الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقارنة بين الصحيحين:
لقد التزم الشيخان ألا يخرجا في صحيحيهما سوى الأحاديث الصحيحة، حتى وإن اختلفا في المنهج، وترجح أحدها على الآخر في قوة الشروط: فمن حيث المنهج، فإن الإمام البخاري كان يجزئ الحديث أو يكرره الواحد في عدة كتب أبواب فقهية؛ لأن الحديث الواحد قد يشتمل على أكثر من معنى، وكل معنى يندرج تحت باب معين، فهو بحسن استنباطه وغزارة فقهه يستخرج منه الفوائد الحديثية ويستنبط الأحكام الفقهية المختلفة، ومن هنا يكون السر في التكرار أو التجزئة.
وأما الإمام مسلم، فالتزم منهجًا دقيقًا في ترتيب الأحاديث؛ حيث تلافى ما فعله الإمام البخاري في صحيحه، فلم يكرر الأحاديث ولم يجزئها في أبواب عدة.
ومن حيث الموازنة في هذه الجزئية، فإن منهج الإمام البخاري يجعل العثور على الحديث بكماله أشد صعوبة من البحث عليه عند مسلم.
ومن جهة أخرى، فإن الإمام البخاري اهتم بالتراجم في الأبواب؛ لأنها عكست فقهه ومذهبه، وتوضح رأيه في المسألة التي يتناولها كل باب.
ولكن مسلمًا لم يذكر تراجم لأبوابه، ويعلل ذلك الإمام النووي بأنه ربما أراد ألا يزيد حجم الكتاب. قال النووي:"ثم إن مسلمًا رحمه الله رتب كتابه على أبواب فهو مبوب في الحقيقة، ولكنه لم يذكر تراجم الأبواب فيه؛ لئلا يزداد بها حجم الكتاب أو لغير ذلك"1. فقد يكون الأمر كذلك، وقد يكون غيره، مثل أن يقال: إنه فعل ذلك لئلا ينشغل الناس عن الأحاديث أو معانيها بالتماس أوجه الصلة بين عناوين الأبواب والأحاديث التي ذكرت تحتها، كما حدث ذلك في كتاب البخاري.
1 شرح صحيح مسلم للنووي "1/ 129".
قال فضيلة الدكتور/ رفعت فوزي: وقد سد هذا النقص شراح كتاب مسلم ومحققوه، فوضعوا له الأبواب التي تتلاءم مع معاني الأحاديث فيه1.
وأما من حيث الصحة وقوة الشروط، فإن صحيح الإمام البخاري مقدَّم على صحيح مسلم في هذا الجانب، ويدل على ذلك أمران:
الأول: شهادة جهابذة الحديث، ومن ذلك ما رواه الحافظ ابن حجر عن أبي عبد الرحمن النسائي أنه قال:"ما في هذه الكتب كلها أجود من كتاب محمد بن إسماعيل".
قال الحافظ: والنسائي لا يُعْنَى بالجودة إلا جودة الأسانيد، كما هو المتبادر إلى الفهم من اصطلاح أهل الحديث، ومثل هذا من النسائي غاية في الوصف مع شدة تحريه وتوقيه وتثبته في نقد الرجال وتقدمه في ذلك على أهل عصره حتى قدمه قوم من الحذاق في معرفة ذلك على مسلم بن الحجاج، وقدمه الدارقطني وغيره على إمام الأئمة أبي بكر بن خزيمة صاحب الصحيح.
وقال الإسماعيلي في المدخل له: "أما بعد، فإني نظرت في كتاب الجامع الذي ألفه أبو عبد الله البخاري فرأيته جامعًا، كما سمى لكثير من السنن الصحيحة ودالا على جمل من المعاني الحسنة المستنبطة التي لا يكمل لمثلها إلا من جمع إلى معرفة الحديث ونقلته والعلم بالروايات وعللها، علمًا بالفقه واللغة، وتمكنًا وتبحرًا فيها، وكان -يرحمه الله- الرجل الذي قصر في زمنه على ذلك، فبرع، وبلغ الغاية، فحاز السبق، وقد نحا نحوه في التصنيف جماعة منهم مسلم بن الحجاج، وكان يقاربه في العصر، فرام مرامه، وكان يأخذ عنه، أو عن كتبه، إلا أنه لم يضايق نفسه مضايقة أبي عبد الله، وروى عن جماعة كثيرة لم يتعرض أبو عبد الله للرواية عنهم، وكل قصد الخير، غير أن أحدًا لم يبلغ في التشدد مبلغ أبي عبد الله، ولا
1 كتب السنة "ص196"، وقال في الهامش: ولعل أكثرهم دقة -في وضع التراجم وصياغتها- الإمام النووي عندما شرح كتاب مسلم؛ لأنه اطلع على ما فعله العلماء، وتلافى نقص صنيعهم "شرح مسلم 1/ 16".
تسبب إلى استنباط المعاني، واستخراج لطائف فقه الحديث، وتراجم الأبواب الدالة على ما له صلة بالحديث المروي فيه تسببه، ولله الفضل يختص به من يشاء".
قال الحافظ ابن حجر: هذا مع اتفاق العلماء على أن البخاري كان أجل من مسلم في العلوم، وأعرف بصناعة الحديث منه، وأن مسلمًا تلميذه وخريجه، ولم يزل يستفيد منه ويتبع آثاره حتى قال الدارقطني "لما ذكره عند الصحيحين":"لولا البخاري لما ذهب مسلم ولا جاء"1. وقال مرة أخرى: "وأي شيء صنع مسلم؛ إنما أخذ كتاب البخاري فعمل عليه مستخرجًا، وزاد فيه زيادات".
الثاني: أن مدار الحديث الصحيح على اتصال السند، والسلامة من الشذوذ والعلة، مع الضبط والإتقان للرواة، وهذه الأوصاف في كتاب البخاري أقوى منها في كتاب مسلم، فهو أشد اتصالًا، وأوثق رجالًا، وأبعد عن الشذوذ والعلة.
- فمن حيث اتصال السند: إن الإسناد المعنعن الذي يقال فيه: "فلان عن فلان" اكتفى مسلم فيه بالمعاصرة، أما البخاري فلا يحمل ذلك على الاتصال حتى يثبت اجتماعهما ولو مرة، وقد أظهر البخاري هذا المذهب في تاريخه، وجرى عليه في صحيحه، كما جرى مسلم على مذهبه المذكور في صحيحه، وصرح به في مقدمته، وبالغ في الرد على من خالفه، ولا شك أن مذهب البخاري في المعنعن أدخل في باب الاتصال، وأبعد عن شائبة الانقطاع، بخلاف ما ذهب إليه مسلم2.
- ومن حيث السلامة من الشذوذ والإعلال: إن الأحاديث التي انتقدت عليهما بلغت "210" اختص البخاري منها بـ"78"، واختص مسلم بـ"100"، واشتركا في "32"، ولا شك أن ما قل الانتقاد فيه أرجح مما كثر فيه3.
1 شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر "ص10".
2 راجع: المصدر السابق "ص10"، وتدريب الراوي "1/ 114".
3 راجع المصدرين السابقين.
- ومن حيث إتقان الرواة: يتبين رجحان صحيح البخاري على صحيح مسلم في هذا الباب بعدة أمور1:
أ- إن الذين انفرد البخاري بالإخراج لهم دون مسلم أربعمائة وبضع وثلاثون رجلًا، المتكلم فيه بالضعف منهم "80" رجلًا، والذين انفرد مسلم بالإخراج لهم دون البخاري "620" رجلًا، المتكلم فيه بالضعف منهم "160" رجلًا، ولا شك أن التخريج عمن لم يتكلم فيه أصلًا أولى من التخريج عمن تكلم فيه وإن لم يكن ذلك الكلام قادحًا.
ب- إن الذين انفرد بهم البخاري ممن تكلم فيه لم يكثر من التخريج عنهم، وليس لواحد منهم نسخة كبيرة أخرجها كلها أو أكثرها إلا ترجمة عكرمة عن ابن عباس، بخلاف مسلم فإنه أخرج أكثر تلك النسخ؛ كأبي الزبير عن جابر، وسهيل عن أبيه، والعلاء بن عبد الرحمن عن أبيه، وحماد بن سلمة عن ثابت، وغير ذلك.
ج- إن الذين انفرد بهم البخاري ممن تكلم فيه أكثرهم من شيوخه الذين لقيهم وجالسهم، وعرف أحوالهم، واطلع على أحاديثهم، وميز جيدها من غيره، بخلاف مسلم فإن من انفرد بتخريج حديثه ممن تكلم فيه أكثرهم ممن تقدم عصره من التابعين ومن بعدهم. ولا شك أن المحدث أعرف بحديث شيوخه دون غيرهم.
د- إن البخاري يخرج أحاديث الطبقة الأولى، وهي أعلى الطبقات في الحفظ والإتقان وطول الصحبة لمن أخذوا عنه استيعابًا، وينتقي من أحاديث الطبقة الثانية التي هي دون الأولى في الصفات المذكورة، ومسلم يخرج حديث الطبقة الثانية استيعابًا، وفي أصل موضوع كتابه، فكان البخاري أقوى إسنادًا وأوثق رجالًا.
هذا، وأما ما نقل عن أبي علي النيسابوري أنه قال: "ما تحت أديم السماء
1 راجع هذه الأمور في تدريب الراوي "1/ 112، 113".
كتاب أصح من كتاب مسلم بن الحجاج" لا ينافي ما تقدم، فقد قال الحافظ ابن حجر: الذي يظهر لي من كلام أبي علي أنه إنما قدم صحيح مسلم لمعنى غير ما يرجع إلى ما نحن بصدده من الشرائط المطلوبة في الصحة؛ بل ذلك لأن مسلمًا صنف كتابه في بلده بحضور أصوله في حياة كثير من مشايخه، فكان يتحرز في الألفاظ ويتحرى في السياق ولا يتصدى لما تصدى له البخاري من استنباط الأحكام ليبوب عليها، ولزم من ذلك تقطيعه للحديث في أبوابه؛ بل جمع مسلم الطرق كلها في مكان واحد، واقتصر على الأحاديث دون الموقوفات، فلم يعرج عليها إلا في بعض المواضع على سبيل الندرة تبعًا لا مقصودًا؛ فلهذا قال أبو علي ما قال. قال: وكذلك ما نقل عن بعض المغاربة أنه فضل صحيح مسلم على صحيح البخاري، فذلك فيما يرجع إلى حسن السياق، وجودة الوضع والترتيب، ولم يفصح أحد منهم بأن ذلك راجع إلى الأصحية، ولو أفصحوا لرده عليهم شاهد الوجود، فالصفات التي تدور عليها الصحة في كتاب البخاري أتم منها في كتاب مسلم وأشد، وشرطه فيها أقوى وأسد1.
الحديث المروي في الصحيحين هل يفيد العلم القطعي أم الظني؟
ذهب ابن الصلاح إلى أن ما رواه الإمام البخاري والإمام مسلم متفقين، أو ما رواه أحدهما منفردًا مقطوع بصحته، ويفيد العلم القطعي لا الظني؛ إلا أنه استثنى قائلًا:"سوى أحرف يسيرة تكلم عليها بعض أهل النقد من الحفاظ كالدارقطني وغيره، وهي معروفة عند أهل الشأن، والله أعلم"2، قال ابن حجر العسقلاني:"وهو احتراز حسن"2.
ووافق بعض العلماء ابن الصلاح فيما ذهب إليه
…
قال ابن كثير: "وأنا مع ابن الصلاح فيما عول عليه وأرشد إليه"3، ونقل عن ابن تيمية أنه قال:"هو مذهب أهل الحديث قاطبة ومذهب السلف عامة"3.
1 شرح نخبة الفكر "ص10".
2 هدى الساري "ص346".
3 اختصار علوم الحديث "ص35، 36".
كما ذهب إلى هذا الرأي: داود الظاهري، وابن حزم، وابن حجر، والسيوطي1.
وحكاه السيوطي عن عدة من الحفاظ فقال: "فقد نقل بعض الحفاظ المتأخرين مثل قول ابن الصلاح عن جماعة من الشافعية؛ كأبي إسحاق، وأبي حامد الإسفراييني، والقاضي أبي الطيب، والشيخ أبي إسحاق الشيرازي، وعن السرخسي من الحنفية، والقاضي عبد الوهاب من المالكية، وأبي يعلى، وأبي الخطاب، وابن الزاغوني من الحنابلة، وابن فورك، وأكثر أهل الكلام من الأشعرية، وأهل الحديث قاطبة، ومذهب السلف عامة؛ بل بالغ ابن طاهر المقدسي في صفة التصوف، فألحق به ما كان على شرطهما وإن لم يخرجاه"2.
وقد احترز ابن حجر في رأيه فقال: "إلا أن هذا يختص بما لم ينتقده أحد من الحفاظ مما في الكتابين -صحيح البخاري، وصحيح مسلم- وبما لم يقع التجاذب بين مدلوليه؛ حيث لا ترجيح؛ لاستحالة أن يفيد المتناقضات العلم بصدقها من غير ترجيح لأحدهما على الآخر، وما عدا ذلك فالإجماع حاصل على تسليم صحته"3.
ومن جهة أخرى، فقد عُورض رأي ابن الصلاح فيما ذهب إليه ومَن وافقه من كثير من المحققين كما زعم الإمام النووي حيث قال في التقريب4:"وخالفه المحققون والأكثرون". وقالوا: إنما يفيد الحديث الصحيح الظن ما لم يكن متواترًا لجواز الخطأ والنسيان على الثقة5. وقد دافع الإمام النووي عن هذا الرأي في غير موضع من كتبه، فقال في مقدمة شرحه لصحيح مسلم: "وهذا الذي ذكره
1 اختصار علوم الحديث "ص35، 37".
2 تدريب الراوي "1/ 166".
3 شرح نخبة الفكر "ص7".
4 التقريب مع تدريب الراوي "1/ 165".
5 تدريب الراوي "1/ 75".
الشيخ -يعني ابن الصلاح- في هذه المواضع خلاف ما قاله المحققون والأكثرون، فإنهم قالوا: أحاديث الصحيحين التي ليست بمتواترة إنما تفيد الظن؛ فإنها آحاد، والآحاد إنما تفيد الظن على ما تقرر، ولا فرق بين البخاري ومسلم وغيرهما في ذلك.
"قال": وتلقي الأمة بالقبول إنما أفادنا وجوب العمل بما فيهما، وهذا متفق عليه، فإن أخبار الآحاد التي في غيرهما يجب العمل بها إذا صحت أسانيدها، ولا تفيد إلا الظن، فكذا الصحيحان، وإنما يفترق الصحيحان وغيرهما من الكتب في كون ما فيهما صحيحًا لا يحتاج إلى النظر فيه؛ بل يجب العمل به مطلقًا، وما كان في غيرهما لا يعمل به حتى ينظر فيه، ويوجد فيه شروط الصحيح، ولا يلزم من إجماع الأمة على العمل بما فيهما إجماعهم على أنه مقطوع بأنه من كلام النبي -صلى الله عليه ويسلم- "قال": وقد اشتد إنكار ابن برهان على مَن قال بما قاله الشيخ، وبالغ في تغطيته"1.
وقال الإمام السيوطي: "وكذا عاب ابن عبد السلام على ابن الصلاح هذا القول"2.
هذا، وقد رأى الدكتور/ مصطفى السباعي أن ذلك مذهب الجمهور3.
قال الدكتور/ إسماعيل سالم عبد العال: "وهو ما نميل إليه ونأخذ به"4.
قلت: وأنا أميل إلى ما ذهب إليه ابن الصلاح؛ وذلك لأسباب منها: دقة شروط البخاري في صحيحه، ومنها أن البخاري عرض هذه الأحاديث كلها على شيوخه وأئمة عصره، فأقروها سوى أحرف يسيرة.
1 شرح النووي على صحيح مسلم "1/ 15".
2 تدريب الراوي "1/ 165".
3 السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي "ص502".
4 دراسات في السُّنة "ص147".
ويمكن أن ينطبق هذا القول الأخير على هذه الأحرف اليسيرة وحدها دون غيرها، وإن كان القول فيها للبخاري كما قال العقيلي1.
وقد اعترض بعض العلماء على ما ذهب إليه النووي والعز بن عبد السلام، فقال البلقيني:"ما قاله النووي وابن عبد السلام ومَن تبعهما ممنوع"2.
- انتقاد بعض الحفاظ على الشيخين والجواب عنه:
انتقد جماعة من الحفاظ على البخاري ومسلم أحاديث زعموا أنهما أخلَّا فيها بشرطيهما ونزلت عن درجة ما التزماه؛ منهم: الدارقطني، وأبو مسعود الدمشقي، وأبو علي الغساني، وألفوا في ذلك. قال الحافظ ابن حجر: وليست عللها كلها قادحة؛ بل أكثرها الجواب عنه ظاهر، والقدح فيه مندفع، وبعضها الجواب عنه محتمل، واليسير منه في الجواب عنه تعسف.
قال: والأحاديث التي انتقدت عليهما إن كانت مذكورة على سبيل الاستئناس والتقوية -كالمعلقات، والمتابعات، والشواهد- أجيب عن الاعتراض عليها أن توجه بأنها ليست من موضوع الكتابين، فإن موضوعهما المسند المتصل؛ ولهذا لم يتعرض الدارقطني في نقده على الصحيحين إلى الأحاديث المعلقة التي لم توصل في موضع آخر لعلمه بأنها ليست من موضوع الكتابين، وإنما ذكرت استئناسًا واستشهادًا، وإن كانت من الأحاديث المسندة، فإما أن يكون الطعن مبنيًّا على قواعد ضعيفة لبعض المحدثين فلا يقبل لضعف مبناه، وإما أن يكون مبنيًّا على قواعد قوية فحينئذ يكون قد تعارض تصحيحهما، أو تصحيح أحدهما، مع كلام المعترض، ولا ريب في تقدمهما في باب التصحيح والتضعيف على غيرهما.
قال الحافظ ابن حجر: وعدة ما انتقد عليهما من الأحاديث المسندة "210" مائتا حديث وعشرة، اشتركا في "32" اثنين وثلاثين حديثًا، واختص البخاري بثمانية وسبعين، ومسلم بمائة.
1 نقلًا عن هدى الساري "ص7"، "ص489" - طبعة بولاق.
2 نقلًا عن تدريب الراوي "1/ 165" - مؤسسة الرسالة.
قال: والجواب عن ذلك على سبيل الإجمال أن نقول: لا ريب في تقديم البخاري، ثم مسلم، على أهل عصرهما، ومن بعدهما من أئمة هذا الفن في معرفة الصحيح والمعلل؛ فإنهم لا يختلفون في أن علي بن المديني كان أعلم أقرانه بعلل الحديث، وعنه أخذ البخاري ذلك حتى كان يقول: ما استصغرت نفسي عند أحد إلا عند علي بن المديني، ومع ذلك، فكان علي بن المديني إذا بلغه ذلك عن البخاري يقول: دعوا قوله، فإنه ما رأى مثل نفسه، وكان محمد بن يحيى الذهلي أعلم أهل عصره بعلل حديث الزهري، وقد استفاد منه ذلك الشيخان جميعًا، وروى الفربري عن البخاري قال: ما أدخلت في الصحيح حديثًا إلا بعد أن استخرت الله تعالى، وتيقنت صحته.
وقال مكي بن عبد الله: سمعت مسلم بن الحجاج يقول: عرضت كتابي هذا على أبي زرعة الرازي، فكل ما أشار أن له علة تركته. قال: فإذا عرف وتقرر أنهما لا يخرجان من الحديث إلا ما لا علة له، أو له علة إلا أنها غير مؤثرة عندهما، فبتقدير توجيه كلام المنتقد عليها يكون قوله معارضًا لتصحيحهما، ولا ريب في تقدمهما في ذلك على غيرهما، فيندفع الاعتراض من حيث الجملة.
ثم أجاب الحافظ ابن حجر رحمه الله عن النقد جوابًا تفصيليًّا، قسم فيه الأحاديث التي انتقدت عليهما إلى ستة أقسام، تكلم عليها، ثم أجاب عن الأحاديث التي أوردها الدارقطني على البخاري حديثًا حديثًا، ثم قال: فإذا تأمل المصنف ما حررته من ذلك عظم مقدار هذا المصنف في نفسه، وجل تصنيفه في عينه، وعذر الأئمة من أهل العلم في تلقيه بالقبول والتسليم، وتقديمهم له على كل مصنف في الحديث والقديم.
قال: وإنما اقتصرت على ما ذكرته عن الدراقطني؛ لأني أردت أن يكون عنوانًا لغيره؛ فإنه الإمام المقدَّم في هذا الفن. اهـ.
هذا، وأما الأحاديث التي انتقدت على الإمام مسلم في صحيحه، فقد أجاب
عنها واحدًا واحدًا جهابذة من أئمة الحديث، قال السيوطي: ورأيت فيما يتعلق بمسلم تأليفًا مخصوصًا فيما ضعف من أحاديثه بسبب ضعف رواته.
وقد ألف الشيخ ولي الدين العراقي كتابًا في الرد عليه. قال السيوطي: "وذكر بعض الحفاظ أن في كتاب مسلم أحاديث مخالفة لشرط الصحيح، بعضها أبهم راويه، وبعضها فيه إرسال وانقطاع، وبعضها فيه وجادة، وهي في حكم الانقطاع، وبعضها بالمكاتبة، وقد ألف الرشيد العطار كتابًا في الرد عليه، والجواب عنها حديثًا حديثًا، وقد وقفت عليه"1. اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر: "وأما الغلط، فتارة يكثر من الراوي، وتارة يقل؛ بحيث يوصف بكونه كثير الغلط ينظر فيما أخرج له إن وجد مرويًّا عنده أو عند غيره من رواية غير هذا الموصوف بالغلط، علم أن المعتمد أصل الحديث لا خصوص هذه الطريق، وإن لم يوجد إلا من طريقه، فهذا قادح يوجب التوقف عن الحكم بصحة ما هذا سبيله، وليس في الصحيح -بحمد الله- من ذلك شيء، وحيث يوصف بقلة الغلط، كما يقال: سيئ الحفظ، أو: له أوهام، أو: له مناكير، وغير ذلك من العبارات، فالحكم فيه كالحكم في الذي قبله؛ إلا أن الرواية عن هؤلاء في المتابعات أكثر منها عند المصنف من الرواية عن أولئك"2.
وهكذا يصرح الحافظ ابن حجر بأن أصول صحيح البخاري منزهة عن رواية هؤلاء المجرحين بكثرة الخطأ، والأوهام، والمناكير، وسوء الحفظ، وإذا كان الحافظ ابن حجر عَنِيَ نزاهة الإمام البخاري من رواية هؤلاء، فإن البحث أثبت أن أصول صحيح مسلم منزهة من روايتهم أيضًا.
1 تدريب الراوي "1/ 169"، والرشيد العطار: هو أبو الحسين رشيد الدين يحيى بن علي بن عبد الله القرشي الأموي النابلسي ثم المصري العطار المالكي الحافظ "ت662هـ"، وقد لخص الإمام السيوطي كتابه في تدريب الراوي "1/ 261". والكتاب مطبوع باسم: غرر الفوائد المجموعة في بيان ما وقع في صحيح مسلم من الأحاديث المقطوعة - دار الكتب العلمية - بيروت - ط1 "1417هـ-1996م".
2 هدى الساري "ص381"، ط بولاق.
وإذا كان الحافظ ابن حجر أشار إلى عدم الاحتجاج برواية المغفلين وكثيري الغلط، فإن هذا هو المذهب الذي أجمع عليه الأئمة، وصرح به السخاوي، والسيوطي، وغيرهما1، وقال عبد الرحمن بن مهدي: قيل لشعبة: متى يُترك حديث الرجل؟ قال: إذا حدَّث عن المعروفين بما لا يعرفه المعروفون، وإذا كثر الغلط، وإذا أتى بالكذب، وإذا روى حديثًا غلطًا مجتمعًا عليه، فلم يتهم نفسه فيتركه طُرح حديثه، وما كان على غير ذلك فاروِ عنه2.
قال ابن حجر: "وينبغي لكل منصف أن يعلم أن تخريج صاحب الصحيح لأي راوٍ مقتضٍ لعدالته عنده وصحة ضبطه وعدم غفلته، ولا سيما ما انضاف إلى ذلك من إطباق جمهور الأئمة على تسمية الكتابين بالصحيحين، وهذا معنى لم يحصل لغير من خرج عنه في الصحيح، فهو بمثابة إطباق الجمهور على تعديل مَنْ ذكر فيهما"3.
ومما لا شك فيه أن كل الروايات المدونة في أصول الصحيحين لا تحتمل نقدًا، يستوي في ذلك روايات الموثقين، والمختلف فيهم، والمجروحين، فقد أبَى الشيخان إلا أن ينتقيا مما صح عن رواتهما، وما تنطق عليه شروط الصحة عندهما، والتي أقرها أئمة عصرهما وتلقتها الأمة بالقبول من بعدهما.
وللإمام الحافظ أبي عمرو بن الصلاح جواب موجز محرر في الدفاع عن مسلم رحمه الله يحسن بنا أن نذكره نقلًا عن الإمام النووي في مقدمته لشرح مسلم:
قال النووي رحمه الله: عاب عائبون مسلمًا بروايته في صحيحه عن جماعة من الضعفاء والمتوسطين الواقعين في الطبقات الثانية الذين ليسوا من شرط الصحيح،
1 راجع: تدريب الراوي "1/ 339"، فتح المغيث للسخاوي "1/ 331"، هدى الساري "ص381" ط بولاق.
2 التعديل والتجريح "1/ 288".
3 هدى الساري "ص384"، ط بولاق.
ولا عيب عليه في ذلك؛ بل جوابه من أوجه ذكرها الشيخ الإمام أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله:
أحدها: أن يكون ذلك فيمن هو ضعيف عند غيره ثقة عنده، ولا يقال: الجرح مقدم على التعديل؛ لأن ذلك فيما إذا كان الجرح ثابتًا مفسر السبب، وإلا فلا يقبل الجرح إذا لم يكن كذا، وقد قال الإمام الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي وغيره: ما احتج البخاري ومسلم وأبو داود به من جماعة علم الطعن فيهم من غيرهم محمول على أنه لم يثبت الطعن المؤثر مفسر السبب.
الثاني: أن يكون ذلك واقعًا في المتابعات والشواهد، لا في الأصول، وذلك بأن يذكر الحديث أولًا بإسناد نظيف، ورجاله ثقات، ويجعله أصلًا، ثم يتبعه بإسناد آخر، أو أسانيد بها بعض الضعف على وجه التأكيد بالمتابعة، أو لزيادة فيه تنبه على فائدة فيما قدمه، وقد اعتذر الحاكم أبو عبد الله بالمتابعة والاستشهاد في إخراجه عن جماعة ليسوا من شرط الصحيح؛ منهم: مطر الوراق، وبقية بن الوليد، ومحمد بن إسحاق بن يسار، وعبد الله بن عمر العمري، والنعمان بن راشد، وأخرج مسلم عنهم في الشواهد في أشباه لهم كثيرين.
الثالث: أن يكون ضَعْف الضعيف -الذي احتج به- طرأ بعد أخذه عنه باختلاط حدث عليه فهو غير قادح فيما رواه من قبل في زمن استقامته، كما في أحمد بن عبد الرحمن بن وهب ابن أخي عبد الله بن وهب، فقد ذكر الحاكم أبو عبد الله أنه اختلط بعد الخمسين ومائتين بعد خروج مسلم من مصر، فهو في ذلك كسعيد بن أبي عروبة، وعبد الرزاق، وغيرهما ممن اختلط آخرًا، ولم يمنع ذلك من صحة الاحتجاج في الصحيحين بما أخذ عنهم قبل ذلك.
الرابع: أن يعلو بالشخص الضعيف إسناده، وهو عنده من رواية الثقات نازل، فيقتصر على العالي، ولا يطول بإضافة النازل إليه مكتفيًا بمعرفة أهل الشأن في ذلك، وهذا العذر قد رويناه عنه تنصيصًا وهو خلاف حاله فيما رواه عن الثقات
أولًا، ثم أتبعه بمن دونهم متابعة، وكأن ذلك وقع منه على حسب حضور باعث النشاط وغيبته.
روينا عن سعيد بن عمرو البردعي أنه حضر أبا زرعة الرازي، وذكر صحيح مسلم وإنكار أبي زرعة عليه روايته فيه عن أسباط بن نصر وقَطَن بن نُسَيْر وأحمد بن عيسى المصري، وأنه قال أيضًا: يطرق لأهل البدع علينا فيجدون السبيل بأن يقولوا: إذا احتج عليهم بحديث: ليس هذا في الصحيح. قال سعيد بن عمرو: فلما رجعت إلى نيسابور ذكرت لمسلم إنكار أبي زرعة فقال لي مسلم: إنما قلت: صحيح، وإنما أدخلت من حديث أسباط وقطن وأحمد ما قد رواه الثقات عن شيوخهم، إلا أنه ربما وقع لي عنهم بارتفاع، ويكون عندي من رواية "من هو" أوثق منهم بنزول، فاقتصر على ذلك، وأصل الحديث معروف من رواية الثقات1
…
قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح: فهذا مقام وعر، وقد مهدته بواضح من القول لم أره مجتمعًا في مؤلَّف ولله الحمد. قال: وفيما ذكرته دليل على أن من حكم لشخص بمجرد رواية مسلم عنه في صحيحه بأنه من شرط الصحيح عند مسلم، فقد غفل وأخطأ؛ بل يتوقف ذلك على النظر في أنه كيف روى عنه على ما بيناه من انقسام ذلك، والله أعلم2.
- ومن الناحية العملية والعلمية:
لقد حصرت كل الرواة المتهمين في حفظهم من رجال الصحيحين، وذلك ضمن دراسة شاملة لرجال الصحيحين في رسالتي للدكتوراه3، فوجدتهم أربعة وعشرين رجلًا، منهم اثنان من رجال الصحيحين معًا، وسبعة من رجال صحيح البخاري وحده، وخمسة عشر من رجال صحيح مسلم وحده، وتتبعت أقوال
1 شرح صحيح مسلم للنووي "1/ 134، 135" المقدمة.
2 نقلًا عن المصدر السابق "1/ 136".
3 راجع هذا البحث في رسالتي للدكتوراه وعنوانها: رجال الصحيحين في ميزان أئمة الجرح والتعديل، دراسة استيعابية - تحت الطبع.
الأئمة فيهم، ورواياتهم المخرجة في الصحيحين والنقد الموجه إليها، وبعد تلك الدراسة المتأنية انتهيت إلى النتائج الآتية:
أولًا: أحاديثهم المروية في الصحيحين قليلة جدًّا، ولمعظمهم رواية واحدة.
ثانيًا: جاء كثير منهم مقرونًا بغيره من الثقات والأثبات.
ثالثًا: جاءت كل رواياتهم في المتابعات والمشاهد.
رابعًا: لم يوجه النقد إلا لأربعة أحاديث فقط، وقد ناقشتها جميعًا، وانتهيت إلى أن القول فيها للشيخين.
فلله الحمد على ما وفق الإمامين البخاري ومسلمًا للصواب والرشاد.
الانتقادات والطعون الموجهة إلى بعض أحاديث الصحيحين مدفوعة جملة وتفصيلًا:
الحق الذي لا مرية فيه عند أهل العلم بالحديث من المحققين، وممن اهتدى بهديهم، وتبعهم على بصيرة الأمر: أن كل ما كان من أحاديث في الصحيحين، أو أحدهما، أسفر فيه صبح الصحة لكل ذي عينين؛ لأنه قد قطع عرق النزاع ما صح من الإجماع على تلقي جميع الطوائف الإسلامية لما فيهما بالقبول، وهذه رتبة فوق رتبة التصحيح عند جميع أهل المعقول والمنقول، فلا يهولنك إرجاف المرجفين، وزعم الزاعمين أن في الصحيحين أحاديث غير صحيحة.
ونقرر -بداية- أنه لا مؤاخذة على الشيخين إذا كان الحديث المنتقد معلقًا أو ذُكر للاستشهاد؛ لأنه ليس من أصل الكتابين. قال الحافظ ابن حجر: "موضوع الكتابين إنما هو للمسندات، والمعلق ليس بمسند؛ ولهذا لم يتعرض الدارقطني -فيما تتبعه على الصحيحين- إلى الأحاديث المعلقة التي لم توصل في موضع
آخر؛ لعلمه بأنها ليست من موضوع الكتاب، وإنما ذكرت استئناسًا واستشهادًا"1.
فلا مؤأخذة إذن على البخاري ومسلم إذا كان الحديث المنتقد ليس من موضوع -أي أصل- الكتاب. وأما بالنسبة للطعن فيما كان من أصل الكتابين، فإن ذلك الطعن مبني على قواعد -لبعض المحدثين- ضعيفة جدًّا مخالفة لما عليه الجمهور من أهل الثقة والأصول وغيرهم2.
وقد بلغ جملة الأحاديث المنتقدة من قِبَل بعض الحفاظ كالدارقطني وأبي مسعود الدمشقي وأبي علي الغساني الجياني -وغيرهم- مائتا حديث وعشرة، اشترك الشيخان في اثنين وثلاثين، واختص البخاري بثمانية وسبعين حديثًا، ومسلم بمائة حديث3.
ومن تتبع الأحاديث -التي تكلموا فيها- وانتقدها على القواعد الدقيقة التي سار عليها أئمة أهل العلم، قضى بصحتها وسلامتها من كل نقد، قد أجمع أهل العلم على أن رجلًا لو حلف بالطلاق أن جميع ما في الصحيحين من المسندات -مما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم قد صح عنه، ورسوله صلى الله عليه وسلم قاله لا شك فيه- أنه لا يحنث والمرأة بحالها في حبالته4.
وقد ابتلينا هذه الأيام بمن سولت له نفسه نقد ما أجمع الأئمة -من علماء الحديث والخبراء بعلله- على صحته من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وادَّعى هؤلاء أنهم درسوا الصحيحين دراسة تفهم وتدبر، ونبذوا التعصب وتوصلوا إلى ما وصلوا إليه بفضل القواعد العلمية الحديثة لا الأهواء الشخصية أو الثقافة الأجنبية!! 5
1 هدى الساري "ص344، 345"، ط بولاق.
2 راجع: هدى الساري "ص344".
3 راجع: هدى الساري "ص345".
4 راجع: المقدمة لابن الصلاح "ص13"، وشرح مسلم للنووي "1/ 127".
5 راجع كلام الألباني في: مقدمة شرح العقيدة الطحاوية "ص14، 15" ط المكتب الإسلامي، وإرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل "حديث رقم 1021".
- وجدير بالذكر أن الطاعنين في بعض أحاديث الشيخين أو أحدهما يمكن تصنيفهم على النحو الآتي:
أولًا: بعض الحفاظ من أهل العلم المتقدمين ممن تأخروا عن الشيخين.
ثانيًا: بعض المعاصرين، وهم أنواع:
أ- منهم أهل علم يَهْوَى الطعن ليُعرف.
ب- ومنهم المحسوب على أهل العلم، يتبع أسياده من الغرب الذين درس عندهم، وتخرج على موائدهم.
جـ- ومنهم الجاهل.
د- ومنهم من كان منحرفًا وملحدًا، ثم صار في عشية وضحاها -في نظره ونظر أمثاله- من شيوخ الإسلام الداعين إلى التجديد.
- ويمكن حصر أهداف المعاصرين فيما يلي:
أولًا: الحقد على الشيخين.
ثانيًا: الطعن في السُّنَّة وتشويهها، ومن ثم هدمها والقضاء على المصدر الثاني للتشريع الإسلامي -كل ذلك تحت شعار الاجتهاد والتجديد في الفكر وإحياء المناظرات واستمرار الحوار- حتى قال بعضهم:"هذه نماذج قليلة أقدمها للقراء، وليس في نيتي مطلقًا أن أشكك أحدًا في عقيدته، أو في المصدر الذي يستقي منه شريعته، ويشهد الله أن دافعي الأول لكتابة هذه السطور، هو إذكاء روح الاجتهاد الذي خمد في المسلمين، وأقعدهم عن البحث والنظر والاستقصاء، كما كان يفعل السلف الصالح، أما إذا أراد المرجفون والحاقدون والمحنطون أن يجهزوا طبول الحرب ضد هذه اليوميات، فأنا على استعداد لإغراقهم في بحر متلاطم من الأدلة والبراهين"1.
1 نقلًا عن مكانة الصحيحين "ص301".
ثم يدعي أن في الصحيحين أحاديث ضعيفة وموضوعة فيقول: "ولكي لا يكون كلامي هذا ثرثرة بلا صدى، وادعاء بلا بينة، فإنني سأسوق هنا نماذج قليلة من الأحاديث الضعيفة والموضوعة التي اتفق عليها البخاري ومسلم".
ثم يحلف أنه لا يريد التشكيك! 1
علمًا بأن الأحاديث التي زعم أنها ضعيفة أو موضوعة ليست في الصحيحين، ولا في الكتب الستة، وبعضها لا وجود له في كتب الحديث المعتمدة، وألصقها هو بالصحيحين افتراء وكذبًا، ولا غرابة في ذلك، فإن هذا الكاتب كان مُلحدًا -يعتقد أنه لا يزال كذلك- وصار بين عشية وضحاها من الحاملين للواء التجديد في الإسلام "فقهًا وأصولًا وقرآنًا وتفسيرًا وحديثًا وفكرًا" قاتلهم الله أنى يؤفكون.
وقال الشيخ الألباني: "والصحيحان هما أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى باتفاق علماء المسلمين من المحدثين وغيرهم، فقد امتازا على غيرهما من كتب السنة بتفردهما بجمع أصح الأحاديث الصحيحة، وطرح الأحاديث الضعيفة والمتون المنكرة، على قواعد متينة وشروط دقيقة، وقد وفقوا في ذلك توفيقًا بالغًا لم يوفق إليه من بعدهم، ممن نحا نحوهم في جمع الصحيح؛ كابن خزيمة وابن حبان والحاكم وغيرهم، حتى صار عرفًا أن الحديث إذا أخرجه الشيخان أو أحدهما فقد جاوز القنطرة ودخل في طريق الصحة والسلامة، ولا ريب في ذلك، وأنه هو الأصل عندنا"2.
وليت الألباني سكت عند هذا التصريح، وإنما أعقب ذلك ببيان أعلن فيه أن الصحيحين لا يسلمان من الغلط، وضرب لذلك مثلًا من الصحيحين، وهو حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم3.
1 مكانة الصحيحين "ص302، 303".
2 مقدمة شرح العقيدة الطحاوية "ص17".
3 خ "4/ 51 فتح""28" ك جزاء الصيد "12" ب تزويج المحرم - رقم "1837"، خ "9/ 165 فتح""67" ك النكاح، "30" ب نكاح المحرم، رقم "5114"، خ "7/ 509 فتح""64" ك المغازي "43" ب عمرة القضاء - رقم "4258 و4259". م "2/ 1031، 1032""16" ك النكاح "5" ب تحريم نكاح المحرم - رقم "46 و 47".
قال الألباني: "فإن المقطوع به أنه صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو غير محرم، ثبت ذلك عن ميمونة نفسها"، ثم نقل عن محمد بن عبد الهادي قوله: وقد عد هذه من الغلطات التي وقعت في الصحيح، وميمونة أخبرت أن هذا ما وقع، والإنسان أعرف بحال نفسه1.
قلت: هذا المثال الذي أتَى به الألباني عليه لا له، فهو من الأحاديث المشهورة التي وقع التجاذب بين مدلوليها، ومثالها لا يفيد العلم؛ لاستحالة أن يفيد المتناقضان العلم، وقد تكلم العلماء على هذا الحديث، واختلفوا فيه منذ القرن الأول2؛ ولكن الألباني أَبَى إلا أن يُطلق في موضع التقييد -وهو خطأ فادح- علمًا بأن جمعًا من العلماء جمعوا بين ما جاء في تزوج النبي صلى الله عليه وسلم من ميمونة وهو محرم، وبين نفيها رضي الله عنها ذلك، والجمع أولى من غيره، وهو سبيل أهل العناية والورع3، ونفى ابن حبان أن يكون تعارض بين هذه الأخبار فقال: وليس في هذه الأخبار تعارض4، وكان يجب على الألباني أن يذهب إلى هذا المذهب القوي دفاعًا عن الصحيحين، لا أن يتخذ هذا الحديث قنطرة لكلام على أسانيد الصحيحين حسبما يراه5 بجهده المتواضع6.
1 راجع: مقدمة شرح العقيدة الطحاوية "ص14، 15"، إرواء الغليل "حديث رقم 1021"، تنقيح التحقيق "2/ 104/ 1".
2 راجع: فتح الباري "9/ 165"، "4/ 52"، "7/ 510"، نيل الأوطار "5/ 17- 19"، نصب الراية "3/ 170- 174"، الأم "2/ 160"، الاعتبار للحازمي "ص 19"، الإحكام لابن حزم "2/ 214"، التمهيد "3/ 156"، معالم السنن بهامش سنن أبي داود "2/ 421، 422"، المجموع "7/ 395- 397"، شرح معاني الآثار "2/ 273"، المغني لابن قدامة "3/ 311- 313"، تنبيه المسلم "ص24".
3 راجع: تنبيه المسلم "ص24- 25"، وانظر: فتح الباري "9/ 165"، المغني "3/ 2103- 2109"، نصب الراية "3/ 173".
4 نقلًا عن نصب الراية "3/ 173".
5 تنبيه المسلم "ص25".
6 راجع تحقيق هذه المسألة في رسالتي للماجستير: مرويات الإمام البخاري في غير الصحيح - جمع وترتيب ودراسة "3/ 2103- 2109"، بكلية دار العلوم - جامعة القاهرة.
وأحاديث أخرى كثيرة -مما اتفق على روايتها الشيخان أو انفرد بها أحدهما- سمح الشيخ الألباني لنفسه وتلاميذه أن يقف منها موقف الناقد البصير1.
وادعى الدكتور حمزة عبد الله المليباري -في بحث له ضمن رسالة الدكتوراه له- أن في صحيح الإمام مسلم عللًا خطيرة تدمر صحة جملة كبيرة من أحاديثه، وأنه يجب الاستعانة لذلك بكتب علل الحديث2، ولا شك أنه ادعاء مغرض، هدفه النيل من السُّنة الصحيحة، ولكن هيهات لما يهدفون!
ومما يجب التنبيه عليه أن كل الطعون التي اعتمد عليها الطاعنون في بعض أحاديث الصحيحين -أو أحدهما- كلها مبينة على قواعد ضعيفة مخالفة لما اتفق عليه الجمهور من أهل الحديث والفقه والأصول، وعليه فإنها لا تضر بصحة هذه أحاديث، علمًا بأن أكثر هذه الطعون موجهة نحو الرواة لا المتون3.
وأما كون الانتقادات والطعون الموجهة إلى بعض أحاديث الصحيحين -أو أحدهما- مردودة جملة؛ فذلك لأمور كثيرة منها ما يلي4:
الأول: تعارض قول المنتقدين مع تصحيح الشيخين لأحديثيهما
قال الإمام البخاريث: "لم أخرج في هذا الكتاب إلا صحيحًا، وما تركت من صحيح أكثر"5، وقال:"ما أدخلت في كتابي إلا ما صح، وتركت من الصحاح لحال الطول6"، وقال:"أخرجت هذا الكتاب من زهاء ستمائة ألف حديث وجعلته حجة بيني وبين الله"7.
1 تناولت معظم هذه الأحاديث في رسالتي للدكتوراه: رجال الصحيحين في ميزان أئمة الجرح والتعديل - دراسة استيعابية - بدار العلوم أيضًا.
2 راجع: منهج الإمام مسلم "ص50".
3 راجع: هدى الساري "ص246" ط بولاق.
4 راجع: مكانة الصحيحين "ص314-326".
5 هدى الساري "ص7".
6 تهذيب الكمال "1/ 167، 168"، هدى الساري "ص7".
7 تاريخ بغداد "2/ 8"، تهذيب الأسماء واللغات "1/ 74"، هدى الساري "ص7".
وقال الإمام مسلم: "ليس كل شيء عندي صحيح وضعته هاهنا، إنما وضعت هاهنا ما أجمعوا عليه"1.
وقال: "ما وضعت شيئًا في كتابي هذا المسند إلا بحجة، وما أسقطت منه شيئًا إلا بحجة"2. وقال: "صنفت هذا الصحيح من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة"3.
فجزم الشيخان بصحة أحاديثهما، وأنها منتقاة ومنتخبة من مئات الألوف، وأنهما التزما الصحة، فلم يوردا إلا الصحيح من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الثاني: تعارض قول المنتقد مع ما اتُفِقَ عليه من أصحية الكتابين:
فقد انعقد الإجماع على صحة هذين الكتابين، وأنهما أصح كتابين بعد كتاب الله تعالى، وقد حَكَى هذا الإجماع جمع من الأئمة والحفاظ منهم:
الحافظ ابن حجر4، وشيخه سراج الدين البلقيني5، والحافظ ابن طاهر المقدسي6، وأبو بكر الجوزقي7، وأبو عبد الله الحميدي8، وابن تيمية9، والشوكاني10، والحافظ أبو نصر الوائلي السجزي 11، وابن الصلاح12، وأبو إسحاق الإسفرائيني13، والنووي14، وإمام الحرمين15، والسخاوي16،
1 م "1/ 304" ك الصلاة، ب التشهد - في حديث رقم "63".
2 تذكرة الحفاظ "2/ 590".
3 تذكرة الحفاظ "2/ 589".
4 هدى الساري "ص384".
5 محاسن الاصطلاح "ص101".
6-
9 النكت على ابن الصلاح "1/ 380".
10 إرشاد الفحول "ص50".
11 نقلًا عن مقدمة ابن الصلاح مع التقييد والإيضاح "ص38، 39".
12 مقدمة ابن الصلاح مع التقييد والإيضاح "ص38، 39"، شرح مسلم لابن الصلاح "ص85"، صيانة صحيح مسلم "ص85".
13 فتح المغيث للسخاوي "1/ 47"، توجيه النظر "ص85".
14 تهذيب الأسماء والصفات "1/ 73، 74"، شرح صحيح مسلم للنووي "1/ 14".
15 شرح مسلم للنووي "1/ 19- 20".
16 فتح المغيث له "1/ 297- 298".
والقسطلاني1، والسيوطي2، والشيخ أبو الفتح القشيري3.
فهؤلاء -وغيرهم- نقلوا الإجماع على صحة ما اتفق عليه الشيخان، وما انفرد به أحدهما من المسندات، قال الشوكاني:"ولا نزاع في أن خبر الواحد إذا وقع الإجماع على العمل بمقتضاه فإنه يفيد العلم؛ لأن الإجماع عليه قد صيره من المعلوم صدقه"4.
الثالث: تعارض قول المنتقد مع كون الأمة تلقت الكتابين بالقبول
قال الإمام أبو إسحاق الإسفرائيني: "أهل الصنعة مجمعون على أن الأخبار التي اشتمل عليها الصحيحان مقطوع بصحة أصولها ومتونها، ولا يحصل الخلاف بها بحال، وإن حصل فذاك اختلاف في طرقها ورواتها
…
فمن خالف حكمه خبرًا منها، وليس له تأويل سائغ للخبر نقضنا حكمه؛ لأن هذه الأخبار تلقتها الأمة بالقبول"5.
وقال ابن الصلاح: "جميع ما حكم مسلم بصحته في هذا الكتاب، فهو مقطوع بصحته، والعلم النظري حاصل بصحته في نفس الأمر، وهكذا ما حكم البخاري بصحته في كتابه؛ وذلك لأن الأمة تلقت ذلك بالقبول سوى من لا يعتد الخلافة
…
"6.
حتى أخبار الآحاد في الصحيحين -أو أحدهما - تلقتها الأمة بالقبول، وأجمع الأئمة من العلماء على صحتها7.
وذكر ابن تيمية -فيما حكاه عنه ابن كثير- أن جماعات من الأئمة نقل عنهم
1 مقدمة شرح صحيح البخاري له "ص20" في المجلد الأول.
2 شرح ألفية السيوطي في مصطلح الحديث "ص10".
3 هدى الساري "ص384"، مرقاة المفاتيح "1/ 17".
4 إرشاد الفحول "ص49" طبعة دار المعرفة - بيروت.
5 فتح المغيث للسخاوي "1/ 47"، توجيه النظر "ص125".
6 مقدمة ابن الصلاح مع التقييد والإيضاح "ص38، 39"، شرح مسلم لابن الصلاح " ص85".
7 راجع: النكت على ابن الصلاح لابن حجر "1/ 371-379".
القطع بأحاديث الشيخين، منهم: القاضي عبد الوهاب المالكي، والشيخ أبو إسحاق الإسفرائيني، والقاضي أبو الطيب الطبري، والشيخ أبو إسحاق الشيرازي، وابن حامد، وأبو يعلى بن الفراء، وأبو الخطاب، وابن الزاعون وأمثالهم من الحنابلة، وشمس الأئمة السرخس من الحنفية، قال:"وهو قول جمع من أهل الكلام من الأشعرية وغيرهم كأبي إسحاق الإسفرائيني وابن فورك، وأيضًا هو مذهب أهل الحديث قاطبة، ومذهب السلف عامة"1.
الرابع: تعارض قول المنتقد مع ما اتفق عليه من أن أصح الحديث المتفق عليه ثم ما انفرد به البخاري، ثم ما انفرد به مسلم
الإجماع على أن أصح الحديث وأعلى مراتبه ما اتفق عليه الشيخان، ويليه عند الجمهور ما انفرد به البخاري، ثم ما انفرد به مسلم، ثم ما كان على شرطهما.
قال الحافظ ابن الصلاح: "فأولها: صحيح أخرجه البخاري ومسلم جميعًا، والثاني: صحيح انفرد به البخاري؛ أي: عن مسلم. الثالث: صحيح انفرد به مسلم؛ أي: عن البخاري. الرابع: صحيح على شرطهما لم يخرجاه. الخامس: صحيح على شرط البخاري لم يخرجه. السادس صحيح على شرط مسلم لم يخرجه. السابع: صحيح عند غيرهما وليس على شرط واحد منهما. هذه أمهات أقسامه. وأعلاها -أي: أقسام الصحيح- الأول هو الذي يقول أهل الحديث كثيرًا: "صحيح متفق عليه" يطلقون ذلك ويعنون به اتفاق البخاري ومسلم، لا اتفاق الأمة عليه؛ لكن اتفاق الأمة عليه لازم من ذلك وحاصل معه لاتفاق الأمة على تلقي ما اتفقا عليه بالقبول، وهذ القسم جمعيه مقطوع بصحته والعلم اليقين النظري واقع به، خلافًا لقول من نفى ذلك محتجًّا بأنه لا يفيد في أصله إلا الظن، وإنما تلقته الأمة بالقبول؛ لأنه يجب عليهم العمل بالظن، والظن قد يخطئ، وقد كنت أميل إلى هذا وأحسبه قويًّا، ثم بان لي أن هذا المذهب الذي
1 راجع: اختصار علوم الحديث لابن كثير "ص34". ط دار الكتب العلمية، وتدريب الراوي "1/ 166".
اخترناه أولًا هو الصحيح؛ لأن ظن من هو معصوم من الخطأ لا يخطئ، والأمة في إجماعها معصومة من الخطأ
…
"1.
وعليه فيكون قول المنتقد متعارضًا مع ما اتفق عليه علماء الحديث، ويكون الطعن مدهشًا حين يُوجه إلى ما اتفق عليه الشيخان، وهو أعلى مراتب الصحيح، قال ابن تيمية:"والبخاري أحذق وأخبر بهذا الفن من مسلم؛ ولهذا لا يتفقان على حديث إلا يكون صحيحًا لا ريب فيه، قد اتفق أهل العلم على صحته"2.
الخامس: تعارض قول المنتقد مع ما اتفق عليه العلماء المعاصرون للشيخين على صحة الكتابين
لا يختلف اثنان في أن أعلم أهل الحديث دراية وجرحًا وتعديلًا وخبرة بعلل الحديث وطرقه هم الأئمة: يحيى بن معين، وعلي بن المديني، وأبو زرعة الرازي، وأحمد بن حنبل، كما أنهم من أعلم أهل الاستقراء والتتبع وجمع الطرق، وقد كان هؤلاء بمثابة الشيوخ والأقران للإمامين البخاري ومسلم؛ لأنهم كانوا معاصرين لهما، وقد عرض الشيخان صحيحيهما -بعد الانتهاء منهما- على هؤلاء وغيرهم من أئمة عصرهما، فأقروهما وشهدوا لهما بالصحة.
قال أبو جعفر محمود بن عمرو العقيلي: لما ألف البخاري كتاب الصحيح عرضه على أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني وغيرهم، فأستحسنوه، وشهدوا له بالصحة إلا في أربعة أحاديث. قال العقيلي:"والقول فيها قول البخاري، وهي صحيحة"3، وقال ابن تيمية نحوه4، وقال مكي بن عبد الله: سمعت مسلم بن الحجاج يقول: "عرضت كتابي هذا على أبي زرعة الرازي، فكل ما أشار أن له علة تركته"5، وقال الإمام مسلم: "ليس كل شيء
1 مقدمة ابن الصلاح "ص14" في النوع الأول.
2 مجموع الفتاوى "18/ 19 - 20".
3 هدى الساري "ص7" و "ص489".
4 مجموع الفتاوى "18/ 19"و "1/ 256".
5 هدى الساري "ص345".
صحيح وضعته هاهنا، إنما وضعت هاهنا ما أجمعوا عليه"1، قال سراج الدين البلقيني: "أراد مسلم بقوله: "ما أجمعوا عليه" أربعة: أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعثمان بن أبي شيبة، وسعيد بن منصور الخراساني"2.
وفي صنيع هذين الإمامين فائدة، وهي تواضع أهل العلم مع بعضهم، خاصة وأن الشيخين إمامان لا يباريان في هذا الميدان
…
كما أفاد إجماع هؤلاء الأئمة على صحة ما رواه الإمام البخاري سوى الأحاديث الأربعة التي كان القول فيها للإمام البخاري -رحمه الله تعالى- كما قرر العقيلي. وأما بالنسبة للإمام مسلم فقد ترك كل حديث كان عرضة للنقد، أو اطلع الأئمة على علة فيه، حتى صار كل ما بين دفتي كتابه مما خرجه في الأصول مجمعًا على صحته.
وهكذا كان هؤلاء الأئمة المعاصرون للشيخين بمثابة المراجعين والمنقحين مما يجعلنا نستريح للجزم بصحة ما اتفقا عليه، أو انفرد به أحدهما؛ لإجماع هؤلاء الأئمة على صحة ما جاء في الصحيحين أو أحدهما؛ لأن هؤلاء لا يجتمعون على خطأ.
فطعون المنتقدين لا تستحق الالتفات إليها أو الاهتمام بها؛ لأنها متعارضة مع تصحيح أسيادهم أئمة الجرح والتعديل والمجتهدين فيه، وخبراء الرواية والدراية والعلل والأسانيد، "وخاصة إذا علمنا أن من هؤلاء الأعلام المتشدد الذي يطعن بالغلطة والغلطتين والمتوسط المعتدل، وليس فيهم المتساهل، فقول هؤلاء أولى بالأخذ به، ويستدل بشهادتهم وإقرارهم وإستحسانهم على صحة هذه الأحاديث في هذين الكتابين"1.
السادس: تعارض قول المنتقد مع ورود هذه الأحاديث "المنتقدة" في المستخرجات سليمة من كل ما أُعلت به
وهذه فائدة من فوائد المستخرجات على الصحيحين، قال الحافظ ابن حجر:
1 صحيح مسلم "1/ 304"، ك الصلاة في الحديث رقم "63".
2 محاسن الاصطلاح "ص91".
"وكل علة أعل بها حديث في أحد الصحيحين جاءت رواية المستخرج سالمة منها، فهي من فوائده، وذلك كثير جدًّا".
والحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى- من أهل الاستقراء والتتبع والتحقيق الدقيق، وله دراية بالصحيح زادت على عشرات السنين، وقوله في هذا الباب حجة معتمدة
…
1.
فإن اتضح سلامة هذه الأحاديث من العلل الموجهة إليها، وذلك من خلال ورودها في هذه المستخرجات، وبان سلامتها من هذه الطعون، وزال اللبس عنها؛ كان ذلك مؤيدًا لما صرح به الشيخان من صحة كتابيهما، وانتفاء العلل عن أحاديثهما.
السابع: كون الشيخين مجتهدين، والمنتقد مقلد
إن مما اتفق عليه أهل العلم بالحديث أن البخاري ومسلمًا -رحمهما الله تعالى- كانا من أئمة المجتهدين في الجرح والتعديل وعلوم الحديث، وتمييز الصحيح من المعلول.
قال الحافظ ابن حجر: "لا ريب في تقديم البخاري، ثم مسلم على أهل عصرهما، ومن بعدها من أئمة هذا الفن في معرفة الصحيح والمعلل، فإنهم لا يختلفون في أن علي بن المديني كان أعلم أهل أقرانه بعلل الحديث، وعنه أخذ البخاري ذلك حتى كان يقول: ما استصغرت نفسي عن أحد إلا عند علي بن المديني، ومع ذلك، فكان علي بن المديني إذا بلغه ذلك عن البخاري يقول: دعوا قوله، فإنه ما رأى مثل نفسه، وكان محمد بن يحيى الذهلي أعلم أهل عصره بعلل حديث الزهري، وقد استفاد منه ذلك الشيخان جميعًا
…
"2.
بينما من جاء بعدهما، فالغالب عليهم التقليد لهما ولغيرهما من أهل
1 مكانة الصحيحين "ص323- 324".
2 هدى الساري "1/ 116".
عصرهما؛ وذلك لبعد العهد عن الرواة، وعدم المعاصرة للمجرحين والمعدلين، فينقلون كلام المتقدمين ثم يستنبطون منه القول الذي يعتمدونه، وإذا تعارض كلام المجتهد بكلام المقلد، فإن الأخذ بكلام المجتهد هو الأولى؛ لأن كلام المجتهد لا ينتقض بكلام المقلد1.
ومما يلفت النظر، أن نقد المنتقدين انصب على الأسانيد دون المتون، اللهم إلا في مواضع يسيرة. قال القسطلاني:"إن الدارقطني تتبع على البخاري في أزيد من مائة موضع، ولم يستطع أن يتكلم إلا في الأسانيد بالوصل والإرسال - غير موضع، وهو: "إذا جاء أحدكم والإمام يخطب فليصل ركعتين وليتجوز فيهما
…
" فإنه تكلم فيه مما يتعلق بحال المتن، ووجهه: أن الدارقطني يمشي على القواعد الممهدة عندهم فينازعه، من القواعد، وشأن البخاري أرفع من ذلك، فإنه يمشي على اجتهاده، وينظر إلى خصوص المقام وشهادة الوجدان، وإنما القواعد لغير الممارس على حد التحديد للعوام فيما لم يرد به التحديد من الشارع، ورتبتهما أعلى من الكل بعد اختلاف يسير بينهما"2 أي: البخاري ومسلم، وذكر الحافظ ابن حجر نحوه3.
فإذا عرف كل ما سبق وتقرر أنهما لا يخرجان من الحديث إلا ما لا علة له، أو له علة إلا أنها غير مؤثرة عندهما؛ اندفعت كل الانتقادات والطعون الموجَّهة إلى الصحيحين جملة.
- وذكر الحافظ ابن حجر العسقلاني أن الأحاديث المنتقدة على الصحيحين تنقسم أقسامًا:
القسم الأول منها: ما تختلف الرواة فيه بالزيادة والنقص من رجال الإسناد،
1 مكانة الصحيحين "ص324".
2 هدى الساري "ص345".
3 راجع: مكانة الصحيحين "ص325- 326".
فإن أخرج صاحب الصحيح الطريق المزيدة، وعلله الناقد بالطريق الناقصة، فهو تعليل مردود كما صرح به الدارقطني؛ لأن الراوي إن كان سمعه، فالزيادة لا تضر؛ لأنه قد يكون سمعه بواسطة عن شيخه، ثم لقيه فسمعه منه، وإن كان لم يسمعه في الطريق الناقصة، فهو منقطع، والمنقطع من قسم الضعيف، والضعيف لا يعل الصحيح، وإن أخرج صاحب الصحيح الطريق الناقصة وعلله الناقد بالطريق المزيدة تضمن اعتراضه دعوى انقطاع فيما صححه المصنف، فينظر إن كان ذلك الراوي صحابيًّا أو ثقة غير مدلس قد أدرك من روى عنه إدراكًا بينًا، أو صرح بالسماع إن كان مدلسًا من طريق أخرى، فإن وجد ذلك اندفع الاعتراض بذلك، وإن لم يوجد وكان الانقطاع فيه ظاهرًا، فمحصل الجواب عن صاحب الصحيح أنه إنما أخرج مثل ذلك في باب ما له متابع وعاضد، وما حفته قرينة في الجملة تقويه ويكون التصحيح وقع من حيث المجموع
…
وربما علل بعض النقاد أحاديث ادُّعي فيها الانقطاع لكونها غير مسموعة كما في الأحاديث المروية بالمكاتبة والإجازة، وهذا لا يلزم منه الانقطاع عند من يسوغ الرواية بالإجازة؛ بل في تخريج صاحب الصحيح لمثل ذلك دليل على صحة الرواية بالإجازة عنده.
القسم الثاني منها: ما تختلف الرواة فيه بتغيير رجال بعض الإسناد، فالجواب عنه إن أمكن الجمع بأن يكون الحديث عند ذلك الراوي على الوجهين جميعًا، فأخرجهما المصنف، ولم يقتصر على أحدهما حيث يكون المختلفون في ذلك متعادلين في الحفظ والعدد
…
وإن امتنع بأن يكون المختلفون غير متعادلين بل متقاربين في الحفظ والعدد، فيخرج المصنف الطريق الراجحة، ويعرض عن الطريق المرجوحة، أو يشير إليها
…
فالتعليل بجميع ذلك من أجل مجرد الاختلاف غير قادح؛ إذ لا يلزم من مجرد الاختلاف اضطراب يوجب الضعف، فينبغي الإعراض أيضًا عما هذا سبيله، والله أعلم.
القسم الثالث منها: ما تفرد بعض الرواة بزيادة فيه دون من هو أكثر عددًا، أو
أضبط ممن لم يذكرها، فهذا لا يؤثر التعليل به إلا أن كانت الزيادة منافية بحيث يتعذر الجمع، أما إن كانت الزيادة لا منافاة فيها بحيث تكون كالحديث المستقل فلا، اللهم إلا إن وضح بالدلائل القوية أن تلك الزيادة مدرجة في المتن من كلام بعض رواته، فما كان من هذا القسم فهو مؤثر.
القسم الرابع منها: ما تفرد به بعض الرواة ممن ضعف من الرواية، وليس في الصحيح من هذا القبيل غير حديثين
…
وتبين أن كلًّا منهما قد توبع.
القسم الخامس منها: ما حكم فيه بالوهم على بعض رجاله فمنه ما يؤثر ذلك الوهم قدحًا، ومنه ما لا يؤثر1.
1 مقدمة فتح الباري "ص57"، ط بولاق.