المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثاني: مكانة السنة في التشريع الإسلامي - منهاج المحدثين في القرن الأول الهجري وحتى عصرنا الحاضر

[على عبد الباسط مزيد]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌التمهيد

- ‌الفصل الأول: منكرو السنة والرد عليهم

- ‌المبحث الأول: مزاعم منكري السنة قديما، والرد عليها

- ‌المبحث الثاني: منكرو السُّنَّة حديثًا، وتفنيد مزاعمهم

- ‌الفصل الثاني: مكانة السُّنَّة في التشريع الإسلامي

- ‌الباب الأول: مناهج المحدثين في القرن الأول الهجري

- ‌الفصل الأول: مظاهر اهتمام الصحابة بالسنة

- ‌الفصل الثاني: كتابة السُّنَّة في العهد النبوي

- ‌الفصل الثالث: أشهر الصحف والكتابات في العهد النبوي

- ‌الفصل الرابع: الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم

- ‌الفصل الخامس: بواعث كتابة الحديث في القرن الأول الهجري

- ‌الفصل السادس: مظاهر احتياط الصحابة في قبول الحديث الشريف

- ‌الفصل السابع: منهج الصحابة في رواية الحديث الشريف

- ‌الفصل الثامن: الصحابة المكثرون لرواية الحديث الشريف

- ‌أبو هريرة راوية الإسلام

- ‌ عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما

- ‌ أنس بن مالك رضي الله عنه

- ‌ عائشة رضي الله عنها

- ‌ عبد الله بن عباس رضي الله عنهما

- ‌ جابر بن عبد الله

- ‌ أبو سعيد الخدري

- ‌الفصل التاسع: أسباب تفاوت الصحابة في رواية الحديث الشريف

- ‌الفصل العاشر: دور أمهات المؤمنين في خدمة الحديث الشريف

- ‌مدخل

- ‌دور أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في رواية الحديث:

- ‌دور أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها في رواية الحديث:

- ‌دور أم المؤمنين ميمونة رضي الله عنها في رواية الحديث:

- ‌دور أم المؤمنين حبيبة رضي الله عنها

- ‌دور أم المؤمنين حفصة بنت عمر رضي الله عنها:

- ‌دور أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها:

- ‌دور أم المؤمنين صفية رضي الله عنها:

- ‌دور أم المؤمنين جويرية بنت الحارث رضي الله عنها:

- ‌دور أم المؤمنين سودة بنت زمعة رضي الله عنها:

- ‌الفصل الحادى عشر: أسباب تفاوت أمهات المؤمنين رضي الله عنها في الرواية

- ‌الباب الثاني: مناهج المحدثين في القرن الثاني الهجري

- ‌الفصل الأول: المستجدات في هذا العصر

- ‌الفصل الثاني: التدوين الشامل للسنة في هذا العصر ومنهج العلماء في التصنيف

- ‌الفصل الثالث: جهود التابعين في توثيق السُّنَّة وحفظها وتدوينها في النصف الأول من القرن الثاني الهجري

- ‌الفصل الرابع: أشهر الصحف والكتابات في القرن الثاني الهجري

- ‌الفصل الخامس: ضوابط الرواية عند التابعين

- ‌الفصل السادس: التصنيف في القرن الثاني وبداية الثالث الهجريين

- ‌الفصل السابع: الأئمة الأربعة، وأثرهم في الحديث وعلومه

- ‌مدخل

- ‌الإمام مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو الأصبحي

- ‌الإمام الشافعي "150-204ه

- ‌الإمام أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني، أبو عبد الله المروزي ثم البغدادي "164-241ه

- ‌الباب الثالث: منهاج المحدثين في القرن الثالث الهجري وحتى عصرنا الحاضر

- ‌الفصل الأول: مناهج المحدثين في القرن الثالث الهجري

- ‌المبحث الأول: أهم المشكلات التى واجهت المحدثين في القرن الثالث الهجري

- ‌المبحث الثاني: تدوين الحديث وعلومه في القرن الثالث الهجري

- ‌المبحث الثالث: مناهج العلماء في تدوين الحديث في القرن الثالث الهجري

- ‌المبحث الرابع: أئمة القرن الثالث الهجري ومناهجهم

- ‌أولًا: الإمام البخاري "194-256ه

- ‌مقارنة بين الصحيحين:

- ‌ثالثًا: أبو داود السجستاني "202-275ه

- ‌خامسًا: أحمد بن شعيب النسائي "215-303ه

- ‌سادسًا: ابن ماجه "209-273ه

- ‌سابعًا: الإمام أحمد بن محمد بن حنبل "164-241ه

- ‌الفصل الثاني: مناهج المحدثين في القرن الرابع الهجري

- ‌ابن خزيمة

- ‌الطحاوي:

- ‌الدارقطني:

- ‌الطبراني:

- ‌ابن حبان:

- ‌ابن السكن:

- ‌الحاكم النيسابوري "321-405ه

- ‌الفصل الثالث: منهج التصنيف في القرن الخامس إلى السقوط الخلافة العباسية [من عام "400هـ" حتى عام "656ه

- ‌الجمع بين الصحيحين

- ‌ الجمع بين الكتب الستة

- ‌ الجمع بين أحاديث من كتب مختلفة:

- ‌ كتب منتقاة في أحاديث الأحكام والمواعظ، ومنها:

- ‌ كتب الأطراف:

- ‌الفصل الرابع: منهج التصنيف من سقوط الخلافة العباسية إلى عصرنا الحاضر

- ‌المبحث الأول: السنة من عام 656هـ حتى عام 911 ه

- ‌مدخل

- ‌أولًا: منهج العلماء في خدمة السُّنَّة في هذه الفترة:

- ‌ثانيًا: طريقة العلماء في خدمة الحديث الشريف في هذه الفترة

- ‌المبحث الثاني: دور العلماء في خدمة السُّنَّة بعد عام "911هـ" حتى آخر القرن الرابع عشر الهجري

- ‌المبحث الثالث: دور أشهر الممالك التي كان لها أثر ملموس في خدمة السُّنَّة في هذا العصر

- ‌ دور مصر في العناية بالسُّنَّة وعلومها:

- ‌ دور علماء الهند في العناية بالسُّنَّة:

- ‌ دور المملكة العربية السعودية في خدمة السُّنَّة:

- ‌المبحث الرابع: جهود علماء المسلمين في خدمة السُّنَّة في العصر الحاضر

- ‌قائمة بأسماء المصادر والمراجع:

- ‌الفهرس:

الفصل: ‌الفصل الثاني: مكانة السنة في التشريع الإسلامي

‌الفصل الثاني: مكانة السُّنَّة في التشريع الإسلامي

السُّنَّة هي المصدر الثاني في التشريع الإسلامي بعد القرآن الكريم، وإنها حُجة جميع المسلمين اتفاقًا، وبنص القرآن الكريم في آيات عديدة.

ومهمة الرسول صلى الله عليه وسلم الأُولى هي تبليغ الوحي الإلهي متمثلًا في القرآن الكريم.

ثم عليه مهمة أخرى؛ وهي أن يبين للناس الأصول العامة والأحكام المجملة، قال تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] .

وليكون لهذا التبيين والتوضيح مكانةٌ في نفوس المؤمنين، وموضعُ احترام كامل وتقدير -نص القرآن على وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]، وقال تعالى:{مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، وقال تعالى:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] .

وقد قرن الله تعالى طاعة رسوله بطاعته عز وجل وجعل في التزامنا بذلك حياة لنا، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24] ، وجعل الله شرط الإيمان الصحيح الاحتكام إلى الله ورسوله، قال تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]، وقال تعالى:{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] ، ولا يجوز مخالفته البتة، وقال تعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِينًا} [الأحزاب: 36] .

ص: 29

ويطمئن الله تعالى المؤمنين من ناحية تشريع الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه لا يأمر إلا بالمعروف ولا ينهى إلا عن المنكر، وأنه يحل ما هو طيب ويحرم ما هو خبيث، قال تعالى:{يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157] .

- والأحاديث الصحيحة التي تؤكد أهمية طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم والتمسك بسنته كثيرة:

منها: "تركت فيكم أمرين لن تضلوا بعدي ما إن تمسكتم بهما: كتاب الله وسنتي"1.

ومنها: "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبَى"، قالوا: يا رسول الله! ومَن يأبَى؟ قال: "من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبَى"2.

ومنها: حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه الذي رواه أبو داود والترمذي من طريق شعبة، عن أبي عون، عن الحارث بن عمرو بن أخي المغيرة بن شعبة، عن أناس من أهل حمص من أصحاب معاذ بن جبل: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معاذًا إلى اليمن فقال له: "كيف تصنع إن عرض لك قضاء"؟ قال: أقضي بما في كتاب الله. قال: "فإن لم تجد"؟ قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث3.

ومعظم المسلمين يحفظون الحديث الصحيح الذي حذر فيه الرسول صلى الله عليه وسلم من ترك سنته

1 ذكره السيوطي في جمع الجوامع "2/ 1016"، والجامع الصغير "رقم 3282"، وعزاه للحاكم في المستدرك من حديث أبي هريرة.

2 رواه البخاري في صحيحه: كتاب الاعتصام، باب الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه رقم "7280".

3 سنن أبي داود "4/ 18، 19""18" كتاب الأقضية "11" باب اجتهاد الرأي في القضاء - حديث رقم "3592"، "3593"، سنن الترمذي "3/ 316، 617""13" كتاب الأحكام "3" باب ما جاء في القاضي كيف يقضي - حديث رقم "1327"، "1328"، وقال أبو عيسى: هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وليس إسناده بمتصل، وأبو عون الثقفي اسمه عبيد الله. اهـ. وقال الإمام البخاري عن إسناد هذا الحديث:"الحارث بن عمرو بن أخي المغيرة بن شعبة الثقفي، عن أصحاب معاذ، عن معاذ، روى عنه ابن عون، ولا يصح، ولا يُعرف بهذا، مرسل". التاريخ الكبير "2/ 277" ترجمة رقم "2449".

وممن ضعفه أيضًا ابن حزم، وعبد الحق كما في التلخيص الحبير "4/ 183"، وكلام ابن حزم في الإحكام له "773/ 2"

=

ص: 30

والاحتكام إلى القرآن وحدة: "ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك الرجل متكئًا على أريكته يحدث بحديث من حديثي فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله عز وجل فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله"1.

= وذكر الخطيب البغدادي لهذا الحديث طريقًا آخر في الفقيه والمتفقه "1/ 189": عبادة بن نُسَيّ، عن عبد الرحمن بن غَنْم، عن معاذ، وقال الخطيب:"وهذا إسناد متصل ورجاله معروفون بالثقة". وقال الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير "4/ 183": "فلو كان الإسناد إلى عبد الرحمن ثابتًا لكان كافيًا في صحة الحديث".

وممن صحح هذا الحديث من جهة سنده أيضًا: الإمام القاضي أبو بكر بن العربي في كتابه عارضة الأحوذي "6/ 72، 73" قال: "اختلف الناس في هذا الحديث، فمنهم من قال: إنه لا يصح، ومنهم من قال: هو صحيح، والدين القول بصحته؛ فإنه حديث مشهور يرويه شعبة بن الحجاج، رواه عن جماعة من الرفقاء والأئمة؛ منهم: يحيى بن سعيد، وعبد الله بن المبارك، وأبو داود الطيالسي، والحارث بن عمرو الهذلي الذي يرويه عنه، وإن لم يعرف إلا بهذا الحديث فكفى برواية شعبة عنه، وبكونه ابن أخ للمغيرة في التعديل له والتعريف به، وغاية حظه في مرتبته أن يكون من الأفراد ولا يقدح ذلك فيه، ولا أحد من أصحاب معاذ مجهولًا".

وصححه الإمام الحافظ الذهبي في كتابه: "مختصر العلل المتناهية لابن الجوزي"، والذي طبع باسم "تلخيص كتاب العلل المتناهية لابن الجوزي""ص269، 270" بتحقيق ياسر إبراهيم محمد، فقد عقب على كلام ابن الجوزي قال عن الحارث: ما هو مجهول؛ بل روى عنه جماعة وهو صدوق إن شاء الله، وعن قوله: وأصحاب معاذ لا يعرفون. قال: ما في أصحاب "معاذ" بحمد الله ضعيف، ولا سيما وهم جماعة. ثم قال:"وهذا حديث حسن الإسناد، ومعناه صحيح".

وصححه أيضًا الإمام ابن القيم في إعلام الموقعين "2028" قال: "فهذا حديث وإن كان عن غير مسمين، فهم أصحاب معاذ، فلا يضره ذلك؛ لأنه يدل على شهرة الحديث، وأن الذي حدث به الحارث به عمرو عن جماعة من أصحاب معاذ، لا واحد منهم، وهذا أبلغ في الشهر من أن يكون عن واحد منهم لو سمي، كيف وشهرة أصحاب معاذ بالعلم والدين والفضل والصدق بالمحل الذي لا يخفى، ولا يعرف من أصحابه متهم ولا كذاب ولا مجروح؛ بل أصحابه من أفاضل المسلمين وخيارهم، لا يشك أهل العلم بالنقل في ذلك، كيف وشعبة حامل لواء هذا الحديث، وقد قال بعض أئمة الحديث: إذا رأيت شعبة في إسناد حديث فاشدد يديك به".

ومن جهة أخرى، فإن هناك بعض العلماء الذين صححوا هذا الحديث من جهة شهرته بين العلماء؛ حيث تلقوه بالقبول، وعملوا به، واحتجوا به، وصار مشهورًا بينهم، واستغنوا بشهرته عن النظر في إسناده كما فعلوا هذا في أحاديث أخر، وممن صححه من هذه الجهة: أبو العباس بن العاص "أحمد بن أبي أحمد الطبري من أئمة الشافعية، انظر: سير أعلام النبلاء 15/ 371، 372" ذكره الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير "4/ 183" وقال ابن حجر: "إنه استند في صحته إلى تلقي أئمة الفقه والاجتهاد له بالقبول، وأنه قال: وهذا القدر مغنٍ عن مجرد الرواية، وهو نظير أخذهم بحديث: "لا وصية لوارث"، مع كون راويه إسماعيل بن عياش".

1 رواه الحاكم في المستدرك "1/ 108-110" بأكثر من طريق وقال: صحيح على شرط الشيخين، وأقره الحافظ الذهبي، ورواه أبو داود "4640"، والترمذي "2664" وحسنه، وابن ماجه "12"، كلهم من حديث المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه وقال الخطابي: وفي الحديث دليل على أنه لا حاجة بالحديث أن يعرض على الكتاب، وأنه مهما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان حجة بنفسه. معالم السنن هامش أبي داود "5/ 11".

وقوله: "متكئًا على أريكته" كناية عن عدم مبالاته واهتمامه بحديث النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 31

- عَلاقة السُّنَّة بالقرآن الكريم:

السُّنَّة مرتبطة بالقرآن ارتباطًا وثيقًا، فقد تكون مفصِّلة لِمُجْمَلِه كبيانها لكيفية الصلاة، ففي الحديث:"صلوا كما رأيتموني أُصلي" 1؛ حيث تحديد الوقت والعدد والكيفية، ونحو بيانها لكيفية الحج، ففي الحديث:"خذوا عني مناسككم" 2، وأيضًا المسائل المتعلقة بالزكاة والصيام

وقد تكون مُقيِّدة لمطلقه، ومن ذلك قوله تعالى:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} قيدت السُّنَّة القطع في المرة الأولى بقطع اليد من مفصل الكف

، وقوله تعالى في الميراث يقسَّم {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11] قيدته السُّنَّة بأنه لا وصية لوارث، وبأن تكون الوصية لغيره في حدود الثلث

وقد تكون مُخصِّصة لعامه، ومن الأحكام التي جاءت عامة في القرآن الكريم الميراث في:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْن} [النساء: 11] خصصته السُّنَّة بأن القاتل لا يرث، ولا يرث المؤمن الكافر والعكس، وبقوله صلى الله عليه وسلم:"نحن الأنبياء لا نُورَث، ما تركناه صدقة"، ومنه أيضًا أن الله تعالى قال في الزواج:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُم} [النساء: 24] خصصته السُّنَّة بأنه: "لا تنكح المرأة على عمتها، ولا على خالتها، ولا على ابنة أخيها، ولا على ابن أختها، فإنكم إن فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم"، وبقوله:"يُحَرَّم من الرضاع ما يحرم من النسب".

وقد تكون مُوَضِّحة لمشكله؛ كتوضيح الشجرة في: {كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَة} [إبراهيم: 24] بأنها النخلة، وكتوضيح التثبيت في:{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ} [إبراهيم: 27] بأن ذلك في القبر حين يُسأل المؤمن.

1 رواه البخاري ضمن حديث طويل عن مالك بن الحويرث رضي الله عنه مرفوعًا. راجع: صحيح البخاري "10" كتاب الأذان "18" باب الأذان للمسافرين إذا كانوا جماعة والإقامة

إلخ، حديث رقم "631"، وانظر: رقم "628" وأطرافه.

2 رواه مسلم في حديث لجابر بن عبد الله رضي الله عنه. راجع: صحيح مسلم "15" كتاب الحج "51" باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر، حديث رقم "310/ 1297".

ص: 32

وقد تكون موضِّحة لمبهمه، فلم يفهم الصحابة الظلم في قوله تعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82] فبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك للصحابة بأن المراد "الشرك"، واستدل بقوله تعالى:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] .

وهناك أحكام أتى بها النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكرها القرآن الكريم مجملة أو مفصلة أو مبهمة أو عامة أو خاصة أو مطلقة أو مقيدة، ومن ذلك تحريم لحوم الْحُمُر الأهلية، وتحريم كل ذي ناب من السباع، وتحريم كل ذي مخلب من الطير، وتحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في الزواج

إلخ، وتحليله لحوم الضب والأرانب؛ ولكن: هل هذه الأحكام جديدة أم نُصَّ عليها في كتاب الله عز وجل؟

أ- يرى المحدثون أن مثل هذه الأحكام جديد سكت عنه القرآن الكريم.

ب- ويرى بعض العلماء -وخاصة الأصوليين- أن هذه الأحكام ليست جديدة، فكل ما جاءت به السُّنَّة لا يخرج عن كونه بيانًا لما في كتاب الله عز وجل.

وقد كان السبب في اختلافهم هذا اختلاف فهمهم لما جاء في كتاب الله تعالى أنه قد حوى كل شيء، وأنه فيه:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} 1.

فالمحدِّثون يرون أن مثل هذه الأحكام -وإن لم ينص عليها القرآن الكريم- تندرج تحت الآيات التي تأمر باتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وطاعته، وتحذر من مخالفته فيما يحكم بينهم، فالقرآن الكريم -إذن- قد بيَّن كل ما يأتي به الرسول صلى الله عليه وسلم حين نص على سنته والأخذ بها.

وأصحاب الرأي الثاني يرون أن القرآن الكريم قد اشتمل على الأصول العامة التي يمكن أن يندرج تحتها كل ما ينفع المؤمنين ويوجه مسيرتهم على الطريق

ص: 33

المستقيم، وكل ما يأمر به الرسول صلى الله عليه وسلم إنما هو بهدى من هذه الأصول، وتطبيق لحكمتها العامة، أو إلحاق بفرع من الفروع التي نص الله عز وجل في كتابه على أصولها.

فمثلًا ما ورد في السُّنَّة من تحريم لحوم الحُمُر الأهلية، وكل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير -له أصل في كتاب الله عز وجل، قال تعالى:{وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] .

فالرسول صلى الله عليه وسلم عَلِمَ بوحي من الله تعالى أن مثل هذه اللحوم من الخبائث فحرمها على المسلمين. وما ورد من تحليل لحوم الأرنب والضب أصله في الآية السابقة، فالرسول صلى الله عليه وسلم نص على تحليله؛ لأنه عَلِمَ أنهما من الطيبات التي أحلها الله عز وجل:{وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} [الاعراف: 157] .

والرسول صلى الله عليه وسلم حرم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها؛ لأن مثله قد حرمه الله -وهو الجمع بين الأختين- في كتاب الله عز وجل، فالمصلحة فيها جميعًا واحدة؛ وهي قطع صلة الرحم، وبث عوامل التفكك في الأسر التي يريد الإسلام لها أن تتماسك وتتراحم؛ ولهذا نص صلى الله عليه وسلم على هذه المصلحة عندما نهى عن الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها فقال:"فإنكم إن فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم"1.

ولكل من هؤلاء وأولئكم حجته2؛ ولكن الذي يهمنا هنا أمران:

الأمر الأول: أن ما جاءت به السُّنَّة من هذا القبيل واجب الاتباع، وهو ما يعترف به الفريقان مع اختلاف وجهتي نظرهما في كونه مندرجًا تحت ما جاء به صلى الله عليه وسلم في كتاب الله عز وجل أو جديدًا لم ينص عليه فيه.

الأمر الثاني: أن السُّنَّة على كلتا الوجهتين أضافت شيئًا نحن في حاجة إليه

1 أصول التشريع الإسلامي "ص48" طبعة دار المعارف، والحديث أخرجه عبد الرزاق في مصنفه "6/ 362" بلفظ:"فإنهن إذا فعلن ذلك قطعن أرحامهن".

2 الاتجاهات الفقهية للدكتور عبد المجيد محمود "ص160-184".

ص: 34

سواء أأسميناه بيانًا أم جديدًا، ولن نستطيع أن نهتدي إليه من عند أنفسنا، ومن غير هدى من نبينا صلى الله عليه وسلم.

ويبين الإمام ابن تيمية: لماذا يجب علينا اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم اتباعًا مطلقًا فيقول: "الحديث النبوي عند الإطلاق ينصرف إلى ما حدَّث به رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد النبوة من قوله وفعله وإقراره، فإن سنته ثبتت من هذه الوجوه الثلاثة، فما قاله إن كان خبرًا وجب تصديقه به، وإن كان تشريعًا -إيجابًا أو تحريمًا- وجب اتباعه فيه، فإن الآيات الدالة على نبوة الأنبياء دلت على أنهم معصومون فيما يخبرون به عن الله عز وجل فلا يكون خبرهم إلا حقًّا، وهو يتضمن أن الله ينبئه بالغيب، وأنه ينبئ بالغيب، والرسول مأمور بدعوة الخَلْق وتبليغهم رسالات ربه"1.

قال فضيلة الدكتور رفعت فوزي2: "وقد يسأل بعضنا هذا السؤال: لماذا لم يحتوِ كتاب الله عز وجل تفصيلًا على مثل هذه الأمور التي تركها لبيان الرسول صلى الله عليه وسلم؟

والجواب: أن كتاب الله عز وجل لو اهتم بهذه التفصيلات لاستطال استطالة تجعل من الحرج على المؤمنين أن يستقصوه، ويحفظوه، ويرتلوه، وكل هذا واجب عليهم، هذا بالإضافة إلى أنه كتاب هداية يضم كل ما يهدي المؤمنين في كل وقت، ومثل هذه التفصيلات لا أعتقد أن التالي لها -لو كانت في كتاب الله- تشع في نفسه تلك الهداية التي يستشعرها المؤمن في كل آية يتلوها من كتاب الله الكريم.

وأيضًا لإظهار رحمة الرسول صلى الله عليه وسلم بأمته، فهو بهم {رَءُوفٌ رَحِيمٌ} كما قال الله عز وجل وهذه الرحمة تظهر في بيان كتاب الله حتى لا يترك المؤمنين حَيْرى في فَهْم وتطبيق نصوص كتاب الله العزيز.

وحتى تتحقق القدوة بالرسول صلى الله عليه وسلم لا بُدَّ من الاقتناع العقلي، وهذا يتمثل

1 مجموع فتاوى ابن تيمية "18/ 6، 7، 10".

2 المدخل إلى توثيق السُّنَّة "ص16، 17".

ص: 35

في أن يرى المسلمون أن هذا الرسول صلى الله عليه وسلم ليس شخصًا كغيره؛ وإنما هو جزء من دينهم الذي جاء به من عند الله، ولن يتحقق هذا الجزء إلا باتباع نبيهم في الصلوات وغيرها، وإلا فكيف يصلي المؤمن دون تنفيذ ما أتى به الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا المجال؟! إن هذا مستحيل -عقلًا- والله عز وجل أعلم".

ص: 36