الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثالث: منهاج المحدثين في القرن الثالث الهجري وحتى عصرنا الحاضر
الفصل الأول: مناهج المحدثين في القرن الثالث الهجري
المبحث الأول: أهم المشكلات التى واجهت المحدثين في القرن الثالث الهجري
…
الباب الثالث: مناهج المحدثين في القرن الثالث الهجري
الفصل الأول: مناهج المحدثين في القرن الثالث الهجري
يعتبر القرن الثالث الهجري أزهى عصور السُّنَّة وأحفلها بخدمة الحديث، ففيه ظهر أفذاذ الرجال من حفاظ الحديث وأئمة الرواية، وخبراء الجرح والتعديل، كما سعد بالتآليف الخالدة والمصنفات الهامة في الحديث وعلومه المختلفة، وعلى رأسها الكتب الستة "صحيح البخاري، وصحيح مسلم، وسنن أبي داود، وسنن الترمذي، وسنن النسائي، وسنن ابن ماجه" التي جمعت أصول الإسلام وفروعه، وفيه أيضًا اعتنى أئمة الحديث بالكلام على الأسانيد والرجال، وبيان منزلتهم في الجرح والتعديل، هذا بالرغم من المشكلات الخطيرة التي واجهت علماء الحديث.
- وإليك توضيح كل ما سبق من خلال عدة مباحث نعرضها فيما يلي:
المبحث الأول: أهم المشكلات التي واجهت المحدثين في القرن الثالث الهجري
في هذا القرن -وخاصة بمجيء المأمون للخلافة "198- 218هـ"- أمسك المحدثون عن رواية أحاديث الصفات والرؤيا، فقد جاء المأمون، فوجد العلماء فريقين مختلفين، ووجد الخلاف محتدمًا بين علماء الكلام والفقهاء والمحدثين، فقد خاض علماء الكلام في مسائل عدة في أصول الدين خالفوا فيها الجمهور، وأهم هذه المسائل وأشهرها مسألتان:
- إحداهما: مسألة أفعال العباد:
فيرى المعتزلة أن أفعال العباد مخلوقة لهم، لا لله تعالى؛ ولهذا استحقوا عليها الثواب والعقاب، بينما رأى الجمهور أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى، وليس للعباد فيها سوى جريانها على أيديهم بكسبهم واختيارهم.
- الثانية: مسألة صفات الله تعالى:
فيرى المعتزلة أن الله تعالى منزه عن ثبوت صفات قائمة بذاته كالسمع والبصر والقدرة والكلام والحياة، بينما رأى الجمهور أن هذه الصفات قديمة قائمة بذات الله تعالى ليست عين الذات ولا غيرها.
والخلاف في هذه المسألة أدى إلى خلاف في القرآن الكريم، فرأى الجمهور أنه كلام الله، وأنه قديم؛ لأنه صفة لله تعالى، ولكن المعتزلة يرون أنه مخلوق وحادث.
وكان الخليفة المأمون عالمًا1 ميالًا إلى حرية البحث والمناظرة، فأفسح المجال أمام المتكلمين، فنشبت المعركة الكبيرة بينهم وبين المحدثين، وكان المأمون يعقد لهم مجالس للمناظرة والمحاورة أملًا في الاتفاق على رأي، ولكن هيهات
…
فلما أخفق في القضاء على هذا الخلاف أراد أن يرغم الفقهاء والمحدثين على قبول رأي المعتزلة الذي مال إليه واعتنقه -وهو أن القرآن مخلوق- واعتبر المأمون أن الجمهور الأعظم، والسواد الأكبر -وهم المخالفون- "لا نظر لهم ولا روية، ولا استضاءة بنور العلم وبرهانه، أهل جهالة بالله وعمى عنه، وضلال عن حقيقة دينه
…
" وغير ذلك من القذف الذي رمى به الفقهاء والمحدثين، مما جاء في كتابه إلى عامله على بغداد "إسحاق بن إبراهيم الخزاعي"، بينما هو كان يغزو بلاد الروم حتى أنه وصفهم في هذا الكتاب بأنهم شر الأمة وإخوان إبليس.
وأمر عامله هذا بأن يمتحن القضاة والمحدثين في هذه المسألة، وأن يقتل كل مَن لم يقل بخلق القرآن، وقال له:"فمن لم يجب فامنعه من الفتوى والرواية".
وأنفذ المأمون وصيته إلى أخيه المعتصم بالسير على طريقته في مسألة خلق القرآن، ففعل المعتصم، وأمر المتعلمين بأن يعلموا الصبيان رأي المعتزلة في هذه المسألة.
1 سمع الموطأ، واطلع على الفلسفة اليونانية وأقوال حكماء الفرس، وأمر بترجمة الكثير من كتب الروم، وأصبح عصره أزهى عصور العلم في خلافة بني العباس.
وقتل المعتصم في ذلك كثيرًا من العلماء، وأهان كثيرًا من أهل الحديث، وعلى رأسهم الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه الذي أصر على رأيه، فأُوذي كثيرًا.
ومات المعتصم "227هـ"، وجاء ابنه "الواثق" فأحيا الفتنة، وأمر أمير البصرة أن يمتحن الأئمة والمؤذنين في مسألة خلق القرآن، وقتل وأهان في ذلك الكثير من العلماء والمحدثين، وقد ساعد الواثق في ذلك وزيره أحمد بن أبي دؤاد الذي كان على رءوس الاعتزال.
ولكن الواثق ملَّ هذه المحنة فرجع عنها في آخر عمره، وسخط على "أحمد بن أبي دؤاد"؛ ولكن بعد إهانة المحدثين والفقهاء، وقتل وأذى الكثيرين منهم، من قبل الدولة والمعتزلة الذين قويت شوكتهم، ونالوا من أهل السنة، وانتقموا منهم، وخاصة بعد أن قربهم الخلفاء، وأخذوا بزمام الوزارات والقضاء.
وولي "المتوكل على الله بن المعتصم" الخلافة بعد أخيه الواثق "232هـ" فرفع المحنة، وأظهر ميلًا عظيمًا إلى السُّنة، وكتب بذلك إلى الآفاق، واستقدم المحدثين إلى "سامراء"، وأكرمهم وأجزل لهم العطاء.
فحدثوا بأحاديث الصفات والرؤيا، وجلس أبو بكر بن أبي شيبة في جامع الرصافة، فاجتمع إليه نحو ثلاثين ألف نفس، وجلس أخوه عثمان في جامع المنصور، فاجتمع إليه نحو ثلاثين ألفًا أيضًا، ودعا الناس للمتوكل وبالغوا في الثناء عليه حتى قال بعضهم: الخلفاء ثلاثة: أبو بكر الصديق رضي الله عنه في قتل أهل الردة، وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه في رد المظالم، والمتوكل في إحياء السُّنَّة وإماتة التجهم1.
وكما ابتُلي المحدثون في هذا القرن بهذه المحنة التي انتصر عليهم فيها المعتزلة،
1 راجع: البداية والنهاية "10/ 272"، تاريخ الخلفاء للسيوطي "ص204"، والحديث والمحدثون، لمحمد محمد أبو زهو "ص316- 322"، طبع دار الكتاب العربي، بيروت.
ابتلوا أيضًا بشرذمة انتسبوا لأهل الحديث، منهم المرتزقة والقصَّاصون والذين يتكسبون بالحديث، والجهلة بأحكام الشرع وأمور الدين.
وقد عاصرت هذه الفئة الضالة المحنة فاستغلتها أحسن استغلال، فأصبح أمام المحدثين عبء آخر يتمثل في محاربة الوضاعين من الزنادقة والقصاصين في هذه الفترة مستغلين انشغال العلماء بهذه المحنة.
ومما يحمد للمحدثين في المحنة سلامة موفقهم حيث الإمساك عن الخوص في مسألة خلق القرآن وغيرها، فأغلقوا بذلك أبوابًا من الشر لا نهاية لها؛ منها: استدراجهم إلى عقائد المعتزلة خاصة، وهم بموقفهم هذا حافظوا على الالتزام بمنهج السلف الصالح، فجزاهم الله عن الدين وأهله الجزاء الأوفَى.
- نتائج محنة خلق القرآن على الحديث والمحدِّثين:
نوجز هذه النتائج فيما يلي:
أولًا: السمو بمكانة المحدثين الذين أبوا إلا اتباع منهج السلف وعدم الخوض في هذه المسائل، وفي المقابل الحط من مكانة الذين خاضوا فيها.
ثانيًا: وضع الأحاديث، واختلاق الروايات من قِبَل أهل الأهواء والزنادقة والكذابين والمارقين عن الدين، ومن ذلك روايتهم عن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من قال: القرآن مخلوق؛ فقد كفر"1.
وروايتهم عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كل ما في السماوات والأرض وما بينهما مخلوق غير الله والقرآن؛ وذلك أنه كلامه، منه بدأ، وإليه يعود، وسيجيء أقوام من أمتى يقولون: القرآن مخلوق فمن قاله منهم فقد كفر
1 الموضوعات لابن الجوزي "1/ 107" كتاب التوحيد، الباب الأول: باب في أن الله عز وجل قديم، بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما مرفوعًا، وقال: هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الدارقطني: محمد بن عبيد يكذب، ويضع الحديث.
بالله العظيم، وطلقت امرأته من ساعته؛ لأنه لا ينبغي للمؤمنة أن تكون تحت كافر، إلا أن تكون سبقته بالقول"1.
وزعم الزنادقة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "لما أراد الله خلق نفسه خلق الخيل فأجراها حتى عرقت، ثم خلق نفسه من ذلك"2.
وقد كان للشعوبية دور في هذا الوضع، فهي قد نمت في القرن الثاني الهجري؛ ولكنها بلغت أوجهًا في القرن الثالث الهجري، ومما وضعوه واختلقوه: أنهم زعموا أن الأعاجم ذكرت عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "لأنا بهم أوثق مني بكم"3، وقول العربي فيما نسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم:"العرب سادات العجم"4.
ثالثًا: الطعن في أهل الحديث وأئمة المسلمين وحتى الصحابة رضي الله عنهم وذلك من قِبَل أهل الأهواء الذين رموهم بالجهل الكبير، وادعاء الحديث، ورموهم بصفات المرتزقة، وقد استغل المستشرقون ذلك.
رابعًا: كان لهذه المحنة أثر في التجريح والتعديل، فمن جهة كان المأمون يرد رواية من لم يقل بخلق القرآن، ويحكم بفسق الشهود والقضاة إن لم يقروا بذلك.
ومن جهة أخرى سجل علماء الجرح والتعديل الذين خاضوا في هذه المسألة وعدُّوا ذلك جرحًا مؤثرًا.
1 المجروحين لابن حبان "2/ 312"، ميزان الاعتدال "4/ 63"، تذكرة الموضوعات "ص181" رقم "606"، وقال: فيه محمد بن يحيى بن رزين، دجال يضع الحديث.
2 الموضوعات لابن الجوزي "1/ 105" كتاب التوحيد، الباب الأول: باب في أن الله عز وجل قديم - الحديث الأول في الباب، وقال ابن الجوزي: هذا حديث لا يشك في وضعه، وما وضع مثل هذا مسلم، وإنه لم أرك الموضوعات وأدبرها، إذ هو مستحيل؛ لأن الخالق لا يخلق نفسه، وقد اتهم علماء الحديث بوضع هذا الحديث محمد بن شجاع.
3 نقلًا عن الحديث والمحدثون، لمحمد محمد أبو زهو "ص339" طبع دار الكتاب العربي، بيروت.
4 كشف الخفاء للعجلوني "2/ 75" رقم "1723" وقال: ليس بحديث؛ بل هو من كلام بعضهم، وهو صحيح بالنظر للجنس.
وقال القاري: لا أصل له، ومعناه صحيح. الأسرار المرفوعة لعلي القاري "رقم 245"، طبعة مؤسسة الرسالة.
ووضع الزنادقة حديث: "من أراد بر والديه فليعطِ الشعراء"1.
ووضعوا أيضًا حديث: "النظر إلى وجه عليٍّ عبادة"2.
1 تذكرة الموضوعات "ص200" رقم "730"، المجروحين "1/ 119"، الميزان "1/ 18"، اللسان "1/ 31".
وقال ابن القيسراني: فيه إبراهيم بن إسحاق بن عيسى البغدادي، كذاب، والحديث باطل.
2 تذكرة الموضوعات "ص269" رقم "1109" وقال أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسي المعروف بابن القيسراني "ت507هـ"، فيه الحسن بن علي العدوي هو كذاب دجال. وهو أيضًا في المجروحين "1/ 241"، الميزان "1/ 507"، اللسان "2/ 129".