الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: الأجناس التي لم يذكرها الحاكم وأمثلتها عند الدارقطني في كتاب العلل
سنتعرض في هذا المبحث لأجناس العلل الأخرى من جهة الإسناد عند الإمام الدارقطني في كتابه العلل، والتي لم يذكرها أبو عبدالله الحاكم، وهذه الأجناس جاءت نتيجة للسبر ولدراسة الأنواع المختلفة التي في إجابات السؤالات في كتاب العلل، ولا أدعي أنَّي قد حصرت جميع الأجناس في العلل، وإنَّما هي محاولة لبيان منهج الدارقطني في هذه الأجناس
الجنس الأول: علة إبدال جزء من الإسناد أو إبدال راوٍ مكان آخر.
المثال الأول: قال الإمام البرقاني: " وسئل - الدارقطني - عن حديث ابن أكيمة الليثي، عن أبي هريرة في القراءة خلف الامام (1).
فقال - الدارقطني -: يرويه الزهري واختلف عنه فرواه مالك، ومعمر، ويونس والزبيدي، وابن جريج، وعبد الرحمن بن إسحاق، والليث بن سعد، وابن أبي ذئب، وابن عيينة عن الزهري، عن ابن أكيمة (2)، عن أبي هريرة، وخالفهم الأوزاعي رواه عن الزهري عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة ووهم فيه، وإنَّما هو عن الزهري قال سمعت ابن أكيمة يحدث عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، كذلك قال: يونس وابن عيينة عن الزهري حديثهما، وكذلك روي عن النعمان بن راشد، عن الزهري، عن سعيد عن أبي هريرة
…
" (3).
(1) أخرجه الترمذي: في السنن، كتاب الصلاة، بَاب مَا جَاءَ فِي تَرْكِ الْقِرَاءَةِ، (ج1/ص118) برقم (312)، والنسائي: في السنن، كتاب الافتتاح، تَرْكُ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الإِمَامِ، (ج2/ ص478) برقم (918)، وأبو داود: في السنن، كتاب الصلاة، بَاب مَنْ كَرِهَ الْقِرَاءَةَ، (ج1/ ص278)، برقم (826)، ثلاثتهم من طريق عن الزهري، عن ابن أكيمة اللَّيْثِيِّ، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
هو عمارة بن أكيمة الليثى ثم الجندعي، أبو الوليد المدني، وقيل اسمه عمار أو عمرو أو عامر (ت: 101 هـ)، ثقة من الطبقة الثالثة، الوسطي من التابعين، أخرج له الأربعة في السنن، هذا الحديث، وليس له غيره عن الزهري، تهذيب التهذيب (ج7 / ص359).
(3)
أبو الحسن الدارقطني: العلل، (ج9 /ص 55 - 57)، برقم السؤال (1640).
قلتُ: والعلة التي أشار إليها الدارقطني هي: خطأ الإمام الأوزاعي في رواية هذا الحديث، فإنَّه خالف يونس وابن عيينة في إبدال راوٍ مكان آخر، فقال: عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة ووهم في ذلك؛ لأنَّ الحديث معروف ومشهور من طريقين عن الزهري، عن ابن أكيمة اللَّيْثِيِّ، عن أبي هريرة، وكذلك عن الزهري، عن ابن أكيمة اللَّيْثِيِّ، عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عند الثقات، وكلا الطريقين ثابت عند المحدثين، وحجة الإمام الدارقطني أنَّ يونس وابن عيينة قد رَويا الطريقين عن الزهري، وهما من أثبت الناس في الزهري كما بينَّا من قبل، والله الهادي إلى سواء السبيل.
المثال الثاني: قال الإمام البرقاني: " وسئل - الدارقطني - عن حديث الحارث عن علي رضي الله عنه: ((أُمِرْتُ بِأَرْبَعٍ أَنْ لَا يَقْرَبَ الْبَيْتَ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، أَنْ لَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَاّ نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ)) (1).
فقال - الدارقطني -: هو حديث رواه معمر، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي ورواه الثوري، عن أبي إسحاق، عن بعض أصحابه، عن علي ورواه ابن عيينة وأبو شيبة وغيرهما، عن أبي إسحاق، عن زيد بن يثيع، عن علي هو المحفوظ، حدثنا أحمد ابن محمد بن الجراح، ثنا أحمد بن منصور، ثنا عبيد الله بن موسى، ثنا سفيان عن أبي إسحاق، عن بعض أصحابه، عن علي قال:((لَمَّا بَعَثَنِي رسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِبَرَاءَةٍ إِلَى مَكْةَ أَمَرَنِي أَنْ لَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَلَا يَحُجُّ مُشْركٌ بَعَدَ عَامِهِ، وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَاّ نَفْسٌ مُؤْمِنَةٌ وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَهْدٌ فَهُوَ إِلَى مُدَّتِهِ)) " (2).
(1) أخرجه الترمذي بالوجه الصحيح: في السنن، كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة التوبة، (ج5/ص 276) برقم (3092)، من طريق عن أبي إسحق عن زيد بن يثيع قال سألنا علياً نحوه.
(2)
أبو الحسن الدارقطني: العلل، (ج3 / ص164)، برقم السؤال (329).
قلتُ: والعلة التي أشار إليها الدارقطني هي: إبدال الحارث وهو ابن عبدالله الهمداني الخارفي الأعور وهو متهم بالكذب (1)، بدلاً من زيد بن يثيع وهو من الثقات (2)، وقد رجح الإمام الدارقطني رواية سفيان بن عيينة وغيره، عن أبي إسحاق، عن زيد بن يثيع، عن علي، وحجته في ذلك رواية جمع من الثقات الحديث بهذا الإسناد.
المثال الثالث: قال الإمام البرقاني: " وسئل - الدارقطني - عن حديث محمد بن زياد عن أبي هريرة رضي الله عنه، قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ((مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ حَفِظَهُ فَكَتَمَهُ أُلْجِمَ بِلِجَامٍ مِنْ نَّارِ)) (3).
فقال - الدارقطني -: يرويه عمارة بن زاذان، وقد اختلف عنه.
فرواه يحيى بن إسحاق السيلحيني عن عمارة بن زاذان عن علي بن الحكم عن محمد بن زياد عن أبي هريرة، ووهم فيه.
وإنَّما رواه عمارة بن زاذان عن علي بن الحكم عن عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة.
وكذلك رواه مالك بن دينار، وليث بن أبي سليم، وسعيد بن راشد، والعلاء بن خالد عن عطاء عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو المحفوظ.
(1) قال ابن حجر العسقلاني: " قال الجوزجاني: سألت علي بن المديني عن عاصم والحارث فقال: مثلك يسأل عن هذا الحارث كذاب"، وذكر عن الشعبي أنه كذبه" تهذيب التهذيب (ج2/ص126).
(2)
هو زيد بن يثيع، ويقال اثيع الهمداني الكوفي، قال العجلي كوفي تابعي ثقة وقال: ابن سعد كان قليل الحديث، وذكره ابن حبان في الثقات، تهذيب التهذيب (ج3/ص 369).
(3)
أخرجه الترمذي: في السنن، كتاب العلم، باب ما جاء في الاستيصاء بمن طلب العلم (ج5 /ص29)، برقم (2649)، وأبو داود في السنن، كتاب العلم، باب كراهية منع العلم، (ج2 /ص 345)، برقم (3658)، كلاهما من طريق علي بن الحكم عن عطاء عن أبي هريرة نحوه.
وكذلك رواه حماد بن سلمة عن علي بن الحكم عن عطاء، وهو المحفوظ " (1).
قلتُ: والعلة التي أشار إليها الدارقطني هي: إبدال محمد بن زياد (2)، بدلاً من عطاء بن أبي رباح (3) في الإسناد، وقد رجح الإمام الدارقطني عن عطاء بن أبي رباح، وحجته مخالفة يحيى بن إسحاق السيلحيني وهو ثقة (4)، وذلك لرواية جمع من الثقات عن عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة كما هو واضح في المثال، والله سبحانه الموفق.
الجنس الثاني: علة الخطأ في تسمية الصحابي خلاف الصحيح الثابت:
وهذه العلة تنشأ عن الوهم والخطأ في اسم الصحابي، ولقد اهتم النقاد بهذا النوع كثيراً وربما يستغرب البعض لماذا كل هذا الاهتمام وجميع الصحابة عدول؟، والجواب: ليس كل التابعين أدرك الصحابة، فإنَّ طاوساً تابعي جليل، لكنه لم يدرك معاذ بن جبل رضي الله عنه كما ذكرنا من قبل، وكذلك ليس كل من أدرك الصحابة سمع منهم، فمثلاً سماع أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود من أبيه غير صحيح على الرغم من أنَّه أدركه، وكذا سلمة بن دينار لم يسمع من أبي هريرة شيئا، والحسن البصري لم يسمع من أسامة ابن زيد شيئاً، فلهذا السبب كان معرفة الصحابي المقصود في الإسناد على غاية من الأهمية للحكم على صحة الحديث فانظر لدقة نظر هؤلاء القوم، وثاقب فهمهم.
وقد أعل الدارقطني بهذه العلة جملة من الأحاديث نذكر منها على سبيل المثال:
المثال الأول: قال الإمام البرقاني: " وسئل - الدارقطني - عن حديث ربعي بن حراش عن عبدالله رضي الله عنه، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم: ((قَالَ ثَلَاثَةٌ يُحِبُّهُمُ اللَّهُ رَجُلٌ قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَتْلُو كِتَابَ اللَّهِ،
(1) أبو الحسن الدارقطني: العلل، (ج10/ص67 - 68)، برقم السؤال (1872).
(2)
محمد بن زياد القرشي الجمحي مولاهم، أبو الحارث المدني (ت:؟)، من الطبقة الثالثة الوسطى من التابعين، ثقة ثبت أخرج له الستة، تهذيب التهذيب (ج9/ص149).
(3)
عطاء بن أبي رباح، واسمه أسلم القرشي مولاهم أبو محمد المكي (114هـ)، حجة إمام كبير الشأن، أخرج له الستة، تهذيب التهذيب (ج7/ ص179 - 183).
(4)
ابن حجر العسقلاني: تهذيب التهذيب (ج11/ص 155).
وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ صَدَقَةً بِيَمِينِهِ يُخْفِيهَا مِنْ شِمَالِهِ وَرَجُلٌ كَانَ فِي سَرِيَّةٍ
…
)) (1) الحديث
فقال - الدارقطني -: يرويه أبو بكر بن عياش عن الأعمش عن منصور عن ربعي عن ابن مسعود، ووقع في وهم، وليس هذا من حديث ابن مسعود وإنَّما هو من حديث أبي ذر رضي الله عنه
…
، ورواه شعبة عن منصور عن ربعي عن زيد بن ظبيان عن أبي ذر، وقال جرير عن منصور عن ربعي عن زيد بن ظبيان أو غيره عن أبي ذر وهو المحفوظ" (2).
قلتُ: والعلة التي أشار إليها الدارقطني الوهم الذي وقع من أبي بكر بن عياش (3)، حيث جعل الحديث من رواية ابن مسعود رضي الله عنه، وليس كذلك بل هو من حديث أبي ذر رضي الله عنه، وحجة الدارقطني في ذلك رواية شعبة عن منصور عن ربعي عن زيد بن ظبيان عن أبي ذر، والحديث مخرجه واحد، وقد سبق الدارقطني إلى إعلال الحديث الترمذي فقال:" هذا حديث غريب من هذا الوجه وهو غير محفوظ والصحيح ما روى شعبة وغيره عن منصور عن ربعي بن حراش عن زيد بن ظبيان عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بن عياش كثير الغلط "(4).
المثال الثاني: قال الإمام البرقاني: " وسئل - الدارقطني - عن حديث عبدالرحمن بن غنم عن أبي ذر رضي الله عنه، قالَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((يَقُولُ اللهُ: كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَاّ مَنْ هَدَيْتُهُ
…
)) الحديث (5).
(1) أخرجه الترمذي: في السنن، كتاب صفة الجنة، باب ما جاء في كلام الحور العين، (ج4 /ص 697) برقم (2567)، من طريق أبي بكر بن عياش عن الأعمش عن منصور عن ربعي بن حراش عن ابن مسعود، وهو من هذا الوجه ضعيف معلول لأنَّ أبي بكر بن عياش ضعيف في الأعمش.
(2)
أبو الحسن الدارقطني: العلل، (ج5/ص50 - 51)، برقم السؤال (696).
(3)
أبو بكر بن عياش بن سالم الأسدي الكوفي المقريء الحناط، اسمه كنيته (ت: 194هـ)، من الطبقة السابعة كبار أتباع التابعين، ثقة إلا أنه لما كبر ساء حفظه وكتابه صحيح، أخرج له الستة وأخرج مسلم له في المقدمة، تهذيب التهذيب (ج12/ص31).
(4)
الترمذي: في السنن، (ج4 /ص 697).
(5)
أخرجه من وجه آخر صحيح مسلم: في الجامع الصحيح (مع شرح النووي)، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، (ج3 / ص182)، برقم (1286)، بلفظٍ مختلف.
فقال - الدارقطني -: يرويه شهر بن حوشب عن عبدالرحمن بن غنم حدَّث به عبدالحميد بن بهرام، وليث بن أبي سليم، وموسى بن المسيب، وسيار وأبو الحكم عن شهر بن حوشب، واختلف عن موسى بن المسيب، فرواه عن منصور بن المعتمر عن شهر بن حوشب، عن ابن غنم عن أبي ذر مسنداً
…
، واختلف عن ليث بن أبي سليم فرواه شيبان، عن ليث عن شهر، وخالفه أبو عصمة نوح بن أبي مريم، فرواه عن ليث
عن موسى بن المسيب عن شهر، عن ابن غنم، عن أبي ذر وأبي الدرداء، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم.
وليس ذكر أبي الدرداء بمحفوظ والله أعلم، قيل للشيخ فإنَّ معتمر بن سليمان يرويه عن أبي جعفر، عن شهر، عن ابن غنم عن أبي ذر مسنداً، من أبو جعفر هذا؟ فقال: هو موسى بن المسيب " (1).
قلتُ: وواضح من المثال أنَّ الدارقطني قد رجح عدم صحة الرواية التي ذكر فيها أبي الدرداء، وذلك أنَّ الحديث قد رواه جمع من الحفاظ بدون ذكر أبي الدرداء، وإن كانت هذه العلة لا تضر فإنَّ عبدالرحمن بن غنم (2) حدث عن أبي الدرداء بأحاديث قليلة وهو شامي مختلف في صحبته، وكان أبو الدارداء رضي الله عنه يقيم في الشام، فهي علة غير مؤثرة في واقع الأمر لهذه القرائن التي ذكرنا.
المثال الثالث: قال الإمام البرقاني: " وسئل - الدارقطني - عن حديث عبدالله بن الزبير عن الزبير رضي الله عنهم، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم:((لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَلاً الْمَصَّتَانِ)) (3).
(1) أبو الحسن الدارقطني: العلل، (ج6 / ص249 - 250)، برقم السؤال (1110).
(2)
عبدالرحمن بن غنم الأشعري الشامي (ت: 78 هـ)، من الطبقة الأولى مختلف في صحبته أخرج له الأربعة والبخاري تعليقاً، من كبار فقهاء الشام، تهذيب التهذيب (ج6 /ص225 - 226).
(3)
أخرجه الترمذي بالوجه الصحيح: في السنن، كتاب الرضاع، باب ما جاء لا تحرم المصة ولا المصتان، (ج3/ص455)، رقم (1150)، وأبو داود: في السنن، كتاب النكاح، باب هل يحرم ما دون خمس رضعات، (ج1/ص629)، رقم (2063)، وابن ماجه: في السنن، كتاب النكاح باب لا تحرم المصة ولا المصتان، (ج1/ص624)، رقم (1941)، ثلاثتهم من طريق ابن أبي مليكة عن عبدالله بن الزبير عن عائشة به.
فقال - الدارقطني -: تفرد به محمد بن دينار الطاحي، عن هشام بن عروة، عن أبيه عن ابن الزبير، عن الزبير ووهم فيه، وغيره من أصحاب هشام يرويه، عن هشام عن أبيه، عن عبدالله بن الزبير، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، لا يذكرون فيه الزبير ورواه ابن أبي مليكة، عن عبدالله بن الزبير، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصحيح لأنَّه زاد وهو المحفوظ عن عائشة " (1).
قلتُ: وواضح من المثال أنَّ الدارقطني رجَّح الرواية التي فيها عبدالله بن الزبير، عن عائشة، بدون ذكر الزبير، وحجة الدارقطني هي: تفرد محمد بن دينار الطاحي (2)، وهو ضعيف لا يحتمل تفرده، وغيره من أصحاب هشام يرويه، عن هشام عن أبيه، عن عبدالله بن الزبير لا يذكرون فيه الزبير، فكان الحمل عليه من محمد بن دينار الطاحي، ولقد أشرنا من قبل إلى مسألة تفرد الراوي برواية الحديث خلاف أقرانه عن شيخه، ويعتبر التفرد من المعايير التي يقيس عليها النقاد المحدثين مدى حفظ الراوي لمرويَّاته من عدمه، وهنا تفرد محمد بن دينار الطاحي بذكر الزبير في الإسناد فأخطأ، وقد أحصى عليه النقاد أخطاء أخرى تدل على عدم حفظه لمروياته فضعفوه، والله أعلم.
الجنس الثالث: علة نقص راوٍ أو زيادة راوٍ في الإسناد.
وتنشأ هذه العلة عند رواية بعض الرواة الحديث بإسناد فيه زيادة راوٍ، ثم يرويه البعض الآخر بنقص راوٍ، وهذا الجنس مشهور في كتب العلل، وهو من أخفى أجناس العلل ولا يدركه إلا الجهابذة، وأصل هذه العلة أن يكون للحديث طريقين في أحدهما زيادة راوٍ، والآخر فيه نقص في الإسناد، وقد ترجح الزيادة على النقص أو يرجح النقص على الزيادة وقد يجمع بين الطريقين على أنَّه رواه مرة بواسطة، ومرة من غير واسطة كل ذلك إذا كان للحديث مخرجاً واحداً، وإلا فلا يمكن الجمع مع اختلاف مخرج الحديث.
(1) أبو الحسن الدارقطني: العلل، (ج4/ص225 - 226)، برقم السؤال (525).
(2)
محمد بن دينار الأزدي ثم الطاحي، أبو بكر بن أبي الفرات البصري، صدوق تغير في آخره، وضعفه الدارقطني، أخرج له أبو داود والترمذي، تهذيب التهذيب (ج9 /ص136 - 138).
ولا يكون الترجيح إلا بالقرائن التي تدل على عدم الوهم أو الخطأ، كمقارنة الزيادة بمرويَّات الثقات الأثبات للحديث، أو عدد من روى الزيادة أو النقص، ولتوضيح هذا النوع سوف نضرب هنا بعض الأمثلة من كتاب العلل:
المثال الأول: قال الإمام البرقاني: " وسئل - الدارقطني - عن حديث علي بن الحسين عن عمر رضي الله عنه، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم:((كُلُّ سَبَبٍ وَنَسَبٍ مُنْقَطِعٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَا سَبَبِي وَنَسَبِي)) (1).
فقال - الدارقطني -: هو حديث رواه محمد بن إسحاق عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن عمر، وخالف الثوري وابن عيينة ووهيب، وغيرهم فرووه عن جعفر عن أبيه عن عمر ولم يذكروا بينهما جده علي بن الحسين وقولهم هو المحفوظ " (2).
قلتُ: وواضح من المثال أنَّ الإمام الدارقطني رجَّح الإسناد الناقص على الزيادة، وحجته في ذلك أنَّ محمد بن إسحاق خالف الأثبات منهم الثوري وابن عيينة وغيرهم، فأعلَّ الرواية الزائدة والتي فيها " عن جده وهو علي بن الحسين " بذلك، وقال:" عن جعفر عن أبيه عن عمر ولم يذكروا بينهما جده علي بن الحسين وقولهم هو المحفوظ "، وبهذا يكون الحديث معلٌّ بالانقطاع، لأنَّ جعفر بن محمد لم يلق عمر.
المثال الثاني: قال الإمام البرقاني: " وسئل - الدارقطني - عن حديث عاصم يقال عاصم بن أبي المشجر الجحدري بصري عن أبي بكرة رضي الله عنه: ((أنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَرَأَ: {بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَاذِبيِنَ})) (3).
(1) أخرجه البيهقي على الوجه المعلول: السنن الكبرى في ثلاث مواضع: (ج7 /ص63 - 64) برقم (13171)، وبرقم (13172)، (ج7/ ص114) برقم (13438)، وهو حديث معلول.
(2)
أبو الحسن الدارقطني: العلل، (ج2/ ص190)، برقم السؤال (211).
(3)
أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد، طبعة دار الفكر، بيروت سنة 1412هـ، (ج7/ص68)، برقم (11607)، وقال الهيثمي: "رواه البزار وفيه عاصم الجحدري وهو قارئ، قال الذهبي قراءته شاذة وفيها ما ينكر، وبقية رجاله ثقات وفي بعضهم ضعف ولم يسمع عاصم من أبي بكرة.
فقال - الدارقطني-: يرويه عبدالله بن حفص أبو محمد الأرطباني عن عاصم عن عبدالله ابن أبي بكرة عن أبيه وغيره يرويه عنه لا يذكر فيه ابن أبي بكرة وهو المحفوظ " (1).
قلتُ: والعلة التي أشار إليها الدارقطني أنَّ زيادة ابن أبي بكرة غير محفوظة ممن رووا هذا الحديث، ويعتبر الإسناد الناقص هو المحفوظ، والوهم في الزيادة من عبدالله بن حفص الأرطباني (2)، والحمل عليه فيه، وبهذا أعلَّ الحديث حيث إنَّ الإسناد منقطع ما بين عاصم وهو الجحدري، وأبي بكرة وهو نفيع بن الحارث بن كلدة، صحابي جليل رضي الله عنه، والله أعلم.
المثال الثالث: قال الإمام البرقاني: " وسئل - الدارقطني - عن حديث عبدالرحمن بن عوف، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه:((ثَلَاثٌ وَدِدْتُ أَنِّي سَأَلتُ رسُول صلى الله عليه وسلم عَنْهَا وَدِدْتُ أَنِّي سَأَلْتُهُ فِيمَنْ هَذَا الأَمْرَ؟،فَلَا يُنَازِعُهُ أَهْلَّه، وَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ سَأَلتُهُ هَلْ للأَنْصَارِ فِي هَذا الأَمْرَ شَيءٌ؟ وَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ سَأَلتُهُ عَنْ مِيرَاثِ الْعَمَّةِ وَابْنَةَ الأُخْتِ)) (3)
فقال - الدارقطني -: هو حديث يرويه شيخ لأهل مصر، يقال له علوان بن داود واختلف عليه فيه، فرواه عنه سعيد بن عفير، عن علوان بن داود عن حميد بن عبدالرحمن ابن عوف عن صالح بن كيسان، عن حميد بن عبدالرحمن بن عوف، عن أبيه عن أبي بكر الصديق، وخالفه الليث بن سعد، فرواه عن علوان، عن صالح بن كيسان بهذا الإسناد إلا أنَّه لم يذكر بين علوان وبين صالح حميد بن عبدالرحمن، فيشبه أن يكون سعيد بن عفير ضبطه عن علوان؛ لأنَّه زاد فيه رجلا، وكان سعيد بن عفير من الحفاظ الثقات" (4).
(1) أبو الحسن الدارقطني: العلل، (ج7/ص165)، برقم السؤال (1278).
(2)
عبدالله بن حفص الأرطباني، أبو حفص البصري (ت:؟)، صدوق من الطبقة السابعة من كبار أتباع التابعين، أخرج له الترمذي، وذكره ابن حبان في الثقات، تهذيب التهذيب (ج5/ص165).
(3)
أخرجه الحاكم: في المستدرك، (ج4 /ص381)، من طريق سعيد بن عفير حدثني علوان بن داود عن صالح بن كيسان عن حميد بن عبدالرحمن بن عوف عن أبيه به.
(4)
أبو الحسن الدارقطني: العلل، (ج1/ص182 - 183)، برقم السؤال (9).
قلتُ: وواضح من المثال أنَّ الإمام الدارقطني رجح الزيادة في الإسناد، وهي إدخال حميد بن عبدالرحمن بين علوان وصالح، لأنَّ سعيد بن عفير (1) من الحفاظ الثقات.
المثال الرابع: قال الإمام البرقاني: " وسئل - الدارقطني - عن حديث عبيدة عن عبدالله رضي الله عنه، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إِنَّ آخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولاً الْجَنَّةَ وَآخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجاً مِنَ النَّارِ رَجُلٌ يَخْرُجُ حَبْواً
…
)) (2). الحديث
فقال - الدارقطني -: يرويه الأعمش ومنصور، واختلف عن الأعمش، فرواه منصور عن إبراهيم عن عبيدة، عن عبد الله. وكذلك رواه أبو معاوية الضرير، وقتادة بن الفضيل أبو حميد عن الأعمش، ورواه عبدالواحد بن زياد عن الأعمش، عن إبراهيم عن علقمة وعبيدة عن عبدالله زاد فيه علقمة قاله عفان عنه وأرجو أن يكون محفوظاً " (3).
الجنس الرابع: الوهم بإدخال إسناد حديث لمتن حديث آخر بخلاف إسناده.
وأصل هذه العلة أنَّ يكون للحديث إسناد محفوظ، فيقع الوهم من الراوي فيدخل إسناد حديث آخر لمتن آخر بخلاف إسناده المحفوظ، وقد وقع ذلك من بعض الثقات الحفاظ، وهذه علة مشهورة في كتب العلل، وقد أعل الإمام الدارقطني في كتابه جملة منها نذكر منها على سبيل المثال:
(1) وهو سعيد بن كثير بن عفير بن مسلم الأنصاري مولاهم، أبو عثمان المصري (ت:226هـ)، وقد ينسب إلى جده، الحافظ الثقة من الطبقة العاشرة، تهذيب التهذيب (ج4/ص66).
(2)
متفق عليه: أخرجه البخاري في الجامع الصحيح (مع الفتح)، كتاب التوحيد، باب كلام الرب عز وجل يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم، (ج13/ص539)، برقم (7511)، ومسلم، في الجامع الصحيح (مع شرح النووي)، كتاب الإيمان، باب آخر أهل النار خروجاً، (ج2/ ص42) برقم (186)، كلاهما من طريق منصور عن إبراهيم عن عبيدة عن عبدالله بن مسعود نحواً منه، وهو على الوجه الصحيح غير معلول، والله أعلم.
(3)
أبو الحسن الدارقطني: العلل، (ج5/ ص183 - 184)، برقم السؤال (807).
المثال الأول: قال الإمام البرقاني: " وسئل - الدارقطني - عن حديث نهار العبدي عن أبي سعيد رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ
…
)) (1).
فقال - الدارقطني -: رواه مؤمل بن إسماعيل عن حماد، وحماد ووهيب وسفيان عن يحيى بن سعيد، عن عبدالله بن أبي صعصعة، عن نهار العبدي عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ووهم في ذكر نهار العبدي في هذا الحديث، وإنما روى هذا الحديث ابن أبي صعصعة عن أبيه عن أبي سعيد. وحديث نهار إنَّما هو:((أنَّ الله يسأل العبد يوم القيامة: مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَ الْمُنْكَرَ أَنْ تُنْكِرَهُ؟)) (2).
قلتُ: ووجه العلة التي أشار إليها الإمام الدارقطني هي: أنَّ مؤمل بن إسماعيل (3)، وَهِمَ فأدخل حديث نهار العَبْدِي: أنَّه سمعه يحدث عن أبي سعيد رضي الله عنه أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إِنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى لَيَسْأَلُ الْعَبْدَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَقُولَ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَ الْمُنْكَرَ تُنْكِرُهُ فَإِذَا لَقَّنَ اللَّهُ عَبْدًا حُجَّتَهُ قَالَ يَا رَبِّ وَثِقْتُ بِكَ وَفَرِقْتُ مِنَ النَّاسِ)) (4)، في حديث ابن أبي صعصعة عن أبيه عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: رَسُّولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ)) الذي رواه البخاري في صحيحه كما بيينَّا من قبل.
المثال الثاني: قال الإمام البرقاني: " وسئل - الدارقطني - عن حديث محمد بن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه، ((أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم انْصَرَفَ مِنِ اثْنَتَيْنِ، فَقَالَ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ أَقَصُرَتِ الصَّلاةُ أَمْ
(1) أخرجه بالوجه الصحيح البخاري: في الجامع الصحيح (مع الفتح)، كتاب الإيمان، باب من الدين الفرار من الفتن، (ج1/ ص86)، برقم (19).
(2)
أبو الحسن الدارقطني: العلل، (ج11/ص317 - 319)، برقم السؤال (2308).
(3)
مؤمل بن إسماعيل القرشي العدوي أبو عبد الرحمن البصري، مولى آل عمر بن الخطاب (ت: 206هـ)، صدوق سيء الحفظ، من الطبقة التاسعة، تهذيب التهذيب (ج10/ص339 - 340).
(4)
أخرجه بالوجه الصحيح أحمد بن حنبل: في المسند (ج3/ص29)، برقم:(11263).
نَسِيتَ؟
…
)) (1). الحديث
فقال - الدارقطني -: حدث به عنه أيوب السختياني، عبدالله بن عون، وحميد الطويل، وقتادة، وحبيب بن الشهيد، وسلمة بن علقمة، ويحيى بن عتيق، وهشام بن حسان، وخالد الحذاء، وأشعث بن عبد الملك، ويزيد بن إبراهيم
…
وأمَّا ما ذُكر في متنه، فإنَّ كل من رواه عن أيوب وعن غير أيوب عن ابن سيرين قال: إنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: ((أَصَدَقَ ذُو اليَدَيْن؟ قَالُوا: نَعَم)).
إلا حماد بن زيد، فإنه رواه عن أيوب، وقال فيه:((فأومئوا نعم)).
ثم قال - الدارقطني -: وقال سفيان بن حسين في هذا الحديث: عن ابن سيرين عن أبي هريرة أنَّ النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم قال في آخره: ((إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَنْسَى كَمَا
تَنْسَوْنَ)) (2)، ووهم في هذا القول، وهذا الكلام ليس من حديث ابن سيرين، ولا من حديث أبي هريرة، وإنَّما رواه علقمة، عن عبدالله " (3).
(1) أخرجه بالوجه الصحيح البخاري: في الجامع الصحيح (مع الفتح)، كتاب الأذان، باب هل يأخذ الإمام إذا شك بقول الناس، (ج2/ ص240)، وبأرقام:(714)، (1227)، (7250).
(2)
أخرجه بالوجه الصحيح البخاري: في الجامع الصحيح (مع الفتح)، كتاب الصلاة، باب التوجه نحو القبلة حيث كان، (ج1/ ص590)، برقم (401)، من طريق منصور عن إبراهيم عن علقمة قال: قال: عبدالله بن مسعود، وهو الحديث الذي أشار إليه الدارقطني أن سفيان بن حسين أدخله في حديث أبي هريرة، وتمام حديث عبدالله بن مسعود:((صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ إِبْرَاهِيمُ لَا أَدْرِي زَادَ أَوْ نَقَصَ فَلَمَّا سَلَّمَ قِيلَ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحَدَثَ فِي الصَّلَاةِ شَيْءٌ قَالَ وَمَا ذَاكَ قَالُوا صَلَّيْتَ كَذَا وَكَذَا فَثَنَى رِجْلَيْهِ وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ فَلَمَّا أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ قَالَ إِنَّهُ لَوْ حَدَثَ فِي الصَّلاةِ شَيْءٌ لَنَبَّاتُكُمْ بِهِ وَلَكِنْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي وَإِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ فَلْيُتِمَّ عَلَيْهِ ثُمَّ لِيُسَلِّمْ ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ)).
(3)
أبو الحسن الدارقطني: العلل، (ج10/ص10 - 13)، برقم السؤال (1819).
الجنس الخامس: عدم وجود الحديث في كتب الراوي له.
المثال الأول: قال الإمام البرقاني: " وسئل - الدارقطني -: عن حديث أبي رافع عن ابن مسعود رضي الله عنه، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم:((فِي الوضُوءِ بِالْنَبِيذِ)).
فقال - الدارقطني -: يرويه أبو سعيد مولى بنى هاشم عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي رافع عن ابن مسعود، وتابعه عبد العزيز بن أبي رزمة ولا يثبت هذا الحديث لأنَّه ليس في كتب حماد بن سلمة المصنفات وعلي بن زيد ضعيف وأبو رافع لا يثبت سماعه من ابن مسعود
…
" (1).
قلتُ: ووجه العلة التي أشار إليها الإمام الدارقطني هي: أنَّ الحديث لا يثبت؛ لأنَّه من رواية حماد بن سلمة وليس في كتبه المصنفات، فدل ذلك أنَّ الحديث لا أصل له.
المثال الثاني: قال الإمام البرقاني: " وسُئِل - الدارقطني -: عَن حَدِيثِ المَقبُرِيِّ، عَن أَبِي هُرَيرة رضي الله عنه، قال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: مَن كانَت لَهُ عِند أَخِيهِ مَظلِمَةٌ فِي عِرضِهِ أَو مالِهِ فَليَتَحَلَّلهُ قَبل أَن يُؤخَذ مِنهُ لا دِينارٌ ولا دِرهَمٌ، إِن كان لَهُ عَمَلٌ صالِحٌ أُخِذ مِنهُ بِقَدرِ مَظلِمَتِهِ وإِلاّ أُخِذَت مِن سَيِّئاتِهِ فَجُعِلَت عَلَيهِ)).
فقال - الدارقطني -: يرويه ابن أبي ذئب، وعبد الرحمن بن إسحاق، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة. ورواه مالك بن أنس، واختلف عنه، فرواه إبراهيم بن طهمان وإسماعيل بن عياش، وخالد بن حميد، وصدقة بن عبدالله، وابن وهب، ويحيى القطان ومعنى بن عيسى وابن أبي أويس، وعبد العزيز بن يحيى، عن مالك، عن سعيد المقبري عن أبي هريرة، وليس في الموطأ
…
حدثنا علي بن مبشر، ثنا أحمد بن سنان القطان، حدثني يحيى بن سعيد القطان عن مالك، عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من كانت له مظلمة قبل أخيه في مال أو عرض فليأته فليستحلها منه قبل أن يؤخذ ليس ثم دينار ولا درهم، إن كانت حسنات
(1) المصدر السابق، (ج5/ص 345 - 347)، برقم السؤال (940).
أخذت من حسناته فأعطيها هذا، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات هذا فالقي عليه)).
حدثنا أبو بكر النيسابوري ثنا صالح بن أحمد بن حنبل ثنا علي بن المديني ثنا يحيى عن مالك عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
قال علي - يعني المديني -: فذكرته لعبدالرحمن فقال: ليس هو في كتاب مالك ويحيى ابن يحيى، قال علي: فسألت عنه معنىً فقال: هو عند مالك حدثه به ثم تركه " (1).
قلتُ: ووجه العلة التي أشار إليها الإمام الدارقطني هي: أنَّ الحديث لا يثبت لأنَّه من رواية مالك وليس في كتابه " الموطأ "، فدل ذلك أنَّ الحديث لا أصل له من رواية مالك.
الجنس السادس: علة عدم ثبوت صحة السماع المتوهم من العنعنة.
المثال الأول: قال الإمام البرقاني: " وسئل - الدارقطني -: عن حديث علي بن ربيعة الوالبي الأسدي، عن علي رضي الله عنه في ركوب الدَّابة، وما يقال عند ذلك؟.
فقال - الدارقطني -: حدث به أبو إسحاق السبيعي (2)، عن علي بن ربيعة (3) رواه، عن أبي إسحاق كذلك منصور بن المعتمر وعمرو بن قيس الملائي، وسفيان الثوري وأبو الأحوص وشريك، وأبو نوفل علي بن سليمان والأجلح بن عبد الله، واختلف عنه فقال مصعب بن سلام، عن الأجلح وأبو يوسف القاضي، عن ليث جميعاً عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي ووهما، والصواب ما رواه شيبان، عن الأجلح عن أبي إسحاق عن علي بن
(1) أبو الحسن الدارقطني: العلل، (ج10/ 357 - 358)، برقم السؤال (2049).
(2)
هو عمرو بن عبدالله بن عبيد أو على أو ابن أبى شعيرة، الهمداني، أبو إسحاق السبيعي الكوفي (ت:126هـ أو 127هـ)، من كبار الحفاظ الثقات المكثرين الذين تدور عليهم الأحاديث، قال أبو حاتم ثقة وهو أحفظ من أبي إسحاق الشيباني وشبه الزهري في كثرة الرواية، وقد وصف بالتدليس، وأخرج حديثه الستة، وخلق كثير، تهذيب التهذيب (ج8 /ص 56 - 59).
(3)
هو علي بن ربيعة بن نضلة الوالبي الأسدي ويقال البجلي أبو المغيرة الكوفي، (ت: هـ)، قال ابن المغيرة والنسائي: ثقة، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، تهذيب التهذيب (ج7 /ص281).
ربيعة، وكذلك قال أصحاب أبي إسحاق عنه.
وأبو إسحاق لم يسمع هذا الحديث من علي بن ربيعة، يُبِّينُ ذلك ما رواه عبدالرحمن ابن مهدي، عن شعبة قال: قلت لأبي إسحاق سمعته من علي بن ربيعة؟ فقال: حدثني يونس بن خباب عن رجل عنه.
وروى هذا الحديث شعيب بن صفوان، عن يونس بن خباب، عن شقيق بن عقبة، عن علي بن ربيعة، ورواه المنهال بن عمر، وإسماعيل بن عبد الملك بن أبي الصغير، عن علي بن ربيعة، فهو من رواية أبي إسحاق مرسلا، وأحسنها إسنادا حديث المنهال بن عمرو، عن علي بن ربيعة، والله أعلم.
ورواه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن الحكم بن عتيبة، عن علي بن ربيعة حدثنا القاضي حسين بن إسماعيل، قال: حدثنا زكريا بن يحيى الباهلي، حدثنا يحيى بن سعيد القطان، حدثنا سفيان، حدثني أبو إسحاق، عن علي بن ربيعة، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، قال:((يَتَعَجْبُ الرَّبُ أَوْ رَبُّنَا عز وجل إِذَا قَالَ العَبْدُ: سُبْحَانَكَ الَّلهُمَّ لَا إِلَهَ إِلَا أَنْتَ، ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَا أَنْتَ)) " (1).
قلتُ: والعلة التي أشار إليها الدارقطني على الرغم من أن السند ظاهره الصحة هي: عدم سماع أبي إسحاق هذا الحديث من علي بن ربيعة، وحجة الإمام الدارقطني في ذلك تصريح أبي إسحاق نفسه بهذا، وهو من أصح الأدلة على عدم السماع.
ولقد سبق أبو حاتم الدارقطنيَّ في الحكم على هذا الحديث، فذكر في العلل تصريح أبي إسحاق بعدم السماع من رواية أخرى، فقال ابن أبي حاتم: " سألتُ أبي، عن حديثٍ، رواه الثوري وغيره، عن أبي إسحاق، عن علي ابن ربيعة قال: كنت رِدْف على
…
! فقال: حين ركب الحمد لله ثلاثا، سبحان الذي سخر لنا هذا
…
، وذكر الحديث؟
(1) أبو الحسن الدارقطني: العلل (ج4 / ص 59 - 63)، سؤال رقم (430).
فقال أبي: حدثني أبو زياد القطان عن يحيى بن سعيد قال كنت أعجب من حديث على بن ربيعة: " كنت رديف على "، لأنَّ علىَّ بن ربيعة كان حَدَثاً في عهد على، ومِثْلَهُ أَنكرتُ أن يكونَ رِدْفَ عليَّ، حتى حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن علي بن ربيعة قلت لسفيان سمعه أبو إسحاق من على بن ربيعة؟، فقال: سألتُ أبا إسحاق عنه فقال: حدثنى رجل، عن علي بن ربيعة " (1).
وبهذه العلة صار الإسناد معلول بعدم السماع وهي علة غاية في الدقة والإتقان، ولا يفطن إليها إلَاّ جهابذة النُّقاد في علل الحديث.
المثال الثاني: قال الإمام البرقاني: " وسئل - الدارقطني -: عن حديث عبدالله بن نجي عن علي رضي الله عنه، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم:((لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ تِمْثَالٌ)) (2).
فقال - الدارقطني -: هو حديث يرويه الحارث العكلي (3)، واختلف عنه فرواه مغيرة بن مقسم وعمارة بن القعقاع واختلف عنهما، عن الحارث العكلي فأما حديث المغيرة فرواه جرير بن عبد الحميد عنه عن الحارث العكلي عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير عن عبدالله بن نجي، وخالفه أبو بكر بن عياش، فرواه عن المغيرة عن الحارث، عن عبدالله بن نجي لم يذكر بينهما أبا زرعة.
واختلف عن عمارة بن القعقاع: فرواه عبدالواحد بن زياد عن عمارة، عن الحارث العكلي، عن أبي زرعة عن عبدالله بن نجي حدث به عنه أبو سعيد مولى بني هاشم،
(1) ابن أبي حاتم: العلل (ص 669)، سؤال رقم (799).
(2)
أخرجه أبو داود: في السنن، كتاب اللباس، باب في الصور، (ج2/ ص 471)، برقم (4153) من طريق سهيل يعني ابن أبي صالح عن سعيد بن يسار الأنصاري عن زيد بن خالد الجهني عن أبي طلحة الأنصاري، بلفظ:" لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلَا تِمْثَالٌ ".
(3)
الحارث بن يزيد العكلى التيمى الكوفى (ت:؟)، ثقة فقيه من الطبقة السادسة، من الذين عاصروا صغارالتابعين، أخرج له الشيخان، والنسائي وابن ماجه، تهذيب التهذيب (ج2/ص142).
وإسحاق بن عمر بن سليط، وقال مسدد، عن عبدالواحد عن عمارة عن أبي زرعة لم يذكر بينهما الحارث، ورواه زيد بن أبي أنيسة، عن الحارث العكلي عن أبي زرعة، عن عبدالله بن نجي، عن علي وروي، عن أبي إسحاق السبيعي، وجابر الجعفي، عن ابن نجي وهو غريب عنهما، ويقال أن عبدالله بن نجي (1) لم يسمع هذا من علي وإنَّما رواه عن أبيه عن علي، وليس بقوي في الحديث " (2).
قلتُ: والعلة التي أشار إليها الدارقطني على الرغم من أن السند ظاهره الصحة هي: عدم سماع عبدالله بن نجي من علي، وحجة الإمام الدارقطني في ذلك أقوال أهل العلم، قد نقله الحافظ ابن حجر في ترجمة عبدالله بن نجي: " قال البخاري وأبو أحمد بن عدي فيه نظر وقال النسائي: ثقة
…
، قلت: قال ابن معين لم يسمع من علي بينه وبينه أبوه، وقال البزار: سمع هو وأبوه من علي وكناه النَّسائي أبا لقمان " (3).
الجنس السابع: قلب جزء من الإسناد أو إبدال رُواة مكان رُواة.
وتنشأ هذه العلة عند حدوث الوهم أو الخطأ من الراوي فيبدل جزءاً من الإسناد ليس من أصل الإسناد، ويبقى بقية الإسناد بنفس السياق، وهذه العلة من العلل الدقيقة التي لا يتفطن إليها إلا كبار وجهابذة النقاد من أهل العلم، وقد وقع الكثير من هذا النوع في كتب العلل، وعلى رأسهم كتاب العلل للإمام الدارقطني، وهذه أمثلة منه:
المثال الأول: قال الإمام البرقاني: " وسئل - الدارقطني - عن حديث مالك بن يخامر عن معاذ بن جبل رضي الله عنه: ((سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبَّ إِلَى اللهِ؟ قَالَ: أَنْ تَمُوتَ وَلِسَانُكَ
(1) عبدالله بن نجى بن سلمة بن حشم بن أسد بن خليبة الحضرمى الكوفى (ت:؟)، صدوق من الطبقة الثالثة، أخرج له الجماعة إلا الترمذي، تهذيب التهذيب (ج6/ص50).
(2)
أبو الحسن الدارقطني: العلل (ج3/ص257 - 258)، سؤال رقم (393).
(3)
ابن حجر العسقلاني: تهذيب التهذيب (ج6/ص50).
رَطْبٌ مِنْ ذِكْرِ اللهِ تَعَالَى)) (1).
فقال - الدارقطني -: يرويه عبدالرحمن بن ثابت بن ثوبان واختلف عنه: فرواه الوليد ابن مسلم، وكثير بن هشام، ويحيى بن عمرو بن عمارة بن راشد أبو الخطاب الليثي عن ابن ثوبان، عن أبيه عن مكحول، عن جبير بن نفير، عن مالك بن يخامر، عن معاذ بن جبل وخالفهم زيد بن يحيى (2):
فرواه عن ابن ثوبان واختلف عنه فقال سلمة بن شبيب عنه عن ابن ثوبان عن أبيه عن جبير بن نفير، عن مالك بن يخامر، عن معاذ لم يذكر في الإسناد مكحولاً، وكذلك قال كثير بن عبيد عن الوليد، عن ابن ثوبان، وقال عباس الترقفي: عن زيد بن يحيى، عن ابن ثوبان، عن أبيه، عن ابن جبير بن نفير، عن أبيه، عن معاذ. لم يذكر في الإسناد مكحولاً ولا مالك بن يخامر، وزاد فيه عبدالرحمن بن جبير، والصحيح قول من قال عن ابن ثوبان، عن مكحول، عن جبير، عن مالك بن يخامر، عن معاذ " (3).
قلتُ: والعلة التي أشار إليها الدارقطني هي أنَّ زيد بن يحيى وهو الخزاعي، أبو عبدالله الدمشقي خالف جمعاً من الثقات منهم الوليد بن مسلم، وكثير بن هشام، ويحيى بن عمرو بن
(1) أخرجه الطبراني: في المعجم الكبير (ج20/ص93) برقم (16938)، على الوجه المعلول الذي أشار إليه الدارقطني في المثال من طريق معاوية بن صالح عن عبدالرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن معاذ بن جبل به، وكذلك أخرجه من الوجه الآخر الذي لم يذكر فيه مكحولاً:(ج20/ص106) برقم (16965)، من طريق عبدالرحمن الدمشقي ثنا خالد بن يزيد بن أبي مالك عن أبيه عن جبير بن نفير أنَّ مالك بن يخامر حدثهم أنَّ معاذ بن جبل قال لهم به، وكذا أخرجه من الوجه الراجح عند الدارقطني:(ج20/ص107) برقم (16969)، من طريق عبدالرحمن بن ثابت بن ثوبان عن أبيه عن مكحول عن جبير بن نفير عن مالك بن يخامر عن معاذ بن جبل به.
(2)
زيد بن يحيى بن عبيد الخزاعى، أبو عبد الله الدمشقى (ت: 207هـ)، ثقة من الطبقة التاسعة من صغار أتباع التابعين، أخرج له الأربعة في السنن إلا الترمذي، تهذيب التهذيب (ج3/ص 369).
(3)
أبو الحسن الدارقطني: العلل (ج6/ص48 - 49)، سؤال رقم (968).
عمارة بن راشد أبو الخطاب الليثي عن ابن ثوبان، فأبدل جزءاً من الإسناد فقال "عن عبدالرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه" بدلاً من "عن مكحول، عن جبير، عن مالك ابن يخامر"، ثم رجح الدارقطني طريق عبدالرحمن بن ثابت بن ثوبان عن أبيه عن مكحول عن جبير بن نفير عن مالك بن يخامر، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، وذلك لرواية الثقات الحديث بهذا الإسناد وهم أوثق من زيد بن يحيى الخزاعي وأكثر عدداً.
المثال الثاني: قال الإمام البرقاني: " وسئل - الدارقطني -: عن حديث عمر بن ثابت عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ فَكَأَنَّمَا صَامَ الدَّهْرَ)) (1).
فقال - الدارقطني -: يرويه جماعة من الثقات الحفاظ عن سعد بن سعيد عن عمر بن ثابت عن أبي أيوب منهم ابن جريح والثوري وعمرو بن الحارث وابن المبارك وإسماعيل
ابن جعفر وغيرهم، ورواه يحيى بن سعيد الأنصاري، واختلف عنه:
فرواه حفص بن غياث عن يحيى عن أخيه سعد بن سعيد، وخالفه إسماعيل بن إبراهيم الصائغ، وعبد الملك بن أبي بكر الحضرمي فروياه، عن يحيى بن سعيد عن عمر بن ثابت لم يذكر في إسناده سعد بن سعيد.
ورواه إسحاق بن أبي فروة (2)، عن يحيى بن سعيد، عن عدي بن ثابت، عن البراء ووهم فيه وهماً قبيحاً، والصواب حديث أبي أيوب: حدثنا محمد بن مخلد، قال: ثنا محمد بن علي بن خلف العطار، قال: ثنا عمرو بن عبد الغفار، عن الحسن بن حي وسفيان بن سعيد الثوري،
(1) أخرجه بوجه آخر الإمام مسلم: في الجامع الصحيح (مع شرح النووي)، كتاب الصيام، باب استحباب صوم ستة أيام من شوال إتباعا لرمضان، (ج4/ ص312)، برقم (1164).
(2)
هو إسحاق بن محمد بن إسماعيل بن عبد الله بن أبى فروة الفروي، القرشي (ت:226هـ)، صدوق من الطبقة العاشرة، من كبار الآخذين عن تبع الأتباع، أخرج له البخاري والترمذي وابن ماجه كما في تهذيب التهذيب (ج1/ص 217).
عن سعد بن سعيد أخي يحيى بن سعيد، عن عمر بن ثابت، عن أبى أيوب الأنصاري، قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ فَكَأَنَّمَا صَامَ الدَّهْرَ)) " (1).
قلتُ: والعلة التي أشار إليها الدارقطني هي أنَّ إسحاق بن أبي فروة وهو الفروي القرشي، أبدل جزءاً من الإسناد من بعد يحيى بن سعيد الأنصاري فقال "عن عدي بن ثابت، عن البراء"، بدلاً من " عمر بن ثابت عن أبى أيوب الأنصاري"، وقد ذكر الدارقطني فحش هذا الغلط في الإسناد، ثم روي بالإسناد الصحيح الراجح الحديث، وحجته في ذلك الرواية التي ساقها، وكذلك مخالفة إسحاق بن أبي فروة للثقات الحفاظ الذين رووا الحديث عن سعد بن سعيد عن عمر بن ثابت عن أبي أيوب منهم ابن جريح والثوري وعمرو بن الحارث وابن المبارك وإسماعيل بن جعفر وغيرهم.
الجنس الثامن: شك الراوي في الحديث أو اضطرابه فيما يرويه.
وتنشأ هذه العلة بسبب شك الراواي في حديثه، واضطرابه فيه فهو يرويه على أوجه مضطربة لا تصح، وهذه الظاهرة تدل على عدم حفظ الراوي لحديثه، فيعل النقاد الحديث بالاضطراب، وقد وقع هذا من بعض الحفاظ الكبار، وقد أعلَّ الدارقطني بهذه العلة بعض الأحاديث منها على سبيل المثال:
المثال الأول: قال الإمام البرقاني: " وسئل - الدارقطني - عن حديث أبي صالح عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: ((قَالَ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ سَمِعْتُ فُلَانًا يَقُولُ خَيْرًا ذَكَرَ أَنَّكَ أَعْطَيْتَهُ دِينَارَيْنِ، قَالَ: لَكِنْ فُلَانٌ لَا يَقُولُ ذَلِكَ وَلَا يُثْنِي بِهِ، لَقَدْ أَعْطَيْتُهُ مَا بَيْنَ الْعَشَرَةِ إِلَى الْمِائَةِ
…
)) (2) الحديث.
(1) أبو الحسن الدارقطني: العلل (ج6/ص107 - 108)، سؤال رقم (1009).
(2)
أخرجه أحمد بن حنبل بالوجه الأقرب للصواب عنده: في المسند (ج3/ص16)، برقم:(11139)، من طريق أبو بكر - بن عياش - عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري، ثم جاء بمتابعة جرير عن الأعمش عن عطية عن أبي سعيد فذكر نحوه.
فقال - الدارقطني -: يرويه الأعمش (1)، واختلف عنه، فرواه أبو بكر بن عياش عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد.
وخالفه زياد البكائي وجرير بن عبد الحميد، فروياه عن الأعمش عن عطية عن أبي سعيد ورواه حبان بن علي، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن جابر.
وقال أبو كريب: عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، وقال عبدالله بن بشر: عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، وليس فيها شئ أقطع على صحته، لأنَّ الأعمش اضطرب فيه، وكل من رواه عنه ثقة إلا حبان " (2).
قلتُ: والعلة التي أشار إليها الدارقطني هي اضطراب الأعمش في رواية الحديث فإنَّه يرويه مرة عن أبي سعيد الخدري، ومرة يرويه عن جابر بن عبدالله، ومرة يرويه عن أبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين، مما أظهر عدم تثبت الأعمش من الحديث، وقد توقف الدارقطني فلم يحكم بصحة أي الأوجه في الحديث، إلا إنَّه يمكن القول أنَّ الأشبه والأقرب للصواب حديث أبي سعيد الخدري، لوجود متابعات لها أكثر من غيرها، وقد أخرج الإمام أحمد بعض المتابعات كما أشرنا إليها من قبل منها: متابعة جرير عن الأعمش عن عطية عن أبي سعيد، والله أعلم.
المثال الثاني: قال الإمام البرقاني: " وسئل - الدارقطني -: عن حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه قَالَ: ((خَطَبَ عُمَرُ رضي الله عنه النَّاسَ بِالْجَابِيَةِ فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ فِي مِثْلِ مَقَامِي هَذَا فَقَالَ أَحْسِنُوا إِلَى أَصْحَابِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبَ)) (3) الحديث.
(1) هو سليمان بن مهران الأسدى الكاهلي، أبو محمد الكوفى (ت: 148هـ)، ثقة حافظ أحد الأعلام من الطبقة الخامسة، من صغار التابعين، أخرج له الستة، تهذيب التهذيب (ج4/ص 195).
(2)
أبو الحسن الدارقطني: العلل (ج11/ص343)، سؤال رقم (2326).
(3)
أخرجه أحمد بن حنبل بالوجه الأقرب للصواب عنده: في المسند (ج1/ص32)، برقم (177) من طريق جرير عن عبدالملك بن عمير عن جابر بن سمرة وتمامه:((قَالَ خَطَبَ عُمَرُ النَّاسَ بِالْجَابِيَةِ فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ فِي مِثْلِ مَقَامِي هَذَا فَقَالَ أَحْسِنُوا إِلَى أَصْحَابِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ يَحْلِفُ أَحَدُهُمْ عَلَى الْيَمِينِ قَبْلَ أَنْ يُسْتَحْلَفَ عَلَيْهَا وَيَشْهَدُ عَلَى الشَّهَادَةِ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدَ فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَنَالَ بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمِ الْجَمَاعَةَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ مِنَ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ وَلَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ فَإِنَّ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ وَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ تَسُرُّهُ حَسَنَتُهُ وَتَسُوءُهُ سَيِّئَتُهُ فَهُوَ مُؤْمِنٌ)).
فقال - الدارقطني -: يرويه عبدالملك بن عمير (1)، واختلف عنه في إسناده فقيل عنه فيه عدة أقاويل:
ورواه جرير بن حازم، ومحمد بن شبيب الزهراني، وقرة بن خالد، وجرير بن عبدالحميد، وقيل عن شعبة بن الحجاج فقالوا: عن عبدالملك بن عمير، عن جابر بن
سمرة، عن عمر، وخالفهم جماعة ثقات منهم: عبدالله بن المختار، ويونس بن أبي إسحاق، وابنه إسرائيل ومعمر، وعبدالحكيم بن منصور، وحبان ومندل ابنا علي، وسفيان الثوري.
وقيل عن شعبة والمسعودي، وداود بن الزبرقان، والحسين بن واقد، والحصين بن واقد شيخ روى عنه، وأبو بكر بن عياش، وقزعة بن سويد، وأبو عوانة فرووه:
عن عبدالملك بن عمير، عن عبدالله بن الزبير، عن عمر. ورواه شيبان بن عبدالرحمن وشعيب بن صفوان، وعبيدالله بن عمر الرقى، عن عبدالملك بن عمير عن رجل لم يسم عن عبدالله بن الزبير.
وقال عبدالحميد بن موسى، عن عبيدالله بن عمرو، عن عبدالملك، عن مجاهد، عن ابن الزبير، عن عمر ولم يصنع شيئا. وقال عمران هو أخو سفيان بن عيينة عن عبدالملك عن ربعي بن حراش عن عمر.
(1) هو عبدالملك بن عمير بن سويد الفرسي اللخمي، أبو عمرو الكوفى (ت: 136هـ)، ثقة الطبقة الرابعة: تلى الوسطى من التابعين، أخرج له الستة، تهذيب التهذيب (ج6/ص 364).
وقال يحيى بن يعلى أبو المحياة، وزهير ومحمد بن ثابت، عن عبدالملك، عن قبيصة بن جابر، عن عمر.
وقال حماد بن سلمة والمسعودي، وقيس من رواية محمد بن مصعب عنهم، عن عبدالملك عن رجاء بن حيوة، عن عمر.
وقال ابن عيينة، عن عبدالملك، عن رجل لم يسمه، عن عمر. ويشبه أن يكون الاضطراب في هذا الإسناد من عبدالملك بن عمير لكثرة اختلاف الثقات عنه في الإسناد والله أعلم " (1).
قلتُ: والعلة التي أشار إليها الدارقطني هي كثرة اضطراب الإسناد ولم يرجح الدارقطني وجهاً على وجهٍ، لتساوي الأوجه في القوة والثبات، ثم جزم أنَّ أصل الاضطراب من عبدالملك بن عمير لكثرة اختلاف الثقات عنه في إسناد الحديث.
الجنس التاسع: إنكار المحدث للحديث الذي روي عنه.
قال الحافظ ابن كثير: " إذا حدث ثقة عن ثقة بحديث، فأنكر الشيخ سماعه لذلك بالكلية، فاختار ابن الصلاح أنه لا تقبل روايته عنه، بجزمه بإنكاره، ولا يقدح ذلك في عدالة الراوي عنه فيما عداه، بخلاف ما إذا قال: لا أعرف هذا الحديث من سماعي، فإنَّه تقبل روايته عنه. وأما إذا نسيه، فإن الجمهور يقبلونه، ورده بعض الحنفية. كحديث سليمان بن موسى عن الزهري عن عروة عن عائشة: " أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل ". قال ابن جريج: فلقيت الزهري فسألته عنه؟ فلم يعرفه "(2).
ولم أجد إلا حديثاً واحداً قد أعلَّه الدارقطني في العلل بهذه العلة مع طول بحث وتفتيش:
(1) أبو الحسن الدارقطني: العلل (ج2/ص125)، سؤال رقم (155).
(2)
ابن كثير: الباعث الحثيث مختصر علوم الحديث، (ص146).
المثال: قال الإمام البرقاني: " وسئل - الدارقطني - عن حديث أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه: ((أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ)) (1).
فقال - الدارقطني -: يرويه سُهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة، حدَّث به عنه سليمان بن بلال، واختلف عنه، فرواه القعنبي، وإسماعيل ابن أبي أويس، ويحيى الحماني وزياد بن يونس، وعبدالله بن وهب عن سليمان بن بلال، عن ربيعة عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة. وخالفهم أبو بكر بن أبي أويس، وعمران بن أبان، روياه عن سليمان ابن بلال عن سُهيل لم يذكرا فيه ربيعة.
والصحيح: عن سليمان بن بلال عن ربيعة، وقد بيَّن ذلك زياد بن يونس في روايته عن سليمان، فقال فيه: قال سليمان: فلقيت سُهيلاً سألته عنه فلم يعرفه، فقلت: حدثني به عنك ربيعة فقال: فحدث به عن ربيعة عني " (2).
قلتُ: والعلة التي أشار إليها الدارقطني هي أنَّ سُهيل بن أبي صالح لما سئل عن الحديث الذي رواه لم يعرفه!، ولا شك أنَّ هذا من قبيل النسيان وليس الإنكار، فهو حديث صحيح لا غبار عليه، ولا يعكر صفوه ذكر النُّقاد له في مصنفات العلل، وله شاهد من حديث جابر بن عبدالله أخرجه الترمذي وابن ماجه (3)، وغيرهما كلاهما من طريق محمد بن بشار حدثنا عبدالوهاب حدثنا جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر:((أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ))، فدل على أنه ثابت صحيح، والله أعلم.
(1) أخرجه ابن ماجه: في السنن، كتاب الأحكام، باب القضاء بالشاهد واليمين (ج2/ص 793) برقم (2368)، من طريق ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن سُهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة.
(2)
أبو الحسن الدارقطني: العلل (ج10/ص 139)، سؤال رقم (1929).
(3)
أخرجه الترمذي: في السنن، كتاب الأحكام، باب ما جاء في اليمين مع الشاهد (ج3/ص 628)، برقم (1344)، وابن ماجه: في السنن، كتاب الأحكام، باب باب القضاء بالشاهد واليمين (ج2/ص 793)، برقم (2369).
الجنس العاشر: علة رواية الحديث عن عدد من الشيوخ بلفظ وسياق واحد.
وتنشأ هذه العلة عندما يروي أحد الرواة حديثاً واحداً، ثم يأتي به على سياق واحد، ومعلوم أنَّ الرواة يختلفون في السياق، وهذا يعني أنَّه أدخل الأحاديث المختلفة في سياقٍ واحدٍ، وهذه علامة على عدم الحفظ، وهي من أدق أجناس العلل وأصعبها.
وقد أوضح الحافظ ابن رجب هذه الظاهرة فقال: "وقال أبو يعلى الخليلي في كتابه الإرشاد: " ذاكرت بعض الحفاظ قلت: لِمَ لَمْ يُدخل البخاري حماد بن سلمة في الصحيح؟.
قال: لأنَّه يجمع بين جماعة من أصحاب أنس، يقول: أخبرنا قتادة، وثابت، وعبدالعزيز بن صهيب عن أنس، وربما يخالف في بعض ذلك.
فقلت: أليس ابن وهب اتفقوا عليه وهو يجمع بين أسانيد، فيقول: أخبرنا مالك، وعمرو بن الحارث والأوزاعي، ويجمع بين جماعة غيرهم؟!.
فقال: ابن وهب أتقن لما يرويه وأحفظ. ومعنى هذا أن الرجل إذا جمع بين حديث جماعة وساق الحديث سياقة واحدة فالظاهر أن لفظهم لم يتفق، فلا يقبل هذا الجمع إلا من حافظ متقن لحديثه يعرف اتفاق شيوخه واختلافهم، كما كان الزهري بين شيوخ له في حديث الإفك وغيره" (1).
وقد أعلَّ الدارقطني بهذه العلة بعض الأحاديث نذكر منها على سبيل المثال:
المثال الأول: قال الإمام البرقاني: " وسئل - الدارقطني - عن حديث الأحنف بن قيس عن أبي بكرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا
…
)) (2). الحديث.
(1) ابن رجب: شرح علل الترمذي، (ص453 - 454).
(2)
متفق عليه: أخرجه البخاري في الجامع الصحيح (مع الفتح)، كتاب الإيمان، باب (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما)، (ج1/ ص107)، برقم (31)، ومسلم، في الجامع الصحيح (مع شرح النووي)، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب إذا تواجه المسلمان بسيفيهما، (ج9/ص237)، برقم (2888)، كلاهما من طريق حماد بن زيد حدثنا أيوب ويونس عن الحسن عن الأحنف بن قيس عن أبي بكرة به، على الوجه الصحيح.
فقال - الدارقطني -: يرويه الحسن البصري عن الأحنف واختلف عنه: فرواه أيوب السختياني، ويونس بن عبيد، وهشام بن حسان، ومعلى بن زياد، عن الحسن عن الأحنف. واختلف عن يونس وهشام: فروي عن حماد بن زيد عنهما عن الحسن عن الأحنف، وخالفه أبو خلف عبدالله بن عيسى، ومحبوب بن الحسن، فرواه عن يونس عن الحسن عن أبي بكرة.
وخالفه أيضاً في روايته عن هشام، وزائدة فروياه عن هشام عن الحسن عن أبي بكرة وكذلك قال أبو الربيع الزهراني عن حماد بن زيد عن هشام، ولعل حماد إنَّما جمع بين أيوب وهشام ويونس في الإسناد على حديثيهما على إسناد حديث أيوب، فذكر فيه الأحنف وهما لا يذكرانه، ورواه قتادة، ومعروف الأعور، وجسر بن فرقد، عن الحسن عن أبي بكرة. ولم يذكروا فيه الأحنف والصحيح حديث أيوب حدث به عنه حماد بن زيد ومعمر" (1).
قلتُ: والعلة التي أشار إليها الدارقطني هي أنَّ: "حماد بن زيد جمع بين أيوب وهشام ويونس في الإسناد على حديثيهما على إسناد حديث أيوب، فذكر فيه الأحنف وهما لا يذكرانه ".
وليس هذا بصحيح فإنَّ البخاري ذكر قرينة جعلت من جمع حماد بن زيد بين أيوب ويونس حديثاً واحداً، بسياقٍ واحدٍ؛ لأنَّ مجلس التحديث كان واحداً فذكرا فيه الأحنف بن قيس مما جعل البخاري يرجح هذا الجمع لحماد بن زيد، والقرينة التي ذكرها البخاري هي قوله:" قال حماد بن زيد فذكرت هذا الحديث لأيوب ويونس بن عبيد وأنا أريد أن يحدثاني به فقالا: إنَّما روى هذا الحديث الحسن، عن الأحنف بن قيس، عن أبي بكرة. حدثنا سليمان حدثنا حماد بهذا "(2).
(1) أبو الحسن الدارقطني: العلل (ج7/ص162 - 164)، سؤال رقم (1276).
(2)
البخاري: في الجامع الصحيح (مع الفتح)، كتاب الفتن، باب إذا التقى المسلمان بسيفيهما، (ج13/ص38)، رقم (7083)، بلفظ:((إِذَا تَوَاجَهَ الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَكِلَاهُمَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ))، ثم قال الحافظ ابن حجر في الفتح بعد ذلك:" يعني أن عمرو بن عبيد أخطأ في حذف الأحنف بين الحسن وأبي بكرة، لكن وافقه قتادة أخرجه النسائي من وجهين عنه عن الحسن عن أبي بكرة، إلا أنه اقتصر على الحديث دون القصة، فكأن الحسن كان يرسله عن أبي بكرة فإذا ذكر القصة أسنده ".
فثبت أنَّ إخراج البخاري ومسلم وغيرهما الإسناد من طريق حماد بن زيد، عن أيوب ويونس، عن الحسن، عن الأحنف بن قيس، عن أبي بكرة، بهذا الجمع صحيح لا غبار عليه للقرينة التي ذكرها البخاري في صحيحه.
المثال الثاني: قال الإمام البرقاني: " وسئل - الدارقطني - عن حديث عمرو بن شرحبيل عن عبدالله رضي الله عنه: ((قَالَ رَجُلٌ يَا رسُول اللهِ أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ
…
)) (1). الحديث
فقال - الدارقطني -: يرويه منصور عن أبي وائل عن أبي ميسرة عن عبدالله. ورواه الأعمش، واختلف عنه: فرواه الثوري ومعمر، وجرير وعبدالله بن نمير، عن الأعمش عن أبي وائل، عن عمرو بن شرحبيل، عن عبدالله.
وخالفهم أبو شهاب الحناط وأبو معاوية الضرير وشيبان بن عبدالرحمن فرووه: عن الأعمش، عن أبي وائل عن عبدالله.
وكذلك رواه واصل الأحدب واختلف عنه فرواه الثوري وشعبة ومهدي بن ميمون عن واصل عن أبي وائل عن عبدالله.
ورواه عبدالرحمن بن مهدي، عن الثوري، عن واصل، عن أبي وائل، عن عمرو بن شرحبيل، عن عبدالله، ووهم على الثوري
…
ورواه عبدالرحمن بن مهدي، ومحمد بن كثير، فجمعا بين واصل ومنصور والأعمش عن أبي وائل، عن عمرو بن شرحبيل، عن عبدالله. فيشبه أن يكون الثوري جمع بين الثلاثة لعبدالرحمن، ولابن كثير فجعل إسنادهم واحداً، ولم يذكر بينهم خلافاً وحمل حديث واصل
(1) متفق عليه: أخرجه البخاري في الجامع الصحيح (مع الفتح)،كتاب تفسير القرآن، باب قوله تعالى (فلا تجعلوا لله أنداداً)، (ج13/ص557)، برقم (7520)، ومسلم في الجامع الصحيح (مع شرح النووي)، كتاب الإيمان، باب كون الشرك أقبح الذنوب وبيان أعظمها بعده، (ج1/ ص357)، برقم (86)، كلاهما من طريق جرير عن منصور عن أبي وائل عن عمرو بن شرحبيل عن عبدالله - يعني ابن مسعود - به، على الوجه الصحيح.
على حديث الأعمش ومنصور، وفَصَلَهُ يحيى بن سعيد فجعل حديث واصل عن أبي وائل عن عبدالله وهو الصواب؛ لأنَّ شعبة ومهدي بن ميمون روياه عن واصل عن أبي وائل عن عبدالله كما رواه يحيى عن الثوري عنه، والله أعلم " (1).
قلتُ: والعلة التي أشار إليها الدارقطني هي أنَّ: " الوهم الذي وقع فيه سفيان الثوري حيث جمع في هذا الحديث بين رواية ثلاثة وهم: واصل ومنصور والأعمش، ولم يذكر الخلاف بينهم، بل جعل حديث واصل (2) مثل حديث الأعمش، ومنصور، ثم رجَّح الدارقطني التفصيل الذي رواه يحيى بن سعيد، والذي لم يُذكر في حديث واصل "عمرو ابن شرحبيل"، وذلك؛ لأنَّ أغلب من رواه من الرواة من طريق واصل، عن أبي وائل، عن عبدالله بغير ذكر عمرو بن شرحبيل، وهو الصحيح الراجح، والله أعلم.
(1) أبو الحسن الدارقطني: العلل (ج5/ص223)، سؤال رقم (834).
(2)
هو واصل بن حيان الأحدب الأسدي الكوفي (ت: 120هـ)، ثقة ثبت من الطبقة السادسة عاصر صغار التابعين، أخرج له الستة، تهذيب التهذيب (ج11/ص 91).