة في كتاب، ويجرده لما حكم له العلماء بالصحة قبل البخاري وفي زمانه، ويجرده للحديث المرفوع المسند، وما فيه من الآثار، وغيرها إنما جاء تبعًا، لا بأصالة؛ ولهذا سمى كتابه "الجامع الصحيح المسند"3.

ولهذا صنف البخاري هذه الأحاديث وغيرها على أبواب الفقه والعقائد والتفسير والآداب، وكل أبواب ينتظمها موضوع واحد جعلها كتابًا يضم معنى هذه الأبواب، وقد بدأ "بكتاب بدء الوحي" ثم ذكر بعده كتاب "الإيمان" ثم "العلم".

وقدم "بدء الوحي" -كما يقول البلقيني- لأنه منبع الخيرات، وبه قامت الشرائع وجاءت الرسالات، ومنه عرف الإيمان والعلوم4.

وقال أ. د. عبد المجيد محمود: "فالبخاري بدأ كتابه بدء الوحي، ثم الإيمان، ثم العلم، وقد يكون ملحظ البخاري في ذلك أن أول ما يطالب به الإنسان هو

1 هدى الساري "ص478"، أما بالمكرر منها فعدده "7397" حديثًا "هدى الساري ص468"، وقد حصرها الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي فبلغت "7563" حديثًا. هذا عدا ما فيه من التعاليق والمتابعات التي يصل بها عدد أحاديث الكتاب "9082" حديثًا "هدى الساري ص470".

2 انظر: كتب السنة، الجزء الأول، للدكتور رفعت فوزي "ص77-80" ومصادره.

3 شرح تراجم أبواب البخاري "ص7".

4 هدى الساري "ص471".

ص: 267

0الإيمان، وعن الإيمان تصدر بقية الأعمال، والإيمان أمر نفسي مستكن في القلب لا يكفي في إثباته إعلانه باللسان، فيجب أن يتوفر فيه عنصر الإخلاص؛ لهذا بدأ البخاري كتابه بحديث:"إنما الأعمال بالنيات" وأول شيء يجب الإيمان به هو الوحي، لأن جميع متطلبات الإيمان -مما سيذكره في صحيحه- متوقف على كون محمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا موحى إليه، فإذا استقر ذلك وجب على الإنسان أن يتعلم الشرائع حتى يكون ممتمثلًا لربه، متصفًا بالإيمان، وأول ما يجب أن يتعلمه حينئذ هو الطهارة، ثم الصلاة، ثم تأتي بعد ذلك بقية الأحكام والفضائل.

وقد يكون بدؤه بالوحي إشارة منه إلى أن الحديث النبوي -الذي هو موضوع كتابه- من قبيل الوحي، فله من الطاعة والامتثال بالقرآن؛ حيث إن مصدرهما واحد، وهو الله سبحانه وتعالى"1.

وبعد الطهارة ذكر الصلاة، ثم الزكاة، ثم الحج، ثم الصوم، ثم البيوع، وبقية المعاملات.

وبعد أن انتهى من المعاملات ذكر المرافعات: فذكر كتاب الشهادات، ثم ذكر كتاب الصلح، ثم الوصية والوقف، ثم الجهاد، ثم عرض لأبواب غير فقهية مثل: بدء الخلق، وتراجم الأنبياء، والجنة والنار، ثم مناقب قريش، وفضائل الصحابة.

ثم ذكر السيرة النبوية والمغازي وما يتبعها، ثم كتاب التفسير، ثم فضائل القرآن، ثم عاد إلى الفقه من نكاح وطلاق ونفقات، ثم الأطعمة، ثم الأشربة، وبعد هذا ذكر كتاب الطب، ثم اللباس، ثم الأدب، ثم الاستئذان، ثم الدعوات، ثم الرقاق، ثم النذور، ثم الكفارات، ثم الفرائض، ثم الحدود، ثم الديات، ثم المرتدين، ثم الإكراه، ثم الحيل، وهذه بعضها فقه، وبعضها غير فقه، وأخيرًا ذكر كتاب تعبير الرؤيا، ثم كتاب الفتن، ثم كتاب الأحكام، ثم كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، ثم كتاب التوحيد.

1 الاتجاهات الفقهية عند المحدثين في القرن الثالث الهجري "ص300"، الناشر: مكتبة الخانجي بالقاهرة، 1399هـ-1979م.

ص: 268

وقد بيَّن البلقيني وابن حجر وجوه الربط بين كتب البخاري بعضها ببعض، وبين أبوابه وصلتها بكتبها1.

وعدد كتبه 97 كتابًا، وعدد أبوابه "3934" بابًا، وفي بعض أبوابه هذه توجد الأحاديث المتصلة المسندة الصحيحة الكثيرة، وفي بعضها حديث واحد، وفي بعضها ما لا يوجد فيه أحاديث أصلًا، وكأن البخاري لم يجد في مثل هذه الأبواب أحاديث على شروطه التي أسلفنا القول فيها فتركه هكذا عسى أن يتيسر له حديث فيما بعد، أو يشير إلى أنه لم يصح فيه حديث2، وذلك نحو البابين "3"، "13" من كتاب "بدء الخلق"، ونحو الأبواب:"4"، "13"، "23"، "26"، "30"، "33"، "34"، "36"، "42"، "52"، كل هذه الأبواب في كتاب "أحاديث الأنبياء"، ونحو الباب "5" من كتاب النفقات.

وقد كرر الإمام البخاري بعض هذه الأحاديث الصحيحة في كتابه؛ لأن الحديث الواحد قد يشتمل على أكثر من معنى، وكل معنى يندرج تحت باب معين، فهو "يستخرج منه بحسن استنباطه وغزارة فقهه معنى يقتضيه الباب الذي أخرجه فيه""أو يكرر الحديث؛ لأنه يشمل على فائدة حديثية".

ولأنه يحرص على أن يكون كتابه مختصرًا، فإنه لا يكرر الحديث كاملًا دائمًا، وإنما يذكر الجزء الذي يتضمن معنى الباب الذي يدرجه تحته، إلا إذا تعددت طرق الحديث فإنه يذكر الحديث مع سنده بتمامه.

- عناية الأمة الإسلامية بصحيح الإمام البخاري:

نال الجامع الصحيح للبخاري عناية كبيرة من الأمة الإسلامية وعلمائها؛ بحيث لم يحظَ بهذه العناية كتاب آخر بعد كتاب الله عز وجل وتمثلت هذه العناية في عدة جوانب؛ منها: توثيق أحاديثه، والكشف عن صحتها، وانتقاله إلينا

1 هدى الساري "ص470-474".

2 المصدر السابق "ص6، 12".

3 المصدر السابق "ص125".

ص: 269

موثقًا عبر العصور السابقة، وحتى قيام الساعة، دون مساس بالتحريف أو التغيير، ونزيد الأمور وضوحًا بما يلي:

أولًا: انتهى الإمام البخاري من تأليف جامعه الصحيح قبل وفاته بثلاثة وعشرين عامًا على الأقل1، والدليل على ذلك أنه قدمه إلى شيوخه: يحيى بن معين "233هـ-847م"، وعلي بن المديني "235هـ-549م"، وأحمد بن حنبل "241هـ-855م"، وقد توفي البخاري عام "256هـ"، وبهذا يكون أتيح لألوف التلاميذ والمهتمين بالحديث سماعه -كله أو بعضه- من خلال حلقات الدرس التي كان يعقدها البخاري في عدة بلاد2.

وانتقل صحيح البخاري بعد ذلك على أيد أمينة بطرق الرواية المختلفة من سماع وإجازة ومناولة وغيرها، وذلك مباشرة من أيد الرواة إلى تلاميذهم المشتغلين بالرواية والأمناء عليها.

وقد ذكر ابن خير الإشبيلي "502-575هـ" في فهرسته الطرق التي وصل بها صحيح البخاري دون تحريف أو تغيير، فقال في روايته لصحيح البخاري3:

"مصنف الإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري؛ وهو الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه".

1-

أما رواية أبي ذر عبد بن أحمد بن محمد بن عبد الله الهروي الحافظ رحمه الله فحدثني بها شيخنا الخطيب، أبو الحسن شريح بن محمد شريح المقري رحمه الله قراءة عليه بلفظي مرارًا، وسماعًا مرارًا، قال: حدثني به أبي رحمه الله سماعًا من لفظه، وأبو عبد الله محمد بن أحمد بن عيسى بن منظور القيسي رحمه الله سماعًا عليه، قالا: حدثنا بها أبو ذر عبد بن أحمد بن محمد الهروي سماعًا عليه، قال محمد بن شريح: سمعته عليه في المسجد الحرام عند

1 راجع: فهرسة ابن خير الإشبيلي عن شيوخه "ص95".

2 راجع: هدى الساري "ص492"، تاريخ بغداد "2/ 9".

3 "فهرسة ما رواه عن شيوخه من الدواوين المصنفة في ضروب العلم وأنواع المعارف" لأبي بكر محمد بن خير بن عمر بن خليفة الأموي الإشبيلي "502-575هـ/ 1108-1179م""ص94-98".

ص: 270

باب الندوة سنة "403هـ". وقال ابن منظور: سمعته عليه في المسجد الحرام عند باب الندوة سنة "431هـ"، وقرئ عليه مرة ثانية، وأنا أسمع، والشيخ أبو ذر ينظر في أصله، وأنا أصلح في كتابي هذا في المسجد الحرام عند باب الندوة في شوال سنة "431هـ"، قال: أخبرنا به أبو محمد عبد الله بن أحمد بن حمويه السرخسي بهراة سنة "373هـ"، وأبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن إبراهيم المستملي ببلخ سنة "374هـ"، وأبو الهيتم محمد بن المكي بن محمد بن ذراع الكشميهني بها سنة "387هـ"، قالوا كلهم: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن يوسف بن مطر بن صلح بن بشر الفربري بفربر، قال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري الجعفي رحمه الله قال أبو ذر: سمعت أبا إسحاق المستملي يقول: مات محمد بن يوسف الفربري رحمه الله في شهر شوال لعشر بقين منه، من سنة "320هـ"، وتوفي أبو إسحاق المستعلي سنة "376هـ"، وكان سماعه ورحلته إلى الفربري سنة "314هـ"، وولد أبو محمد الحموي سنة "293هـ"، وسمع الفربري سنة "315هـ"؛ قال أبو ذر: سمعت أبا الهيثم محمد بن المكي أيضًا يقول: سمعت الكلاباذي أبا نصر البخاري يقول: كان سماع محمد بن يوسف الفربري بهذا الكتاب من محمد بن إسماعيل البخاري مرتين مرة بفربر في سنة "284هـ"، ومرة ببخارى، وذكر أبو الهيثم أنه سمع هذا الكتاب من الفربري بفربر في ربيع الأول سنة "320هـ"، وتوفي أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله سنة "256هـ"، وكان مولده يوم الجمعة لاثنتى عشرة ليلة خلت من شوال سنة "194هـ"، قال مسلمة بن قاسم: سمعت من يقول عن أبي جعفر العقيلي قال: لما ألف البخاري كتابه في صحيح الحديث عرضه على علي بن المديني، ويحيى بن معين، وأحمد بن حنبل، وغيرهم، فامتحنوه، فكلهم قال له: كتابك صحيح إلا أربعة أحاديث؛ قال العقيلي: والقول فيها قول البخاري، وهي صحيحة.

- وأما رواية ابن السكن:

فحدثني بها شيخنا أبو الحسن يونس بن محمد بن مغيث رحمه الله قراءة

ص: 271

منى عليه قال: حدثني بها أبو عمر أحمد بن محمد بن الحذاء التميمي سماعًا عليه بقراءة أبي علي الجياني قال: نا بها أبو محمد عبد الله بن محمد بن أسد الجهني قراءة عليه سنة "394هـ"، قال: نا أبو علي سعيد بن عثمان بن السكن الحافظ في منزله بمصر سنة "343هـ" قال: نا محمد بن يوسف بن مطر بن صلح بن بشر الفربري بفربر من ناحية بخارى، قال: نا أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم الجعفي البخاري سنة "253هـ".

- وأما رواية الأصيلي:

فحدثني بها الشيخ الفقيه أبو القاسم أحمد بن محمد بن بقي رحمه الله قراءة مني عليه، والشيخ الفقيه أبو الحسن يونس بن محمد بن مغيث رحمه الله سماعًا لجملة منه، ومناولة منه لي لجميعه، قالا جميعًا: حدثنا بها الفقيه أبو عبد الله محمد بن فرج مولى محمد بن يحيى البكري المعروف بابن الطلاع، أما ابن بقي فقال: سمعت جميعه عليه، وأما ابن مغيث فقال: حدثنا به قراءة منه علينا لأكثر الكتاب، وإجازة لسائره، قال: سمعت جميعه على الفقيه أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن سعيد عابد المعافري في سنة "423 هـ" بقراءة محمد بن محمد بن بشير الصراف، قال: سمعت جميعها على الفقيه أبي محمد عبد الله بن إبراهيم الأصيلي سنة "383هـ".

قال: قرأتها على أبي زيد محمد بن أحمد المروزي بمكة سنة "353هـ"، قال أبو محمد الأصيلي: وسمعتها على أبي زيد أيضًا ببغداد في شهر صفر سنة "359هـ"، قرأ أبو زيد بعضها، وقرأت أنا بعضها حتى كمل جميع المصنف، قال أبو عبد الله محمد بن يوسف الفربري سنة "318هـ" قال: نا أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري سنة "253هـ"، قال أبو محمد الأصيلي: وقرأتها على أبي أحمد بن يوسف الجرجاني، قال: نا محمد بن يوسف الفربري، قال: نا محمد بن إسماعيل البخاري، وحدثني أيضًا بهذه الرواية الشيخ أبو محمد بن عتاب

ص: 272

-رحمه الله إجازة فيما كتب به إلَيَّ، قال: حدثني بها الفقيه أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن عابد المذكور إجازة لي فيما كتبه لي بخط يده، قال: نا أبو محمد الأصيلي بالإسناد المتقدم، وحدثني أيضًا برواية أبي زيد المروزي المذكور شيخنا القاضي أبو مروان عبد الملك بن عبد العزيز اللخمي الباجي رحمه الله سماعًا عليه لأكثرها ومناولة لجميعها، قال: حدثني بها أبي، وعماي أبو عمر أحمد، وأبو عبد الله محمد، وابن عمي صاحب الصلاة أبو محمد عبد الله بن علي بن محمد بن أحمد بن عبد الله، قالوا كلهم: حدثنا بها الفقيه أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الله، قال: كتب أبي أبو عمر أحمد بن عبد الله كتاب البخاري عن بعض ثقات أصحابه المصريين وسمعته بقراءته عليه، حدثنا به عن أبي زيد محمد بن أحمد المروزي، عن محمد بن يوسف الفربري، عن محمد بن إسماعيل البخاري.

- وأما رواية القابسي:

فحدثني بها الشيخ أبو محمد بن عتاب رحمه الله إجازة، قال: حدثني بها أبو القاسم حاتم بن محمد الطرابلسي قراءة عليه، قال: نا أبو الحسن علي بن محمد بن خلف القابسي الفقيه، قال: نا أبو زيد محمد بن أحمد المروزي بالسند المتقدم، وحدثني بها أيضًا الشيخ أبو بكر محمد بن أحمد بن طاهر القيسي، وأبو جعفر أحمد بن محمد بن عبد العزيز اللخمي، وغيرهما من شيوخي رحمهم الله قالوا: حدثنا بها أبو علي على حسين بن محمد بن أحمد الغساني، ثم الجياني رحمه الله قال: قرأتها على أبي القاسم حاتم بن محمد الطرابلسي رحمه الله مرات، وحدثني بها عن أبي الحسن علي بن محمد بن الخلف القابسي الفقيه عن أبي زيد محمد بن أحمد المروزي عن أبي عبد الله الفربري عن البخاري رحمه الله.

ص: 273

- وأما رواية النسفي:

فحدثني بها الشيخ أبو بكر محمد بن أحمد بن طاهر القيسي رحمه الله قال: نا أبو علي حسين بن محمد بن أحمد الغساني، قال: حدثني بها أبو العاصي حكم بن محمد بن حكم الجذامي إجازة، قال: نا أبو الفضل أحمد بن أبي عمران الهروي بمكة سنة "382هـ": سمعت بعضه، وأجاز لي سائره، قال: نا أبو صالح خلف بن محمد بن إسماعيل الخيام البخاري، قال: نا إبراهيم بن معقل بن الحجاج النسفي، قال: نا البخاري، قال أبو علي: وروينا عن أبي الفضل صالح بن محمد بن شاذان الأصبهاني، عن أبي إسحاق إبراهيم بن معقل النسفي، أن البخاري أجاز له آخر الديوان من أول كتاب الأحكام إلى آخر ما رواه النسفي عن البخاري من الديوان؛ لأن في رواية محمد بن يوسف الفربري زيادة على رواية النسفي نحوًا من تسع أوراق من نسختي، وقد أعلمت على الموضع من كتابي، قال أبو علي: وهذه الروايات كلها متقاربة، وأقرب الروايات إلى رواية أبي ذر رواية أبي الحسن القابسي عن أبي زيد المروزي.

وبعد ابن خير جاء ابن حجر فبين أن روايته للجامع الصحيح تتصل إلى البخاري عن طريق أربعة من تلاميذه، وقد ذكر كل واحد منهم، وبيَّن تلاميذه والآخذين بروايته حتى انتهت إليه1، وقارن بين هذه النسخ في أثناء شرحه للكتاب، وهكذا فعل العلماء في كل عصر إلى يومنا هذا2.

وقد ترتب على هذا المسلك العلمي الدقيق ضمان سلامة انتقال صحيح البخاري.

وقد يعترض أحد بأن هناك اختلافات في بعض النسخ، نقول: هذه الاختلافات أشار إليها ابن خير الإشبيلي، والحافظ ابن حجر العسقلاني، وهي

1 فتح الباري "1/ 2 - 5".

2 راجع مثلًا: فهرس الفهارس لعبد الحي الكتاني، وغيره من الفهارس والأثبات "المطبوعة" والمنتشرة في العديد من المكتبات الخاصة والعامة.

ص: 274

محصورة ومعزوة إلى أصحابها، وسببها اختلاف الأوقات التي يسمع فيها تلاميذ البخاري منه، أو لبعض أخطاء النساخ. قال أ. د. رفعت فوزي: "ومن هنا سهل على من يريد ضبطه وتحريره أن يرجع بكل وجه من رواياته إلى أصله1.

وهذا هو ما فعله علم من أعلام الحديث في القرن السابع الهجري، وهو الحافظ شرف الدين علي بن محمد بن عبد الله اليونيني "ت 701هـ-1302م"؛ فقد قام بضبط رواية البخاري، وقابل أصله بأصل مسموع على الحافظ أبي محمد عبد الله بن أحمد الهروي، وبأصل مسموع على الحافظ أبي محمد عبد الله بن إبراهيم الأصيلي، وبأصل الحافظ أبي القاسم بن عساكر، وبأصل مسموع على أبي الوقت. وقد حضر معه في هذه المقابلة الإمام النحوي جمال الدين بن مالك، فكان إذا مر في الألفاظ ما يتراءى أنه مخالف لقوانين العربية المشهورة قال لليونيني: هل الرواية فيه كذلك؟ فإن أجابه: بأنها منها شرع ابن مالك في توجيهها حسب إمكانه، وجمع هذه التوجيهات في كتابه "التوضيح في حل مشكلات الجامع الصحيح".

ولم يقصد اليونيني من هذه المقابلة أن يرجح بين ما في هذه الأصول من مختلف الروايات، وأن يخرج منها صورة مختارة في نظره لصحيح البخاري، وإنما قصد أن يجمع تلك الروايات كلها في صعيد واحد؛ تيسيرًا لمن يريد الانتفاع بها من العلماء، وإغناء له عن التنقيب عليها في مختلف المظان، وقد استعان بالرموز في الإشارة إلى اختلاف النسخ، وصنع من بعض حروف الهجاء علامات يضعها على مواطن الخلاف، ويرشد بها إلى الرواة المختلفين، وبذلك ضبط رواياتهم مجتمعة بأخصر طريق، وحرر ألفاظ الكتاب على نحو ما هو ثابت عند أصحاب الأصول الأربعة التي قابل عليها أصله2.

1 وقد وضعت المؤلفات والأبحاث في روايات البخاري واختلافها والمقارنة بينها، انظر: تاريخ التراث العربي "1/ 310، 311".

2 التعريف بأمير المؤمنين في الحديث "ص130، 131".

ص: 275

والنص المطبوع الآن هو نسخة اليونيني هذه، مع مقارنة ببعض النسخ، وقد أرسل هذا الأصل إلى السلطان عبد الحميد لينشر في مصر، وقد طبع في مطبعة بولاق1.

ثانيًا: وأيضًا هناك طرق أخرى نُقل بها صحيح البخاري على نحو آخر، وذلك على أيدي الشراح الذين حققوا في أثناء شرحهم الروايات والنصوص، كما في فتح الباري للحافظ ابن حجر العسقلاني، وغيره من شروح صحيح البخاري.

قال أ. د. رفعت فوزي: "وقد شرح صحيح البخاري أعلام بصراء بالحديث والفقه، منهم: أحمد بن محمد الخطابي "ت386هـ-996م"، ومحمد بن يوسف بن علي الكرماني "ت787هـ-1384م" في كتابه "الكواكب الدراري"، وأحمد بن علي بن حجر العسقلاني "ت852هـ-1448م" في كتابه "فتح الباري"، ومحمود بن أحمد بن موسى العيني "ت855هـ-1450م" في كتابه "عمدة القاري"، وأحمد بن محمد بن أبي بكر القسطلاني "ت923هـ-1517م" في كتابه "إرشاد الساري"، وغيرهم كثيرون، وقد ذكر فؤاد سزكين في كتابه "تاريخ التراث العربي" 56 شرحًا، وبعضها مخطوط، وبعضها قد طبع عدة مرات كالكتب السابقة"2.

ثالثًا: كما نقل على نحو آخر في الكتب التي جمعت بين صحيحي البخاري ومسلم، أو ذكر أطرافهما، وذلك كتاب "الجمع بين الصحيحين" لمحمد بن عبد الله الجوزقي "ت388هـ-998م"، و"الجمع بين الصحيحين" لمحمد بن أبي نصر الحميدي "ت488هـ-1095م"، و"الجامع بين الصحيحين" لأبي نعيم عبيد الله بن الحسن بن أحمد بن الحداد "ت517هـ-1123م"، وغيرهم3.

1 كتب السُّنة "ص165، 166".

2 كتب السُّنة "ص166"، وانظر: تاريخ التراث العربي "1/ 312- 331""الطبعة الأولى"، وقد أشار إلى مواضع مخطوطاتها في مكتبات العالم المختلفة، كما أشار إلى ما طبع منها.

3 تاريخ التراث "1/ 345، 346".

ص: 276

ومن الكتب التي ذكرت أطراف الصحيحين كتاب "أطراف الصحيحين"، لخلف بن محمد الواسطي "ت401هـ-1011م"1.

كما ألفت المستخرجات على الصحيحين، وهي تحمل متون أحاديث الصحيحين مع اختلاف في الأسانيد2.

رابعًا: وقد ألفت الكتب التي تُعْنَى برواة البخاري، وبيان حالتهم في الرواية، والكشف عن أساميهم وكناهم وألقابهم، ووصل التعاليق فيه ببيان رجالها، ومن هذه الكتب كتاب "أسامي مَن روى عنهم البخاري" لعبد الله بن عدي بن عبد الله الجرجاني بن القطان "ت365هـ-976م"، وكتاب "ذكر أسماء التابعين ومن بعدهم ممن صحت روايته من الثقات عند محمد بن إسماعيل البخاري" لأبي الحسن علي بن عمر الدارقطني "ت385هـ-995م"، وكتاب "أحاديث التعليق" لأبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي "ت597هـ-1200م"، وكتاب "تغليق التعليق على كتاب البخاري" لابن حجر العسقلاني، وغيرها3.

هذا عدا المؤلفات التي تُعْنَى بتيسير الاستفادة من هذا الكتاب العظيم مما ليس مجال تفصيلها هنا4.

1 تاريخ التراث "1/ 345".

2 وهذه المستخرجات كثيرة حصرها الإمام السيوطي في اثنين وعشرين مستخرجًا "تدريب الراوي 1/ 137"، ومن أشهرها: المستخرج على الصحيحين لأبي نعيم الأصفهاني، والمستخرج على صحيح البخاري لأبي بكر الإسماعيلي، والمستخرج على صحيح مسلم لأبي عوانة الإسفراييني.

3 تاريخ التراث "1/ 341-343".

4 المرجع السابق "1/ 341-346".

ص: 277

ثانيًا: الإمام مسلم "206-261هـ" 1

هو: أبو الحسين مسلم بن الححاج بن مسلم القشيري النيسابوري، ولد بنيسابور سنة "206هـ"، وتوفي بها -أيضًا- عشية الأحد، ودفن يوم الإثنين في رجب سنة "261هـ"، وهو ابن خمس وخمسين سنة، وقضى عمره في طلب الحديث وحفظه وتدوينه، ورحل في طلبه إلى بلدان كثيرة؛ منها: الحجاز، ومصر، والشام، والعراق، وخراسان، والري، وغيرها، وسمع من خلائق من الأئمة وغيرهم، منهم: قتيبة بن سعيد، وأحمد بن حنبل، وإسماعيل بن أبي أويس، ويحيى بن يحيى، وأبي بكر وعثمان ابني أبي شيبة، وعبد الله بن أسماء، وشيبان بن فروخ، وحرملة بن يحيى صاحب الشافعي، ومحمد بن يسار، ومحمد بن مهران، ومحمد بن يحيى بن أبي عمر، ومحمد بن سلمة المرادي، وخلائق من الأئمة غيرهم، وروى عنه: أبو عيسى الترمذي، ويحيى بن صاعد، ومحمد بن مخلد، وإبراهيم بن محمد بن سفيان الفقيه الزاهد، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة، ومحمد بن عبد الوهاب الفراء، وعلي بن الحسين، ومكي بن عبدان، وأبو عوانة، يعقوب بن إسحاق الإسفراييني، وأبو عمرو أحمد بن المبارك المستملي، ونصر بن أحمد، وخلائق.

- مصنفات الإمام مسلم:

له العديد من المصنفات؛ منها: "المسند الصحيح"، و"المسند الكبير" رتبه على الرجال، و"الجامع" رتبه على الأبواب، و"كتاب التمييز"، و"العلل"، و"سؤالات

1 راجع ترجمته في:الأعلام للزركلي "8/ 117"، الطبعة الثانية، تهذيب الأسماء واللغات للنووي "1/ 131"، تهذيب الكمال "27/ 499 - 507"، تهذيب التهذيب "10/ 226"، التقريب "2/ 245"، تذكرة الحفاظ "2/ 588"، تاريخ بغداد "13/ 100"، الأنساب للسمعاني "10/ 155"، سير أعلام النبلاء "12/ 557"، الكاشف "3" ترجمة "5505"، العبر "1/ 197"، شذرات الذهب "2/ 144"، خلاصة الخزرجي "3/ الترجمة 6962"، المنتظم "5/ 32"، شرح صحيح مسلم للنووي "1/ 109 - 158"، فهرسة ابن خير "98، 212، 213"، فتح الباري لابن رجب "3/ 201"، ففيه ذكر كتاب التفصيل لمسلم.

ص: 279

أحمد بن حنبل"، والانتفاع بأهُب السِّباع"، و"الأسماء والكنى" و"الأفراد"، و"الوحدان" و"الأقران"، و"كتاب عمرو بن شعيب"، و"تسمية شيوخ مالك"، و"مشايخ سفيان الثوري"، و"مشايخ شعبة"، و"كتاب المخضرمين"، وكتاب أولاد الصحابة فمن بعدهم من المحدثين"، و"أوهام المحدثين"، و"الطبقات"، و"أفراد الشاميين"، و"من ليس له إلا راوٍ واحد"، وكتاب "تفصيل السنن".

وقد كتب صحيحه -وهو المسمى بالمسند الصحيح- في خمس عشرة سنة، وهو أشهر كتبه. قال الزركلي في الأعلام: جمع فيه اثني عشر ألف حديث كتبها في خمس عشرة سنة، وهو أحد الصحيحين المعول عليهما عند المحدثين والفقهاء والأصوليين1.

وقال مسلم رحمه الله تعالى: "صنفتُ هذا المسند الصحيح من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة"2.

وقال أيضًا: "لو أن أهل الحديث يكتبون مائتي سنة، فمدارهم على هذا المسند، ولقد عرضت كتابي هذا على أبي زرعة الرازي، فكل ما أشار إلَيَّ أن فيه علة تركته وما قال: هو صحيح ليس له علة أخرجته"3.

وقال أيضًا: "ما وضعت شيئًا في هذا المسند إلا بحجة، وما أسقطت منه إلا بحجة"4.

وقال أيضًا: "ليس كل شيء صحيح وضعته هاهنا، إنما وضعت هاهنا ما أجمعوا عليه"5.

1 الأعلام للزركلي "8/ 117"، وقوله:"اثنتي عشر ألف حديث" يعني بالأحاديث المكررة، وبإسقاط المكرر فهي نحو أربعة آلاف حديث، مقدمة ابن صلاح، هامش "ص11"، وراجع: شرح صحيح مسلم للنووي "1/ 129"، وبلغ العدد بترقيم محمد فؤاد عبد الباقي "3033".

2 تذكرة الحفاظ "2/ 589"، شذرات الذهب "2/ 144".

3 تلخيص صحيح مسلم، للقرطبي "1/ 33"، هدى الساري "ص345"، سير أعلام النبلاء "12/ 568"، "12/ 579"، شرح مسلم للنووي "1/ 121، 136".

4 تلخيص صحيح مسلم للقرطبي "1/ 33"، تذكرة الحفاظ "2/ 590"، سير أعلام النبلاء "12/ 580".

5 صحيح مسلم "1/ 304" كتاب الصلاة، في الحديث رقم "63".

ص: 280

قال سراج الدين البلقيني: "أراد مسلم بقوله: "ما أجمعوا عليه" أربعة: أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعثمان بن أبي شيبة، وسعيد بن منصور الخراساني"1.

وحكى القاضي أبو الفضل عياض الإجماع على إمامته، وتقديمه، وصحة حديثه، وميزه2، وثقته، وقبول كتابه3.

وقد أبقى له صحيحه ذكرًا جميلًا، وثناء حسنًا، وثوابًا عظيمًا إلى يوم القيامة، قال الإمام النووي:"ومن حقق نظره في صحيح مسلم رحمه الله واطلع على ما أودعه في أسانيده، وترتيبه، وحسن سياقته، وبديع طريقته، من نفائس التحقيق، وجواهر التدقيق، وأنواع الورع والاحتياط والتحري في الرواية، وتلخيص الطرق واختصارها، وضبط متفرقاتها وانتشارها، وكثرة اطلاعه، واتساع روايته، وغير ذلك مما فيه من المحاسن والأعجوبات، واللطائف الظاهرات والخفيات -علم أنه إمام لا يلحقه من بعد عصره، وقل من يساويه بل يداينه من أهل وقته ودهره، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم"4، حتى قال أبو علي الحافظ النيسابوري أستاذ الحاكم:"ما تحت أديم السماء كتاب أصح من كتاب مسلم بن الحجاج"5، والجمهور على أن صحيح البخاري مُقدَّم على صحيح الإمام مسلم رحمهما الله جميعًا.

- دوافع تصنيف الإمام مسلم لصحيحه:

يمكن إرجاع الأسباب التي من أجلها صنف الإمام مسلم صحيحه إلى سببين رئيسيين هما:

1 محاسن الاصطلاح "ص91".

2 المراد التمييز بين الأشياء، ويعني دقة فرز الإمام مسلم لأحاديث صحيحه.

3 تلخيص صحيح مسلم، للقرطبي "ص32".

4 في مقدمة شرح صحيح مسلم له "1/ 115".

5 مقدمة ابن الصلاح "ص10"، تلخيص صحيح مسلم للقرطبي "1/ 32".

ص: 281

الأول: انتخاب طائفة من الأحاديث الصحيحة المتصلة والمشتملة على أحكام الدين وسننه، مرتبة فقهيًّا، خاصة وأن المصنفات الحديثة في عصره -أو قبله- كانت غير مرتبة فقهيًّا، وتجمع الصحيح والضعيف معًا، باستثناء صحيح الإمام البخاري، وموطأ الإمام مالك.

الثاني: صرف غير المشتغلين بعلوم الحديث المتخصصين إلى مصنف مشتمل على الأحاديث الصحيحة الجامعة لأحكام الدين بعيدًا عن روايات الزنادقة والقصاصين وجهلة المتصوفة.

- منهج الإمام مسلم، وشروطه في صحيحه:

رتب الإمام مسلم صحيحه ترتيبًا فقهيًّا دقيقًا على الكتب والأبواب، دون تكرار أو تجزئة لها كما صنع شيخه البخاري، ولتوضيح منهجه نسوق مثالًا من صحيحه:

يقول في باب تحريم إيذاء الجار والحث على إكرامه هو والضيف1:

1-

حدثنا يحيى بن أيوب، وقتيبة بن سعيد، وعلي بن حُجْر -جميعًا- عن إسماعيل بن جعفر، قال ابن أيوب: حدثنا إسماعيل، قال: أخبرني العلاء عن أبيه، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه".

2-

حدثني حرملة بن يحيى، أنبأنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: $"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه".

3-

حدثنا أبو بكر بن شيبة، حدثنا أبو الأحوص، عن أبي حصين، عن أبي

1 صحيح مسلم بشرح النووي "1/ 377 - 380".

ص: 282

صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت".

4-

حدثنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا عيسى بن يونس، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل حديث أبي حصين، غير أنه قال: "فليحسن إلى جاره

".

5-

حدثنا زهير بن حرب، ومحمد بن نمير، جميعًا عن ابن عيينة، قال ابن نمير: حدثنا سفيان، عن عمرو: أنه سمع نافع بن جبير يخبر عن أبي شريح الخزاعي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليسكت".

وواضح من هذا المثال -كما قال فضيلة الدكتور رفعت فوزي- أن الإمام مسلمًا يجمع طرق المتن الواحد من غير تكرار، كما ألزم نفسه بذلك في مقدمة كتابه، فإذا اتحد المتن لا يكرره، فإذا كان الاختلاف يسيرًا نبه عليه فقط، أما إذا كان غير يسير فإنه يعيد المتن؛ لأنه يصبح حينئذ متنًا جديدًا.

وواضح أيضًا دقة الإمام مسلم في روايته للأحاديث، ويتمثل هنا في اعتنائه بضبط اختلاف ألفاظ الرواة، ففي الحديث الخامس حدثه زهير بن حرب، ومحمد بن نمير بحديث واحد؛ ولكنه ينبه إلى أن ما أثبته في كتابه إنما هي رواية ابن نمير وألفاظه، فقال: "قال ابن نمير: حدثنا سفيان

" إلى آخره.

ومما يتصل بدقة الإمام مسلم في كتابه ما ذكره الإمام النووي من أنه يعتني بالتمييز بين "حدثنا" و"أخبرنا"، وتقييده ذلك على مشايخه، وفي روايته، وكان من مذهبه رحمه الله الفرق بينهما، وأن "حدثنا" لا يجوز إطلاقه إلا على ما سمعه من لفظ الشيخ خاصة، و"أخبرنا" لما قرئ على الشيخ1.

1 صحيح مسلم بشرح النووي "1/ 130".

ص: 283

ومن دقته أيضًا اعتناؤه بالأسانيد وتحويلها، وعدم الاكتفاء ببعضها، مع إيجاز العبارة وكمال حُسنها، ولا يجيز لنفسه أن يروي الصحيفة الواحدة بإسناد واحد، وإنما ينبه على الإسناد في كل حديث، ويتجلى ذلك في صحيفة همام بن منبه، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد رويت هذه الصحيفة بإسناد واحد في أولها، وكان مسلم يستطيع أن يفعل ذلك بألا يذكر الإسناد إلا مع الحديث الأول فيها، كما أجاز ذلك وكيع بن الجراح، ويحيى بن معين، وأبو بكر الإسماعيلي الشافعي؛ ولكنه "ورعًا واحتياطًا وتحريًا وإتقانًا" ذكر كل حديث منهما مقترنًا بإسناده1.

ومن دقته تحريه في مثل قوله: "حدثنا عبد الله بن مسلمة، حدثنا سليمان -يعني ابن بلال- عن يحيى، وهو ابن سعيد"، فلم يستجز رضي الله عنه أن يقول: سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد؛ لكونه لم يقع في روايته منسوبًا، فلو ذكره بنسبه إلى أبيه لكان مخبرًا عن شيخه أنه أخبره بنسبه، والحقيقة أنه لم يخبره.

فهو بهذا كله قد حافظ على التقاليد الأصيلة لعلم الإسناد وروايته، تلك التقاليد التي وضعها أئمة الحديث؛ صيانة للرواية من التبديل والتغيير، وتوثيقًا لها؛ بحيث يطمأن إلى ورود الحديث ورودًا نقيًّا دون تحريف فيه، وأصبح كتاب مسلم -كما قال أحد الدارسين المحققين المعاصرين- بهذا كله "كامل الأسانيد، واضح البناء، منطقيًّا في ترتيب مواده، موفقًا في اختيار مصادره2"3.

هذا، وقد أعلن الإمام مسلم عن منهجه وشرطه في مقدمه صحيحه فقال:

"ثم إنَّا -إن شاء الله- مبتدئون في تخريج ما سألت وتأليفه على شريطة سوف أذكرها لك، وهو أنا نَعْمِدُ إلى جُمْلَةِ ما أُسند من الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

1 مقدمة شرح صحيح مسلم "1/ 131".

2 فؤاد سزكين في تاريخ التراث العربي "1/ 353".

3 كتب السنة، الجزء الأول "ص196 - 199".

ص: 284

فنقسمها على ثلاثة أقسام، وثلاث طبقات من الناس، على غير تكرار، إلا أن يأتي موضع لا يُستغنَى فيه عن ترداد حديث فيه زيادة معنى أو إسناد يقع إلى جنب إسناد لعلة تكون هناك؛ لأن المعنى الزائد في الحديث المحتاج إليه يقوم مقام حديث تام، فلا بد من إعادة الحديث الذي فيه ما وصفنا من الزيادة، أو أن يفصل ذلك المعنى من جملة الحديث على اختصاره إذا أمكن؛ ولكن تفصيله ربما عسر من جملته، فإعادته بهيئته -إذا ضاق ذلك- أسلم.

فأما ما وجدنا بُدًّا من إعادته بجملته من غير حاجة منا إليه، فلا نتولى فعله إن شاء الله تعالى.

فأما القسم الأول: فإنا نتوخى أن نقدم الأخبار التي هي أسلم من العيوب من غيرها وأنقى، من أن يكون ناقلوها أهل استقامة في الحديث، وإتقان لما نقلوا، لم يوجد في روايتهم اختلاف شديد، ولا تخبط فاحش، كما قد عثر فيه على كثير من المحدثين، وبان ذلك في حديثهم، فإذا نحن تقصَّينا أخبار هذا الصنف من الناس أتبعناها أخبارًا يقع في أسانيدها بعض من ليس بالموصوف بالحفظ والإتقان كالصنف المقدم قبلهم، على أنهم وإن كانوا فيما وصفنا دونهم، فإن اسم الستر والصدق وتعاطي العلم يشملهم؛ كعطاء بين السائب، ويزيد بن أبي زياد، وليث بن أبي سُليم، وأضرابهم من حُمَّال الآثار ونُقَّال الأخبار، فهم -وإن كانوا بما وصفنا من العلم والستر عند أهل العلم معروفين فغيرهم من أقرانهم ممن عندهم ما ذكرنا من الإتقان والاستقامة في الرواية- يفضلونهم في الحال والمرتبة؛ لأن هذا عند أهل العلم درجة رفيعة وخصلة سنية

فعلى نحو ما ذكرنا من الوجوه نؤلف ما سألت من الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأما ما كان منها عن قوم هم عند أهل الحديث متهمون، أو عند الأكثر منهم، فلسنا نتشاغل بتخريج حديثهم؛ كعبد الله بن مسور أبي جعفر المدائني، وعمرو بن خالد، وعبد القدوس الشامي، ومحمد بن سعيد المصلوب، وغياث بن

ص: 285

إبراهيم، وسليمان بن عمرو أبي داود النخعي، وأشباههم ممن اتهم بوضع الأحاديث وتوليد الأخبار، وكذلك من الغالب على حديثه المنكر أو الغلط أمسكنا أيضًا عن حديثهم، وعلامة المنكر في حديث المحدث إذا ما عرضت روايته للحديث على رواية غيره من أهل الحفظ والرضا خالفتْ روايتُه أو لم تكد توافقها، فإذا كان الأغلب من حديثه كذلك، كان مهجور الحديث غير مقبوله ولا مستعمله، فمن هذا الضرب من المحدثين: عبد الله بن مُحرَّر، ويحيى بن أبي أنيسة، والجراح بن المنهال أبو العطوف، وعباد بن كثير، وحسين بن عبد الله بن ضميرة، وعمر بن صُهْبان، ومن نحا نحوهم في رواية المنكر من الحديث، فلسنا نعرج على حديثهم ولا نتشاغل به؛ لأن حكم أهل العلم -والذي نعرف من مذهبهم في قبول ما يتفرد به المحدِّث من الحديث- أن يكون قد شارك الثقات من أهل العلم والحفظ في بعض ما رووا، وأمعن في ذلك على الموافقة لهم، فإذا وُجِدَ كذلك ثم زاد بعد ذلك شيئًا ليس عند الصحابة قُبِلَتْ زيادته

فأما من تراه يعمد لمثل الزهري في جلالته وكثرة أصحابه الحفاظ المتقنين لحديثه وحديث غيره، أو لمثل هشام بن عروة، وحديثهما عند أهل العلم مبسوط مُشترك، قد نقل أصحابهما عنهما حديثهما على الاتفاق منهم في أكثره، فيروي عنهما -أو عند أحدهما- العدد من الحديث مما لا يعرفه أحد من أصحابهما، وليس ممن قد شاركهم في الصحيح مما عندهم فغير جائز قبول حديث هذا الضرب من الناس، والله أعلم.

واعلم -وفقك الله تعالى- أن الواجب على كل أحد عرف التمييز بين صحيح الروايات وسقيمها، وثقات الناقلين لها من المتهمين، ألا يروي منها إلا ما عرف صحة مخارجه والسِّتارة1 في ناقليه، وأن يتقي منها ما كان منها عن أهل التهم والمعاندين من أهل البدع

"2.

1 الستارة: ما يستتر به، وكذلك السترة، وهي هنا إشارة إلى الصيانة، م "1/ 8" هامش.

2 صحيح مسلم "1/ 4- 8"، طبع دار إحياء الكتب العربية، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي.

ص: 286

وحاصل كلام الإمام مسلم الذي عرض فيه منهجه وشروطه يتلخص فيما يلي:

أولًا: أنه يتحاشى التكرار إلا عند الحاجة الماسة.

ثانيًا: أنه قسم الأخبار المسندة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ثلاثة أقسام تضم أربع طبقات تبعًا لدرجات الرواة ومكانتهم من حيث قبول رواياتهم وردها:

القسم الأول: أنه التزم بتخريج روايات أهل الحفظ والإتقان والاستقامة من أهل الطبقة الأولى أولًا.

القسم الثاني: أنه يُتْبِع روايات أهل الطبقة الأولى بروايات أهل الطبقة الثانية، ممن يشملهم الستر والصدق، وليسوا من أهل الحفظ والإتقان، وعنده أن أخبار أهل القسم الثاني لتقوية ومعاضدة روايات أهل القسم الأول عند الاحتياج إليها، وقد بيَّن الحافظ ابن حجر العسقلاني قصد الإمام مسلم من المتابعات، وهو يرفع بها التفرد عن أحاديث أهل القسم الأول إذا وجدت الحاجة لذلك، ويفيد قلة أحاديث القسم الثاني في الصحيح نسبيًّا؛ لأن هدفه الأول الصحة، وقد يتحقق في كثير من الأحيان بأحاديث أهل القسم الأول.

وحين تكلم ابن القطان على أحد رجال مسلم وقال: "وعيب على مسلم إخراج حديثه"، قال ابن القيم ردًّا عليه:"ولا عيب على مسلم في إخراج حديثه؛ لأنه ينتقي من أحاديث هذا الضرب ما يعلم أنه حفظه، كما يطرح من أحاديث الثقة ما يعلم أنه غلط فيه"1.

وهذا يتفق مع تصريح الإمام مسلم نفسه حين قال: "ليس كل شيء صحيح وضعته هاهنا، إنما وضعت هاهنا ما أجمعوا عليه"2.

القسم الثالث: ويشمل المتهمين من أهل الطبقة الثالثة، والغالب على حديثه

1 زاد المعاد "1/ 364".

2 صحيح مسلم "1/ 304" في الحديث رقم "63".

ص: 287

النكارة من أهل الطبقة الرابعة، فهؤلاء لا يعرج على حديثهم، ولا يتشاغل بتخريجه.

وهكذا تلاحظ اهتمام الإمام مسلم بالسند، وتحري عدالة الرواة وضبطهم؛ وذلك لأن الإسناد دليل على صحة الحديث أو ضعفه، مما ينعكس بوضوح على الأحكام التشريعية. قال ابن المبارك: الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال مَن شاء ما شاء1.

وقد التزم الإمام مسلم بهذا المنهج الذي رسمه لنفسه، وليس كما زعم الحاكم والبيهقي، حين ذهبا إلى أنه لم يخرج في كتابه الصحيح إلا عن الطبقة الأولى، ولم يخرج عن الطبقة الثانية2. قال القاضي عياض:"وليس الأمر على ذلك لمن حقق نظره ولم يتقيد بالتقليد، فإنك إذا نظرت إلى تقسيم مسلم في كتابة الحديث على ثلاث طبقات من الناس كما قال"3، فجاء بحديث الحفاظ والمتقنين أولًا، ثم أتبعه بحديث أهل الستر والصدق، ثم استشهد بحديث من اتهم من قِبَل بعض العلماء بتهمة نفاها عنه آخرون، ممن ضعف أو اتهم ببدعة، قال النووي:"وهذا الذي اختاره القاضي عياض ظاهر جدًّا، والله أعلم"4.

فكل الأحاديث التي رواها مسلم في أصول أبواب صحيحه متصلة الإسناد برواية الثقة عن الثقة من أوله إلى آخره، قال ابن الصلاح: شرط مسلم في صحيحه أن يكون الحديث متصل الإسناد بنقل الثقة عن الثقة من أوله إلى منتهاه، سالمًا من الشذوذ، ومن العلة، وهذا هو حد الحديث الصحيح في نفس الأمر، فكل حديث اجتمعت فيه هذه الأوصاف فلا خلاف بين أهل الحديث في صحته5.

1 مقدمة صحيح مسلم "1/ 128"، المحدث الفاضل "ص209"، مقدمة ابن الصلاح "ص130"، تدريب الراوي "2/ 160"، شرف أصحاب الحديث "ص41"، معرفة علوم الحديث "ص9"، الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع "1/ 123".

2، 3 شرح مسلم للنووي "1/ 132".

4 المصدر السابق "1/ 133".

5 صيانة صحيح مسلم "ص72"، ونقله النووي بنحوه في مقدمة صحيح مسلم "1/ 121، 122".

ص: 288

وأخطأ الذين عابوا على الإمام مسلم روايته عن جماعة من الضعفاء أو المتوسطين، الذين ليسوا من شرط الصحيح، وذلك لأحد أسباب لا معاب عليه معها1:

أحدها: أن يكون ذلك فيمن هو ضعيف عند غيره ثقة عنده، قال ابن الصلاح:"ولا يقال: إن الجرح مُقدَّم على التعديل، وهذا تقديم للتعديل على الجرح؛ لأن الذي ذكرناه محمول على ما إذا كان الجرح غير مفسر السبب فإنه لا يعمل به".

الثاني: أن يكون ذلك واقعًا في الشواهد والمتابعات لا في الأصول؛ وذلك بأن يذكر الحديث أولًا بإسناد نظيف رجاله ثقات، ويجعله أصلًا، ثم يتبع ذلك بإسناد آخر أو أسانيد فيها بعض الضعفاء على وجهة التأكيد بالمتابعة، أو لزيادة فيه تنبه على فائدة فيما قدمه.

الثالث: أن يكون ضَعْف الضعيف الذي احتج به طرأ بعد أخذه عنه باختلاط حدث عليه غير قادح فيما رواه من قبل في زمان سداده واستقامته، كما في "أحمد بن عبد الرحمن بن وهب بن أخي عبد الله بن وهب"، فذكر الحاكم أبو عبد الله أنه اختلط بعد الخمسين ومائتين بعد خروج مسلم من مصر، فهو في ذلك كسعيد بن أبي عروبة، وعبد الرزاق، وغيرهما ممن اختلط آخرًا، ولم يمنع ذلك من الاحتجاج في الصحيحين بما أخذ عنهم قبل ذلك

ثم روى بسنده عن إبراهيم بن أبي طالب2 يقول: قلت لمسلم بن الحجاج: قد أكثرت الرواية في كتابك الصحيح عن أحمد بن عبد الرحمن الوهبي، وحاله قد ظهر؟ فقال: إنما نقموا عليه بعد خروجي من مصر.

1 راجع: صيانة صحيح مسلم "ص94-98"، شرح مسلم للنووي "1/ 134- 136".

2 إبراهيم بن أبي طالب: محمد بن نوح بن عبد الله النيسابوري، أبو إسحاق شيخ خراسان، قال الحاكم: كان إمام عصره في معرفة الحديث والرجال، أملى كتاب العلل وغيره، تُوفي سنة خمس وتسعين ومائتين. راجع: تذكرة الحفاظ "2/ 638"، العبر "2/ 100".

ص: 289

الرابع: أن يعلو بالشخص الضعيف إسناده، وهو عنده برواية الثقات نازل، فيذكر العالي أولًا بطول بإضافة النازل إليه مكتفيًا بمعرفة أهل الشأن بذلك، فقد بلغه إن أبا زرعة الرازي أنكر روايته في صحيحه عن "أسباط بن نصر"، وقطن بن نسير" "وأحمد بن عيسى"، فرد الإمام مسلم على ذلك بقوله: وإنما أدخلت من حديث "أسباط" و"قطن" و"أحمد" ما قد رواه الثقات عن شيوخهم إلا أنه ربما وقع إلَيَّ عنهم بارتفاع، ويكون عندي من رواية أوثق منهم بنزول، فأقتصر على ذلك، وأصل الحديث معروف من رواية الثقات.

ذكر الحاكم أن من شروط الصحيحين إخراج الحديث عن عدلين إلى النبي صلى الله عليه وسلم ونفى الحازمي هذا الشرط نفيًا قاطعًا، وقال:"فهذا غير صحيح طردًا وعكسًا"1. وجاء من الصحيحين بأمثلة تؤكد عدم صحة ما ذهب إليه الحاكم2، ومن بين الأمثلة الموجودة في صحيح البخاري -والتي تنفي ادعاء الحاكم وزعمه، كما يرى الحازمي- أن أول حديث في صحيح الإمام البخاري، وهو: "إنما الأعمال بالنيات

"، وآخر حديث فيه، وهو: "كلمتان خفيفتان

" فردان غريبان، كما نص على ذلك الحافظ البرهان البقاعي وغيره، وقد صنف الحافظ الضياء المقدسي مؤلفًا سماه: "غرائب الصحيحين"، وذلك فيه ما يزيد على مائتي حديث من الغرائب والأفراد المخرجة في الصحيحين3.

قلت: وقد يكون مراد الحاكم أن هذا الشرط استحسنه الشيخان؛ ولكنهما لم يلتزما به في كل الأحاديث!

- عناية الأمة الإسلامية بصحيح الإمام مسلم:

حَظِيَ صحيح الإمام مسلم بعناية كبيرة من الأمة الإسلامية وعلمائها في

1 شروط الأئمة الخمسة "ص43، 44".

2 راجع: المصدر السابق "ص44-50".

3 راجع: المصدر السابق، "التعليق في الهامش""ص43".

ص: 290

مشارق الأرض ومغارها، وهذه العناية تلت العناية بصحيح البخاري مباشرة، وكانت هذه العناية من وجوه عدة تكاتفت جميعًا لتؤكد أن صحيح الإمام مسلم انتقل إلينا عبر الأجيال موثقًا ومحفوظًا ومصانًا من أي عبث أو تحريف أو تغيير، وسيظل كذلك حتى قيام الساعة، ونوضح هذه الوجوه فيما يلي1:

أولًا: انتقل صحيح الإمام مسلم إلى العلماء بالسماع، أو القراءة، أو المناولة، أو الإجازة جيلًا بعد جيل، شأنه في ذلك شأن المؤلَّفات في العلوم الإسلامية، وإن العناية هنا في هذا المجال أكثر وأوفر.

يصف الإمام النووي "631-676هـ/1233-1277م" كيف انتقل صحيح الإمام مسلم إليه خاصة، وإلى عصره عامة فيقول:

"صحيح مسلم رحمه الله في نهاية من الشهرة، وهو متواتر عنه من حيث الجملة، فالعلم القطعي حاصل بأنه تصنيف أبي الحسين مسلم بن الحجاج، وأما من حيث الرواية المتصلة بالإسناد المتصل بمسلم، فقد انحصرت طريقه عنده في هذه البلدان في رواية أبي إسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان عن مسلم، ويروي في بلاد المغرب -مع ذلك- عن أبي محمد أحمد بن علي القلانسي عن مسلم، ورواه عن ابن سفيان جماعة منهم الجلودي، وعن الجلودي جماعة منهم الفارسي، وعنه جماعة منهم الفراوي، وعنه خلائق منهم منصور، وعنه خلائق منهم شيخنا أبو إسحاق"2.

قال الشيخ الحافظ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله: وأما القلانسي فوقعت روايته عند أهل المغرب، ولا رواية له عند غيرهم، دخلت روايته إليهم من جهة أبي عبد الله محمد بن يحيى الحذَّاء التميمي القرطبي وغيره، سمعوها بمصر من أبي العلاء عبد الوهاب بن عيسى بن الرحمن بن ماهان البغدادي، قال:

1 انظر كتب السنة، الجزء الأول "ص212 - 221".

2 شرح صحيح مسلم للنووي "1/ 116".

ص: 291

حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن يحيى الأشقر الفقيه على مذهب الشافعي، قال: حدثنا أبو محمد القلانسي، قال: حدثنا مسلم إلا ثلاثة أجزاء من آخر الكتاب أولها حديث الإفك الطويل1، فإن أبا العلاء بن ماهان كان يروي ذلك عن أبي أحمد الجلودي، عن ابن سفيان، عن مسلم رضي الله عنه2.

وبلغ من دقتهم أن ميزوا بين ما أخذه أشهر الرواة عن مسلم سماعًا وما أخذوه إجازة، وينقل النووي عن ابن الصلاح ذلك، يقول: "اعلم أن لإبراهيم بن سفيان في الكتاب فائتًا لم يسمعه من مسلم، يقال فيه: أخبرنا إبراهيم عن مسلم، ولا يقال فيه: أخبرنا مسلم، ولا: حدثنا مسلم، وروايته لذلك عن مسلم إما بطريق الإجازة، وإما بطريق الوجادة3.

وقد أغفل أكثر الرواة عن تبيين ذلك وتحقيقه في فهارسهم وتسميعاتهم وإجازاتهم وغيرها؛ بل يقولون في جميع الكتاب: أخبرنا إبراهيم قال: أخبرنا مسلم، وهذا الفوت في ثلاثة مواضع محققة في أصول معتمدة".

وهذه الفوائت قريبًا من ست وثلاثين ورقة4.

وقد اجتهد العلماء في كل جيل وكل عصر لأن يسمعوا صحيح الإمام مسلم أكثر من مرة، وعلى أكثر من شيخ، وهذا من شأنه يزيد في الاطمئنان إلى سلامة وصول الكتاب إلى كل جيل لاحق دون تحريف أو تغيير.

وقد ذكر ابن خير الإشبيلي "502-575هـ" في فهرسته الطرق التي وصل بها

1 من "ص112- 246" آخر الكتاب ج8 وهو الجزء الأخير من طبعة إستنابول سنة 1329هـ.

ومن "ص628 - 883"، من صحيح مسلم على شرح النووي، طبعة دار الشعب بالقاهرة.

2 مقدمة شرح مسلم للنووي "1/ 116، 117" دار القلم، بيروت.

3 وقد رجح النووي، كما هو موجود عنده في بعض الأصول أنه يروي هذا الجزء إجازة "1/ 117" من شرح مسلم، وهذا بطبيعة الحال لا يتنافَى مع كون محمد بن سفيان سمع أحاديث هذا الجزء من مسلم في غير كتاب الصحيح.

4 مقدمة شرح صحيح مسلم، النووي "1/ 117-119".

ص: 292

صحيح الإمام مسلم دون تحريف أو تغيير، فقال في روايته لصحيح مسلم: مصنف الإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري، وهو "المسند الصحيح المختصر من السنن، بنقل العدل عن العدل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم".

أما رواية الجلودي فحدثني بها الشيخ القاضي أبو بكر بن عبد الله بن محمد بن العربي رحمه الله قراءة مني عليه، قال: أنا به الشيخ أبو بكر محمد بن طرخان بن يلتكين بن يَحْكَم التركي، قال: أنا أبو الليث أبو الفتح نصر بن الحسن بن أبي القاسم التنكتي الشاسي.

قال ابن العربي أيضًا: وأخبرنا الشيخ الإمام جمال الإسلام إمام الحرمين أبو عبد الله الحسين بن علي الطبري نزيل مكة بها سماعًا ومناولة، قالا: أنا عبد الغافر بن محمد بن عبد الغافر الزكي العدل، قال: نا أبو أحمد محمد بن عيسى بن عمرويه الجلودي عن أبي إسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان عن مسلم، وفي بعض المواضع يقول ابن سفيان: حدثنا مسلم، وذلك مقيد مجود في أصلي بحمد الله، وحدثني بها أيضًا الشيخ الخطيب أبو بكر موسى بن سيد بن إبراهيم الأموي رحمه الله قراءة مني عليه في أصل كتابه بالمسجد الجامع بالجزيرة الخضراء -حرسها الله- في ذي القعدة من سنة 534هـ، والشيخ المحدث أبو الحسن عباد بن سرحان المعافري رحمه الله مناولة منه لي في أصل كتابه، والشيخ الإمام أبو الحكم عبد الرحمن بن عبد الملك بن غشَلْيان الأنصاري رحمه الله إجازة قالوا كلهم: حدثنا بها الشيخ الإمام أبو عبد الله الحسين بن علي الطبري المذكور، أما ابن سيد، وابن سرحان، فسمعاه عليه، وأما ابن غشليان فإجازة منه له، وقد تقدم سند الطبري فوق هذا، وحدثني بها أيضًا شيخنا أبو الحسن يونس بن محمد بن مغيث رحمه الله قراءة عليه، وأنا أسمع إلا يسيرًا من آخره، فإنه أجازه لي وناولني الديوان كله، قال: حدثني به الشيخ الصالح أبو عبد الله محمد بن محمد بن بشير المعافري الصيرفي رحمه الله قراءة عليه، قال: نا به أبو محمد عبد الله بن الوليد بن سعد بن بكر الأنصاري بمصر وكتبته من كتابه، قال: نا به أبو العباس أحمد بن الحسن بن عبد الرحمن بن

ص: 293

بِنْدَار بن جبريل الرازي، قال: نا أبو أحمد الجلودي، قال: نا إبراهيم بن محمد بن سفيان، قال: نا مسلم بن الحجاج، وحدثني بها أيضًا الشيخ الأديب أبو عبد الله محمد بن سليمان بن أحمد النفزي المالقي رحمه الله مناولة منه لي، قال: حدثني به الشيخ أبو العباس أحمد بن عمر بن أنس بن دلهاث العذري، ثم الدلائي رحمه الله سماعًا مني عليه مرة وثانية، قال: نا به أبو العباس أحمد بن الحسن بن عبد الرحمن بن بندار الرازي بمكة -حرسها الله- قراءة عليه وأنا أسمع سنة "409هـ" بالإسناد المتقدم، وحدثني بها الشيخ المحدث أبو بكر محمد بن أحمد طاهر القيسي سماعًا عليه لبعضه وإجازة لجميعه، قال: حدثني به الشيخ الحافظ أبو علي حسين بن محمد بن أحمد الغسائي رحمه الله قراءة عليه قال: حدثني به الشيخ أبو العباس العذري المذكور، قراءة مني عليه بمدينة بلنسية في أيام من رجب وشعبان سنة "470هـ" قال: نا أبو العباس بن بندار المذكور بالسند المتقدم.

قال أبو علي: وأخبرني به أبو القاسم حاتم بن محمد الطرابلسي مناولة من يده إلى يدي، قال: أخبرني به أبو سعيد عمر بن محمد بن محمد بن داود السجزي بمكة سنة "403هـ" قال: نا أبو أحمد الجلودي قراءة عليه في سنة "369هـ" بنيسابور، قال: نا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان عن مسلم، قال حاتم: وحدثني به أبو محمد عبد الملك بن الحسن بن عبد الله الصقلي، قال: نا أبو بكر محمد بن إبراهيم بن يحيى الكسائي بنيسابور سنة "382هـ"، قال: نا إبراهيم بن محمد بن سفيان سنة "308هـ" قال: نا أبو الحسين مسلم بن الحجاج بنيسابور سنة "257هـ".

قال إبراهيم: فرغ لنا مسلم من قراءة الكتاب لعشر خلون من رمضان من العام المذكور، وتوفي مسلم بن الحجاج رحمه الله سنة "261هـ"، ذكر أبو بكر الخطيب في تاريخه مدينة السلام: أخبرني محمد بن علي المقري، قال: أنا محمد بن عبد الله النيسابوري، قال: سمعت محمد بن يعقوب أبا عبد الله الحافظ يقول: توفي مسلم بن الحجاج عشية يوم الأحد، ودفن يوم الإثنين لخمس بقين من رجب سنة "261هـ"، وحدثني أيضًا الشيخ أبو محمد بن

ص: 294

عتاب رحمه الله إجازة فيما كتب به إليَّ، قال: أنا الشيخ الصالح أبو محمد عبد الله بن سعيد الشنتجالي وأبو القاسم حاتم بن محمد الطرابلسي إجازة، قالا: نا أبو سعيد عمر بن محمد السجزي بإسناده المتقدم، قال أبو محمد بن عتاب: وأخبرني بها أيضًا الشيخ أبو محمد مكي بن أبي طالب المقري إجازة عن أبي العباس أحمد بن محمد بن زكريا القسوي قال: نا أبو بكر محمد بن إبراهيم بن يحيى الكسائي، عن إبراهيم بن محمد بن سفيان، عن مسلم.

وأما رواية ابن ماهان، فحدثني بها الشيخ القاضي أبو مروان عبد الملك بن عبد العزيز اللخمي الباجي سماعًا عليه مرة وثانية، قال: حدثني بها أبي، وعماي أبو عمر أحمد، وأبو عبد الله محمد، وابن عمي الفقيه أبو محمد عبد الله بن علي بن محمد، قالوا كلهم: حدثنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الله الفقيه، قال: نا أبو العلاء عبد الوهاب بن عيسى بن ماهان البغدادي سماعًا عليه مع أبي رحمه الله بمصر، قدمها علينا، قال: نا أبو بكر أحمد بن محمد بن يحيى الفقيه على مذهب الشافعي المعروف بالأشقر بنيسابور، قال: نا أبو محمد أحمد بن علي بن الحسين بن المغيرة بن عبد الرحمن القلانسي، قال: نا أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري رحمه الله وحدثني بها أيضًا أبو بكر محمد بن أحمد بن طاهر القيسي المذكور سماعًا عليه وإجازة على نحو ما تقدم، قال: نا أبو علي حسين بن محمد بن أحمد الغساني، قال: حدثني بها القاضي أبو عمر أحمد بن محمد الحذاء التميمي قراءة عليه سنة 457هـ، قال: نا أبي رحمه الله قراءة مني عليه سنة "395هـ"، قال: نا أبو العلاء عبد الوهاب بن عيسى بن ماهان البغدادي، قال: نا أبو بكر أحمد بن محمد الفقيه الأشقر، قال: نا أبو محمد أحمد بن علي القلانسي، قال: نا مسلم بن الحجاج، حاشا ثلاثة أجزاء من آخر الكتاب، أولها حديث عائشة في الإفك

الحديث الطويل إلى آخر الديوان، فإن أبا العلاء بن ماهان يروي ذلك عن أبي الجلودي، عن إبراهيم بن محمد

ص: 295

ابن سفيان عن مسلم بن الحجاج، وحدثني بها أيضًا الشيخ أبو محمد بن عتاب إجازة قال: نا أبو عمر بن الحذاء المذكور إجازة بالسند المتقدم، قال: وحدثني بها أبو محمد بن عتاب رحمه الله قراءة عليه وأنا أسمع "34ب" غير مرة قال: نا أبو القاسم أحمد بن فتح، قال: نا أبو العلاء بن ماهان بالإسناد المتقدم، قال أبو علي: سمعت أبا عمر بن الحذاء يقول: سمعت أبي رحمه الله يقول: أخبرني ثقات أهل مصر: أن أبا الحسن علي بن عمر الدارقطني كتب إلى أهل مصر من بغداد: أن اكتبوا عن أبي العلاء بن ماهان كتاب مسلم بن الحجاج، ووصف أبا العلاء بالثقة والتمييز1.

قال فضيلة الدكتور رفعت فوزي2: "وقد انتقل صحيح مسلم بعد ذلك بنفس الطريقة كما يعلم ذلك بدهيًّا من الفهارس والأثبات، والنسخ المخطوطة التي لا يكاد يخلو عصر منها من العصور، كما لا تخلو مكتبة منها من مكتبات المخطوطات العربية في جميع أنحاء العالم، كما ذكر صاحب تاريخ التراث العربي"3.

وعندنا أريد طبع صحيح مسلم انتضى له علماء أجلاء وحققوه، وقارنوا بين نسخ مخطوطة منه، فجاء على "أتم وأدق تصحيح" مقيدًا بالشكل الكامل، ومن ذلك ما طبع بدار الطباعة بالأستانة، عام "1329هـ".يقول الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي:"وهذه النسخة لم يأل القائمون على طبعها جهدًا في تصحيحها، ومراجعة النسخ المخطوطة التي كانت تحت أيديهم"4. وما يزال العلماء يطبعون صحيح مسلم، ويعنون بضبطه5 وتحقيقه.

1 فهرسة ما رواه عن شيوخه من الدواوين المصنفة "ص98 - 102".

2 كتب السنة، الجزء الأول "ص218 - 221".

3 فؤاد سزكين: تاريخ التراث العربي "1/ 354".

4 أول ورقة من طبعة الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي.

5 نشر صحيح مسلم في كلكتا عام "1265هـ"، وفي القاهرة "1327هـ"، "تاريخ الأدب العربي 3/ 108"، ومن الطبعات الحديثة المحققة طبعة الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي، بالقاهرة، عام "1374هـ- 1955م".

ص: 296

ولم يكن انتقال صحيح الإمام مسلم -خاصة هو وصحيح البخاري- كتابة وسماعًا وقراءة فقط، وإنما كان علماء الأمة الإسلامية يعنون بحفظه ومدارسته، والتنبيه إلى ما فيه، وما ليس فيه من الأحاديث وألفاظها وزياداتها.

ويعطينا الشيخ عبد الحي الكتاني -وهو من كبار المحدثين في كتابه "فهرس الفهارس والأثبات"1- عند كلامه عن والده المحدث الكبير الكتاني فيقول: "وديوانه الصحيح ختمه نحو الخمسين مرة، ما بين قراءته له على المشايخ وإسماع له، وكان يعرفه معرفة جيدة

وأتم سماع وإسماع الكتب الستة2

يستحضر أحاديث الكتب الستة كأصابع يده، وإن أَنْسَ فلا أنسى أني كنت مرة أسمع عليه كتاب المجالس المكية لأبي حفص الميانسي المكي من أصل عتيق بخط الحافظ أبي العلاء العراقي، فوصلنا فيه إلى حديث عثمان في كيفية وضوء النبي صلى الله عليه وسلم فمع عزو الميانسي له إلى مسلم ذكر فيه المسح على الأذنين، فقال لنا الشيخ الوالد: مسح الأذنين في الوضوء لا يوجد في الصحيحين من حديث عثمان، ولا غيره، فقمت بعد ذلك على ساق في مراجعة نسخ صحيح مسلم العتيقة المسموعة وغيرها من المستخرجات والمصنفات الأثرية، فلم أجد لذلك ذكرًا فيها، فأيقنت بحفظ الرجل، وقوة استحضاره وخوضه في السُّنَّة"3.

ثانيًا: انتقل صحيح مسلم مرة أخرى على أيدي العلماء الذين شرحوه، ومخطوطات هذه الشروح منتشرة في مكتبات العالم، وبعضها طبع طبعًا محققًا4، وبعضها قارن بين نسخ مسلم، ونبه على ما فيها من اختلافات سببها زيادات يسيرة، أو اختلاف أصحابها، واختلاف أوقات أخذهم لها من مسلم رحمه الله تعالى.

1 طبع عام 1346هـ، بالمطبعة الجديدة الفاسية بالطالعة.

2 الكتب الستة: صحيح البخاري، صحيح مسلم، سنن أبي داود، سنن الترمذي، سنن النسائي، سنن ابن ماجه.

3 فهرس الفهارس "2/ 141".

4 انظر: أماكنها، وسنوات طباعة بعضها، ومتى طبعت في "تاريخ التراث العربي" لفؤاد سزكين "1/ 354- 362"، الطبعة الأولى.

ص: 297

ومن هذه الشروح: "إكمال الْمُعْلِم بفوائد مسلم للقاضي عياض بن موسى اليحصبي""544هـ-1149م"، و"إكمال إكمال المعْلِم" لمحمد بن خليفة بن عمر الوشتاتي الأبي التونسي "ت827هـ-1424م"، وهو تكملة للشرح السابق، و"المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج" ليحيى بن شرف النووي "ت676هـ-1277م".

ثالثًا: كما ألفت كتب تعنَى بنص صحيح مسلم، من حيث الجمع بينه وبين صحيح البخاري، وما اتفقا عليه وانفردا به، وما استخرج عليه، ومن هذه الكتب "الجمع بين الصحيحين" لمحمد بن عبد الله الجوزقي "ت388هـ-998م"، و"الجمع بين الصحيحين" لمحمد بن نصر الحميدي "ت488هـ-1095م"، و"المستدرك على الصحيحين" لمحمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري "ت404هـ-1014م"، و"أطراف الصحيحين" لخلف بن محمد علي الواسطي، و"المستخرج" للإسماعيلي، و"شرح زوائد مسلم على البخاري، لعمر بن رسلان البلقيني "805هـ-1403م"، وغيرها1.

رابعًا: هذا عدا الكتب الأخرى التي تُعْنَى بشرح غريب مسلم، وحل مشكلاته، وإحصاء رجاله، والكشف عن أحوالهم وضبطهم2.

وهذا كله يدل على عناية العلماء بصحيح مسلم، وهو أمر يؤكد الثقة به وبنقله وبالمحافظة على نصه، وتواتر نقله، كما قال الإمام النووي رحمة الله عليه.

1 تاريخ التراث "1/ 366- 368"، تدريب الراوي "1/ 111".

2 تاريخ التراث "1/ 364- 366".

ص: 298