المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الأول: مفهوم العلة من جهة الإسناد - منهج الإمام الدارقطني في نقد الحديث في كتاب العلل

[يوسف بن جودة الداودي]

فهرس الكتاب

- ‌الإهداء

- ‌مقدمة

- ‌أهداف البحث:

- ‌منهج البحث:

- ‌خطة البحث:

- ‌عقبات البحث:

- ‌تمهيد

- ‌ تعريف العلة لغةً واصطلاحاً

- ‌العلة في اللغة:

- ‌العلة في الاصطلاح:

- ‌ملخص الخلاف في تعريف العلة في الاصطلاح:

- ‌العلاقة بين المدلول اللغوي والاصطلاحي:

- ‌أهمية بيان علة الأحاديث والأخبار:

- ‌الباب الأولالإمام الدارقطني وكتابه العلل

- ‌الفصل الأولترجمة موجزة للإمام الدَّارَقُطْني رحمه الله

- ‌المبحث الأول: اسمه ونسبه ومولده

- ‌المبحث الثاني: نشأته وبداية طلبه للعلم

- ‌المبحث الثالث: رحلاته العلمية و‌‌شيوخهوتلامذته

- ‌شيوخه

- ‌تلامذته:

- ‌المبحث الرابع: منزلته العلمية

- ‌ثناء العلماء عليه:

- ‌المبحث الخامس: وفاته

- ‌المبحث السادس: آثاره العلمية

- ‌أولاً المخطوطات:

- ‌ثانياً المطبوعات:

- ‌المبحث السابع: دراسات علمية حول بعض مؤلفاته

- ‌الفصل الثانيالتعريف بكتاب العلل للإمام الدَّارَقُطْني

- ‌المبحث الأول:‌‌ اسم الكتابومؤلفه:

- ‌ اسم الكتاب

- ‌مؤلف الكتاب:

- ‌المبحث الثاني: قيمة الكتاب العلمية:

- ‌المبحث الثالث: محتوى الكتاب:

- ‌المبحث الرابع: مصادر الإمام الدارقطني في الكلام على العلل والرواة:

- ‌أولاً: المصادر التي صرح بها الدارقطني في كتابه:

- ‌ثانياً: المصادر التي لم يصرح بها الدارقطني في كتابه:

- ‌المبحث الخامس: الطريقة التي كان يسلكها الدارقطني في بيان العلل:

- ‌أولاً: الطريقة التي كان يسلكها الدارقطني غالباً في بيان العلة:

- ‌ثانياً: الطريقة التي كان الدارقطني أحياناً ما يسلكها في بيان العلة:

- ‌ثالثاً: الطريقة التي كان الدارقطني نادراً ما يسلكها في بيان العلة:

- ‌المبحث السادس: الأحاديث التي انتقدها الدارقطني في العلل على أحد الصحيحين:

- ‌أولا: الأحاديث التي انتقدها في كتاب العلل وقد أخرجها البخاري في أصل صحيحه:

- ‌ثانياً: الأحاديث التي انتقدها في كتاب العلل وقد أخرجها مسلم في أصل صحيحهٍ:

- ‌الباب الثانيالعلة وأجناسها عند الإمام الدارقطني

- ‌الفصل الأولمفهوم العلة عند الإمام الدارقطني

- ‌المبحث الأول: مفهوم العلة من جهة الإسناد

- ‌المبحث الثاني: مفهوم العلة من جهة المتن

- ‌أمثلة نقد الدارقطني لمتون الأحاديث:

- ‌نتائج هامة:

- ‌الفصل الثانيأجناس العلل الخفية والظاهرة في الإسناد والمتون

- ‌المبحث الأول: أجناس العلل التي ذكرها الحاكم وأمثلتها عند الدارقطني:

- ‌الأجناس التي ذكرها الحاكم وأمثلتها عند الدارقطني في كتاب العلل

- ‌المبحث الثاني: الأجناس التي لم يذكرها الحاكم وأمثلتها عند الدارقطني في كتاب العلل

- ‌المبحث الثالث: أجناس العلل الخفية في المتون:

- ‌المبحث الرابع: أجناس العلل الظاهرة

- ‌الباب الثالثألفاظ التعليل ومدلولاتها عند الإمام الدارقطني

- ‌الفصل الأولالألفاظ الدالة على ضعف الخبر أو عدم ثبوته

- ‌المبحث الأول: ألفاظ التضعيف ومدلولاتها عند الإمام الدارقطني

- ‌المطلب الأول: تعريف‌‌ الضعف لغةًواصطلاحاً

- ‌ الضعف لغةً

- ‌الضعيف في الاصطلاح:

- ‌علاقة الحديث الضعيف بالحديث المعلول:

- ‌المطلب الثاني: أهمية كتابة الحديث الضعيف

- ‌المطلب الثالث: ألفاظ التضعيف عند الدارقطني في العلل

- ‌المبحث الثاني: ألفاظ الوضع والبطلان ومدلولاتهما عند الإمام الدارقطني

- ‌المطلب الأول: تعريف الوضع والبطلان لغة واصطلاحاً

- ‌أولاً: تعريف الوضع لغةً:

- ‌ثانياً: تعريف الموضوع في الاصطلاح:

- ‌ثالثاً: تعريف البطلان لغةً:

- ‌رابعاً: تعريف الباطل في الاصطلاح:

- ‌المطلب الثاني: ألفاظ الوضع والبطلان عند الإمام الدارقطني

- ‌أولاً: لفظة: " كان يضع أو يكذب

- ‌ثانياً: لفظة: " قال ما لم يقله أحد من أهل العلم

- ‌ثالثاً: لفظة: " ليس هذا بشيء

- ‌رابعاً: لفظة: " وهذا الحديث باطل بهذا الإسناد

- ‌خامساً: لفظة: " هذا باطل عن فلان

- ‌سادساً: لفظة: " وكلها باطلة

- ‌ويتضح مما سبق:

- ‌نستنج أنَّ:

- ‌الفصل الثانيالألفاظ الدالة على الخطأ والوهم والاختلاف

- ‌المبحث الأول: ألفاظ الخطأ والوهم ومدلولهما عند الإمام الدارقطني

- ‌المطلب الأول: تعريف الخطأ والوهم لغةً

- ‌أولاً: تعريف الخطأ لغةً

- ‌ثانياً: تعريف الوهم لغةً

- ‌المطلب الثاني: ألفاظ الخطأ والوهم عند الدارقطني في العلل

- ‌أولاً: لفظتا " الخطأ والوهم مجتمعة

- ‌ثانياً: لفظة " الخطأ

- ‌ثالثاً: لفظة " الوهم

- ‌المبحث الثاني: ألفاظ المخالفة والنَّكارة ومدلولهما عند المحدثين والإمام الدارقطني

- ‌المطلب الأول: تعريف المخالفة لغة

- ‌المطلب الثاني: مفهوم المخالفة عند المحدثين والإمام الدارقطني

- ‌المطلب الثالث: ألفاظ المخالفة التي استعملها الإمام الدارقطني لبيان العلل

- ‌أولاً: لفظة " خالفه الثقات الحفاظ في إسناده

- ‌ثانياً: لفظة " خالفه فأدرج في متن الحديث

- ‌ثالثاً: لفظة " اختلف عنه: ووهم في ذلك إنَّما أراد كذا، بدل كذا

- ‌رابعاً: لفظة " خالفه فزاد زيادة الثقة

- ‌المطلب الرابع: تعريف النَّكارة لغة

- ‌المطلب الخامس: مفهوم النَّكارة وألفاظها عند المحدثين والإمام الدارقطني

- ‌الفصل الثالثالألفاظ الدالة على الغرابة والتفرد والترجيح

- ‌المبحث الأول: الغرابة والتفرد ومدلولهما عند النُّقاد والإمام الدارقطني

- ‌المطلب الأول: تعريف الغرابة والتفرد لغةً

- ‌أولاً: تعريف الغرابة لغةً

- ‌ثانياً: تعريف التفرد لغةً

- ‌المطلب الثاني: لفظا الغرابة والتفرد عند النُّقاد والدارقطني في العلل

- ‌أولا: لفظة " تفرد به فلان

- ‌ثانيا: لفظة " غريب

- ‌المبحث الثاني: ألفاظ الترجيح ومدلولاتها عند النُّقاد والإمام الدارقطني

- ‌المطلب الأول: تعريف الترجيح لغةً

- ‌المطلب الثاني: ألفاظ الترجيح عند النُّقاد والدارقطني في العلل

- ‌أولاً: ألفاظ: "وهو الصحيح" أو "والصحيح من ذلك " أو"والصحيح قول فلان

- ‌ثانياً: لفظة " وهو الصواب

- ‌ثالثاً: لفظة " فلان أثبت من فلان

- ‌رابعاً: لفظة " وهو الأشبه بالصواب

- ‌خامساً: لفظة " أحسنها إسناداً

- ‌الباب الرابعقرائن التعليل والترجيح عند الإمام الدارقطني

- ‌الفصل الأولقرائن التعليل عند الإمام الدارقطني

- ‌تمهيد: أهمية معرفة قرائن التعليل

- ‌المبحث الأول: دلائل العلة

- ‌المطلب الأول: التفرد ودلالته كقرينة عند النُّقاد والدارقطني

- ‌المطلب الثاني: المخالفة ودلالتها كقرينة عند النُّقاد والدارقطني

- ‌المبحث الثاني: قرائن التعليل الإسنادية

- ‌المطلب الأول: قرينة ضعف الثقة في بعض شيوخه الثقات

- ‌المطلب الثاني: قرينة ضعف الثقة في بعض البلدان

- ‌المطلب الثالث: قرينة ضعف الثقة في بعض الأحوال

- ‌المبحث الثالث: قرائن التعليل المتنية

- ‌المطلب الأول: قرينة مخالفة الحديث للسُنّة الثابتة المشهورة

- ‌المطلب الثاني: قرينة أنَّ الحديثَ لا يشبه كلام النبوة

- ‌المطلب الثالث: قرينة أنَّ الحديثَ لا يشبه حديث فلان

- ‌الفصل الثانيالمتابعات والقرائن وأثرهما في الترجيح عند الإمام الدارقطني

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأول: المتابعات وأثرها في الترجيح

- ‌المطلب الأول: تعريف المتابعات لغةً واصطلاحاً وحكمها:

- ‌أولاً: تعريف المتابعة لغة:

- ‌ثانياً: تعريف المتابعة اصطلاحاً وحكمها:

- ‌المطلب الثاني: أثر المتابعات في الترجيح عند النُّقاد والإمام الدرقطني:

- ‌المبحث الثاني: القرائن وأثرها في الترجيح

- ‌المطلب الأول: قرائن الترجيح بالأحفظ:

- ‌المطلب الثاني: قرينة الترجيح بالأقوى والأثبت في الشيوخ:

- ‌المطلب الثالث: قرائن الترجيح بتحديد التاريخ:

- ‌الخَاتِمة

- ‌النتائج الهامة في الدراسة:

- ‌التوصيات والمقترحات الهامة في الدراسة:

- ‌الفَهَارِسُ العِلْميَةُ

- ‌ثبَتُ المصَادر والمرَاجِع

الفصل: ‌المبحث الأول: مفهوم العلة من جهة الإسناد

‌الفصل الأول

مفهوم العلة عند الإمام الدارقطني

سنتعرض في هذا الفصل لمفهوم العلة من جهة الإسناد والمتن عند المحدثين المتقدمين وعلى رأسهم الإمام الدارقطني، ودراسة ومقارنة ذلك بمذهب المتأخرين من المحدثين، فإنَّه مما لا شك فيه أنَّ مفهوم العلَّة عند الإمام الدارقطني لم تختلف كثيراً عن مفهوم العلَّة عند المتقدمين من أئمة الحديث أمثال: الإمام أحمد بن حنبل، والإمام علي بن المديني، والإمام ابن أبي حاتم الرازي، والإمام أبي زُرْعَة الرَّازي، والإمامين البخاري ومسلم، والإمام الترمذي وغيرهم من المحدثين، فإنَّ مذهبهم في العلة واحد لا يختلف من حكم إمام إلى غيره، بل ينتظم في طريقٍ واحد، وفهمٍ ثاقب للعلل بأنواعها وأجناسها المختلفة التي قد تطرأ على الأحاديث والأخبار.

‌المبحث الأول: مفهوم العلة من جهة الإسناد

.

مفهوم العلة من جهة الإسناد عند المحدثين المتقدمين يشمل كل ما يطرأ على الإسناد مما يقدح فيه من أسباب الوهم والخطأ، أومن ضعفٍ وجرحٍ في الراوي، مما يدل على عدم حفظ أو ضَبط الراوي لمرويَّاته، وسواء كانت هذه العلة من ثقةٍ معروفٍ بالإتقانِ، أو كانت من ضعيفٍ مجروح بالاتفاقِ، أو كانت هذه العلَّة ظاهرة واضحة جلية، أو كانت خفية غامضة دقيقة، كل ذلك يسمى عندهم علَّة، إلا أن الغالب مما يطلق عليه علَّة عندهم الأسباب الخفية الغامضة، ونرى في كتب أئمة العلل الشيء الكثير مما يدل على ذلك، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

وقد أطلق بعض المحدثين والفقهاء المتأخرين بعض الألفاظ في مفهوم العلة، مما يوهم خلاف ما بيناه في تعريف مفهوم العلة عند المتقدمين فقالوا:" صحيحٌ معلولٌ " أو " علةٌ غير قادحة "، " وعلةٌ غير مؤثرة "، وما شابه ذلك.

فأما لفظة: " صحيحٌ معلولٌ "، فقد ذكر أبو يعلى الخليلي في بيان العلل: " أنَّ الأحاديث المروية عن رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم على أقسام كثيرة، صحيح متفق عليه، وصحيح معلول، وصحيح

ص: 97

مختلف فيه، وشواذ وأفراد، وما أخطأ فيه إمام، وما أخطأ فيه سيء الحفظ يُضعَّف من أجله، وموضوع وضعه من لا دين له

، فأما الحديث الصحيح المعلول فالعلة تقع للأحاديث من أنحاء شتى لا يمكن حصرها، فمنها أن يروي الثقات حديثا مرسلاً وينفرد به ثقة مسنداً، فالمسند صحيح وحجة، ولا تضره علة الإرسال " (1)

قلتُ: ثم ضرب بعض الأمثلة التي تبين مقصده، والخلاصةُ في ذلك: أنًّ الحديث قد يُروى مرسلاً، ويروى موصولاً كذلك، لكنَّ الموصول أصح عند النَّظر في القرائن والأدلة، ولم يقصد ما ذهب إليه بعض المتأخرين من الفقهاء من إطلاق الحكم في أنَّ بعض العلل لا تقدح، بل الناظر في الأمثلة التي ضربها تدل على أن مذهبه مثل المتقدمين في أنَّ العلة كلها تقدح في الحديث بلا ريب، إذا ثبتت العلة، أولم يكن ثَمَّ ترجيح بين الرِّوَايات المختلفة.

وأما لفظة: " علةٌ غير قادحة "، فقصدهم فيها العلة التي تقدح في الإسناد، ولا تقدح في متن الحديث لثبوت المتن من رواية أخري صحيحة، كما مَثَّل لذلك السيوطي فقال: " وقد يقدح في الإسناد خاصة ويكون المتن صحيحاً، كحديث يعلى بن عبيد عن الثوري عن عمرو بن دينار حديث:((الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ)) (2)، غلط يعلى إنما هو عبدالله ابن دينار

هكذا رواه الأئمة من أصحاب سفيان كأبي نعيم الفضل بن دُكَين، ومحمد ابن يوسف الفريابي، ومخلد بن يزيد وغيرهم " (3).

(1) أبو يعلى الخليلي: خليل بن عبدالله بن أحمد بن إبراهيم القزويني (ت: 446 هـ)، الإرشاد في معرفة علماء الحديث، طبع مكتبة الرشد، الرياض الطبعة الأولى 1409هـ، تحقيق: د. محمد سعيد عمر إدريس، (ج1/ 157 - 163).

(2)

أخرجه أحمد في المسند، من طريق سفيان عن عبد الله بن دينار (ج2/ص9)،برقم (4566).

(3)

السيوطي: عبدالرحمن بن أبي بكر الخضري (ت: 910 هـ)، تدريب الراوي في شرح تقريب النووي، مكتبة الرياض الحديثة، الرياض، تحقيق: عبدالوهاب عبداللطيف (ج1/ ص254).

ص: 98

فظهر أنَّ العلة قدحت في الإسناد، وإن كان الخطأ هو إبدال ثقة مكان ثقة آخر؛ لأنَّ هذا الخطأ يدل على وهم الراوي وعدم ضبطه لهذا الحديث.

وقال ابن الصلاح: " ثم قد تقع العلة في إسناد الحديث وهو الأكثر، وقد تقع في متنه ثم ما يقع في الإسناد قد يقدح في صحة الإسناد والمتن جميعاً، كما في التعليل بالإرسال والوقف، وقد يقدح في صحة الإسناد خاصة من غير قدح في صحة المتن "(1).

وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في النكت: " قوله - يعني ابن الصلاح -: " ثم قد تقع العلة في الإسناد وهو الأكثر وقد تقع في المتن

" إلى آخره قلت: إذا وقعت العلة في الإسناد قد تقدح، وقد لا تقدح، وإذا قدحت فقد تخصصه وقد تستلزم القدح في السند، وكذا القول في المتن سواء، فعلى هذا يكون للعلة ستة أقسام:

1 -

فمثال ما وقعت في الإسناد ولم تَقْدِح مطلقاً: ما يوجد مثلاً من حديث مدلّس بالعنعنة، فإن ذلك عِلَّةٌ تُوجِبُ التوقف عن قبوله، فإذا وجد من طريق أخرى قد صرح فيها بالسماع تبين أن العلة غير قادحة.

وكذا إذا اختلف في الإسناد على بعض رواته، فإنَّ ظاهر ذلك يوجب التوقف عنه، فإن أمكن الجمع بينها على طريق أهل الحديث بالقرائن التي تحفُّ الإسناد تبين أنَّ تلك العلة غير قادحة.

2 -

ومثال ما وقعت العلة فيه في الإسناد وتقدح فيه دون المتن: ما مثل به المصنف من إبدال راوٍ ثقة براوٍ ثقة وهو بقسم المقلوب أليق، فإن أبدل راوٍ ضعيف براوٍ ثقة وتبين الوهم فيه استلزم القدح في المتن أيضاً، إن لم يكن له طرق أُخرى صحيحة، كما روى يعلى بن عبيد الطَّنَافِسي، عن الثوري، عن عمرو بن دينار، عن ابن عمر، عن النَّبِي صلى الله عليه وسلم:((الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا))، فغلط يعلى في قوله: عمرو بن دينار إنمَّا هو عبد الله بن دينار، كما رواه الأئمة من أصحاب الثوري، يعني فلا يضر في صحة المتن؛ لأنَّ عبد الله وعَمْراً كلاهما ثقة.

(1) العراقي، التقييد والإيضاح شرح مقدمة ابن الصلاح (ص 117).

ص: 99

3 -

تقع العلة في الإسناد وتقدح فيه وفي المتن، ومن أغمض ذلك أن يكون الضعيف موافقاً للثقة في نعته.

ومثال ذلك: ما وقع لأبي أسامة حماد بن أسامة الكوفي، أحد الثقات عن عبدالرحمن بن يزيد بن جابر، وهو من ثقات الشاميين قدم الكوفة، فكتب عنه أهلها، ولم يسمع منه أبو أسامة، ثم قدم بعد ذلك عبدالرحمن بن يزيد بن تميم، وهو من ضعفاء الشاميين، فسمع منه أبو أسامة، وسأله عن اسمه فقال: عبدالرحمن بن يزيد، فظن أبو أسامة أنَّه ابن جابر فصار يحدِّث عنه وينسبه من قبل نفسه، فيقول: حدثنا عبدالرحمن بن يزيد بن جابر فوقعت المناكير في رواية أبي أسامة عن ابن جابر، وهما ثقتان فلم يفطن لذلك إلا أهل النقد، فميزوا ذلك ونصوا عليه كالبخاري وأبي حاتم وغير واحد.

4 -

ومثال ما وقعت العلة في المتن دون الإسناد ولا تَقْدَح فيهما: ما وقع من اختلاف ألفاظ كثيرة من أحاديث الصحيحين، إذا أمكن ردُّ الجميع إلى معنى واحد، فإن القدح ينتفي عنها.

5 -

ومثال ما وقعت العلة في المتن دون الإسناد: ما يرويه راوٍ بالمعنى الذي ظنَّه يكون خطأ، والمراد بلفظ الحديث غير ذلك، فإنَّ ذلك يستلزم القدح في الراوي، فيعلل الإسناد.

6 -

ومثال ما وقعت العلة فيه في المتن واستلزمت القدح في الإسناد: ما ذكره المصنف من أحد الألفاظ الواردة في حديث أنس رضي الله عنه وهي قوله: ((لَايَذْكُرُونَ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فِي أَوَّلِ الْقِرَاءَةِ وَلَا فِي آخِرِهَا)) (1)،فإنَّ أصل الحديث في الصحيحين فلفظ البخاري:((فَكَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ الْقِرَاءَةَ بِ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ})) (2).

(1) أخرجه الإمام أحمد في المسند: (ج3/ 223)، برقم (13361).

(2)

ابن حجر العسقلاني، النكت، طبعة دار الرَّاية، الرياض، (دت)، (ص288).

ص: 100

وأما لفظة: " علةٌ غير مؤثرة "، فالمراد منها أنَّه ثبت أنَّ الراجح فيها صحة الرواية فلم تؤثر هذه العلة على الحديث حيث زالت شبهة أنه معلول، ومثاله قول الإمام الذهبي: " فإن كانت العلة غير مؤثرة، بأن يرويه الثبت على وجه، ويخالفه واه، فليس بمعلول، وقد ساق الدارقطني كثيراً من هذا النمط في كتاب العلل، فلم يصب؛ لأنَّ الحكم للثبت فإن كان الثبت أرسله مثلاً، والواهي وصله، فلا عبرة بوصله لأمرين: لضعف راويه؛ ولأنَّه معلول بإرسال الثبت له.

ثم اعلم أنَّ أكثر المتكلم فيهم ما ضعفهم الحفاظ إلا لمخالفتهم للأثبات، وإن كان الحديث قد رواه الثبت بإسناد، أو أوقفه، أو أرسله، ورفقاؤه الأثبات يخالفونه، فالعبرة بما اجتمع عليه الثقات، فإنَّ الواحد قد يغلط، وهنا قد ترجح ظهور غلطه فلا تعليل، والعبرة بالجماعة، وإن تساوى العدد، وإن اختلف الحافظان، ولم يترجح الحكم لأحدهما على الآخر، فهذا الضرب يسوق البخاري ومسلم الوجهين منه في كتابيهما، وبالأولى سَوْقُهما لما اختَلَفا في لفظِهِ إذا أمكن.

ومن أمثلة اختلاف الحافظين: أن يسمي أحدهما في الإسناد ثقة، ويبدله الآخر بثقة آخر أو يقول أحدهما: عن رجل، ويقول الآخر عن فلان، فيسمي ذلك المبهم، فهذا لا يضر في الصحة، فأمَّا إذا اختلف جماعة فيه، وأتوا به على أقوال عدة، فهذا يوهن الحديث، ويدل على أنَّ راويه لم يتقنه، نعم لو حَدَّثَ به على ثلاثِة أوجهٍ تَرجعُ إلى وجهٍ واحد، فهذا ليس بمُعْتَلّ كأن يقول مالك، عن الزهري، عن ابن المسَّيب، عن

أبي هريرة ويقول عقيل: عن الزهري، عن أبي سلمة، ويرويه ابن عيينة: عن الزهري، عن سعيد، وأبي سلمة معا " (1).

قلتُ: فأمَّا قولهُ رحمه الله: " وقد ساق الدارقطني كثيراً من هذا النمط في كتاب العلل، فلم يصب

"، فليس بصواب؛ لأنَّ ذكر رواية الضعيف من باب ذكر الأوجه التي وردت

(1) الذهبي: الموقظة طبعة دار البشائر الإسلامية، بيروت، طبعة سنة1405هـ، (ص52 - 53).

ص: 101

في الحديث لتكون قرائن الترجيح أوسع، فإنَّه مما لا شك فيه عند المحدثين أن الثقة قد يخطئ، كما أن الضعيف قد يصيب، غير أنَّ خطأ الضعيف أكثر من الثقة.

والمعيار الذي يُبنى عليه الحكم على خطأ الراوي في الرواية، هو مقارنة المرويَّات والقرائن المرجحة، ومعرفة المخالفة والتفرد، ونحن نرى الكثير من أئمة هذا الشأن يصنعون مثل ما صنع الدارقطني في العلل، وعلى رأسهم الإمام أحمد بن حنبل في كتابه العلل، وابن أبي حاتم في العلل وغيرهم من المحدثين المتقدمين، وهذا المسلك أدق، والله أعلم.

ولقد وصف الحافظ ابن رجب طريقتهم في الحكم على التفرد فقال: " وأمَّا أكثر الحفاظ المتقدمين فإنهم يقولون في الحديث إذا تفرد به واحد -وإن لم يرو الثقات خلافه-: إنَّه لا يتابع عليه، ويجعلون ذلك علة فيه، اللهم إلا أن يكون ممن كثر حفظه واشتهرت عدالته وحديثه كالزهري ونحوه، وربما يستنكرون بعض تفردات الثقات الكبار أيضاً، ولهم في كل حديث نقد خاص، وليس عندهم لذلك ضابط يضبطه ". (1)، وهذا مما يدل على دقة منهج المحدثين المتقدمين في مفهوم العلة وتعليلهم وتصحيحهم للأحاديث، وسوف أسوق بيان ذلك بالأمثلة والبراهين الدالة عليه:

1.

الدليل على أنهم كانوا يعتبرون مخالفة الثقة لمن هو أوثق في إعْلال المرويَّات:

المثال الأول: قال البرقاني في العلل: " وسئل - الدارقطني - عن حديث عاصم بن عمر بن الخطاب، عن عمر رضي الله عنهم عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في فضل ما يقال عند الأذان.

فقال - الدارقطني -: هو حديث يرويه عمارة بن غزية، عن خبيب بن عبدالرحمن، واختلف عن عمارة، فرواه إسماعيل بن جعفر، عن عمارة، عن خُبَيب، عن حفص بن عاصم، عن أبيه، عن عمر رضي الله عنهم، فوصل إسناده ورفعه إلى النَّبِي صلى الله عليه وسلم، حدث به عنه كذلك إسحاق بن محمد الفروي، ومحمد بن جهضم، ورواه إسماعيل بن عياش، عن عمارة بن غزية، عن خُبَيب بن

(1) ابن رجب: شرح علل الترمذي، طبعة دار الكلمة مصر، سنة 1418هـ (ص272 - 273).

ص: 102

عبدالرحمن مرسلاً، عن النَّبِي صلى الله عليه وسلم. ووقفه يحيى بن أيوب عن عمارة بن غزية، عن خُبَيب، وحديث إسماعيل بن جعفر المتصل قد أخرجه البخاري ومسلم في الصحيح، وإسماعيل بن جعفر أحفظ من يحيى بن أيوب وإسماعيل بن عياش وقد زاد عليهما وزيادة الثقة مقبولة، والله أعلم " (1).

قلتُ: ووجه العلة التي أشار إليها الدارقطني أنَّ الحديث رواه بعض الثقات متصلاً، ورواه آخرون مرسلاً، والذين رووه متصلاً أوثق ممن أرسلوه.

وقد رجح الشيخان المتصل فأخرجاه، وأما قوله وزيادة الثقة مقبولة، فسوف يأتي الحديث عنها ضمن الفصل القادم إن شاء الله تعالى.

المثال الثاني: قال البرقاني في العلل: " وسئل - الدارقطني - عن حديث وهب بن ربيعة، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ((إنّي لَمُسْتَتِرٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، إِذْ جَاءَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ كَثِيرٌ شَحْمُ بُطُونِهِمْ قَلِيلٌ فِقْهُ قُلُوبِهِمْ

)) الحديث، وفيه فأنزل الله عز وجل: {وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ

} (2) الحديث.

(1) أبو الحسن الدارقطني: العلل، (ج2/ 182 - 183) سؤال رقم (205).

(2)

أخرجه البخاري على الوجه الصحيح في الجامع الصحيح (مع الفتح)، كتاب تفسير القرآن، باب وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم

الآية، (ج8/ ص659)، برقم (4817)، ومسلم في الجامع الصحيح (بشرح النووي) كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، (ج9 / ص134 - 135)، برقم (2775)، والترمذي في السنن، تفسير القرآن، باب ومن سورة حم السجدة، (ج5 / ص375) برقم (3248)، ثلاثتهم من طريق سفيان، عن منصور، عن مجاهد، عن أبي معمر، عن ابن مسعود به، وأما الوجه المعلول فقد أخرجه كذلك الترمذي في السنن، كتاب تفسير القرآن باب ومن سورة حم السجدة، (ج5 / ص375)، برقم (3249)، من طريق أبي معاوية، عن الأعمش، عن عمارة بن عمير عن عبدالرحمن بن يزيد قال: قال عبدالله نحوه. قلتُ: وهو الإسناد المعلول الذي أشار إليه الدارقطني، والذي أُدخل فيه عبدالرحمن بن يزيد بدلاً من وهب بن ربيعة.

ص: 103

قال - الدارقطني -: يرويه الأعمش واختُلِف عنه، فرواه الثوري، عن الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن وهب بن ربيعة، عن عبدالله، وتابعه عبدالله بن بشر الرَّقي، عن الأعمش، ورواه أبو معاوية الضرير، وقطبة بن عبد العزيز، عن الأعمش، عن عمارة عن عبدالرحمن بن يزيد، عن عبدالله. قال قطبة: قلتُ للأعمش أنَّ سفيان الثوري يقول هو وهب بن ربيعة، قال: فأطرق ثم همهم ساعة، ثم رفع رأسه فقال: صدق سفيان هو وهب بن ربيعة، وخالفهم أبو مريم عبدالغفار فرواه: عن الأعمش، عن عمارة، عن زيد ابن وهب الجهني، عن عبدالله. رواه الحسن بن عمارة والمسعودي، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عبدالله. ووهما فيه، ورواه شعبة، عن الأعمش، عن رجل، عن عبدالله والقول قول سفيان الثوري وعبدالله بن بشر، ورواه زيد بن أبي أنيسة، عن الأعمش، عن أبي الضُّحَى، عن مسروق، عن عبدالله.

حدثنا محمد بن إبراهيم بن نَيْرُوْزٍ،

وأبو علي محمد ابن سليمان بن علي المالكي بالبصرة قالا: ثنا أبو موسى محمد بن المثنى، ثنا يحيى بن سعيد القطان، حدثنا سفيان الثوري، حدثني الأعمش، عن عمارة بن عمير عن وهب بن ربيعة، عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال:((كُنْتُ مُسْتَتِرًا بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فَجَاءَ ثَلاثَةُ نَفَرٍ كَثِيرٌ شَحْمُ بُطُونِهِمْ قَلِيلٌ فِقْهُ قُلُوبِهِمْ قُرَشِيٌّ وَخَتَنَاهُ ثَقَفِيَّانِ أَوْ ثَقَفِيٌّ وَخَتَنَاهُ قُرَشِيَّانِ فَتَكَلَّمُوا بِكَلامٍ لَمْ أَفْهَمْهُ فَقَالَ أَحَدُهُمْ أَتَرَوْنَ أَنَّ اللَّهَ يَسْمَعُ كَلامَنَا هَذَا فَقَال الْآخَرُ إِنَّا إِذَا رَفَعْنَا أَصْوَاتَنَا سَمِعَهُ وَإِذَا لَمْ نَرْفَعْ أَصْوَاتَنَا لَمْ يَسْمَعْهُ فَقَالَ الْآخَرُ: إِنْ سَمِعَ مِنْهُ شَيْئًا سَمِعَهُ كُلَّهُ فَقَال عَبْدُاللَّهِ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَنْزَلِ اللَّهُ: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ}،حَتَى بَلَغَ {فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ}))] فصلت الآيات: (21 - 23) [.

ولفظ ابن نَيْرُوْزٍ: حدثنا محمد بن سليمان المالكي، ومحمد بن إبراهيم بن نَيْرُوْز، قالا: أنبأ أبو موسى محمد بن المثنى، ثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد، عن أبي معمر، عن عبدالله نحوه. تفرد به يحيى القطان، عن سفيان، عن منصور أخرجه البخاري عن عمرو بن علي، عن يحيى. وأخرجه مسلم عن أبي بكر بن خلاد عن يحيى، حدثنا أبو علي بن الصواف، عن عبدالله بن أحمد بن حنبل، قال: حدثني محمد بن عبدالله ابن نمير، ثنا قبيصة،

ص: 104

عن قطبة، قال: قال رجل للأعمش حين حَدَّثَ بحديث عبدالرحمن بن يزيد، عن عبدالله:((كُنْتُ مُسْتَتِراً)) إنِّ سفيان يحدث به عنك عن وهب بن ربيعة، قال: فهمهم الأعمش ساعة، ثم قال: هو كما قال سفيان " (1).

قلتُ: ووجه العلة التي أشار إليها الدارقطني أنَّ الحديث رواه سفيان الثوري، عن الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن وهب بن ربيعة، عن عبدالله. أدخل فيه وهب بن ربيعة بين عمارة بن عمير وعبدالله بن مسعود. وخالفه أبو معاوية الضرير، فرواه: عن الأعمش، عن عمارة، عن عبدالرحمن بن يزيد، عن عبدالله، فأدخل عبدالرحمن بن يزيد بدلاً من وهب بن ربيعة، وخالفه كذلك غيره، وخلاصة الأمر أنَّ أصحاب الأعمش على سبعِ طبقات، وسفيان الثوري من الطبقة الأولى وهو على رأسهم، ثم يأتي أبو معاوية في الطبقة الثالثة، لذا كانت رواية سفيان مقدمة على كلِّ من روى هذا الحديث؛ لأنَّه أوثق الناس في الأعمش، قال الحافظ ابن رجب:" قال ابن أبي حاتم وسمعت أبي يقول: أحفظ أصحاب الأعمش الثوري ". وقال أيضاً: " قال ابن أبي خيثمة سمعت يحيى بن معين يقول: لم يكن أحد أعلم بحديث الأعمش من سفيان الثوري "(2).

المثال الثالث: قال البرقاني في العلل: " وسُئل - الدارقطني - عن حديث أبي الأسود الديلي، عن عمر رضي الله عنه عن النبَّي صلى الله عليه وسلم:((أَيُّمَا رَجُلٍ شَهِدَ لَهُ أَرْبَعَةٌ منْ جِيرَانِهِ بِخَيْرٍ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ)) (3).

(1) أبو الحسن الدارقطني: العلل، (ج5 /ص 279 - 280) سؤال رقم (881).

(2)

ابن رجب: شرح علل الترمذي، (ص 375).

(3)

أخرجه على الوجه المحفوظ: البخاري في الجامع الصحيح (مع الفتح)، كتاب الجنائز، باب ثناء الناس على الميت، (ج3/ص261)، برقم (1368)، بلفظ " أَيُّمَا مسلم شهد له "، وكذا النسائي في السنن، كتاب الجنائز، باب الثناء، (ج4/ص352)، برقم (1933)، كلاهما من طريق داود بن أبي الفرات، عن عبدالله بن بريدة، عن أبي الأسود، وأما لفظ " أَيُّمَا رجل" فلم أجده.

ص: 105

فقال - الدارقطني -: هو حديث رواه عبدالله بن بريدة واختلف عنه: فرواه داود بن أبي الفرات وهو ثقة عن ابن بريدة، واختُلِف عن داود فقال: يعقوب الحضرمي، عن ابن بريدة، عن يحيى بن يعمر، عن أبي الأسود، ووهم في ذكر يحيى بن يعمر في إسناده لكثرة من خالفه من الثقات الحفاظ عن داود منهم: عفان بن مسلم، وعبدالصمد بن عبدالوارث، وزيد بن الحباب، ويونس بن محمد المؤدب، وأبو عبدالرحمن المقري، وأبو الوليد الطَّيالسي، وشيبان بن فروخ وغيرهم، فإنَّهم رووه عن داود، عن ابن بريدة، عن أبي الأسود لم يذكروا بينهما أحداً. وكذلك رواه سعيد بن رزين، عن عبدالله بن بريدة، عن أبي الأسود كرواية الجماعة عن داود. ورواه عمر بن الوليد، عن عبدالله بن بريدة مرسلاً، عن عمر لم يذكر بينهما أحداً. والمحفوظ من ذلك ما رواه عفان ومن تابعه عن داود بن أبي الفرات، وقد أخرجه البخاري ومسلم في الصحيح مثل ما رواه عفان، عن داود، عن ابن بريدة، عن أبي الأسود، والله أعلم " (1).

قلتُ: ووجه العلة التي أشار إليها الدارقطني أنَّ يعقوب الحضرمي أدخل في الإسناد يحيى بن يعمر بين عَبْدِاللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ وأَبِي الأَسْوَدِ، وهو وهم؛ لأنَّه خالف رواية جماعة من الثقات منهم عفان بن مسلم وغيره، كما أخرجه البخاري فقال: حَدَّثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ هُوَ الصَّفَّارُ حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي الْفُرَاتِ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ قَالَ:((قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ وَقَدْ وَقَعَ بِهَا مَرَضٌ فَجَلَسْتُ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فَمَرَّتْ بِهِمْ جَنَازَةٌ فَأُثْنِيَ عَلَى صَاحِبِهَا خَيْرًا، فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: وَجَبَتْ. ثُمَّ مُرَّ بِأُخْرَى فَأُثْنِيَ عَلَى صَاحِبِهَا خَيْرًا، فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: وَجَبَتْ. ثُمَّ مُرَّ بِالثَّالِثَةِ فَأُثْنِيَ عَلَى صَاحِبِهَا شَرًّا، فَقَالَ: وَجَبَتْ. فَقَالَ أَبُو الأَسْوَدِ: فَقُلْتُ وَمَا وَجَبَتْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: قُلْتُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَيُّمَا مُسْلِمٍ شَهِدَ لَهُ أَرْبَعَةٌ بِخَيْرٍ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ. فَقُلْنَا وَثَلاثَةٌ قَالَ: وَثَلاثَةٌ، فَقُلْنَا وَاثْنَانِ قَالَ: وَاثْنَانِ ثُمَّ لَمْ نَسْأَلْهُ عَنِ الْوَاحِدِ)).

(1) أبو الحسن الدارقطني: العلل (ج2/ ص 248 - 249) سؤال رقم (247).

ص: 106

وفيه ترجيح رواية الثقات على رواية الثقة إذا خالفهم في الإسناد، وأما قوله وأخرجه مسلم فوهم من الدارقطني رحمه الله، فإن مسلم لم يخرج الحديث، وإنَّما أخرجه البخاري في صحيحه، والنَّسائي في السنن كما ذكرنا آنفاً.

2.

الدليل على أنَّهم كانوا يعتبرون مخالفة الثقة للضعيف في إعْلال المرويَّات:

المثال الأول: قال الإمام البرقاني في العلل: " وسُئل - الدارقطني - عن حديث أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((فَضَلُ العَالمِ عَلَىَ العَابِدِ سَبْعُونَ دَرَجَةً مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ مَسِيرَةُ حُضَر جُوادٍ مِائَةَ عَامٍ)) "(1).

فقال - الدارقطني -: يرويه الزهري واختلف عنه فرواه: هشام بن سعد، عن الزهري مرسلاً عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وقال مبشر بن إسماعيل، عن عبدالله بن محرر، عن الزهري عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم والمرسل أصح" (2).

قلتُ: ووجه ذلك أنَّ الحديث مداره على الزهري، رواه عبدالله بن محرر، عن الزهري مرفوعاً، ورواه هشام بن سعد، عن الزهري مرسلاً. وقد رجَّح الدارقطني حديث هشام بن سعد المرسل على مرفوع عبدالله بن محرر وهو ضعيف، فقد قال ابن معين: ليس بثقة وضعفه (3)، وقال ابن أبى حاتم: سألت أبا زُرعة عن عبدالله بن محرر؟ ، فقال ضعيف الحديث ، وامتنع من قراءة حديثه ، وضَرَبْنَا عليه، وقال أبو حاتم: متروك الحديث منكر الحديث ، ضعيف الحديث ترك حديثه عبدالله بن المبارك (4)، أما هشام بن سعد فمختلف فيه

(1) أخرجه ابن عدي: عبدالله بن عدي بن محمد أبو أحمد الجرجاني (ت: 365هـ)، الكامل في ضعفاء الرِّجال دار الفكر بيروت، الطبعة الثالثة 1409هـ، تحقيق: يحيى مختار غزاوي (ج3/ص60).

(2)

أبو الحسن الدارقطني: العلل (ج9/ص267)، برقم (1749).

(3)

ابن عدي:، الكامل في ضعفاء الرِّجال، (ج4 /ص132).

(4)

ابن أبي حاتم: عبدالرحمن بن أبي حاتم بن محمد بن إدريس، أبي محمد الرَّازي (ت: 327هـ) الجرح والتعديل، دار الكتب العلمية، بيروت الطبعة الهندية الأولى سنة 1371هـ (ج5/ 176).

ص: 107

والخلاصة أنه حسن الحديث، وأخرج له مسلم متابعات في الصحيح.

المثال الثاني: قال البرقاني في العلل: " وسئل - الدارقطني - عن حديث علقمة بن وقاص الليثي، عن عمر رضي الله عنه، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:((إنِّمَا الأَعْمَالُ بِالْنِّياتِ)) الحديث

... فقال - الدارقطني -: هو حديث يرويه يحيى بن سعيد الأنصاري، عن محمد بن إبراهيم عن علقمة بن وقاص، عن عمر، وهو حديث صحيح عنه.

وحدث بهذا الحديث شيخ من أهل الجزيرة يقال له: سهل بن صقير، عن الدراوردي وابن عيينة وأنس بن عياض، عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن محمد بن إبراهيم، عن علقمة بن وقاص، عن عمر، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

ووهم على هؤلاء الثلاثة فيه وإنَّما رواه هؤلاء الثلاثة وغيرهم، عن يحيى بن سعيد الأنصاري لا عن محمد بن عمرو، وإنِّمِا رواه عن محمد بن عمرو بن علقمة الربيع بن زياد الهمداني وحده، ولم يتابع عليه إلا من رواية سهل بن صقير عن هؤلاء الثلاثة، وقد وهم عليه فيه، والصحيح حديث يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم، وروى عن حجاج بن أرطاة، عن محمد بن إبراهيم، عن علقمة بن وقاص، عن عمر. قال: ذلك زيد بن بكر بن خنيس، عن حجاج.

وروى هذا الحديث مالك بن أنس، واختلف عنه فرواه: عبدالمجيد بن عبدالعزيز بن أبي رواد، عن مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، ولم يتابع عليه، وأمَّا أصحاب مالك الحفاظ عنه فرووه: عن مالك، عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم، عن علقمة بن وقاص، عن عمر، وهو الصواب.

حَدَّثَنَا أبو وهيب يحيى بن موسى، حَدَّثَنَا محمد بن الوليد، قال: ثنا عبد الوهاب قال: سمعت يحيى بن سعيد، يقول: سمعت محمد بن إبراهيم، يقول: سمعت علقمة بن وقاص الليثي، يقول: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يقول: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ، وَإِنَّمَا لامْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ

ص: 108

وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ)) " (1).

قلتُ: انظر كيف ذكر وهم وخطأ سهل بن صقير، وهو أبو الحسن الخلاطي بصري الأصل ضعيف قال فيه الحافظ ابن حجر العسقلاني:" قال ابن عدي: حدثنا عنه القاسم ابن عبدالرحمن الفارقي بأحاديث فيها بعض الإنكار، وسهل ليس بالمشهور وأرجو أنَّه لا يتعمد الكذب، وإنَّما يغلط أو يشتبه عليه الشيء فيرويه، وقال أبو بكر الخطيب: يضع الحديث، وقال ابن ماكولا: فيه ضعف"(2).

المثال الثالث: قال الإمام ابن أبي حاتم في العلل: " وَسَأَلْتُ أَبِي، وَأَبَا زُرْعَةَ عَنِ الحَدِيث رَوَاهُ سُفْيَان الثوري، وشريك، عَن الأعمش، عَن الحكم بْن عُتيبة، عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَن بلال، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فِي المسح عَلَى الخفين. قَالا: وَرَوَاهُ أَيْضًا عِيسَى بْن يُونُسَ، وَأَبُو مُعَاوِيَةَ، وابن نُمير، عَن الأعمش، عَن الحكم عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجرة، عَن بلال، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

وَرَوَاهُ زائدة، عَن الأعمش، عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَن البراء، عَن بلال، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قلت لَهما: فأيُّ هَذَا الصَّحِيحُ؟

قَالَ أَبِي: الصحيح من حَدِيث الأعمش، عَن الحكم، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَن بلال، بلا كعب، قُلْتُ لأَبِي: فمن غير حَدِيث الأعمش قَالَ: الصحيح ما يَقُولُ شُعْبَة، وأبان ابْن تغلب، وزيد بْن أَبِي أنيسة أَيْضًا، عَن الحكم، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَن بلال، بلا كعب، وَقَالَ أَبِي: الثوري، وشعبة أحفظهم.

قُلْتُ لأَبِي: فإن ليث بْن أَبِي سليم يُحدّث فيضطرب، يحدث عَنْهُ يَحْيَى بْن يعلى، عَن الحكم، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، عَن بلال، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وعن أَبِي بَكْرٍ، وعمر

(1) أبو الحسن الدارقطني: العلل (ج2/ص191 - 193)، سؤال رقم (213).

(2)

ابن حجر العسقلاني: تهذيب التهذيب (ج4 /ص223).

ص: 109

فِي المسح. وَرَوَاهُ معتمر، عَنْ لَيْثٍ، عَن الحكم، وحبيب بْن أَبِي ثابت، عَن شريح بْن هانئ، عَن بلال، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ: الصحيح حَدِيث الأعمش، عَن الحكم، عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ كَعْبٍ، عَن بلال، قَالَ أَبِي وأَبُو زُرْعَةَ: ليث لا يُشْتَغَل بِهِ فِي حَدِيث مثل ذي كثير هُوَ مضطرب الحديث.

قُلْتُ لأَبِي زُرْعَةَ: أليس شُعْبَة، وأبان بْن تَغْلِب، وزيد بْن أَبِي أنيسة، يَقُولُونَ عَن الحكم، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَن بلال، بلا كعب؟

قَالَ أَبُو زُرْعَةَ: الأعمش حافظ، وَأَبُو مُعَاوِيَةَ، وعيسى بْن يُونُسَ، وابن نُمير، وهؤلاء قد حفظوا عَنْهُ، ومن غير حَدِيث الأعمش، والصحيح عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَن بلال، بلا كعب، وَرَوَاهُ منصور، وشعبة، وزيد بْن أبي أُنيسة، وغير واحد، إِنَّمَا قلت من حَدِيث الأعمش " (1).

قلتُ: والظاهر من كلام ابن أبي حاتم أن رواية ليث بْن أَبِي سليم، معلولة بالاضطراب، على الرغم من أنَّه ضعيف، فقد ذكر الحافظ ابن حجر كلام أهل الحديث فيه، فقال:" قال معاوية بن صالح عن ابن معين: "ضعيف"، إلا أنَّهُ يُكتب حديثه، وقال إبراهيم بن سعيد الجوهري، عن يحيى بن معين: كان يحيى بن سعيد لا يحدث عنه.

وكذا قال عمرو بن علي وابن المثنى وعلي بن المديني، وزاد عن يحيى بن معين: مجالد أحب إلي من ليث وحجاج بن أرطاة، وقال: أبو المعتمر القطيعي كان ابن عيينة يضعف ليث بن أبي سليم " (2). ولم يُنظر لكون أنَّه ضعيف، لاحتمال إصابته في الرواية، كما يحتمل خطأ الثقة، ولم يكن أَبُو حَاتِم وأَبُو زُرْعَةَ ليدركا خطأه لمجرد أنَّه ضعيف، بل كان الحكم عليه بعد

(1) ابن أبي حاتم: العلل، طبعة الجريسي، الرياض، 1427هـ، (ص193)، برقم (11).

(2)

ليث بن أبي سليم بن زنيم القرشي مولاهم أبو بكر، ويقال أبو بكر الكوفي (ت:148)، أخرج له البخاري في التعاليق ومسلم والأربعة في السنن، كما قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: تهذيب التهذيب (ج8 /ص418).

ص: 110

مقارنة مرويَّاته، بغيره ومعرفة الموافقة والمخالفة للثقات الأثبات، ولا يكون ذلك إلا بعد السبر الحثيث لمرويَّات الحديث.

المثال الرابع: قال الإمام مسلم في التمييز: " حدثنا زهير بن حرب، ثنا إسحاق بن عيسى، ثنا ابن لهيعة قال: كتب إلي موسى بن عقبة يقول: حدثني بسر بن سعيد عن زيد بن ثابت رضي الله عنه: ((أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ فِي الْمَسْجِدِ)). قلت لابن لهيعة: مسجد في بيته؟ قال: مسجد الرَّسُول صلى الله عليه وسلم.

قال مسلم: وهذه رواية فاسدة من كل جهة، فاحش خطؤها في المتن والإسناد جميعا وابن لهيعة الْمُصَحِّفُ في متنه الْمُغَفَّل في إسنادهِ. وإنَّما الحديث:((أنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم احْتَجَرَ فِي الْمَسْجِدِ بِخُوصَةٍ، أَوْ حَصِيرٍ يُصَلِّي فِيهَا)) (1)، وسنذكر صحة الرواية في ذلك إن شاء الله " (2).

ثم قال أيضاً: " الرواية الصحيحة في هذا الحديث ما ذكرنا عن وهيب وذكرنا عن عبدالله بن سعيد، عن أبي النضر، وابن لهيعة إنما وقع في الخطأ من هذه الرواية أنه أخذ الحديث من كتاب موسى بن عقبة إليه فيما ذكر، وهي الآفة التي نخشى على من أخذ الحديث من الكتب من غير سماع من المحدث، أو عرض عليه، فإذا كان أحد هذين - السماع أو العرض - فخليق أن لا يأتي صاحبه التصحيف القبيح، وما أشبه ذلك من الخطأ الفاحش إن شاء الله. وأما الخطأ في

(1) أخرجه على الوجه الصحيح: البخاري في الجامع الصحيح (مع الفتح)، كتاب الأدب، باب ما يجوز من الغضب والشدة لأمر الله تعالى، (ج10/ص584)، برقم (6113)، ومسلم في الجامع الصحيح (بشرح النووي) كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب صلاة النافلة في بيته وجوازها في المسجد، (ج3 / ص325 - 326)، برقم (781)، أبو داود في السنن، كتاب الصلاة، باب في فضل التطوع في البيت، (ج1 / ص458)، برقم (1447)، ثلاثتهم من طريق أبي النضر مولى عمر بن عبيدالله، عن بسر بن سعيد، عن زيد بن ثابت به، وغيرهم.

(2)

مسلم بن الحجاج: التمييز (مع منهج النقد عند المحدثين)، طبعة مكتبة الكوثر، الرياض، (ص 187)، حديث رقم (55).

ص: 111

إسناد رواية ابن لهيعة فقوله: كتب إلي موسى ابن عقبة يقول: حدثني بسر بن سعيد وموسى، إنِّما سمع هذا الحديث من أبي النضر يرويه عن بسر بن سعيد" (1)

قلتُ: ومعلوم أن ابن لهيعة: وهو عبدالله بن لهيعة بن عقبة بن فرعان بن ربيعة بن ثوبان الحضرمي (ت: 173 - 174هـ)، مختلف في توثيقه وتجريحه (2)، والراجح فيه أنَّه ضعيف مختلط، فمن حدث عنه قبل احتراق كتبه (3)، فهو صحيح، ومن حدث عنه بعد ذلك فهو ضعيف، والذين حدثوا عنه قبل احتراق كتبه قليل وهم العبادلة عبدالله ابن المبارك، وعبدالله بن وهب، وعبدالله بن يزيد المقرئ، قال الحافظ ابن رجب في شرح علل الترمذي: " وقد سمع منه قبل احتراق كتبه ابن المبارك والمقرئ، كذا قال الفلاس وغيره، وقاله ابن معين في رواية عنه.

ومنهم من قال: "حديثه في عمره كله واحد، وهو ضعيف"، وهو المشهور عن يحيى ابن معين، وأنكر أن تكون كتبه احترقت وقال:" لا يحتج به ".

وقال أبو زُرعة: " سماع الأوائل والأواخر منه سواء، إلا أن ابن وهب وابن المبارك كانا يتبعان أصوله، وليس ممن يحتج به ".

وقال ابن مهدي: " ما أَعْتَدُ بشيءٍ سمعته من حديث ابن لهيعة، إلا سماع ابن المبارك ونحوه ".

وروى عن أحمد أنَّه قال: " سماع العبادلة من ابن لهيعة عندي صالح: عبدالله بن وهب

(1) مسلم بن الحجاج: التمييز (مع منهج النقد عند المحدثين)، (ص 188)، حديث رقم (57).

(2)

ابن حجر العسقلاني: تهذيب التهذيب (ج5 /ص327).

(3)

قال الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب (ج5/ ص 329): " احترقت كتب ابن لهيعة سنة تسع وستين ومات سنة ثلاث أو أربع وسبعين، وقال البخاري: عن يحيى بن بكير احترقت كتب ابن لهيعة سنة سبعين ومائة، وكذا قال يحيى بن عثمان بن صالح السهمي عن أبيه، ولكنه قال: لم تحترق بجميعها إنما احترق بعض ما كان يقرأ عليه، وما كتبت كتاب عمارة بن غزية إلا من أصله وقال أبو داود: قال ابن أبي مريم لم تحترق ".

ص: 112

وعبدالله بن يزيد المقرئ، وعبدالله ابن المبارك ".

وقال ابن حبان: " سبرت أخباره فرأيته يدلس على أقوام ضعفاء على أقوام ثقات قد رآهم، ثم كان لا يبالي، ما دُفع إليه قرأه، سواء كان من حديثه أو لم يكن من حديثه! فوجب التنكيب عن رواية المتقدمين عنه قبل احتراق كتبه، لما فيها من الأخبار المدلسة عن المتروكين، ووجب ترك الاحتجاج برواية المتأخرين بعد احتراق كتبه، لما فيها مما ليس من حديثه "(1).

3.

الدليل على أنهم كانوا يعتبرون بعض أسباب الجرح الظاهرة في إعْلال المرويَّات:

المثال الأول: قال الإمام البرقاني في العلل: " وسئل - الدارقطني - عن حديث جابر عن أبي بكر رضي الله عنه، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال: ((اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ)) "(2).

فقال - الدارقطني -: يرويه محمد بن إسماعيل الوساوسي، عن زيد بن الحباب عن عبد الرحمن بن سليمان بن الغسيل، عن شرحبيل، عن جابر، عن أبي بكر عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ولم يتابع عليه الوساوسي هذا ضعيف. وغيره يرويه عن شرحبيل ابن سعد مرسلاً ولا يذكر فيه جابراً ولا أبا بكر" (3).

قلتُ: وهذا الحديث بعينه في كتاب البحر الزخار مسند البزار قال: " وروى عبدالرحمن بن الغسيل، عن شرحبيل بن سعد، عن جابر، عن أبي بكر رضي الله عنه، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال:((اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ))، وهذا الحديث إنَّما حدث به رجل كان بالبصرة، عن زيد بن الحباب وكان

(1) ابن رجب: شرح علل الترمذي، (ص140 - 141).

(2)

أخرجه على الوجه الصحيح: البخاري في الجامع الصحيح (مع الفتح)، كتاب الزَّكاة، باب اتقوا النار ولو بشق تمرة والقليل من الصدقة، (ج3 / ص322)، برقم (1417)، ومسلم في الجامع الصحيح (مع شرح النووي)، كتاب الزَّكاة، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة، (ج4 / ص109)، برقم (1016)، من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه، وغيرهما.

(3)

أبو الحسن الدارقطني: كتاب العلل (ج1 / ص 221 - 222)، سؤال رقم (27).

ص: 113

متهما فيه، يقال: أن ليس له أصل من هذا الوجه فأمسكنا عن ذكره " (1).

المثال الثاني: قال الإمام البرقاني في العلل: " وسئل - الدارقطني - عن حديث عمر عن أبي بكر رضي الله عنهم عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: ((وإنَّا لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا فَهُوَ صَدَقَةٌ)) (2) الحديث بطوله.

فقال - الدارقطني -: رواه مالك بن أنس وأبو أويس وزياد بن سعد، عن الزهري عن مالك بن أوس، عن عمر، عن أبي بكر حدث به عن مالك كذلك جماعة منهم: بشر بن عمر، وعمرو بن مرزوق، وإسحاق بن محمد الفروي، والهيثم بن حبيب غزوان فأسندوا هذه الألفاظ عن عمر، عن أبي بكر. وغيرهم يرويه عن مالك فيسندها عن عمر عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.

وروى هذا الحديث: معمر، وابن أبي عتيق، وشعيب بن أبي حمزه، وأسامة بن زيد وغيرهم، فأسندوا هذه الألفاظ عن مالك بن أوس بن الحدثان، عن عمر، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وذكروا في الحديث عن عمر، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنهم أنَّه قال:((أَنَا وَلِيُّ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم أَعْمَلُ كَمَا عَمِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم))، ورواه عبدالملك بن عمير، عن الزهري فأسنده عن مالك بن أوس بن الحدثان عن أبي بكر أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:((لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا فَهُوَ صَدَقَةٌ))، لم يذكر بينهما عمر بن الخطاب

حدث به عن عبد الملك بن عمير كذلك تَلِيدُ بن سليمان وحده، ولم يكن بالقوي في الحديث - كان يشتم - عثمان بن عفان وأبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنهما " (3).

قلتُ: وتَلِيدُ بن سليمان هو المحاربى، أبو سليمان، ويقال أبو إدريس، الكوفى، وهذا رافضي خبيث يشتم الخلفاء الرَّاشدين رضوان الله عليهم، قال المزِّي: " قال أبو داود: رافضى

(1) أحمد بن عمرو بن عبد الخالق أبو بكر البزار (ت: 292)، مسند البزار (حديث رقم 64).

(2)

أخرجه على الوجه الصحيح: البخاري في الجامع الصحيح (مع الفتح) في مواضع، منها كتاب المغازي، باب حديث بني النّضير، (ج7 / ص378)، برقم (4034)، ومسلم في الجامع الصحيح (مع شرح النووي)، كتاب الجهاد والسير، باب قول النَّبي صلى الله عليه وسلم لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا فَهُوَ صَدَقَةٌ، منها (ج6 / ص320)، برقم (1759)، وغيرهما.

(3)

أبو الحسن الدارقطني: كتاب العلل (ج1 / ص 168 - 171)، سؤال رقم (6).

ص: 114

خبيث، رجل سوء، يشتم أبا بكر وعمر. قال النَّسائى: ضعيف.

وقال يعقوب بن سفيان: رافضى خبيث، سمعت عبيد الله بن موسى يقول لابنه محمد: أليس قد قلت لك، لا تكتب حديث تَلِيد هذا. وقال صالح بن محمد الحافظ: كان سيىء الخلق، وكان أصحاب الحديث يسمونه: بَلِيدُ بن سليمان، لا يحتج بحديثه، وليس عنده كبير شىء. وقال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني: سمعت أحمد بن حنبل يقول: حدثنا تَلِيدُ بن سليمان، وهو عندي كان يكذب " (1).

والحديث في البحر الزَّخار مسند البزار: " حدثنا محمد بن المثنى قال: نا أبو الوليد هشام بن عبد الملك قال: نا حماد يعني ابن سلمة، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن أبي بكر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ ".

وحدثناه إبراهيم بن زياد قال: نا عبد الوهاب بن عطاء قال: نا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن أبي بكر، وعمر رحمة الله عليهما نحوه. وهذا الحديث لا نعلم أحداً، رواه فوصله إلا حماد بن سلمة وعبدالوهاب، وغيرهما يرويه عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة مرسلاً " (2).

مما سبق يتضح:

أنَّ الدارقطني عند ذكره للمرويَّات الضعيفة كشاهد في الترجيح بين المرويَّات المختلفة، كان يتبع في ذلك منهج المتقدمين من المحدثين النقاد في التعليل وهو أوسع وأدق.

وأنَّ مذهب المتأخّرين في مفهوم العلة من جهة الإسناد يختلف عن المتقدمين في عدة أمور:

أولاً: أنَّ المتأخّرين لا يعتبرون مخالفة الضعيف علة، لاعتبارهم أنَّ العلة أو الشذوذ هو مخالفة الثقة لمن هو أوثق منه، أو مخالفة الثقة للثقات، دون اعتبار لروايَّات الضعفاء مما ضيق

(1) المزِّي: جمال الدين يوسف بن عبدالرحمن، أبو الحجاج (ت: 742)، تهذيب الكمال، مؤسسة الرسالة الطبعة الرابعة 1406هـ، تحقيق د. بشار عواد معروف (ج4 / ص 322 - 323).

(2)

أحمد بن عمرو أبو بكر البزار: البحر الزَّخار مسند البزار (حديث رقم 18).

ص: 115

واسعاً، وهو قول الحاكم وابن الصلاح والذهبي وغيرهم، بخلاف النقاد المتقدمين فأنهم يعتبرون في الترجيح بكل الرِّوايات الواردة في الحديث بما في ذلك الضعيفة.

ثانياً: أنَّ النقاد المتأخّرين يشترطون في العلة أن تكون خفية غامضة، وهو قول ابن الصلاح، والعراقي، والذهبي وغيرهم، بخلاف النقاد المتقدمين فإنهم كانوا يعتبرون بالعلل كلها الغامضة والظاهرة على السواء.

نتائج هامة:

- أنَّ النّقاد المتقدمين كانوا يعتبرون بخطأ الضعيف في تعليل الرواية، لمعرفة الراجح من الاختلاف بين المرويّات، بخلاف المتأخرين فإنهم لا يعتبرون برواية الضعيف في التعليل.

- أنَّ طريقة المتقدمين أدق وأوسع من طريقة المتأخرين في الترجيح بين المرويَّات التي طرأت عليها العلة، سواء وقع فيها: الخلاف، أو الخطأ في الرواية أو التفرد.

- أنَّ منهجهم في معرفة الراجح في الخلاف، أو الاضطراب هو جمع جميع المرويَّات التي رويت في هذا الحديث سواء كانت صحيحة أو ضعيفة من جهة السند.

- أنَّ الدارقطني مثل غيره من النقاد المتقدمين، كان يعتبر الأسباب الغامضة والظاهرة في بيان العلة التي قد تطرأ على المرويَّات في الحديث.

- العلة في مفهومِ المتقدمين من جهة الإسناد أعم مِنْها عِنْدَ المتأخرين، وَهُوَ أقرب إلى معناها اللغوي والاصطلاحي عند المحدثين.

ص: 116