الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قلتُ: هذا الحديث مداره على الزُّهْرِيِّ، واختلف عنه على وجهين:
1.
رواه مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِاللهِ بْنِ عَامِرٍ، عَنْ جَابِرٍ مسنداً.
2.
ورواه الزُّبَيْدِيُّ، فَقَالَ: عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِالرَّحْمَنِ مُرْسَلاً.
تُمَّ رجح أبو حاتم الوجه الثاني؛ لأنَّ الزُّبَيْدِيُّ أوثق من مَعْمَرٍ في الزُّهْرِيِّ، فصار
الحديث معلولاً بالإرسال بعد هذا الترجيح، وبهذا ظهر لك أنَّ الدارقطني والنقاد المتقدمين كانوا يستعملون هذه القرينة في الترجيح بين المرويَّات، ومنهجهم فيها.
المطلب الثالث: قرائن الترجيح بتحديد التاريخ:
إنَّ معرفة السير والتواريخ وزمن الغزوات من أهم أنواع القرائن التي اعتمد عليها النُّقاد في ترجيح الصحيح من الباطل، ولقد سَطَّرَ لنا التاريخ لهم أروع المثل في دقة التحقيق، وثقابة الفهم، مما لا يدع شكاً أنَّ الله قد قيد لهذه الأمة أولئك النفر من جهابذة النُّقاد ليرسموا لنا الطريق الصحيح، والمنهج القويم في معرفة الصحيح من السقيم، ولا أدل على ذلك من أنهم كانوا يكتشفون بتحديد التاريخ زيف الأخبار، وتمييز ما هو خطأ ووهم محض، أو كذب وافتراء، ولهم في كل حكم على الحديث قرينة يستندون إليها تثبت صحة قولهم، ودقة منهجهم.
وما أروع ما حكاه الحسينِ المروزيُّ فقال: " سمعتُ عبدالرحمن بن مهديّ يقولُ: كنتُ عند أبي عَوانةَ فَحدَّثَ بحديثِ الأعمش، فقلتُ: ليس هذا من حديثك، فقال: لا تفعل يا أبا سعيد، هو عندي مكتوب، قلت: فهاته، قال: يا سلامة هاتِ الدَّرْج (1) فأخرجه فنظر فيه، فإذا ليس الحديث فيه، فقال: صدقتَ يا أبا سعيد، صدقتَ يا أبا سعيد، ومَنْ أينَ أُتيتُ بهِ؟ قلتُ: ذُوكِّرتَ بهِ وأنت شابٌ فعَلَقَ بِقَلبك فظننتَ أنَّك سمعتَهُ "(2).
(1) الدَّرْجُ: بتشديد الدال وسكون الراء، الذي يكتب فيه، كما في لسان العرب (ج2/ص269).
(2)
ابن جبان البستي: المجروحين (ج1/ص54).
ومن ذلك أيضاً قول الخطيب البغدادي: " كان للعباس ابن يقال له تمام إلا أنَّه لم يسمع من النَّبي صلى الله عليه وسلم شيئاً، كان له يوم قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة أشهر "(1).
ومن ذلك أيضاً ما رواه الدارقطني في غرائب مالك: " من طريق علي بن نصر الجهضمي، قال: قالوا لأبي عاصم إنهم يخالفونك في حديث مالك في الشفعة، فلا يذكرون أبا هريرة، فقال هاتوا من سمعه من مالك في الوقت الذي سمعته منه، إنما كان قدم علينا أبو جعفر مكة، فاجتمع الناس إليه وسألوه أن يأمر مالكًا أن يحدثهم فأمره فسمعته في ذلك الوقت، قال علي بن نصر: وكان ذلك في حياة ابن جريج؛ لأنَّ أبا عاصم خرج من مكة إلى البصرة في حياة ابن جريج، أو حيث مات ابن جريج، ثم لم يعد إلى مكة حتى مات، وهذا يدل على أن أبا عاصم (2) مكي تحول إلى البصرة "(3).
ولقد رجح بهذه القرينة الدارقطني أحاديث قليلة نذكر منها نموذجاً:
المثال: قال الإمام البرقاني: " وسئل - الدارقطني -: " عن حديث عبدالرحمن بن أبي ليلى عن معاذ قال: ((كَانَ النَّاسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا سُبِقَ الرَّجُلُ بِبَعْضِ صَلَاتِهِ سَأَلَهُمْ فَأَوْمَئُوا إِلَيْهِ بِالَّذِي سُبِقَ بِهِ مِنَ الصَّلَاةِ فَيَبْدَأُ فَيَقْضِي مَا سُبِقَ ثُمَّ يَدْخُلُ مَعَ الْقَوْمِ فِي صَلَاتِهِمْ، فَجَاءَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَالْقَوْمُ قُعُودٌ فِي صَلَاتِهِمْ فَقَعَدَ فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَامَ فَقَضَى مَا كَانَ سُبِقَ بِهِ فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اصْنَعُوا كَمَا صَنَعَ مُعَاذٌ)) (4).
فقال - الدارقطني -: يرويه حصين وعمرو بن مرة عن ابن أبي ليلى واختلف عنهما فرواه إبراهيم بن طهمان، وعبد العزيز بن مسلم، ومحمد بن جابر وشريك، عن حصين عن ابن أبي
(1) الخطيب البغدادي: موضح أوهام الجمع والتفريق (ج2/ص285).
(2)
وهو الضحاك بن مخلد بن الضحاك بن مسلم الشيباني أبو عاصم النبيل (ت: 212 هـ)، ثقة ثبت، من الطبقة التاسعة، أخرج له الستة، تهذيب التهذيب (ج4/ص 395).
(3)
ابن حجر العسقلاني: تهذيب التهذيب (ج4/ص397).
(4)
أخرجه الإمام أحمد: في المسند (ج5/ص233)، برقم (22086).
ليلى عن معاذ، وخالفهم شعبة، والثوري، وجرير بن عبدالحميد فرووه، عن حصين، عن ابن أبي ليلى مرسلا
…
والمرسل أصح قيل له: فحديث حجاج، عن عمرو بن مرة، عن ابن أبي ليلى، عن أشياخهم، عن معاذ قول آخر. فقال: قال ذلك إبراهيم بن الزبرقان عنه، وخالفه أبو
خالد الأحمر فقال عن حجاج، عن عمرو بن مرة، عن ابن أبي ليلى، عن معاذ. حدثنا بذلك المحاملي قال: ثنا هارون بن إسحاق قال: ثنا أبو خالد الأحمر بذلك. قيل فصح سماع عبدالرحمن بن أبي ليلى، عن معاذ قال فيه نظر؛ لأنَّ معاذاً قديم الوفاة مات في طاعون عمواس وله نيف وثلاثون سنة " (1).
قلتُ: وخلاصة العلة التي أشار إليها الدارقطني أنَّ هذا الحديث مداره على عبدالرحمن ابن أبي ليلى، وقد رواه عنه حصين وعمرو بن مرة واختلف عنهما على وجهين:
رواه جماعة مسنداً منهم: إبراهيم بن طهمان، وعبدالعزيز بن مسلم، ورواه جماعة آخرون مرسلاً منهم: شعبة، والثوري، فرجَّح الدارقطني المرسل على المسند؛ لأنَّ عبدالرحمن بن أبي ليلى لم يدرك معاذاً بدلالة معرفة التاريخ، فصار الحديث بذلك معلّ بالإرسال، فظهر لك أهمية معرفة التاريخ في الترجيح بين المرويَّات، وتحقيق الصواب منها، والله الموفق لا رب سواه.
ولقد رجَّح بهذه القرينة كذلك النًّقاد المتقدمون أحاديث قليلة نذكر منها نموذجاً:
قال الإمام البزار في المسند: " حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ شَاهِينَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا دَاوُدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ بُسْرِ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ، عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: ((أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ بِالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، وَلَيَالِيهِنَّ لِلْمُسَافِرِ، وَيَوْمًا، وَلَيْلَةً لِلْمُقِيمِ)) "(2).
(1) أبو الحسن الدارقطني: العلل، (ج6/ ص59 - 61)، سؤال رقم (976).
(2)
البزار: البحر الزَّخار (مسند البزار)، (ج4/ص307)، سؤال رقم (2757).
قال الحافظ الزيلعي في نصب الراية: " قال صاحب التنقيح: قال أحمد - يعني ابن حنبل-: هذا من أجود حديث المسح على الخفين؛ لأنَّهُ في غَزْوَةِ تَبُوكَ، وهي آخر غزوة غزاها "(1).
قال الترمذي في العلل الكبير: "سألت مُحمدًا - يعني البخاري - فقلت أي الحديث عندك أصح في التوقيت في المسح على الخفين؟، قال: حديث صفوان بن عسال وحديث أبي بكرة (2) حَسَنٌ، وسألته عن حديث هُشَيْمٍ، عن داود بن عمرو، عن بسر بن عبيدالله، عن أبي إدريس الخولاني، عن عوف: ((أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالْمَسْحِ
…
)) الحديث، فقال: هو حَدِيثٌ حَسَنٌ " (3).
قلتُ: والعلةُ المشار إليها هنا هي تفرد هُشَيْمٌ وهو ابن بشير أبو معاوية السلمي، وهو ثقة ثبت كثير التدليس والإرسال الخفي (4)، وقد أخرجه الطبراني في الأوسط، ثم قال: لا يروى عن عوف إلا بهذا الإسناد تفرد به هُشَيْمٌ (5). وأضف إلى ذلك معارضتهُ لحديث ابن عمر قوله: ((لَيسَ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَينِ وَقَتٌ، امْسَحْ مَا لمَ تَخَلَعْ)) (6).
فرجَّح الإمام أحمد حديث هُشَيْمٌ؛ لأنَّهُ في غَزْوَةِ تَبُوكَ، وهي آخر غزوة غزاها رسُول الله صلى الله عليه وسلم، فَعُلِمَ بذلك أنَّ حديث هُشَيْمٍ كان آخر الأمرين في التوقيت للمسح على الخفين، وبهذا وضحت أهمية تحديد ومعرفة الغزوات في الترجيح بين المرويَّات، ومما يؤيد ذلك ما رواه الدارقطني في السنن: " من طريق بقية ثنا أبو بكر بن أبي مريم ثنا عبدة بن أبي لبابة عن محمد
(1) الزيلعي: نصب الراية، (ج1/ص152).
(2)
وهو نفيع بن الحارث بن كلدة بن عمرو بن علاج بن أبى سلمة، أبو بكرة الثقفى (ت: 51 أو 52 هـ بالبصرة)، صحابى جليل، أخرج له الستة، تهذيب التهذيب (ج10/ص 418).
(3)
الترمذي: في العلل الكبير (ترتيب أبو طالب القاضي)(ج1/ص18).
(4)
ابن حجر العسقلاني: تهذيب التهذيب (ج11/ص53).
(5)
أخرجه الطبراني: في المعجم الأوسط (ج2/ص33)، برقم (1145).
(6)
أبو الحسن الدارقطني: السنن، كتاب الطهارة، باب الرخصة في المسح على الخفين وما فيه واختلاف الرويات، (ج1/ ص196).
الخزاعي عن عائشة قالت: ((مَا زَالَ رسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم يَمْسَحُ مُنْذُ أُنزِلَتْ عَلَيهِ سُورَةَ الْمَائِدَةَ حَتَى لَحَقَ بِاللهِ تَعَالَى)) " (1).
نتائج هامة:
- بمقارنة منهج الدارقطني في قرائن الترجيح، بمنهج النُّقاد المتقدمين نجد أنّ الدارقطني كان يستعمل قرائن الترجيح أكثر من غيره، إما تصريحاً، أو إشارة لبيان سبب الترجيح فيما ذهب إليه.
- من الملاحظ أنَّ غالب الأحكام التي كان النُّقاد المتقدمون والدارقطني يقررونها تكون مفسرة بقرائن ترجيح سواء إسنادية أو متنية، تبعاً للصحيح الراجح عندهم في المرويَّات.
- الترجيح عند النُّقاد المتقدمين والدارقطني لا يعني صحة الرواية عندهم بل قد يقولون: "وهذا أصح " أو " هذا الصحيح " ويقصدون بذلك إعلال الرواية بهذا الترجيح كصحة الرواية المرسلة الراجحة، وضعف الرواية المسندة المرجوحة.
وبنهاية هذا المطلب بفضل الله تعالى، ينتهي الفصل الثاني من الباب الرابع الذي هو نهاية هذا البحث المبارك، فلله الحمد والمنَّةِ.
رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا.
(1) المصدر السابق، كتاب الطهارة، باب المسح على الخفين، (ج1/ ص194).