الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صلة العلم بالدين في العصر الحديث:
(أو العلاقة بين المادة والروح)
إن الانبهار والذهول أمام التقدم العلمي الذي سحر أعين الناس وقلوبهم قد شكل معالم القضية الماثلة للأذهان وهي: ضمور الاعتقاد بالغيبيات والحقائق الدينية حيث ساد في وقت ما الاعتقاد أن العلم سيحقق السعادة الكاملة وبذلك يمكن الاستغناء عن العقائد الدينية.
هذه هي القضية الملحة التي دارت حولها المناقشات وتشكل حجر الزاوية في ملامح العصر الحاضر.
ويرى برتراند رسل أن العلوم في العصور الجديدة أسكرت البشر ودفعت الكثيرين للسيطرة على بقية البشر بواسطة القوى التي حققها التقدم العلمي، وهو لا ينتقد هذه المعارف العلمية في ذاتها، ولكن ينتقد وضعها في أيدي أناس يفتقدون الحكمة. ولو وضعت في أيدي الحكماء لعرفوا كيف يستخدمونها.
إن هذه الحكمة موجودة إلا أنها - مع الأسف - لا حول لها ولا قوة على الأحداث، ثم يعطينا فكرة عن ضرورة تحقيق التعادل بين قوتي العلماء والحكماء فيقول:(لقد دعا الأنبياء والحكماء إلى تجنب الدنايا والصغائر، ولو أننا أنصتنا إليهم لعشنا في سعادة متجددة)(1) .
والرأي الذي ذهب إليه رسل يشاركه فيه الكثيرون في الآونة الأخيرة بعد المراحل التي مر بها العلم منذ عدة قرون، فقد توقع أغلب العلماء في القرن التاسع عشر الميلادي الذين آمنوا بالعلم، توقعوا له القدرة على الإحاطة في المستقبل بمجهولات الغيب التي لم يحط بها في ذلك الحين ولكن حينما أطل القرن العشرون تواضعت دعوى العقل (2) .
وأخذت عقول العلماء تنحني إجلالا لحقائق ما فوق طور العلم التجريبي الحسي، ورأينا الاعترافات تصدر من علماء كثيرين لهم مكانتهم فها هو أنيشتين يقول:(العلم بغير دين أعرج، والدين بغير علم أعمى) .
(1) رسل: هل الإنسان مستقل؟ ص 12 - 13.
(2)
العقاد: عقائد المفكرين في القرن العشرين ص 32 - 35.
ويقف مندهشًا أمام السر في نجاح العلماء معللا إياه بالإلهام مقرراً في يقين (إن العاملين في العلم الجادين في عصرنا هذا المادي هم وحدهم الذين يتصفون بالتدين العميق)(1) .
ويقرر كارليل أن التقدم الهائل الذي أحرزته علوم الجماد على علوم الحياة هو أحد الكوارث التي تعاني منها الإنسانية، ويعلل ذلك بأن قوانين العلاقات البشرية ما زالت غير معروفة، لأن علوم الاجتماع والاقتصاد والنفس علوم تخمينية افتراضية، على عكس ما ظنه الكثيرون عندما خدعوا في بعض المذاهب التي حازت شهرة في صفحات التاريخ وعلى ألسنة الناس، كمبادئ الثورة الفرنسية وخيالات ماركس ولينين (2) .
ما هي النتيجة إذن بين التقدم الهائل في العلوم التجريبية وبين قصور العلوم الإنسانية عن اللحاق بها؟
يجيب الدكتور حسين مؤنس على هذا السؤال بقوله: (فإن الذين يفكرون في الدمار أنشط بكثير ممن يفكرون في البناء؟ فهناك من صنع القنبلة الذرية التي قتلت مائة ألف في ثوان وزاد عليه الذي صنع القنبلة الهيدروجينية التي تقتل المائتي ألف في ثوان، ثم جاء صاحب قنبلة النيوترون التي تشل أهل البلد الضخم وتصرعهم دون أن تؤذي العقارات والأشياء (3) .
ويتبين من ذلك أن العلم التجريبي أقام مدنًا ومصانع وجامعات وعبَّد الطرق، وساهم في تسهيل المواصلات وتذليل عقبات لا تحصى في حياة الإنسان، ولكنه ساهم في الوقت نفسه في تعاسته للأسباب الآنفة. كذلك يرجع فشل العلوم الإنسانية في علاج الأزمات لكونها افتراضية تخمينية وليست تقريرًا لواقع وبرهانًا على حقائق، إذ لا تملك وسائل الإثبات وتنقصها دقة مناهج العلوم الأخرى في الهندسة والفيزيقا
(1) أدرين كوخ: آراء فلسفية في أزمة العصر ص 112 ترجمة محمود محمود، الأنجلو سنة 1963.
(2)
الكسيس كارليل: الإنسان ذلك المجهول ص 44.
(3)
د. حسين مؤنس: الحضارة ص 136.
والكيمياء والطب وغيرها من العلوم.
وهكذا أصبح العالم المتحضر منتفخًا بالإمكانيات ولكنه ضامر بالإرادات، أشياؤه كثيرة وأفكاره قليلة.
وهذا الوضع البائس المتناقض بين وفرة الأشياء وفراغ النفس أدخل البشرية في دوامة يصاب الإنسان فيها بالدوار (1) .
ولا نجد مبررًا للدفاع عن الجانب العلمي التكنولوجي بحجة وصول الإنسان إلى القمر إذ أن هذا النجاح يحمل في ذاته دلالة مفادها أن الصاروخ الذي يحمل مركبة الفضاء يستطيع إن يحمل قنابل ذات رؤوس نووية تصل إلى أي مكان في العالم فتهلك الحرث والنسل، قد تعود بالإنسان في طرفة عين إلى العصر الحجري من جديد.
ولكن ما معنى ذلك كله في ضوء البحث عن السعادة الحقيقية للإنسان على هذه الأرض، وما أثره على موقف المدافعين عن العقيدة الدينية في مواجهة المسحورين بالمخترعات العلمية لا سيما في العالم الإسلامي الذي يشعر بالفارق الضخم بينه وبين العالم الغربي؟
معناه أن منهج المعرفة الخاص بالكون قد هدى الله إليه الإنسان (أما منهج المعرفة الخاص بالإنسان نفسه، فإنه لما كان من العسير على الإنسان أن يعرف نفسه بنفسه فقد هداه الله إليه بالوحي في رسالات السماء)(2) .
ومعناه أيضًا: أن ركني الحضارة الإنسانية بمعناها الصحيح لا بد أن تحقق الارتقاء أو التحسن المادي والمعنوي معًا.
ونحن نميل إلى الرأي الذي يغلب التحسن المعنوي على التحسن المادي، (لأن الغاية القصوى للتحسين هي شعور الإنسان بالأمان والاطمئنان والكفاية،
(1) د. خالص جلبي: الطب في محراب الإيمان ج 2 ص 29 ط مؤسسة الرسالة - بيروت 1391 هـ - 1971 م.
(2)
أنور الجندي: سقوط العلمانية ص 74 - دأر الكتاب اللبناني - بيروت 1393 هـ - 1973 م.