الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول
قرائن التعليل عند الإمام الدارقطني
تمهيد: أهمية معرفة قرائن التعليل
إنَّ دراسة قَرائن التعليل عند نقاد الحديث لمن أهم المهمات للباحث في علل الحديث فهي بمثابة العصب للجسد في معرفة العلل، وبها يعرف مقاصد أئمة التعليل في نقد الأخبار، فإن النَّاقد لا يحكم على الحديث بعلة إلا بعد التتبع الحثيث لمرويَّات الراوة، ثم معرفة ظروف تحمُّلهم وأدائهم للمرويَّات، ومقارنتها بغيرها من الروايات الثابتة، لاستخراج ما طرأ على الأخبار من الوهم والخطأ، أو تعمد التحريف وغيره من العلل.
ولا يتأتى ذلك إلا لمن طالت ممارسته لدراسة الأسانيد ومعرفة الرجال وأحوالهم، والخبرة في سبر الأخبار، والغوص في بحار علم العلل، وهؤلاء قليل من أهل الحديث لصعوبة الوصول لهذه المرتبة من العلم والخبرة والمعرفة، فالجهابذةُ النُّقادُ العارفون بعللِ الحديثِ أفرادٌ قليلٌ من أهل الحديث، وأوَّل من اشتهر في الكلام في نقد الحديث ابنُ سيرين، ثم خَلفه أيوب السختياني، وأخَذَ ذلك عنه شعبةُ، وأخذ عَنْ شعبة: يحيى القطان وابن مهدي، وأخذ عنهما: أحمدُ وعلى بنُ المديني وابنُ معين، وأخذ عنهم مثل: البخاريّ وأبي داود وأبي زرعة وأبي حاتم.
قال الحافظ ابن رجب في شرح العلل: " قال أبو حاتم: وجرى بيني وبين أبي زُرعة يوماً تمييز الحديث ومعرفته، فجعل يذكر أحاديث ويذكر عللها، وكنت أذكر أحاديث خطأ وعللها، وخطأ الشيوخ، فقال لي: يا أبا حاتم قل من يفهم هذا، ما أعز هذا!، إذا رفعت هذا عن واحد واثنين، فما أقل ما تجد من يحسن هذا! "(1).
(1) الحافظ ابن رجب: شرح علل الترمذي (ص195).
وقال ابن رجب أيضاً: " وذكر أبو حاتم شيئاً من معرفة الرجال فقال: ذهب الذي كان يحسن هذا - يعني أبا زرعة - ما بقي بمصر ولا بالعراق أحد يحسن هذا! "(1).
وَقَالَ الحافظ العلائيُّ: " وهذا الفنُ أغمضُ أنواعِ الحديثِ، وأدقها مسلكاً، ولا يقومُ بهِ إلاّ مَنْ منحه اللهُ فهماً غايصاً، واطلاعاً حاوياً، وإدراكاً لمراتب الرواة، ومعرفة ثاقبة، ولهذا لم يتكلم فيه إلَاّ أفراد أئمة هذا الشأنِ وحُذَّاقهم كابنِ المدينيّ، والبخاريّ، وأبي زرعة، وأبي حاتم وأمثالهم "(2).
وقَالَ الحافظ ابن رجب في فتح الباري بعد ذكره حديث: " مِن رواية أبي إسحاق، عن الأسود عن عائشة رضي الله عنها قالت:((كَانَ النَّبي صلى الله عليه وسلم يَنَامُ وَهُوَ جُنُبٌ، وَلَا يَمَسُّ مَاءً)) (3).
وهذا الحديث مما اتفق أئمة الحديث مِن السلف على إنكاره على أبي إسحاق، مِنهُم: إسماعيل بنِ أبي خالد، وشعبة، ويزيد بن هارون، وأحمد بنِ حنبل، وأبو بكر ابنِ أبي شيبة، ومسلم بنِ حجاج، وأبو بكر الأثرم، والجوزجاني، والترمذي، والدارقطني
…
وأمّا الفقهاء المتأخرون: فكثيرٌ منهم نظر إلى ثقةِ رجالهِ فظنَّ صحته، وهؤلاء يظنون أنَّ كلَّ حديثٍ رواه ثقة فهو صحيحٌ، ولا يتفطنون لدقائق علم علل الحديث " (4)
(1) الحافظ ابن رجب: شرح علل الترمذي (ص195).
(2)
الحافظ ابن حجر العسقلاني: النكت على كتاب ابن الصلاح (ج2/ ص377).
(3)
أخرجه الترمذي على الوجه المعلول: في السنن، كتاب الطهارة، باب ما جاء في الجنب ينام قبل أن يغتسل (ج1/ص202)، برقم (118)، وقال الترمذي:" وقد روى غير واحد عن الأسود عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((أنَّه كان يتوضأ قبل أن ينام))، وهذا أصح من حديث أبي إسحاق عن الأسود وقد روى عن أبي إسحق هذا الحديث شعبة والثوري وغير واحد، ويرون أن هذا غلط من أبي إسحاق ".
(4)
الحافظ ابن رجب: فتح الباري، طبعة مكتبة الغرباء الأثرية، المدينة النبوية، الطبعة الأولى سنة 1417هـ، تحقيق: محمد عوض المنفوش وجماعة، (ج1/ 362 - 363).
وقد لخص علماء الحديث الطرق التي كان أئمة العلل يَسْلُكُونها لمعرفة علة الحديث، فقال الخطيب البغدادي:" السبيل إلى معرفة علة الحديث أن يجمع بين طرقه وينظر في اختلاف رواته، ويعتبر بمكانتهم من الحفظ، ومنزلتهم في الإتقان والضبط "(1).
وقال ابن الصلاح رحمه الله: " ويستعان على إدراكها (أي العلة) بتفرد الراوي وبمخالفة غيره له، مع قرائن تنضم إلى ذلك، تنبه العارف بهذا الشأن على إرسال في الموصول أو وقف في المرفوع، أو دخول حديث في حديث، أو وهم واهم لغير ذلك، بحيث يغلب على ظنه ذلك، فيحكم به أو يتردد فيتوقف فيه، وكل ذلك مانع من الحكم بصحة ما وجد ذلك فيه"(2).
قلتُ: فهذه النصوص ترشد إلى الطرق التي كان الأئمة يعتبرونها في معرفة العلل، وقد لخصها ابن الصلاح في التفرد والمخالفة، مع قرائن تنضم إلى ذلك، ومما لا شك فيه أنَّ هذه القرائن كثيرة ومتنوعة، وليس لها قاعدة ثابتة، وغير منحصرة، وقد اجتهد جهابذة أهل الحديث في بيان قرائن التعليل الإسنادية والمتنية في مصنفات متفرقة، ولم أرَ من جمع مصنفاً فيه بيان القرائن التي اعتمد عليها أئمة التعليل، إلا إشارات قليلة في مصنفات أهل الحديث مثل: الحافظ ابن رجب الحنبلي في شرح علل الترمذي، وفتح الباري له، وكذلك الحافظ ابن حجر العسقلاني في النكت وفتح الباري له، والإمام ابن القيم وشيخه الإمام ابن تيمية في بعض مصنفاتهم، فظهر أنَّ دراسة قرائن التعليل والتمثيل لها من كلام أئمة النقد لمن أهم الأبحاث التي يمكن تحقيقها في هذا العلم؛ لأنَّ كتب العلل لا تذكر القرائن في غالب الأحيان، ولا تذكرها إلا بعبارات دقيقة لا يَفْهَمها إلا أصحاب هذا الشأن، وسوف أجتهد في تناول بعض قرائن التعليل في هذا الفصل إن شاء الله تعالى التي كان أئمة التعليل يستعملونها لمعرفة وتحديد العلل في الأخبار، وعلى رأسهم الإمام الدارقطني، نتلمس فيها منهجه وطريقته، والله الموفق لا رب سواه.
(1) العراقي: التقييد والإيضاح شرح مقدمة ابن الصلاح، (ص 117).
(2)
نفس المصدر: (ص116).