المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل السابع: منهج الصحابة في رواية الحديث الشريف - منهاج المحدثين في القرن الأول الهجري وحتى عصرنا الحاضر

[على عبد الباسط مزيد]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌التمهيد

- ‌الفصل الأول: منكرو السنة والرد عليهم

- ‌المبحث الأول: مزاعم منكري السنة قديما، والرد عليها

- ‌المبحث الثاني: منكرو السُّنَّة حديثًا، وتفنيد مزاعمهم

- ‌الفصل الثاني: مكانة السُّنَّة في التشريع الإسلامي

- ‌الباب الأول: مناهج المحدثين في القرن الأول الهجري

- ‌الفصل الأول: مظاهر اهتمام الصحابة بالسنة

- ‌الفصل الثاني: كتابة السُّنَّة في العهد النبوي

- ‌الفصل الثالث: أشهر الصحف والكتابات في العهد النبوي

- ‌الفصل الرابع: الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم

- ‌الفصل الخامس: بواعث كتابة الحديث في القرن الأول الهجري

- ‌الفصل السادس: مظاهر احتياط الصحابة في قبول الحديث الشريف

- ‌الفصل السابع: منهج الصحابة في رواية الحديث الشريف

- ‌الفصل الثامن: الصحابة المكثرون لرواية الحديث الشريف

- ‌أبو هريرة راوية الإسلام

- ‌ عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما

- ‌ أنس بن مالك رضي الله عنه

- ‌ عائشة رضي الله عنها

- ‌ عبد الله بن عباس رضي الله عنهما

- ‌ جابر بن عبد الله

- ‌ أبو سعيد الخدري

- ‌الفصل التاسع: أسباب تفاوت الصحابة في رواية الحديث الشريف

- ‌الفصل العاشر: دور أمهات المؤمنين في خدمة الحديث الشريف

- ‌مدخل

- ‌دور أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في رواية الحديث:

- ‌دور أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها في رواية الحديث:

- ‌دور أم المؤمنين ميمونة رضي الله عنها في رواية الحديث:

- ‌دور أم المؤمنين حبيبة رضي الله عنها

- ‌دور أم المؤمنين حفصة بنت عمر رضي الله عنها:

- ‌دور أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها:

- ‌دور أم المؤمنين صفية رضي الله عنها:

- ‌دور أم المؤمنين جويرية بنت الحارث رضي الله عنها:

- ‌دور أم المؤمنين سودة بنت زمعة رضي الله عنها:

- ‌الفصل الحادى عشر: أسباب تفاوت أمهات المؤمنين رضي الله عنها في الرواية

- ‌الباب الثاني: مناهج المحدثين في القرن الثاني الهجري

- ‌الفصل الأول: المستجدات في هذا العصر

- ‌الفصل الثاني: التدوين الشامل للسنة في هذا العصر ومنهج العلماء في التصنيف

- ‌الفصل الثالث: جهود التابعين في توثيق السُّنَّة وحفظها وتدوينها في النصف الأول من القرن الثاني الهجري

- ‌الفصل الرابع: أشهر الصحف والكتابات في القرن الثاني الهجري

- ‌الفصل الخامس: ضوابط الرواية عند التابعين

- ‌الفصل السادس: التصنيف في القرن الثاني وبداية الثالث الهجريين

- ‌الفصل السابع: الأئمة الأربعة، وأثرهم في الحديث وعلومه

- ‌مدخل

- ‌الإمام مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو الأصبحي

- ‌الإمام الشافعي "150-204ه

- ‌الإمام أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني، أبو عبد الله المروزي ثم البغدادي "164-241ه

- ‌الباب الثالث: منهاج المحدثين في القرن الثالث الهجري وحتى عصرنا الحاضر

- ‌الفصل الأول: مناهج المحدثين في القرن الثالث الهجري

- ‌المبحث الأول: أهم المشكلات التى واجهت المحدثين في القرن الثالث الهجري

- ‌المبحث الثاني: تدوين الحديث وعلومه في القرن الثالث الهجري

- ‌المبحث الثالث: مناهج العلماء في تدوين الحديث في القرن الثالث الهجري

- ‌المبحث الرابع: أئمة القرن الثالث الهجري ومناهجهم

- ‌أولًا: الإمام البخاري "194-256ه

- ‌مقارنة بين الصحيحين:

- ‌ثالثًا: أبو داود السجستاني "202-275ه

- ‌خامسًا: أحمد بن شعيب النسائي "215-303ه

- ‌سادسًا: ابن ماجه "209-273ه

- ‌سابعًا: الإمام أحمد بن محمد بن حنبل "164-241ه

- ‌الفصل الثاني: مناهج المحدثين في القرن الرابع الهجري

- ‌ابن خزيمة

- ‌الطحاوي:

- ‌الدارقطني:

- ‌الطبراني:

- ‌ابن حبان:

- ‌ابن السكن:

- ‌الحاكم النيسابوري "321-405ه

- ‌الفصل الثالث: منهج التصنيف في القرن الخامس إلى السقوط الخلافة العباسية [من عام "400هـ" حتى عام "656ه

- ‌الجمع بين الصحيحين

- ‌ الجمع بين الكتب الستة

- ‌ الجمع بين أحاديث من كتب مختلفة:

- ‌ كتب منتقاة في أحاديث الأحكام والمواعظ، ومنها:

- ‌ كتب الأطراف:

- ‌الفصل الرابع: منهج التصنيف من سقوط الخلافة العباسية إلى عصرنا الحاضر

- ‌المبحث الأول: السنة من عام 656هـ حتى عام 911 ه

- ‌مدخل

- ‌أولًا: منهج العلماء في خدمة السُّنَّة في هذه الفترة:

- ‌ثانيًا: طريقة العلماء في خدمة الحديث الشريف في هذه الفترة

- ‌المبحث الثاني: دور العلماء في خدمة السُّنَّة بعد عام "911هـ" حتى آخر القرن الرابع عشر الهجري

- ‌المبحث الثالث: دور أشهر الممالك التي كان لها أثر ملموس في خدمة السُّنَّة في هذا العصر

- ‌ دور مصر في العناية بالسُّنَّة وعلومها:

- ‌ دور علماء الهند في العناية بالسُّنَّة:

- ‌ دور المملكة العربية السعودية في خدمة السُّنَّة:

- ‌المبحث الرابع: جهود علماء المسلمين في خدمة السُّنَّة في العصر الحاضر

- ‌قائمة بأسماء المصادر والمراجع:

- ‌الفهرس:

الفصل: ‌الفصل السابع: منهج الصحابة في رواية الحديث الشريف

‌الفصل السابع: منهج الصحابة في رواية الحديث الشريف

عرَف الصحابة منزلة السُّنَّة، فتمسكوا بها، وتتبعوا آثار الرسول صلى الله عليه وسلم وأبَوْا أن يخالفوها متى ثبتت عندهم.

واحتاطوا في رواية الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم خشية الوقوع في الخطأ، وخوفًا من أن يتسرب إلى السُّنَّة المطهرة الكذبُ أو التحريف، وهي المصدر الثاني للتشريع الإسلامي بعد القرآن الكريم؛ ولهذا فإن الصحابة -رضوان الله عليهم- اتَّبعوا كل سبيل يُمكِّنهم من حفظ السُّنَّة المطهرة.

وكان سيدنا عمر شديد الإنكار على مَن أكثر الرواية وكان يأمر بأن يُقِلوا من الرواية، يريد بذلك ألا يتسع الناس فيها حتى لا يدخلها الشوب، ويقع التدليس والكذب من المنافق والفاجر.

وقد كان المنهج العام عند الصحابة هو: التشدد في رواية الحديث، والتثبت في السماع، والتروي في الأداء لأسباب؛ أهمها: حتى لا ينصرف الناس عن الحفظ الجيد للقرآن الكريم، وخشية الخطأ أو وقوع التحريف، ويتضح ذلك خلال العرض الآتي: تشدد عمر بن الخطاب في رواية الحديث الشريف، فحمل الناس على التثبت مما يسمعون، والتروي فيما يؤدون، فكان له الفضل الكبير في صيانة الحديث من الشوائب والدخل.

ويصور لنا أبو هريرة رضي الله عنه محافظة الصحابة على السُّنَّة في عهد عمر بإجابته عن سؤال طرحه عليه أبو سلمة، قال له: أكنتَ تحدث في زمان عمر هكذا؟ فقال: لو كنت أحدث في زمان عمر مثل ما أحدثكم لضربني بمخفقته. وفي رواية قال: لقد حدثتكم بأحاديث لو حدثتُ بها زمن عمر لضربني عمر بالدرة1.

1 جامع بيان العلم وفضله "2/ 121".

ص: 75

وقد كان تشدد عمر والصحابة معه للمحافظة على القرآن الكريم، بجانب المحافظة على السُّنَّة، فقد خَشِي أن يشتغل الناس بالرواية عن القرآن الكريم، وهو دستور الإسلام، فأراد أن يحفظ المسلمون القرآن جيدًا، ثم يعتنوا بالحديث الشريف الذي لم يكن قد دُوِّن كله في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كالقرآن. فنهج لهم التثبت العلمي والإقلال من الرواية مخافة الوقوع في الخطأ، وقد عُرف إتقان بعض الصحابة وحفظهم الجيد فسُمح لهم بالتحدث.

ويتجلى منهج أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في وصيته التي أوصى بها وفده إلى الكوفة فيما رُوي عن قرظة بن كعب أنه قال: بعثنا عمر بن الخطاب إلى الكوفة، وشيَّعنا إلى موضع قرب المدينة يقال له:"صرار"، قال: أتدرون لِمَ مشيتُ معكم؟ قال: قلنا: لحقِّ صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولحق الأنصار. قال: لكني مشيت معكم لحديث أردت أن أحدثكم به، فأردت أن تحفظوه لممشاي معكم: إنكم تَقْدُمون على قوم للقرآن في قلوبهم هزيز كهزيز المرجل، فإذا رأوكم مدوا إليكم أعناقهم وقالوا: أصحاب محمد، فأقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا شريككم1. وفي رواية: فلما قدم قرظة بن كعب قالوا: حدِّثنا، فقال: نهانا عمر رضي الله عنه2.

ورُوي عن أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه أنه اتبع منهج الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومنع الإكثار من الرواية، قال محمود بن لبيد: سمعت عثمان على المنبر يقول: لا يحل لأحد يروي حديثًا عن رسول الله لم أسمع به في عهد أبي بكر ولا في عهد عمر؛ فإنه لم يمنعنا أن نحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أكون أوعى لأصحابي عنه؛ إلا أني سمعته يقول: "من قال عليَّ ما لم أقل فقد تبوأ

1 سنن ابن ماجه "1/ 9"، وطبقات ابن سعد "6/ ص2"، والهزيز: الصوت. وقوله: وأنا شريككم أي: شريككم في الإقلال أي: أنصحكم بذلك وأعمل بنصيحتي، لا كما ذهب إليه السندي من أنه شريك في الأجر؛ بسبب أنه الدال الباحث لهم عن الخير.

2 تذكرة الحفاظ "1/ 7"، وجامع بيان العلم "2/ 120"، وانظر: سنن الدارمي "1/ 85"، وسنن البيهقي "1/ 12".

ص: 76

مقعده من النار"1، وفي رواية: "مَن كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار" 2.

ويُروى أن معاوية كان يقول: "اتقوا الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما كان يذكر منها في زمن عمر؛ فإن عمر كان يُخوِّف الناس في الله تعالى"3.

والتزم جمهور الصحابة في الخلافة الراشدة منهج عمر بن الخطاب رضي الله عنه خشية أن يقعوا في الخطأ مع كثرة تحملهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم. قال ابن مسعود: ليس العلم بكثرة الحديث؛ ولكن العلم الخشية4.

ومن الصحابة من لم يُحدث إلا بأحاديث معدودة، ومنهم من لم يحدث إلا بحديث واحد مثل:

أُبي بن عمارة المدني، قال المزي: له حديث واحد في المسح على الخفين، رواه أبو داود وابن ماجه5.

وآبِي اللحم الغفاري، قال المزي: له حديث واحد في الاستسقاء، رواه الترمذي والنسائي6.

أحمد بن جزء البصري، قال المزي: له حديث واحد؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد جافى عضديه عن جنبيه، رواه أبو داود وابن ماجه وتفرد به عنه الحسن البصري7.

1 قبول الأخبار "ص29"، انظر الحديث في مسند أحمد "1/ 363" مختصرًا بإسناد صحيح.

2 ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد "1/ 143"، وقال: ورجاله رجال الصحيح.

3 رد الدارمي على بشر المريسي "ص135"، وانظر: تذكرة الحفاظ "1/ 7" وانظر: السنة قبل التدوين لمحمد عجاج الخطيب "ص96-98".

4 مختصر كتاب المؤمل في الرد إلى الأمر الأول "ص1".

5 سنن أبي داود "1/ 109، 110""1" كتاب الطهارة "60" باب التوقيت على المسح - حديث رقم "158"، سنن ابن ماجه "1/ 181" كتاب الطهارة "87" باب ما جاء في المسح بغير توقيت - حديث رقم "557".

6 سنن الترمذي "2/ 443" كتاب الطهارة "278" باب ما جاء في صلاة الاستسقاء - حديث رقم "557"، سنن النسائي "3/ 159" كتاب الطهارة "17" رفع الإمام يده في الاستسقاء - حديث رقم "1514".

7 سنن أبي داود "2" كتاب الصلاة "158" باب صفة السجود - حديث رقم "900" سنن ابن ماجه "5" كتاب إقامة الصلاة "19" باب السجود - حديث رقم "886".

ص: 77

أدْرُع السلمي، قال المزي: له حديث: جئت ليلة أحرس النبي صلى الله عليه وسلم فإذا رجل قراءته عالية، رواه ابن ماجه1.

حَدْرَد بن أبي حدرد السلمي، روى حديثًا واحدًا:"من هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه" رواه أبو داود2.

ولا يتعارض إكثار بعض الصحابة في الرواية مع مبدأ التحري من صحة الرواية، فهذا المبدأ التزم به المكثرون والمقلون معًا:

فمثلًا أنس بن مالك الذي كان من المكثرين قال: "إنه ليمنعني أن أحدثكم حديثًا كثيرًا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَن تعمد عليَّ كذبًا فليتبوأ مقعده من النار" 3.

وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى: "أدركت مائة وعشرين من الأنصار من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ما منهم أحد يحدث بحديث إلا وَدَّ أن أخاه كفاه إياه، ولا يُستفتَى عن شيء إلا ود أن أخاه كفاه إياه"، وفي رواية:"يُسأل أحدهم عن المسألة فيردها هذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول".

وقال مجاهد: صحبتُ ابن عمر من مكة إلى المدينة فما سمعتُه يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا هذا الحديث: "مَثَلُ المؤمن مَثَلُ النخلة"4.

وقال السائب بن يزيد: صحبتُ سعد بن أبي وقاس من المدينة إلى مكة، قال: فما سمعته يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثًا حتى رجع5.

1 سنن ابن ماجه "6" كتاب الجنائز "41" باب ما جاء في حفر القبر - حديث رقم "1559".

2 سنن أبي داود "5" كتاب الأدب "55" باب فيمن يهجر أخاه المسلم - حديث رقم "4915".

3 صحيح البخاري بحاشية السندي "1/ 31".

صحيح مسلم "1/ 10" المقدمة "2" باب تغليظ الكذب على رسول الله - حديث رقم "2".

4 صحيح مسلم "2/ 2165""50" كتاب صفات المنافقين وأحكامهم "15" باب "مثل المؤمن مثل النخلة" - حديث رقم "64/ 2811".

5 سنن ابن ماجه "1/ 9" السنن الكبرى للبيهقي "1/ 12"، المحدث الفاصل "ص134" - طبقات ابن سعد "3/ 1/ 102".

ص: 78

فتشدد الصحابة في الرواية كراهة التحريف أو الزيادة والنقصان في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن كثرة الرواية كانت في نظر الكثيرين منهم مظنة الوقوع في الخطأ والكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الكذب عليه فقال:"من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار"، ونهى عن رواية ما يُرى أنه كذب فقال:"من حدث عني حديثًا وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين" 1، وفي الحديث الصحيح:"كفى بالمرء كذبًا أن يحدث بكل ما سمع"2.

تلك هي طريقة الصحابة ومنهجهم في المحافظة على حديث رسول الله خشية الوقوع في الخطأ، أو تسرب الدس إلى الحديث الشريف من الجهلاء وأصحاب الأهواء، أو أن تحمل بعض الأحاديث على غير وجه الحق والصواب، فيكون الحكم بخلاف ما أخذوا به، ففعلوا ذلك كله احتياطًا للدين ورعاية لمصالح المسلمين، لا زهدًا في الحديث النبوي ولا تعطيلًا له، فقد ثبت عن الصحابة جميعًا تمسكهم بالحديث الشريف، وإجلالهم إياه، وأخذهم به، وقد تواتر خبر اجتهاد الصحابة إذا وقعت لهم حادثة شرعية من حلال أو حرام، وفزعهم إلى كتاب الله تعالى، فإن وجدوا فيه ما يريدون تمسكوا به، وأجروا "حكم الحادثة" على مقتضاه، وإن لم يجدوا ما يطلبون فزعوا إلى "السُّنَّة"، فإن رُوي لهم خبر أخذوا به، ونزلوا على حكمه، وإن لم يجدوا الخبر فزعوا إلى الاجتهاد بالرأي3.

وطريقة أبي بكر وعمر في الحكم مشهورة؛ كان أبو بكر الصديق إذا ورد عليه حكم نظر في كتاب الله تعالى، فإن وجد فيه ما يقضي به التزمه، وإن لم يجد في كتاب الله نظر في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن وجد فيها ما يقضي به قضى به، فإن أعياه ذلك سأل الناس: هل علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى فيه بقضاء؟

1 رواه مسلم في صحيحه من حديث سمرة بن جندب، وحديث المغيرة بن شعبة "1" المقدمة "1" باب وجوب الرواية عن الثقات وترك الكذابين والتحذير من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

2 صحيح مسلم "1/ 10" المقدمة "3" باب النهي عن الحديث بكل ما سمع - من حديث أبي هريرة "5".

3 انظر: الملل والنحل للشهرستاني "ص446، 447".

ص: 79

فربما قام إليه القوم فيقولون: قضى فيه بكذا وكذا، فإن لم يجد سنة سنها النبي صلى الله عليه وسلم جمع رؤساء الناس فاستشارهم1

وكان عمر رضي الله عنه يفعل ذلك.

هكذا كان منهج الصحابة جميعًا في كل ما يرد عليهم، وليس لأحد بعد هذا أن يتخذ بعض ما ورد عن بعض الصحابة ذريعة لهواه فينكر السُّنة أو يشكك فيها، وخاصة الأحاديث التي رواها المكثرون من رواية الحديث الشريف من الصحابة؛ كأبي هريرة وابن عباس وابن مسعود وابن عمر وعائشة رضي الله عنهم أجمعين.

وقد وضح هذه المسألة الأئمة والحفاظ ومنهم ابن عبد البر والخطيب البغدادي، يقول ابن عبد البر: احتج بعض مَن لا علم له ولا معرفة من أهل البدع وغيرهم، الطاعنين في السنن، بحديث عمر رضي الله عنه هذا قوله:"أقِلُّوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وجعلوا ذلك ذريعة إلى الزهد في سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي لا يوصل إلى مراد كتاب الله إلا بها، والطعن على أهلها، ولا حجة في هذا الحديث، ولا دليل على شيء مما ذهبوا إليه من وجوه ذكرها أهل العلم؛ منها:

أن وجه قول عمر إنما كان لقوم لم يكونوا أحصَوْا القرآن، فخَشِي عليهم الاشتغال بغيره عنه؛ إذ هو الأصل لكل علم، هذا معنى قول أبي عبيد في ذلك.

وقال غيره: إن عمر إنما نهى عن الحديث عما لا يفيد حُكمًا ولا يكون سُنة.

وطعن غيرهم في حديث قرظة هذا وردَّه؛ لأن الآثار الثابتة عن عمر خلافه، منها ما روى مالك ومعمر وغيرهما عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عتبة، عن عمر بن الخطاب، في حديث السقيفة أنه خطب يوم جمعة، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإني أريد أن أقول مقالة قد قُدِّر لي أن أقولها، من وعاها وعقلها وحفظها فليحدث بها حيث تنتهى به راحلته، ومن خشي ألا يعيَها فإني لا أحل له أن يكذب عليَّ2.

1 إعلام الموقعين "1/ 62".

2 انظر هذا القول لعمر رضي الله عنه رواه الخطيب البغدادي عن ابن عباس في الكفاية "ص166".

ص: 80

وهذا يدل على أن نهيه عن الإكثار، وأمره بالإقلال من الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كان خوف الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وخوفًا من أن يكونوا -مع الإكثار- يحدثون بما لم يتيقنوا حفظه ولم يعوه؛ لأن ضبط من قلَّت روايته أكثر من ضبط المتكثر، وهو أبعد من السهو والغلط الذي لا يُؤمن مع الإكثار؛ فلهذا أمرهم عمر بالإقلال من الرواية، ولو كره الرواية وذمها لنهى عن الإقلال منها والإكثار، ألا تراه يقول:"فمن حفظها ووعاها فليحدث بها"، فكيف يأمرهم بالحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وينهاهم عنه؟ هذا لا يستقيم؛ بل كيف ينهاهم عن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويأمرهم بالإقلال منه، وهو يندبهم إلى الحديث عن نفسه بقوله: من حفظ مقالتي ووعاها فليحدث بها حيث تنتهي به راحلته؟! ثم قال: ومن خشي ألا يعيها فلا يكذب عليَّ، وهذا يوضح لك ما ذكرنا، والآثار الصحاح عنه من رواية أهل المدينة بخلاف حديث هذا؛ وإنما يدور على "بيان1" عن "الشعبي" وليس مثله جدة في هذا الباب؛ لأنه يعارض السنن والكتاب.

قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ} [الأحزاب: 21]، وقال:{وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] ، ومثل هذا في القرآن كثير، ولا سبيل إلى اتباعه2 والتأسي به والوقوف عند أمره إلا بالخبر عنه، فكيف يتوهم أحد على عمر أنه يأمر بخلاف ما أمر الله به. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نضر الله عبدًا سمع مقالتي فوعاها، ثم أداها إلى مَن لم يسمعها

" الحديث، وفيه الحض الوكيد على التبليغ عنه صلى الله عليه وسلم، وقال: "خذوا عني في غير ما حدثت وبلِّغوا عني"، والكلام في هذا أوضح من النهار لأُولى النهى

1 هو بيان بن بشر الأحمي أبو بشر الكوفي، موثق، وطعن ابن عبد البر في روايته هذه؛ لأنه خالف من هو أوثق منه، وهذا لا يمنع صحتها؛ ولكن يجمع بينهما. انظر: الإحكام لابن حزم "2/ 137"، وانظر كلام ابن عبد البر الآتي.

2 أي: اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم.

ص: 81

والاعتبار، ولا يخلو الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من يكون خيرًا أو شرًّا، فإن كان خيرًا -ولا شك في أنه خير- فالإكثار من الخير أفضل، وإن كان شرًّا فلا يجوز أن يُتوهم أن عمر يوصيهم بالإقلال من الشر1.

وهذا يدلك أنه إنما أمرهم بذلك خوف مواقعة الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وخوف الاشتغال عن تدبر السنن والقرآن؛ لأن المكثر لا تكاد تراه إلا غير متدبر ولا متفقه.

وذكر مسلم بن الحجاج في كتاب التمييز عن قيس بن عبادة قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: من سمع حديثًا فأداه كما سمع فقد سلم.

ومما يدل على هذا ما ذكرناه فيما يروى عن عمر أنه كان يقول: تعلموا الفرائض والسُّنة كما تتعلمون القرآن. فسوى بينهما.

وكتب عمر: تعلموا السُّنة والفرائض واللحن كما تتعلمون القرآن. قالوا: اللحن معرفة وجوه الكلام وتصرفه والحجة به، وعمر هو الناشد للناس في غير موقف؛ بل في مواقف شتى: من عنده علم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في كذا، نحو ما ذكره مالك وغيره عنه في توريث المرأة من دية زوجها، وفي الجنين يسقط ميتًا عند ضرب بطن أمه وغير ذلك.

وكيف يتوهم على عمر ما توهمه الذين ذكرنا قولهم وهو القائل: "إياكم والرأي، فإن أصحاب الرأي أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها". وعمر أيضًا هو القائل: خير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم. وهو القائل: سيأتي قوم يجادلونكم بشبهات القرآن فخذوهم بالسنن؛ فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله.

ثم يقول ابن عبد البر: وقد يحتمل عندي أن تكون الآثار كلها عن عمر صحيحة متفقة، ويخرج معناها على أن من شك في شيء تركه، ومن حفظ شيئًا وأتقنه جاز له أن يحدث به، وإن كان الإكثار يحمل الإنسان على التقَحُّم2 في أن يحدث بكل ما سمع من جيد ورديء، وغث وسمين، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

1 انظر: إعلام الموقعين "1/ 55" لمعرفة المزيد من حرص سيدنا عمر على السُّنة.

2 التقحم: عدم المبالاة.

ص: 82

صلى الله عليه وسلم: "كفى بالمرء كذبًا أن يحدث بكل ما سمع" رواه مسلم1. ولو كان مذهب عمر ما ذكرنا؛ لكانت الحجة في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم دون قوله، فهو القائل: "نضر الله عبدًا سمع مقالتي فوعاها، ثم أداها وبلغها"، وقال النبي: "تسمعون ويُسمع منكم" رواه أبو داود والإمام أحمد والحاكم2.

ويقول الخطيب البغدادي:

إن قال القائل: ما وجه إنكار عمر على الصحابة روايتهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتشديده عليهم في ذلك؟ قيل له: فعل ذلك عمر احتياطًا للدين وحسن نظر للمسلمين؛ لأنه خاف أن يتكلوا عن الأعمال، ويتكلوا على ظاهر الأخبار، وليس حكم جميع الأحاديث على ظاهرها، ولا كل من سمعها عرف فقهها، فقد يرد الحديث مجملًا ويستنبط معناه وتفسيره من غيره، فخشي عمر أن يُحمل حديث على غير وجهه، أو يؤخذ بظاهر لفظه، والحكم بخلاف ما أُخذ، ونحو من هذا.

الحديث الآخر عن معاذ قال: كنت ردف رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمار له يقال له: عُفَيْر، فقال:"يا معاذ، أتدري ما حق الله على العباد؟ وما حق العباد على الله"؟ فقلت: الله ورسوله أعلم، قال:"فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وحق العباد على الله ألا يعذب مَن لا يشرك به"، قلت: أفلا أبشر الناس؟ قال: "لا، فيتكلوا"3.

وفي تشديد عمر على الصحابة في رواياتهم حِفْظٌ لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وترهيب لمن لم يكن من الصحابة أن يُدخل في السنن ما ليس منها؛ لأنه إذا رأى الصحابي المقبول القول، المشهور بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم قد تُشُدِّدَ عليه في

1 صحيح مسلم "1/ 10" المقدمة "3" باب النهي عن الحديث بكل ما سمع - حديث رقم "5".

2 جامع بيان العلم وفضله "2/ 121-124".

3 رواه البخاري في صحيحه "1/ 236 - فتح " من حديث أنس بن مالك أن رسول الله ومعاذًا رديفه على الرحل قال: "يا معاذ بن جبل

" الحديث.

ص: 83

روايته، كان هو أجدر أن يكون للرواية أهيب، وبهذا يسلم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يتطرق إليه الكذب، ولا يزاد عليه ما ليس منه1.

وروى الخطيب عن عبد الله بن عامر اليحصبي قال: سمعت معاوية على المنبر بدمشق يقول: "يأيها الناس، إياكم وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا حديثًا كان يذكر على عهد عمر رضي الله عنه فإن عمر كان يخيف الناس في الله عز وجل"2.

وإلى هذا المعنى الذي ذكرناه ذهب عمر في طلبه من أبي موسى الأشعري أن يحضر معه رجل يشهد أنه سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث السلام؛ لكن فعله على الوجه الذي بيناه من الاحتياط؛ لحفظ السنن والترهيب في الرواية، والله أعلم. انتهى3.

فلقد كان الصحابة جميعًا يتثبتون في الحديث، ويتأنون في قبول الأخبار وأدائها، وكانوا لا يحدثون بشيء إلا وهم واثقون من صحته، وقد حرصوا على المحافظة على الحديث بكل وسيلة تقضي إلى ذلك، فاتبعوا منهجًا سليمًا يمنع الشوائب من أن تدخل السُّنة النبوية فتفسدها.

وتميز في حمل لواء هذه المحافظة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وقد ظهر لنا -مما رُوى عنه- اهتمامه الكبير بالسُّنة النبوية وإجلاله للحديث الشريف، وإن الأخبار التي رُويت عنه في هذا الشأن ليدعم بعضها بعضًا في سبيل نشر العلم والحرص على سلامة السُّنة؛ ومن ثَم ليس لأحد أن يرى تناقضًا بين وصية عمر لأهل العلم والآثار الأخرى المروية عنه، فهو إذا طلب الإقلال من الرواية، فإنما يطلبه من باب الاحتياط لحفظ السنن والترهيب في الرواية، وأما من كان يتقن ما

1 انظر: السنة قبل التدوين للدكتور/ محمد عجاج الخطيب "ص104" ومصادره.

2 انظر نحو هذا القول عن معاوية في تذكرة الحفاظ "1/ 7".

3 شرف أصحاب الحديث "ص92، 93" وحديث السلام هو حديث أبي سعيد الخدري قال: سلم عبد الله بن قيس على عمر ثلاث مرات فلم يؤذن له فرجع، فأرسل عمر في أثره فقال: لِمَ رجعت؟ فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا سلم أحدكم ثلاثًا فلم يجب فليرجع"، فقال عمر: لتأتيني على ما تقول ببينة

إلخ.

ص: 84

يحدث به ويعرف فقهه وحكمه، فلا يتناوله أمر عمر رضي الله عنه فكل ما ورد عن أمير المؤمنين إنما يدل على المحافظة على السُّنة ونشرها وتبليغها صحيحة، والسبيل إلى ذلك أن يتثبت حاملوها من مروياتهم، والإقلال من الرواية مظنة عدم الوقوع في الخطأ؛ ولهذا أمر به رضي الله عنه وهذا ما رآه ابن عبد البر والخطيب البغدادي من أئمة الحديث، وإليه أذهب، وبه أقول، فالصحابة لم يزهدوا في السُّنة؛ بل كان لهم الفضل الأول في المحافظة عليها1.

وثَمَّة رواية عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أنه حبس بعض الصحابة؛ لأنهم أكثروا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم! وقد ناقش بعض العلماء هذه الرواية وردوها:

روى الحافظ الذهبي2 عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه أن عمر حبس ثلاثة:"ابن مسعود، وأبا الدرداء، وأبا مسعود الأنصاري، فقال: قد أكثرتم الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم". هؤلاء ثلاثة من أجلة أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وأتقاهم وأورعهم، هل يُعقل من مثل عمر بن الخطاب أن يحبسهم؟! وهل يكفي لحبسهم أنهم أكثروا من الرواية؟

وقد ناقش ابن حزم هذا الخبر وردَّه وقال: "هذا مرسل ومشكوك فيه من "شعبة" فلا يصح، ولا يجوز الاحتجاج به، ثم هو في نفسه ظاهر الكذب والتوليد؛ لأنه لا يخلو عمر من أن يكون اتهم الصحابة، وفي هذا ما فيه، أو يكون نهى عن نفس الحديث، وعن تبليغ سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسلمين، وألزمهم كتمانها وجحدها وألا يذكروها لأحد، فهذا خروج عن الإسلام، وقد أعاذ الله أمير المؤمنين من كل ذلك، ولئن كان سائر الصحابة متهمين بالكذب على النبي صلى الله عليه وسلم فما عمر إلا واحد منهم، وهذا قول لا يقوله مسلم أصلًا، ولئن

1 السنة قبل التدوين لمحمد عجاج الخطيب "ص105، 106" بتصرف يسير.

2 تذكرة الحفاظ "1/ 7" وفيه سعيد بن إبراهيم، والصواب سعد، وهو حفيد عبد الرحمن بن عوف. انظر: مجمع الزوائد "1/ 149".

ص: 85

كان حبسهم وهم غير متهمين لقد ظلمهم، فليختر المحتج لمذهبه الفاسد بمثل هذه الروايات الملعونة أي الطريقتين الخبيثتين شاء، ولا بد له من أحدهما

".

ثم قال: "وقد حدث عمر بحديث كثير؛ فإنه قد روى خمسمائة حديث ونيفًا على قرب موته من موت النبي صلى الله عليه وسلم فهو كثير الرواية، وليس في الصحابة أكثر رواية منه إلا بضعة عشر منهم"1.

قال الدكتور محمد عجاج الخطيب: ولو سلمنا جدلًا بصحة الرواية فهناك خلاف في المحبوسين، فالذهبي يذكر: ابن مسعود، وأبا الدرداء، وأبا مسعود الأنصاري، بينما يذكر ابن حزم: ابن مسعود، وأبا الدرداء، وأبا ذر، فهل تكرر الحبس من عمر؟ ولو تكرر لاشتهر، ثم إن حادثة كهذة سيطير خبرها في الآفاق من غير أن تحتمل الشك في المحبوسين؛ لأنهم من أعيان الصحابة، ولو سلمنا أن العبرة في الحادثة نفسها من حيث حبسه بعض الصحابة دون نظر إلى أعيانهم وأشخاصهم؛ لأنهم أكثروا الرواية، قلنا: قد كان غير هؤلاء أكثر منهم حديثًا ولم يردنا خبر عن حبسهم، فلا يعقل أن يحبس أمير المؤمنين بعضًا دون بعض في قضية واحدة هم فيها سواء، وهي الإكثار من الحديث، معاذ الله أن يفعل هذا عمر رضي الله عنه فيحبس هؤلاء ويترك أبا هريرة مثلًا وهو أكثر حديثًا منهم، فقد رُوي عن أبي هريرة "5374" خمسة آلاف وثلاثمائة وأربعة وسبعون حديثًا، وعن ابن مسعود "848" ثمانمائة وثمانية وأربعون حديثًا، وعن أبي الدرداء "179" مائة وتسعة وسبعون حديثًا، وعن أبي ذر "281" مائتان وواحد وثمانون حديثًا2.

فإن قيل: إن أبا هريرة لم يكثر من الرواية في عهد عمر رضي الله عنه لأنه خشيه. فنقول: لِمَ لَمْ يخشه هؤلاء؟

1 الإحكام لابن حزم "2/ 139" وما بعدها.

2 ذكر ذلك الإمام الحافظ بقي بن مخلد في مسنده. انظر: البارع الفصيح في شرح الجامع الصحيح لأبي البقاء الأحمدي الشافعي. مخطوطة دار الكتب المصرية "ص9-13 ب".

ص: 86

إن عمر نفسه سمح لأبي هريرة أن يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما عرف ورعه وخشيته من الله عز وجل روى الذهبي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "بلغ عمر حديثي فأرسل إليَّ، فقال: كنت معنا يوم كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت فلان؟ قلت: نعم، وقد علمت لأي شيء سألتني. قال: ولِمَ سألتك؟ قلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يومئذ: "من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار"، قال: أما لا، فاذهب فحدث1.

ومن جهة أخرى، فإن عمر رضي الله عنه عندما أرسل عبد الله بن مسعود إلى أهل الكوفة كتب إليهم:"إني والله الذي لا إله إلا هو، أثرتكم به على نفسي فخذوا منه"2، وذكر عمرُ ابنَ مسعود فقال: كنيف مليء علمًا، آثرت به أهل القادسية2. كيف يأمر الناس بالأخذ منه، ويشهد له بالعلم، ثم يحبسه؟!

وما ورد على حبس ابن مسعود رضي الله عنه يرد على حبس الصحابة الباقين، ففيهم أبو الدرداء رضي الله عنه إمام الشام وقاضيها ومعلمها القرآن.

وبهذا البيان لا يرقى إلى الصحة خبر حبس عمر للصحابة رضي الله عنهم لأنهم أكثروا من الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بل إنه يُروى عن ابن مسعود أنه نهى عن الإكثار من الرواية، فهل يُتصور منه أن ينهى عن شيء وهو يفعله؟! وقد رُوي عنه قوله:"ليس العلم بكثرة الحديث؛ ولكن العلم الخشية"3. وفي رواية سعد بن إبراهيم عن أبيه -التي ذكرها الخطيب- ما يدل على أنه استبقاهم في المدينة حتى عرف لفظهم سواء، وهذه هي رواية الخطيب.

قال: بعث عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وإلى أبي الدرداء رضي الله عنه وإلى أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه فقال: ما هذا الحديث الذي

1 سير أعلام النبلاء "2/ 434".

2 سير أعلام النبلاء "1/ 351"، والكنيف: الوعاء.

3 مختصر كتاب المؤمل في الرد إلى الأمر الأول "ص6".

ص: 87

تكثرون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فحبسهم بالمدبنة حتى استشهد لفظهم سواء1. فيكون هذا من باب تثبت عمر رضي الله عنه في الحديث، وهذه الرواية تثبت أنه لم يزجَّ بهم في السجن؛ بل استبقاهم في المدينة ريثما يتثبت من لفظهم، فإن صح هذا فلا ضير عليهم.

ومما يؤكد لنا أنه لم يحبس أحدًا -وهو ما استنبطناه من مناقشة الروايات السابقة- ما يرويه الرامهرمزي عن شيخه ابن البري من طريق سعد بن إبراهيم عن أبيه: "أن عمر بن الخطاب حبس بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم ابن مسعود وأبو الدرداء فقال: قد أكثرتم الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو عبد الله بن البري: يعني منعهم الحديث ولم يكن لعمر حبس"2، فقد فسر ابن البري الخبر تفسيرًا جيدًا وإن جاء مقتضبًا، فهو يريد أنه منعهم كثرة الحديث خوفًا من ألا يتدبر السامعون كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كثر عليهم.

فالخلاصة أن ما ورد من أخبار حول حبس عمر رضي الله عنه للصحابة؛ لأنهم أكثروا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبار فيها نظر.

وفي عهد التابعين ازداد النشاط العلمي لانتشار الصحابة في الأمصار، ثم ما لبث التابعون أن تصدروا للرواية، ومع هذا سلكوا سبيل الصحابة، وساروا على نهجهم، فكانوا على جانب عظيم من الورع والتقوى، وليس بعيدًا ما نقول لأنهم تخرجوا في مدارس الصحابة تلامذة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فنسمع الشعبي -وهو أحد كبار التابعين الحفاظ الثقات- يقول: ليتني أنفلت من علمي كفافًا لا لي ولا عليَّ3، وكأنه يشعر بأنه أكثر من التحديث فيقول:"كره الصالحون الأولون الإكثار من الحديث، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت ما حدثت إلا بما أجمع عليه أهل الحديث"4.

وكان شعبة بن الحجاج يقول: التدليس في الحديث أشد

1 شرف أصحاب الحديث للخطيب البغدادي - مطبعة جامعة أنقرة "1971م" تحقيق: د/ محمد سعيد خطيب "ص87، 88" رقم "190".

2 المحدث الفاصل "ص145".

3 جامع بيان العلم "130/ 2" ويروى نحوه عن سفيان الثوري، جامع بيان العلم وفضله "2/ 129".

4 تذكرة الحفاظ "1/ 77".

ص: 88

من الزنا، ولأن أسقط من السماء إلى الأرض أحب إلَيَّ من أن أدلِّس1. وفي رواية عنه أنه كان يقول: لأن أقع من فوق هذا القصر -لدار حياله2- على رأسي أحب إليَّ من أقول لكم: قال فلان، لرجل ترونه، أني قد سمعت ذاك منه ولم أسمعه3.

ومنهم من كان يقتصد في رواية الحديث على طلابه؛ ليفهموا ما يحدثهم به ويعقلوه ويتدبروه، ومن هذا ما رواه خالد الحذاء قال: كنا نأتي أبلا قلابة، فإذا حدثنا بثلاثة أحاديث قال: قد أكثرتُ4، ويؤكد هذا ما قاله ابن عبد البر: إنما عابوا الإكثار خوفًا من أن يرتفع التدبر والتفهم، ألا ترى إلى ما حكاه بشر بن الوليد عن أبي يوسف قال:"سألني الأعمش عن مسألة وأنا وهو لا غير فأجبته، فقال لي: من أين قلت هذا يا يعقوب؟ فقلت: بالحديث الذي حدثتني أنت، ثم حدثته، فقال لي: يا يعقوب، إني لأحفظ هذا الحديث من قبل أن يُجمع أبواك5، ما عرفت تأويله إلى الآن6"، وروي نحو هذا: أنه جرى بين الأعمش وأبي يوسف وأبي حنيفة، فكان من قول الأعمش:"أنتم الأطباء ونحن الصيادلة7"8.

1 الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي "ص508"، طبع دار الكتب الحديثة، القاهرة.

2 هكذا النص والمعنى: لدار قريبة منه.

3 مقدمة الجرح والتعديل "ص174" ويروى نحوه عن مطرف بن طريف. انظر: نفس المصدر "ص42".

4 انظر المحدث الفاصل "ص145، 146".

5 أي: من قبل أن يخلق، كناية عن أنه حفظه منذ زمن بعيد.

6 هكذا في الأصل ولعله: "إلا الآن".

7 جامع بيان العلم وفضله "2/ 130".

8 انظر: السنة قبل التدوين للدكتور محمد عجاج الخطيب "ص107-111" بتصرف يسير.

ص: 89