الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني: التدوين الشامل للسنة في هذا العصر ومنهج العلماء في التصنيف
بسبب المستجدات والملابسات التي ظهرت في عصر تابعي التابعين أمر الخليفة عمر بن عبد العزيز بتدوين السنة تدوينًا شاملًا؛ لتكون مجموعة في مصنفات يستفيد منها المسلمون، ولم يكن تدوينها من قبل بعض الصحابة والتابعين يرقى إلى مستويات المصنفات والمؤلفات1.
فقد روى الدارمي بسنده عن عبد الله بن دينار قال: كتب عمر بن عبد العزيز "ت101هـ" إلى أهل المدينة: أن انظروا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبوه؛ فإني خفت دروس العلم وذَهَاب أهله2.
وروى الدارمي أيضًا بسنده عن عبد الله بن دينار قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم: أن اكتب بما ثبت عندك من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبحديث عمر؛ فإني قد خشيت درس العلم وذهابه3.
قال البخاري: وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم رضي الله عنه "عامل المدينة": "انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبه؛ فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء، ولا تقبل إلا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولتُفْشُوا العلم، ولتجلسوا حتى يُعلَّم من لا يعلم، فإن العلم لا يهلك حتى يكون سرًّا"4.
1 راجع: المدخل إلى توثيق السُّنة "ص57".
2 سنن الدارمي "1/ 137" باب: من رخص في كتابة العلم - حديث "488"، والمحدث الفاصل "ص373، 374".
3 سنن الدارمي "1/ 137" باب: من رخص في كتابة العلم - حديث "487"، ونحوه في الموطأ رواية الشيباني - حديث رقم "389".
4 صحيح البخاري "3" كتاب العلم، في ترجمة الباب "34" كيف يقبض العلم؟
وامتثل العلماء لهذا الأمر، واهتموا بهذا النداء من أمير المؤمنين، وجَدُّوا في جمع الحديث الشريف، وكان محمد بن شهاب الزهري "ت124هـ" أول مَن حقق رغبته واستجاب لدعوته فقال:"أمرنا عمر بن عبد العزيز بجمع السنن فكتبناها دفترًا دفترًا، فبعث إلى كل أرض له عليها سلطانه دفترًا"1. وقال مرة أخرى: لقد أمرنا عمر بن عبد العزيز أن نجمع السنة، وتنفيذًا لهذا الأمر كتبنا الكتب العديدة، وأرسلت نسخًا لأجزاء مختلفة من الدولة2.
ووُجد في كل مدينة مَن يهتم بجمع الحديث والتصنيف في السُّنَّة:
ففي مكة: صنف في السُّنة ابن جريج "ت150هـ"، وسفيان بن عيينة "ت198هـ".
وفي المدينة: مالك بن أنس "ت179هـ"، ومحمد بن إسحاق "ت151هـ"، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب "ت157هـ".
وفي البصرة: الربيع بن صبيح "ت160هـ"، وسعيد بن أبي عروبة "ت156هـ"، وحماد بن سلمة "ت168هـ".
وفي اليمن: معمر بن راشد "95 - 153هـ".
وفي الشام: عبد الرحمن الأوزاعي "88 - 157هـ".
وفي الكوفة: سفيان الثوري "ت161هـ".
وفي خراسان: عبد الله بن المبارك "ت181هـ".
وفي واسط: هشيم بن بشير "ت183هـ".
وفي الرِّي: جرير بن عبد الحميد "ت188هـ".
1 جامع بيان العلم وفضله "1/ 76".
2 انظر: فتح الباري "1/ 57"، وفتح المغيث لولي الدين العراقي "ص239"، والأموال لأبي عبيد "ص578 - 580".
وفي مصر: عبد الله بن وهب "125- 179هـ".
ثم تلاهم كثير من أهل عصرهم ممن نسجوا على منوالهم1.
وكانت معظم مصنفات هؤلاء ومجاميعهم تضم الحديث الشريف وفتاوى الصحابة والتابعين، وأظهر مثال لذلك موطأ الإمام مالك الذي يجمع الحديث وفتاوى الصحابة والتابعين وعمل أهل المدينة2، غير أن الإمام مالكًا تحرَّى الصحة في موطئه فلم يُخرج فيه إلا صحيحًا، وما كان من مراسيل أو بلاغات ونحوها فقد وقف عليها الأئمة موصولة وصحيحة "أو حسنة" في مصنفات أخرى، وقد التزم الإمام مالك في الموطأ بتخريج روايات الثقات الذين لا ينزل حديثهم عن درجة الحسن بحال، وأما غير الإمام مالك -ممن صنفوا في عهده- فلم يلتزموا ذلك في مصنفاتهم.
وذكر الدكتور عجاج الخطيب أن أمير مصر عبد العزيز بن مروان "ت85هـ" والد "عمر" حاول التدوين الرسمي للسُّنَّة، وذلك حين بعث إلى عالم حمص التابعي الكبير "كُثير بن مرة الحضرمي" وكان أدرك سبعين بدريًّا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمص:"أن يكتب إليه بما سمع من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحاديثهم إلا حديث أبي هريرة فإنه عندنا"؛ ولكن المصادر لم تخبرنا عن امتثال كُثير لهذا الطلب
…
فيكون التدوين الرسمي في عهد ابنه عمر، ومن ذلك الوقت اهتم الرواة بالتدوين الذي شاع في أرجاء المدن الإسلامية.
1 المحدث الفاصل "ص611 - 613".
2 راجع: المدخل إلى توثيق السُّنَّة "ص59".