الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
منصب، أو جاه، أو الحصول على أموال، فإنه (لم يقبل من أحد شيئًا من النفقات السلطانية، ولا من الكسوة، ولا من الإدارات ولا غيرها، ولا تدنس بشيء من ذلك)(1) ، فهو يسعى إلى تحقيق ما يحبه الله ورسوله، فإذا ما قابلته بعض الخصومات، فإنه لا ينظر إليها نظرة شخصية خاصة، وإنما يتحمل كل الصعاب في سبيل هدفه العام الذي عاش من أجله (نحن إنما ندخل فيما يحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون، ليس لنا غرض مع أحد، بل نجزي بالسيئة الحسنة، ونعفو ونغفر)(2) .
وكانت حياة الشيخ برهانًا على صدق قوله، واقتران العلم بالعمل. إنه تمكن من خصومه كما بينا فلم يصبهم بأذى، وعندما سجنه الملك الناصر، أصبح ذلك دليلاً على أنه لم يحاول أن يستمد قوته من الأمير، بل كان يعلن ما يراه حقًا (ولو كان يستمدها من الناصر ما ألقاه في غيابة السجن، فكان هذا هو الدليل القاطع على أنه متبوع لا تابع، وحر سيد نفسه، وليست نفسه، ولا فكره ملكًا لأحد)(3) وبذلك نراه يتخلق بأخلاق العالم المسلم.
منهجه:
تكاد تنحصر معالم المنهج لدى ابن تيمية في مميزات ثلاثة:
أحدها: إثبات اتفاق الدليل العقلي مع الدليل النقلي.
الثانية: رفضه لمصطلحات المتكلمين والفلاسفة وإخضاعها للمعاني الإسلامية قبل البت في قبول استخدامها أو رفضها لأن التعبير عن حقائق الإيمان بعبارات القرآن أولى من التعبير عنها بألفاظ محدثة فيها إجمال واشتباه ونزاع، والثالثة هدمه للمنطق الأرسططاليسي واستبعاده.
فبالنظر إلى الدليلين العقلي والنقلي فإن التعارض يأتي بسبب ضعف أحدهما أو كليهما أما الدليلان القطعيان فلا يجوز تعارضهما سواء كانا عقليين أو سمعيين أو أحدهما عقليًا والآخر سمعيًا، لأن القرآن دل على الأدلة العقلية وبينها ونبه عليها
(1) ابن كثير: البداية والنهاية ج 14 ص 42.
(2)
محنة الشيخ ص 58.
(3)
محمد أبو زهرة: التعريف بابن تيمية ص 690 من كتاب أسبوع الفقه الإسلامي.
ونستطيع أن نستدل بالآيات العديدة على الأمر بالتدبر والفهم والتعقل، ولكن ابن تيمية يشترط ألا نقدم العقل بالإطلاق ويرى أن الجزم بتقديم الدليل العقلي ظاهر الفساد بالضرورة لأن وجود الله سبحانه وتعالى لا يتوقف على وجود الإنسان أو عقله المخلوق، وقد جاءت آيات الله السمعية والعقلية العيانية والسماعية كلها متوافقة متصادقة لا يناقض بعضها بعضًا.
وإذا تكلم أهل الكلام فيما يسمونه بـ (أصول الدين) كمسائل التوحيد والصفات الإلهية والنبوة والقدر والمعاد وغيره، فلا بد أن يكون المبين الأول والشارح لها هو الرسول صلى الله عليه وسلم ما دامت باعترافهم أصولاً في الدين، ولا حجة لهم بالاستمساك بدعوى (الأدلة العقلية) ؛ لأنه كان صلى الله عليه وسلم يتمتع بأكثر العقول وأعلاها ذكاء وفطنة، وهو كغيره من الأنبياء الذين خاطبوا عقول البشر وتسلحوا بأدلتها المتوافقة مع الفطرة فأخبروا الأمم التي بعثوا إليها بمجيزات العقول لا بمحالات العقول.
وقبل استخدام المصطلحات الكلامية والفلسفية كان على ابن تيمية توضيح مدلولاتها لا سيما ما تردد كثيرًا بحكم القضايا المعروضة للبحث والمناقشة كالتأويل مثلاً، فالتأويل لغة ما يؤول الأمر إليه إن كان موافقًا لمدلول اللفظ ومفهومه في الظاهر، أو تفسير الكلام وبيان معناه وإن كان موافقًا له. أو صرف اللفظ من الأمثال الراجحة إلى الاحتمال المرجوح.
ويظهر معنى التأويل الذي استأثر الله بعلمه (1) أي: الحقيقة التي لا يعلمها إلا هو كصفة النزول والاستواء والمجيء والإتيان فلا نعرف كيفيتها - فإن ذات الله سبحانه ليست كذوات المخلوقين وكذلك صفاته وأفعاله ليست كصفات المخلوقين وأفعالهم.
وعارض الفلسفة التي اعتبرها إسلامية مجازًا لأنها في أصلها يونانية، وكان يشير دائمًا إلى أن الرومان واليونان كانوا مشركين وكانوا يعبدون الهياكل والأصنام
(1) فإذا تحدث عن الاستواء (فإننا لا نعلم الكيفية التي اختص بها الرب مع أننا نعرف أن تفسيره العلو والاعتدال ولكننا لا نعرف الفارق الذي امتاز به الرب، فصرنا نعرفه من وجه ونجهله من وجه، وذلك تأويله) تفسير سورة الإخلاص ص 112.
الأرضية ومنهم أرسطو وأمثاله من الفلاسفة المشائين.
كذلك في مناقشاته مع المتكلمين، عارض الألفاظ والاصطلاحات التي استخدمها علماء الكلام لأنها لا تعطي مدلولات إسلامية صحيحة، ولكنه لم يعارض استخدام الأدلة العقلية، بل ذهب إلى خطأ القول بأن الأدلة الواردة بالكتاب والسنة مجرد أدلة نقلية، فذهب إلى أنها عقلية أيضًا - أي أن العقول تجيزها فتزنها مستندة لآيات القرآن المنوهة بشأن العقل كقوله تعالى:(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى)[طه، الآية: 128] أي العقول وقوله عز وجل: (هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ)[الفجر، الآية: 5] لذي عقل وقوله عز وجل: (وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ)[البقرة، الآية: 197] وقوله سبحانه وتعالى: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ)[الأنفال، الآية: 22] فإن الله سبحانه وتعالى مدح وأثنى على ذوي العقول وبالعكس ذم غيرهم ممن لا يسمع أو يعقل في قوله تعالى عن أهل النار: (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ)[الملك، الآية: 10](1) .
[وسيأتي بيان ذلك كله عند حديثنا عن طرق القرآن] .
الواجب إذن أن يجعل ما أنزل الله من الكتاب والحكمة أصلاً في جميع أصول الدين فإن القرآن جعله الله تعالى شفاء لما في الصدور.
ومن هنا عارض كافة البدع التي يعارض بها الكتاب والسنة التي يسميها أهلها كلاميات وعقليات وفلسفات أو ذوقيات ووجدانات وحقائق وغير ذلك لأنها لا بد أن تشتمل على لبس حق بباطل وكتمان حق.
ويعلل ابن تيمية ظهور البدع الكلامية والصوفية والفلسفية بسببين أحدهما ذاتي والآخر خارجي:
الأول: ابتداع ألفاظ ومعاني جعلوها هي الأصل المعقول المحكم وساروا في طريق التأويل تبعاً لما اعتقدوه صحيحًا وفقًا لأحكامهم العقلية.
الخارجي: وموجزه: أنه قد تخفى آثار الرسالة في بعض الأمكنة والأزمنة؟ حتى لا يعرفون ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فإما أن لا يعرفوا اللفظ وإما أن يعرفوا
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ج 10 ص 435 - 436.
اللفظ ولا يعرفون معناه.
أما طريقة القرآن الحكيم في الجدل فقد تضمنتها الآية الكريمة في قوله تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)[النحل: 125] حيث أنها راعت حال المخاطبين حسب أحوالهم لأن الإنسان له ثلاثة أحوال:
إما أن يعرف الحق ويعمل به فيدعى بالحكمة، وإما أن يعرفه ولا يعمل به، إذ تخالفه نفسه فهذا يوعظ الموعظة الحسنة، فهذان هما الطريقان - الحكمة والموعظة. وعامة الناس يحتاجون إلى هذا وهذا؟ فإن النفس لها هوى يدعوها إلى خلاف الحق وإن عرفته فالناس يحتاجون إلى الموعظة الحسنة وإلى الحكمة؟ فلا بد من الدعوة بهذا وهذا.
ولكن النوع الثالث من الناس لا يعرف الحق فحسب بل يعارضه.
ولهذا فلا يدعى بالجدل، بل هو من باب دفع الصائل، فإذا عارض الحق معارض، جودل بالتي هي أحسن ولهذا قال:(جَادِلْهُمْ)، فجعله فعلاً مأمورا به مع قوله:(ادعهم) فأمره بالدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة وأمره أن يجادل بالتي هي أحسن ولم يقل: بالحسنة كما قال في الموعظة لأن الجدال فيه مدافعة ومغاضبة؛ فيحتاج أن يكون بالتي هي أحسن؛ حتى يصلح ما فيه من الممانعة والمدافعة.
وهكذا فإن مقصود القرآن بيان الحق ودعوة العباد إليه لا الجدال بغير علم، فهذا مما ذمه الله تعالى بقوله:(هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ)[آل عمران: 66] .
كذلك من سمات منهجه - الاكتفاء بالقرآن والسنة - ففيهما بيان كافة ما يحتاج إليه الإنسان في معرفة الدين وتنظيم المعاش في الدنيا، واستلزم منه هذا التصور أن يجمع في مؤلفاته بين المباحث التي شغلت المتكلمين والفلاسفة والصوفية، فأخذ يناقش كل طائفة مستدلاً على صحة أقواله بالآيات والأحاديث، مثبتًا أن في هذين المصدرين وحدهما كافة ما يحتاج إليه من معارف في أمور الدين، وأنهما يعبران عن ذاتية الإسلام في مواجهة كل الآراء والنظريات والفلسفات التي ابتدعها البشر، على اختلاف طرقهم في البحث والاستدلال.
قال شيخ الإسلام في هذا الصدد: (ومن تأمل ما تكلم به الأولون والآخرون في أصول الدين والعلوم الإلهية وأمور المعاد والنبوات والأخلاق والسياسات والعبادات وسائر ما فيه كمال النفوس وصلاحها وسعادتها ونجاتها، لم يجد عند الأولين والآخرين من أهل النبوات ومن أهل الرأي كالمتفلسفة وغيرهم إلا بعض ما جاء به القرآن.
ولهذا لم تحتج الأمة مع رسولها وكتابها إلى نبي آخر وكتاب آخر، فضلاً عن أن تحتاج إلى شيء لا يستقل بنفسه بل بغيره، سواء كان من علم المحدثين والملهمين، أو من أرباب النظر والقياس الذين لا يعتصمون مع ذلك بكتاب منزل من السماء) (1) .
وسنعرض فيما يلي بالترتيب لتفاصيل منهج شيخ الإسلام الذي برهن به على ضرورة الاكتفاء بطرق القرآن وأدلته العقلية اليقينية المتفقة مع الفطرة الإنسانية.
وكانت عناية الشيخ الفائقة متجهة إلى هدم المنطق الأرسططاليسي واستبعاده ونقض حدوده وقضاياه كما سيأتي.
وكان يحاول أيضًا التقريب بين وجهات النظر، ما دامت الأصول المتفق عليها واحدة، إذ بالرغم من الخصومات العنيفة الحادثة بين الفرق والمذاهب في عصر شيخ الإسلام، فإنه حاول التقريب بين الاتجاهات المتقاربة إذ وجد مواضيع الالتقاء كثيرة، وأظهر الاتفاق في الأصول وأغضى عن الخلافات في دقائق المسائل التي تخفى على الكثير فإن الكلام في مسألة الكلام حير عقول أكثر الأنام ودوافعه في ذلك أن الله تعالى أمرنا بالجماعة والائتلاف ونهانا عن الفرقة والاختلاف، فقال لنا في القرآن:(وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا)[آل عمران: 103] .
وقال: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ)[الأنعام: 159] .
وقال: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ)[آل عمران: 105] .
(1) ابن تيمية: جواب أهل العلم والإيمان ص 44 - 45 ط - دار الكتب العلمية بيروت 1394 هـ - 1974 م.