الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول: دلائل العلة
.
المطلب الأول: التفرد ودلالته كقرينة عند النُّقاد والدارقطني
.
التفرد من أهم الدلائل على العلة عند النُّقاد المتقدمين وعلى رأسهم الدارقطني، ولقد وصف الحافظ ابن رجب كيفية استعمال المتقدمين لدلالة التفرد فقال:" وأمَّا أكثر الحفاظ المتقدمين فإنهم يقولون في الحديث إذا تفرد به واحد - وإن لم يرو الثقات خلافه -: إنَّه لا يتابع عليه، ويجعلون ذلك علة فيه، اللهم إلا أن يكون ممن كثر حفظه واشتهرت عدالته وحديثه كالزهري ونحوه، وربما يستنكرون بعض تفردات الثقات الكبار أيضاً، ولهم في كل حديث نقد خاص، وليس عندهم لذلك ضابط يضبطه "(1).
فالتفرد ليس علةٌ في ذاته، وإنَّما يدل عَلَى وجود خللٍ ما في الخبر أو الرواية، وقد يحدث ذلك من الثقة أوالضعيف على السواء، قَالَ الإمام مُسْلِم بن الحجاج:" فليس من ناقل خبر وحامل أثر من السلف الماضين إلى زماننا - وإن كَانَ من أحفظ الناس وأشدهم توقياً وإتقاناً لما يحفظ وينقل - إلا الغلط والسهو ممكن في حفظه ونقله "(2).
وَقَالَ الترمذي: " وإنَّما تفاضل أهل العلم بالحفظ والإتقان والتثبت عند السماع، مع أنَّه لَمْ يسلم من الخطأ والغلط كبير أحد من الأئمة مع حفظهم "(3).
ثمَّ ساق الترمذي أمثلة من الروايَّات التي تبرهن عَلَى تفاوت أهل العلم في الحفظ، وتفاضلهم في الضبط وقلة الخطأ، ثُمَّ قَالَ:" والكلام في هَذَا والرواية عَنْ أهل العلم تكثر وإنما بيّنا شيئاً مِنْهُ عَلَى الاختصار ليُستدل بِهِ عَلَى منازل أهل العلم وتفاضل بعضهم عَلَى بعض في الحفظ والإتقان، ومن تُكلمَ فِيْهِ من أهل العلم لأي شيء تُكلمَ فِيْهِ "(4).
(1) ابن رجب: شرح علل الترمذي، (ص272 - 273).
(2)
الإمام مسلم: التمييز، (ص 124).
(3)
الإمام الترمذي: علل الترمذي الصغير آخر جامعه، (ج6/ص240).
(4)
المصدر السابق، (ج6/ص244).
والتفرد بالنسبة للثقة المشهور بالحفظ، وقلة الخطأ في مرويَّاته لا تضر، وقد أشار الإمام مسلم في صحيحه إلى هذه القاعدة فقال:" هَذَا الْحَرْفُ (يَعْنِي وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ تَعَالَ أُقَامِرْكَ فَلْيَتَصَدَّقْ)، لَا يَرْوِيهِ أَحَدٌ غَيْرُ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: وَلِلزُّهْرِيِّ نَحْوٌ مِنْ تِسْعِينَ حَدِيثًا يَرْوِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ أَحَدٌ بِأَسَانِيدَ جِيَادٍ "(1).
ولقد أكثر الإمام الدارقطني التعليل بالتفرد للدلالة على الخلل في الأخبار، فهو يسوق الطرق والخلاف ومن روى الحديث، ثُمَّ يشير إلى تفرد بعض الرواة في الرواية ولم يشاركه فيها أحد، ويطلق لفظة التفرد كما ذكرنا من قبل على رواية الثقة والضعيف، وليس كل تفرد عنده يُعِلّ الحديث، وأحياناً يصرح ويرجح الصواب كقوله:" تفرد به فلان، وغيره يرويه كذا، وهو الصواب "، وأحياناً أخرى لا يصرح بذلك، وسوف نضرب هنا بعض الأمثلة لتوضيح ذلك:
أولاً: النماذج التي صرح بها الدارقطني بالتعليل بالتفرد:
النوع الأول: ما تفرد به الثقة وأُعِلَّ بها:
المثال الأول: قال البرقاني في العلل: وسئل - الدارقطني -: " عن حديث شعبة، عن الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن أبي ذر رضي الله عنه: ((رَأَى رسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم شَاتَيِنِ تَنْتَطِحَان
…
)). فقال: تفرد به أبو داود (2)، عن شعبة، ولا يثبت عن الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه عن أبي ذر: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
الحديث" (3)
(1) الإمام مسلم: الجامع الصَّحِيْح (مع شرح النووي)، كتاب الإيمان، باب من حلف باللات والعزى، (ج6/ص119 - 120)، بعد حديث رقم (1647).
(2)
وهو سليمان بن داود بن الجارود، أبو داود الطيالسي البصري (ت:204 هـ)، من الطبقة التاسعة، ثقة حافظ، أخرج له الستة إلا البخاري تعليقاً، تهذيب التهذيب (ج4/ص160).
(3)
أبو الحسن الدارقطني: العلل، (ج6/ص 272)، سؤال رقم (1131).
قلتُ: وقرينة العلة التي صرح بها الدارقطني هي: تفرَّد أبي داود الطيالسي بهذا الحديث عن شعبه ولم يشاركه أحد في شيخه - وهو ثقة حافظ - ولا يقبل هذا وشعبة وهو ابن الحجاج إمام مكثر، وله أصحاب معرفون أثبات مقدمون على أبي داود الطيالسي، مثل: غُنْدر محمد بن جعفر وهو أثبت الناس في شعبة (1)، ثُمَّ معاذ بن معاذ وهو العنبري وغيرهم، إذ لو كان هذا الحديث محفوظاً عن شعبة لرواه هؤلاء، ولما تركه أصحابه المعروفون بالإتقان، فَعُلِمَ خطأ أبي داود الطيالسي في هذا الحديث، والله تعالى أعلم.
المثال الثاني: قال البرقاني في العلل: وسئل - الدارقطني -: " عن حديث أبي الأسود الدؤلي، عن أبي ذر رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((إِنَّ أَحْسَنَ مَا غُيِّرَ بِهِ الشَّيْبُ الْحِنَّاءُ وَالْكَتَمُ)) (2).
فقال - الدارقطني -: يرويه عبدالله بن بريدة واختلف عنه: فرواه سعيد الجريري عن عبدالله بن بريدة، عن أبي الأسود، عن أبي ذر. تفرد به معمر بن راشد عنه وأغرب به ورواه الأجلح بن عبدالله بن بريدة، واختلف عنه:
فرواه الثوري، وعليّ بن صالح، ويحيى القطان، وزهير بن معاوية، وعبدالرحمن بن مغراء أبو زهير، وغيرهم عن الأجلح، عن ابن بريدة، عن أبي الأسود، عن أبي ذر.
ورواه أبو حنيفة، عن الأجلح، واختلف عنه: فرواه المقري، عن أبي حنيفة، عن أبي حجية وهو أجلح، عن ابن بريدة، عن أبي الأسود، عن أبي ذر.
وكذلك رواه محمد بن الحسن، عن أبي حنيفة، وغيره يرويه عن أبي حنيفة، عن أبي حجية، عن أبي الأسود لم يذكر بينهما ابن بريدة، ورواه ابن عيينة، عن عبدالرحمن المسعودي، عن الأجلح، فقال: ابن بريدة، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم والصواب قول من قال: عن أبي الأسود
(1) ابن رجب: شرح علل الترمذي، (ص367 - 368).
(2)
أخرجه الترمذي على الوجه الصواب: في السنن، كتاب اللباس، باب الخضاب، (ج4/ص 232)، برقم (1753)، من طريق الأجلح عن عبدالله بن بريدة عن أبي الأسود عن أبي ذر به، وقال الترمذي:" هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ".
عن أبي ذر " (1).
المثال الثالث: قال البرقاني في العلل: وسئل - الدارقطني -: " عن حديث علقمة، عن عبدالله رضي الله عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم:((يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَائِمَاً)).
فقال - الدارقطني -: تفرد به يحيى بن عبد الملك بن أبي غنية (2)، عن الأعمش عن إبراهيم، ووهم فيه حدث به إسحاق بن موسى الأنصاري، وأبو بكر بن أبي شيبة عنه كذلك، وخالفهما زياد بن أيوب فرواه، عن ابن أبي غنية، عن الأعمش، عن إبراهيم وكذلك رواه أصحاب الأعمش عنه وهو صحيح " (3).
قلتُ: وقرينة العلة التي صرح بها الدارقطني هي: تفرد يحيى بن عبدالملك بن أبي غنية بهذا الحديث دون سائر أصحاب الأعمش الأثبات، بل وقد خالفوه في الحديث، فهذا دليل على الوهم والخطأ الذي وقع في روايته، وهذه قاعدة مطردة، ويظهر هنا واضحاً تصريح الدارقطني وتعليله الحديث بدلالة التفرد.
النوع الثاني: ما تفرد به الضعيف:
المثال الأول: قال البرقاني في العلل: وسئل - الدارقطني -: " عن حديث جابر بن عبدالله عن أبي بكر رضي الله عنه، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم:((أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْبَحْرِ، فَقَالَ: هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ)) (4).
فقال - الدارقطني -: هو حديث تفرد به عبدالعزيز بن أبي ثابت الزهري، وهو عبدالعزيز بن عمران بن عمر بن عبدالرحمن بن عوف مديني ضعيف الحديث، رواه عن إسحاق بن
(1) أبو الحسن الدارقطني: العلل، (ج6/ص277 - 279)، سؤال رقم (1136).
(2)
وهو يحيى بن عبد الملك بن حميد بن أبى غنية الخزاعي، أبو زكريا الكوفي (ت: مائة وبضع وثمانون هـ) صدوق، من الطبقة التاسعة من صغار أتباع التابعين، تهذيب التهذيب (ج6/ص 349).
(3)
أبو الحسن الدارقطني: العلل، (ج5/ص 137)، سؤال رقم (772).
(4)
أخرجه أحمد: في المسند، (ج3/ص373)، برقم (15054)، من طريق إسحاق بن حازم عن أبي مقسم قال: أبي يعني عبيدالله بن مقسم عن جابر بن عبدالله مرفوعاً نحواً به.
حازم الزيات، عن وهب بن كيسان، عن جابر، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم.
وإسحاق بن حازم هذا شيخ مديني ليس بالقوي، وقد اختلف عنه في إسناد هذا الحديث، فرواه أبو القاسم بن أبي الزناد، عن إسحاق بن حازم، عن عبيدالله بن مقسم عن جابر، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم. ولم يذكر فيه أبا بكر حدث به عنه كذلك أحمد بن حنبل، وقد روى هذا الحديث عن أبي بكر الصديق موقوفاً من قوله غير مرفوع إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم من رواية صحيحة عنه.
حدث به عبيدالله بن عمر عن عمرو بن دينار عن أبي الطفيل عن أبي بكر قوله. ورواه ابن زاطيا (1)، عن شيخ له من حديث عبيدالله بن عمر، عن عمرو بن دينار عن
أبي الطفيل، عن أبي بكر، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، ووهم في رفعه والموقوف أصح" (2).
قلتُ: قرينة التعليل في المثال السابق واضحة وهي ضعف راويه، والتفرد كذلك، من عبدالعزيز بن أبي ثابت الزهري (3) وهو متروك، والجدير بالذكر أنَّ الإمام الدارقطني متوسع في ذكر العلل الموجودة في الحديث، وكثرة الطرق للحديث مما يجعل كتاب العلل من أفضل الكتب التي تكلمت في هذا الفن، والله أعلم.
ثانياً: النماذج التي لم يصرح بها الدارقطني بالتعليل بالتفرد ولكنه أشار إليها:
المثال الأول: قال البرقاني في العلل: "وسئل - الدارقطني -: عن حديث عمرو بن حريث المخزومي، عن أبي بكر رضي الله عنه، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم: ((أَنَّ الدَّجَّالَ يَخْرُجُ مِنْ أَرْضٍ بِالْمَشْرِقِ يُقَالُ لَهَا خُرَاسَانُ
…
)) (4).
(1) وهو أَبُو الحَسَنِ عَلِيُّ بنُ إِسْحَاقَ بنِ عِيْسَى بنَ زَاطِيَا المُخَرِّمِيُّ البَغْدَادِيُّ (ت: 306هـ) المحدث قال أَبُو بَكْرٍ بنُ السُّنِّي: " لَا بَاسَ بِهِ "، سير أعلام النبلاء (ج14/ص254).
(2)
أبو الحسن الدارقطني: العلل، (ج1/ص220 - 221)، سؤال رقم (26).
(3)
هو عبدالعزيز بن عمران بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف القرشي، يعرف بابن أبى ثابت، (ت: 197 هـ)، متروك، أخرج له الترمذي، تهذيب التهذيب (ج6/ص 312).
(4)
أخرجه أحمد على الوجه المعلول: في المسند، (ج1/ص4)، من طريق روح قال ثنا بن أبي عروبة عن أبي التياح عن المغيرة بن سبيع عن عمرو بن حريث عن أبي بكر الصديق به، وتمامه " أَنَّ الدَّجَّالَ يَخْرُجُ مِنْ أَرْضٍ بِالْمَشْرِقِ يُقَالُ لَهَا خُرَاسَانُ يَتَّبِعُهُ أَقْوَامٌ كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الْمَجَانُّ الْمُطْرَقَةُ ".
فقال - الدارقطني -: هو حديث يرويه أبو التياح عن المغيرة بن سبيع عن عمرو بن حريث حدث به عبد الله بن شوذب عن أبي التياح ورواه سعيد بن أبي عروبة عن أبي التياح تفرد به روح بن عبادة عن سعيد، ويقال إن سعيد بن أبي عروبة إنما سمعه من عبدالله بن شوذب عن أبي التياح، ودلسه عنه وأسقط اسمه من الإسناد
…
وأصحها إسناداً حديث ابن شوذب عن أبي التياح، وروى عن الحسن بن دينار فيه إسناد آخر عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس عن أبي بكر موقوفا ولا يثبت عن قتادة " (1).
قلتُ: وقرينة التعليل التي أشار إليها الدارقطني تفرد روح بن عبادة (2)، عن سعيد بن أبي عروبة بالحديث، ولم يشاركه فيه كبار تلامذة ابن أبي عروبة مثل: يزيد بن زُرَيْع وهو أثبت الناس في سعيد ابن أبي عروبة (3)، وخالد بن الحارث، ويحيى بن سعيد، وغيرهم، وإنَّما يأتي روح بن عبادة بعدهم في المرتبة، فكيف يتفرد بحديث عن ابن أبي عروبة دون هؤلاء الأثبات؟، وقد أشرنا إلى هذه القاعدة من قبل، فظهر بذلك قرينة التعليل التي اعتمد عليها الدارقطني ولم يصرح بها، والله تعالى أعلى وأعلم.
المثال الثاني: قال البرقاني في العلل: وسئل - الدارقطني -: " عن حديث عروة بن الزبير عن سعيد بن زيد رضي الله عنه، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم:((مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ وَلَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ)) (4).
(1) أبو الحسن الدارقطني: العلل، (ج1/ص 275)، سؤال رقم (68).
(2)
هو روح بن عبادة بن العلاء بن حسان بن عمرو بن مرثد القيسي، أبو محمد البصري (ت: 205 أو 207 هـ)، ثقة فاضل له تصانيف، الطبقة التاسعة من صغار أتباع التابعين، أخرج له الستة، تهذيب التهذيب (ج3/ص 253).
(3)
ابن رجب: شرح علل الترمذي، (ص396).
(4)
أخرجه أبو داود على الوجه المعلول: في السنن كتاب الخراج والإمارة والفيء، بَاب فِي إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ، (ج2/ص 194)، برقم (3073)، من طريق عبد الوهاب - يعني الثقفي - حدثنا أيوب عن هشام بن عروة عن أبيه عن سعيد بن زيد به.
فقال - الدارقطني -: يرويه أيوب السختياني، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن سعيد بن زيد، تفرد عبدالوهاب الثقفي عنه (1)، واختلف فيه على هشام بن عروة فرواه الثوري، عن هشام، عن أبيه، قال: حدثني من لا أتهم عن النبي صلى الله عليه وسلم وتابعه جرير بن عبدالحميد، وقال يحيى بن سعيد الأنصاري، ومالك بن أنس، وعبدالله بن إدريس، ويحيى بن سعيد الأموي، عن هشام، عن أبيه مرسلاً. وروى عن الزُّهري عن عروة، عن عائشة. قاله سويد بن عبدالعزيز، عن سفيان بن حسين
…
" (2)
قلتُ: والعلة التي أشار إليها الدارقطني هي تفرد عبدالوهاب وهو ابن الصلت أبو محمد البصري، برواية هذا الحديث عن أيوب السختياني.
ولم يشاركه فيه الأثبات من أصحاب أيوب السختياني مثل: حماد بن زيد وهو أثبت الناس فيه (3)، وإسماعيل ابن عُلية وعبدالوارث، بل قال ابن معين:" عبدالوارث مثل حماد، وهو أحب إلىَّ في أيوب من الثقفي وابن عيينة "(4)، وقد أشار البزار إلى علة هذا الإسناد، فقال بعد أن ساق حديث عبدالوهاب الثقفي:"وهذا الحديث قد رواه جماعة، عن هشام بن عروة، عن أبيه مرسلاً، ولا نحفظ أحداً، قال: عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن سعيد بن زيد إلا عبدالوهاب، عن أيوب "(5)، وبهذا يُعلم وجه التساهل فيمن صحح هذا الإسناد مثل العلامة الألباني رحمه الله في صحيح أبي داود (6).
(1) وهو عبدالوهاب بن عبدالمجيد بن الصلت الثقفي (ت: 194 هـ)، ثقة تغير، من الطبقة الثامنة من الوسطى من أتباع التابعين، أخرج له الستة، تهذيب التهذيب (ج6/ص 397).
(2)
أبو الحسن الدارقطني: العلل، (ج4/ص 414)، سؤال رقم (665).
(3)
ابن رجب: شرح علل الترمذي، (ص365).
(4)
ابن رجب: شرح علل الترمذي، (ص367).
(5)
البزار: في المسند (البحر الزَّخار)، (ج4/ص55)، برقم (1121).
(6)
الألباني: محمد بن ناصر الدين الألباني (ت: 1420هـ)، صحيح أبي داود (باختصار السند) طبعة مكتب التربية العربي لدول الخليج، الرياض، (ج2/ص594)، برقم (2638).
وقد ثبت موقوفاً من قول عمر رضي الله عنه، وأشار إلى ذلك البخاري تعليقاً فقال:" وَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ، وَيُرْوَى عَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ فِي غَيْرِ حَقِّ مُسْلِمٍ وَلَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ فِيهِ حَقٌّ وَيُرْوَى فِيهِ، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم"(1).
فظهر صواب من أعلّ هذا الإسناد بدلالة التفرد، بخلاف من صححه، فإنه نظر لثقة رواته، وجاء بمتابعات لا تصلح لأن تكون شاهداً يُعتَضد به هذا الحديث، فحكم بصحته، وقد صحح قوم أحاديث كثيرة بهذه الطريقة، وهي في واقع أمرها إما معلولة أو شاذة تبعاً لحكم كبار النُّقاد عليها وسوف نوضح ذلك في النماذج التالية.
نموذج من تعليل النُقاد بدلالة قرينة التفرد:
لقد أكثر النُّقاد التعليل بالتفرد للدلالة على الخلل في الحديث، وأطلقوا لفظة التفرد على رواية الثقة والضعيف على السواء، أو قولهم: "لم يروه عن فلان إلا فلان، وغيرها من الألفاظ التي تدل على التفرد، وسوف نضرب مثالاً يوضح ذلك من مصنفاتهم:
قَالَ ابن عَدى في الكامل: " قال البخاري: سمعت أحمد بن حفص السعدي يقول: قيل لأحمد بن حنبل رحمة الله عليه (يعني وهو حاضر) حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((إِذَا كَانَ النِّصْفُ مِنْ شَعْبَانَ فَلَا يَصَوْمَ أَحَدٌ حَتَّى يَصَوْمَ رَمَضَانُ)) (2).
(1) البخاري: الجامع الصحيح (مع الفتح)، كتاب الحرث والمزارعة، بَاب مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَوَاتًا (ج5/ص22)، قال الحافظ في الفتح:" وَصَلَهُ مَالِك فِي " الْمُوَطَّأ " عَنْ اِبْن شِهَاب عَنْ سَالِم عَنْ أَبِيهِ مِثْله، وَرَوَيْنَا فِي " الْخَرَاج لِيَحْيَى بْن آدَم " سَبَب ذَلِكَ فَقَالَ: " حَدَّثَنَا سُفْيَان عَنْ الزُّهْرِيّ عَنْ سَالِم عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ النَّاس يَتَحَجَّرُونَ - يَعْنِي الْأَرْض - عَلَى عَهْد عُمَر رضي الله عنه، قَالَ: مَنْ أَحْيَا أَرْضًا فَهِيَ لَهُ، قَالَ يَحْيَى: كَأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلهَا لَهُ بِمُجَرَّدِ التَّحْجِير حَتَّى يُحْيِيهَا ".
(2)
أخرجه الترمذي: في السنن، كتاب الصوم، باب ما جاء في كراهية الصوم في النصف الثاني من شعبان لحال رمضان، (ج3/ص 115)، برقم (738)، وأبو داود: في السنن، كتاب الصوم، باب في كراهية ذلك، (ج1/ص 713)، برقم (2337)، وابن ماجه: في السنن، كتاب الصوم، باب ما جاء في النهي عن أن يتقدم رمضان بصوم إلا من صام صوما فوافقه، (ج1/ص 528)، برقم (1651)، ثلاثتهم وغيرهم من طريق الْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ نحواً منه.
قَالَ: ذَاكَ أي ضَعِيفٌ، ثم قال: حديث العلاء كان يرويه وكيع عنه أبي العميس، عن العلاء وابن مهدي فكان يرويه ثم تركه، قيل عن من كان يرويه؟، قال: عن زهير ثم قال: ((إنَّ رسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ يَصِلُهُ بِرَمَضَانَ)) " (1).
وقَالَ أَبو دَاود: " وَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ لَا يُحَدِّثُ بِهِ قُلْتُ: لأَحْمَدَ لِمَ قَالَ؛ لأَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ ((أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَصِلُ شَعْبَانَ بِرَمَضَانَ))، وَقَالَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خِلَافَهُ.
قال أبو داود: وليس هذا عندي خلافه ولم يجئ به غير العلاء عن أبيه " (2).
وقال الحافظ ابن رجب: فى لطائف المعارف: " صححه الترمذى، وابن حبان، والحاكم، والطحاوى، وابن عبد البر، وتكلم فيه من هو أكبر من هؤلاء وأعلم، وقالوا هو حديث منكر، منهم عبدالرحمن بن مهدى، والإمام أحمد، وأبو زرعة الرازى، والأثرم وقال الإمام أحمد: "لم يرو العلاء حديثاً أنكر منه، ورده بحديث لاتقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين ". وقال الأثرم:" الأحاديث كلها تخالفهُ ".
ثم قال ابن رجب: " فصار الحديث شاذاً مخالفاً للأحاديث الصحيحة، وقال الطحاوى منسوخ وحكى الإجماع على ترك العمل به، وأكثر العلماء على أنَّه لا يعمل به "(3).
وقال الحافظ ابن حجر العسقلانى: " قال أبو داود: سهيل أعلى عندنا من العلاء، أنكروا على العلاء صيام شعبان يعنى حديث إذا انتصف شعبان فلا تصوموا"(4).
وقَالَ المنَاوي فى فيض القدير: " وقال الترمذي حسن صحيح وتبعه المؤلف فرمز لحسنه، وتعقبه المغلطاي لقول أحمد: هو غير محفوظ، وفي سنن البيهقي عن أبي داود عن أحمد منكر،
(1) ابن عدي: في الكامل في ضعفاء الرجال، (ج3/ص218)، ترجمة رقم (714).
(2)
أبو داود: في السنن، كتاب الصوم باب في كراهية ذلك، (ج1/ص 713)، برقم (2337).
(3)
ابن رجب: لطائف المعارف، طبعة دار الفتح القديمة، القاهرة (دت)، (ص142).
(4)
ابن حجر العسقلاني: تهذيب التهذيب، (ج8/ص166)، ترجمة رقم (336).
وقال ابن حجر وكان ابن مهدي يتوقاه " (1).
ثُمَّ وجدتُ عند الطبراني مُتابِعاً للعَلاءِ بن عَبْدالرَّحمن عن أبيه، فقال:((حَدَّثَنَا أحمد بن مُحَمَّد بن نافع، قَالَ: أَخْبَرَنَا عبيدالله بن عَبْدالله المنكدري، حَدَّثَنِي أبي، عن أبيه، عن جده، عن عَبْدالرحمن بن يعقوب الحرقي، عن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُوْل الله صلى الله عليه وسلم: ((إذَا انْتَصَفَ شَعْبَانٌ فَأَفْطِرُوا)).
قَالَ الطبراني عقبه: " لَمْ يروِ هَذَا الْحَدِيْث عن مُحَمَّد بن المنكدر إلا ابنه المنكدر، تفرد بِهِ ابنه: عَبْدالله "(2).
وهَذَه المتابعة لا يعتبر بها؛ لجهالة شيخ الطبراني، وَهُوَ: أحمد بن مُحَمَّد بن نافع، قال الذهبي في الميزان:" لا أدري مَنْ ذا؟ ذكره ابن الجوزي مرة وَقَالَ: اتهموه. كَذَا قَالَ لَمْ يزد "(3). وعبدالله بن المنكدر، قَالَ الذهبي:"فِيْهِ جهالة، وأتى بخبر منكر"(4).
قلتُ: وقد تكلف بعض النَّاس الجمع بين هذا الحديث والأحاديث المعارضة له، ولايصح الجمع بين الروايات، وقد ثبت خطأ العلاء بن عبدالرحمن (5) فيه، وطالما أنَّ هناك اختلافاً شاذاً من فرد عن الجماعة، وإن كان ثقة، بل العبرة بثبوت الرواية أولاً، ثم الجمع بين الرويات إن أمكن ذلك، وإلا فالترجيح، وكما قالوا قديماً أثبت العرش ثم انقش.
(1) المناوي: محمد عبد الرؤوف بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري (ت: 1031هـ)، فيض القدير، طبعة دار الكتب العلمية بيروت، سنة 1415هـ، تحقيق: أحمد عبدالسلام (ج1/ص391).
(2)
الطبراني: المعجم الأوسط، (ج2/ص 264)، رقم (1936).
(3)
الذهبي: ميزان الاعتدال، (ج1/ص146)، ترجمة رقم (568).
(4)
المصدر السابق، (ج2/ص 508)، ترجمة رقم (4627).
(5)
العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب الحرقي، أبو شبل المدني (ت: مائة وبضع وثلاثون هـ)، صدوق ربما وهم، من الطبقة الخامسة من صغار التابعين، أخرج له الستة إلا البخاري فقد أخرج له في جزء القراءة خلف الإمام، تهذيب التهذيب (ج8/ص 166)، ترجمة رقم (336).