المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

زعم أنه دخل في مكان وحش قذر رديء وإن قال: - منهج علماء الحديث والسنة في أصول الدين

[مصطفى حلمي]

فهرس الكتاب

- ‌الباب الأول

- ‌الفصل الأول:عصر الصحابة رضي الله عنهم

- ‌أصول الدين في عصر النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة:

- ‌رد الرسول صلى الله عليه وسلم على وفد نجران:

- ‌القرآن كلام الله تعالى:

- ‌الإيمان بالقدر وفهمه على الوجه الصحيح:

- ‌الملائكة:

- ‌الفصل الثاني:مكانة الصحابة رضي الله عنهم في الأمة

- ‌منهج الصحابة في النظر والتدبر:

- ‌أولا: الأدلة النقلية:

- ‌ثانيًا الدليل العقلي:

- ‌الباب الثانيأحداث الردة والفتن

- ‌الافتراق عن مذهب الصحابة في أصول الدين:

- ‌موقف التابعين إزاء المخالفين:

- ‌أحوال أهل الجنة:

- ‌ظهور الجدل في أصول الدين

- ‌مذهب أهل السنة والجماعة:

- ‌الباب الثالثنشأة الكلام في الدين وعوامل ظهوره

- ‌الفصل الأول:

- ‌مراحل ظهور الكلام في الدين:

- ‌ عوامل نشأة المشكلات الكلامية

- ‌ذم السلف للكلام المبتدع:

- ‌ أسباب ذم علم الكلام

- ‌علم الكلام بين الأصالة والابتداع:

- ‌الفصل الثاني:علم الكلام:

- ‌أهم موضوعات علم الكلام:

- ‌حجج المتكلمين في الدفاع عن منهجهم:

- ‌رأي علماء الحديث في هذه الحجج:

- ‌الباب الرابعموقف أهل الحديث والسنة من المعتزلة

- ‌الفصل الأول:

- ‌التعريف بعلماء الحديث ومنهجهم:

- ‌سلاسل الإسناد:

- ‌منهج علماء الحديث في أصول الدين:

- ‌موقف أهل الحديث والسنة من المعتزلة

- ‌الأصول الخمسة عند المعتزلة:

- ‌كلمة عن الصفات الإلهية وأثر الإيمان بها:

- ‌ الإيمان بالقدر وعلاقته بالإرادة الإنسانية:

- ‌دوافع علماء الحديث لمجابهة المتكلمين:

- ‌علم الكلام لدى علماء الحديث والسنة:

- ‌الفصل الثاني:

- ‌محاورات علماء أهل الحديث والسنة مع المعتزلة:

- ‌1 - الإمام أحمد بن حنبل وابن أبي دؤاد

- ‌حياته وعصره:

- ‌منهجه مع المتكلمين:

- ‌المحنة:

- ‌2- عبد العزيز المكي. وبشر المريسي:

- ‌المنهج:

- ‌صفات الله عز وجل:

- ‌إثبات أن كلام الله تعالى ليس مخلوقًا

- ‌الفرق بين الجعل والخلق

- ‌إقامة الحجة بالتنزيل

- ‌إقامة الحجة بالنظر والقياس

- ‌إثبات علم الله - تعالى - بنص التنزيل:

- ‌إثبات الفعل والقدرة بالنظر والقياس

- ‌أولا: بالنظر والمعقول:

- ‌ثانيًا: إثبات أن القرآن كلام الله بمنهج القياس:

- ‌الاستواء على العرش:

- ‌الفصل الثالث:

- ‌صلة العقل بالشرع

- ‌تعريف الشرع:

- ‌تعريف العقل بين فلاسفة اليونان ولغة عدنان:

- ‌أدلة الشرع عقلية:

- ‌تعقيب:

- ‌الباب الخامس

- ‌علم الكلام على مفترق الطرق

- ‌السلف والأشاعرة:

- ‌محنة خلق القرآن ونتائجها المنهجية:

- ‌التعريف بابن كلاب:

- ‌إثبات صفة العلو لله تعالى شرعًا وعقلاً:

- ‌الإمام أبو الحسن الأشعري والمنهج السلفي:

- ‌ مدى التمايز بين المنهجين

- ‌ صفات الله سبحانه وتعالى:

- ‌ نظرية الكسب الأشعرية وتفسير أفعال الإنسان:

- ‌عدل الله تعالى وحكمته:

- ‌نظرية الجوهر الفرد وتفسير الخلق والبعث:

- ‌توافق أدلة الكتاب والسنة مع الواقع المشاهد:

- ‌صعوبات أمام النظرية في تفسير البعث:

- ‌تحول أئمة الأشعرية إلى طريقة السلف:

- ‌تقييم ابن تيمية لشيوخ الأشاعرة:

- ‌طريقة السلف أعلم وأحكم:

- ‌الباب السادس

- ‌موقف ابن تيمية من القضايا الكلامية:

- ‌مقدمة:

- ‌حياته وعصره:

- ‌خلقه:

- ‌منهجه:

- ‌هدم المنطق الأرسططاليسي وإعلاء الميزان القرآني:

- ‌الفطرة الإنسانية وطرق المعرفة:

- ‌الهدى والبينات:

- ‌مواقفه إزاء القضايا الكلامية

- ‌الصفات الإلهية:

- ‌إثبات صفات الله تعالى وأفعاله بالأدلة العقلية:

- ‌ طرق البراهين القرآنية

- ‌ الميزان القرآني:

- ‌ قياس الأولى:

- ‌ اللزوم والاعتبار:

- ‌الباب السابع

- ‌القضايا الكلامية في العصر االحاضر

- ‌المشكلات الكلامية في ضوء التفسير التاريخي:

- ‌مسائل الإجماع في العقيدة والعبادات:

- ‌الالتقاء بالغرب وآثاره على القضايا الكلامية:

- ‌ما هي الحضارة

- ‌صلة العلم بالدين في العصر الحديث:

- ‌المشكلات الكلامية الطارئة في العصر الحديث:

- ‌ملامح الفكر الإسلامي المعاصر:

- ‌الباب الثامندراسة في الفكر الإسلامي المعاصر

- ‌حياته وعصره

- ‌موقف محمد إقبال من الحضارة الغربية:

- ‌إقبال بين الغرب والشرق:

- ‌أهم آرائه:

- ‌الإنسان في القرآن:

- ‌الحقيقة بين التجربة العلمية والتجربة الدينية:

- ‌المراجع

الفصل: زعم أنه دخل في مكان وحش قذر رديء وإن قال:

زعم أنه دخل في مكان وحش قذر رديء وإن قال: خلقهم خارجًا عن نفسه ثم لم يدخل فيهم رجع عن قوله أجمع. وهو قول أهل السنة.

ومثل هذا النص يعطينا صورة عن طريقة الجدل عند الإمام، بل إن أكثر أجزاء كتابه تمضي على هذا النحو القائم على نظر عقلي محض. ويجعلنا ندرك أنه تصدى للمعتزلة بالمنهج العقلي قبل ظهور المذهب الأشعري بزمن طويل.

وها نحن أمام نموذج ثان من نماذج الاستدلالات العقلية المؤدية إلى إفحام الخصم وإقراره بخطئه، واضطراره إلى التنازل عن رأيه. ففي نقاشه لإثبات علم الله تعالى، يقول: إذا أردت أن تعلم أن الجهمي لا يقر بعلم الله فقل له: الله يقول: (وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ) ويسرد آيات أخرى تصف الله عز وجل بالعلم. فإن قال الجهمي: ليس له علم، كفر، وإن قال: لله علم محدث، كفر، حين زعم أن الله قد كان في وقت من الأوقات لا يعلم حتى أحدث له علمًا فعلم. فإن قال: لله علم وليس مخلوقًا ولا محدثًا. رجع عن قوله كله، وقال بقول أهل السنة.

‌المحنة:

نفى المعتزلة الصفات الإلهية كما بينا في أصل من أصولهم وهو التوحيد، ولكنهم خرجوا على هذا الأصل عندما تطرقوا إلى صفة الكلام الإلهي، فلم يقولوا بأنه متكلم وكلامه ذاته خشية أن يتساوى كلام الله عز وجل مع ذاته فيكون هناك قديمان مما يؤدي إلى الشرك، ولهذا فإنهم يرون أن كلام الله - أي أن القرآن - مخلوق محدث وغير قديم، فيُحدثه وقت الحاجة إلى الكلام، مفسرين تكليم الله موسى بأن الله خلق الكلام في شجرة فسمعه موسى عليه السلام (1) .

(1) د. أبو ريان: تاريخ الفكر الفلسفي في الإسلام ص 194 - 195 - أحمد بن أبي دؤاد: أحمد بن أبي دؤاد (على وزن فؤاد) بن علي أبو سليمان، يكثر ذكره إذا ما تطرق الحديث إلى محنة القرآن. كان قاضيًا، ثم أصبح وزيرًا نافذ الكلمة عند الخلفاء الثلاثة: المأمون (218 هـ) والمعتصم (227 هـ) والواثق (232 هـ) لا سيما الثاني منهم حتى قيل: إنه ما رؤي أحد قط أطوع لأحد من المعتصم لابن أبي دؤاد، وتشير المصادر إلى اهتزاز هذه المكانة لدى الواثق، ثم انهارت تماما أمام المتوكل، إذ رفع المحنة بخلق القرآن وأظهر السنة وأمر بنشر الآثار النبوية وأكرم الإمام أحمد بن حنبل وقدمه. ويقال: إن الواثق قبله قد ترك الاشتغال

=

ص: 121

_________

=

بالمحنة بعد أن أفحم أحد الشيوخ القاضي ابن أبي دؤاد في جدال دار أمام الواثق - كما سيأتي.

وابن أبي دؤاد أحد القضاة المشهورين من المعتزلة، نشأ بدمشق ومنها رحل إلى بغداد، وهو أول من افتتح الكلام مع الخلفاء. كان بليغًا، جواداً، عارفًا بالأخبار والأنساب، ولكنه أثار أهل السنة عليه بموقفه في المحنة، يقول الخطيب البغدادي:(لولا ما وضع من نفسه من محبة المحنة لاجتمعت عليه الألسن) ، وذلك لأنه اتسم بكريم الخصال، فقد كان موصوفًا بالجود والسخاء وحسن الخلق ووفور الأدب.

أصيب بالفالج قبل موته بأربع سنين، ونكب وأهين، وظلت عداوة أهل السنة ثابتة في صفحات الكتب عند الحديث عنه. وظهرت عداوة الغالبية له في مرضه الذي مات فيه، وكأنما كان مناسبة لإظهار الحنق عليه والازدراء به. وربما كان ذلك دليلاً على ما أثاره من السخط في النفوس: فقد دخل عليه بعضهم فقال له مخاطبًا: (والله ما جئت عائدًا وإنما جئتك لأعزيك في نفسك، وأحمد الله الذي سجنك في جسدك الذي هو أشد عليك عقوبة من كل سجن) . ولد حوالي 160 هـ ومات سنة 240 هـ.

وقد عنيت معظم كتب تاريخ المسلمين - كالطبري والبغدادي وابن الأثير وابن خلكان واليعقوبي وكتب التراجم أيضًا بمحنة خلق القرآن وسجلت تفاصيلها من حيث آراء المتنازعين فيها بدقائقها وأسماء الشيوخ الذين أجابوا بخلق القرآن، والذين رفضوا الإذعان بالرغم من صنوف التعذيب والتنكيل، وفي مقدمتهم الإمام أحمد بن حنبل، ومن ثنايا المحاكمات التي أجريت للإمام أحمد وكان على رأسها ابن أبي دؤاد والمناقشات التي جرت بين المتناظرين، يمكن أن نستخلص آراء ابن أبي دؤاد من حيث منهجه الكلامي، ونفي الصفات الإلهية، ونفي الرؤية، وهي الموضوعات الرئيسية التي أثارت الجدل حينذاك. وقد احتضن القاضي ابن أبي دؤاد عقيدة المعتزلة في هذه المسائل، وكان المحرك الحقيقي للمناظرات الدائرة حولها، والتي اتخذت من محنة خلق القرآن المحول الأساسي لها.

والمحنة لغويًا: ما يمتحن به الإنسان من بلية وشدائد، واصطلاحًا ترتبط بما اتفق عليه المؤرخون من اتخاذ موضوع خلق القرآن موضوعًا لها، وكان أول من عقدها الخليفة المأمون وتابعه المعتصم والواثق. وفكرة خلق القرآن تمضي إلى قضية نفي الصفات عمومًا، والتي تستند إلى مبدأ التوحيد المنزلي ومن ثم القول بأن القرآن مخلوق يقول القاضي عبد الجبار (وليس هذا يعني أن الله أحدث الكلام في ذاته ولكنه أحدثه فى محل) وقد اشترط المعتزلة أن يكون المحل جمادًا حتى لا يكون هو المتكلم دون الله، لاعتقادهم بأن حقيقة المتكلم من أحدث الكلام وخلقه لا من قام الكلام به. ويذهب المعتزلة إلى أن كلام الله عز وجل من جنس الكلام المعقول فى الشاهد وهو حروف منظومة وأصوات مقطعة. هو

=

ص: 122

وأصدر المأمون سنة 218 رسالة إلى والي بغداد يأمره فيها بجمع القضاة وامتحانهم في عقيدة خلق القرآن وعزل من لا يقول بذلك منهم وإسقاط شهادة من لا يراها من الشهود، وأمره بأن يجمع الفقهاء وشيوخ الحديث في داره ويمتحنهم بهذه العقيدة فأجابوا، ثم ضيق الأمر وأمر بالتوسع في امتحان الناس، فأحضر كبار العلماء ورؤوس الناس وامتحنهم، وانتهى الأمر بعد مكاتبات وأوامر مشددة من المأمون للوالي إلى الإقرار من الجميع بأن القرآن مخلوق إلا أربعة - أحمد بن حنبل، والحسن بن حماد، والقواريري، ومحمد بن نوح.

وتنقل لنا معظم المصادر التاريخية النقاش الدائر بين الإمام أحمد بن حنبل وممتحنيه، وكان يرفض القول بالإيجاب أو السلب عندما يسأل هل القرآن مخلوق؟

=

عرض يخلق الله سبحانه وتعالى في الأجسام على وجه يسمع ويفهم معناه. فالقرآن إذاً مخلوق محدث مفعول، لم يكن ثم كان، وأنه غير الله عز وجل، وأنه أحدث بحسب مصالح العباد.

ونُسِبَت المشكلة إلى أول من أثارها وهو الجعد بن درهم (124 هـ) وتذكر مصادر أهل السنة أن مصدر المشكلة يهودي، فيروي ابن عساكر أن الجعد أخذ مصادر بدعته من بيان ابن سمعان، وأخذها بيان عن طالوت ابن أخت لبيد بن أعصم وأخذها لبيد بن أعصم الساحر الذي سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يهودي باليمن، وأخذ عن الجعد الجهم بن صفوان ثم أخذ بشر المريسي عن الجهم، وأخذ ابن أبي دؤاد عن بشر.

وعن امتحان العلماء والفقهاء في هذه المحنة أجابوا جميعًا بأن القرآن مخلوق ما عدا أربعة وهم: أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح، وعبد الله بن عمر القواريري، والحسن بن حماد. ثم أجاب عبد الله بن عمر والحسن بن حماد، وبقي الإمام أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح في السجن لرفضهما الإجابة.

أهم المصادر عنه: القاضي أبو الحسن عبد الجبار (المغني في أبواب التوحيد والعدل) الجزء السابع: خلق القرآن - وزارة الثقافة والإرشاد 1380 هـ - 1960 - الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد - الجزء السابع ط الخانجي 1349 هـ 1931 م.

الخياط: الانتصار والرد على ابن الراوندي الملحد ط دار الكتب 1344 هـ 1925 م. الذهبي: كتاب دول الإسلام ط حيدر آباد 1346 هـ. - ابن كثير: البداية والنهاية الجزء العاشر مطبعة السعادة بمصر. ابن الجوزي: مناقب الإمام أحمد بن حنبل ط الخانجي 1349 هـ.

ص: 123

فمن إجابته (لست بصاحب كلام، ولا أرى الكلام في شيء من هنا إلا ما كان في كتاب أو حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن أصحابه، فأما غير ذلك فإن الكلام فيه غير محمود) .

وكان المحرك للمناقشات القاضي ابن أبي دؤاد المعتزلي الذي يتعجب من إجابة الإمام بأنه لا يستند إلا لكتاب الله أو سنة رسول الله صلوات الله عليه.

ثم يدور الحوار بأسلوب جدلي إذ يتعرض القاضي لبعض الآيات القرآنية لاستخراج معنى الخلق كقوله تعالى: (مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ)[الأنبياء، الآية: 2] ، ومن صيغة السؤال الموجه للإمام أحمد، حاول ابن أبي دؤاد الوصول إلى إجابة ملزمة، فسأل (أفيكون محدث إلا مخلوق) ؟ فأجاب ابن حنبل قال تعالى:(ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ)[ص، الآية: 1] فالذكر هو القرآن، ويحتمل أن يكون ذكرًا آخر غير القرآن، وهو ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أو وعظه إياهم.

فسأل القاضي: أليس الله قال: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)[الزمر، الآية: 62] فأجاب ابن حنبل: قد قال: (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ)[الأحقاف، الآية: 25] فدمرت إلا ما أراد الله.

وعندما سئل مرة أخرى (أتقول إن القرآن مخلوق) ؟ قال ابن حنبل: (القرآن كلام الله لا أزيد على هذا)، فعاد فسأله:(ما تقول في كلام الله) ؟ فأعاد إليه الإمام أحمد السؤال بصيغة أخرى (ما تقول في علم الله) ؟

وكانت هذه الحجة مفحمة لابن أبي دؤاد، لأن الإقرار بأن القرآن علم الله يعادل في نظره أن القرآن جزء لا ينفصل عن علم الله تعالى، فإذا قالوا بأن هذا العلم غير مخلوق، فالقرآن تبعًا لذلك ينبغي أن يكون غير مخلوق.

ودفع عبد الرحمن بن إسحاق القاضي المناقشة إلى نقطة أبعد من ذلك وهي (أكان الله ولا قرآن؟) فرد الإمام بحجة مماثلة (أكان الله ولا علم؟) ويعبر لنا ابن إسحاق عن رأي المعتزلة بسؤاله ابن حنبل (ما تقول في هذه الرقعة) ؟ (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)[الشورى، الآية: 11] وقد لاحت عندئذ الفرصة لانتقال الامتحان إلى مسألة جديدة وهي المتصلة بصفات الله سبحانه - وعلى رأي المعتزلة غير منفصلة عن الذات الإلهية أي: أنهم يقولون بأن الله تعالى حي بذاته، قادر بذاته،

ص: 124

وهكذا في سائر الصفات، أي: أنها ليست زائدة على الذات. وهنا سأل إسحاق الإمام أحمد (ما أردت بقولك سميع بصير) ؟ وربما أراد أن يستخرج منه إجابة يلزمه بها بالتشبيه أو التجسيم، ولكن ابن حنبل أجاب بقوله:(أردت منها ما أراده الله منها، وهو كما وصف نفسه، ولا أزيد على ذلك) .

ويبدو أن هذه المناقشات قد تسربت إلى الجماهير الغفيرة من المسلمين، فضلاً عن علمائهم، فقد كانت القلوب تحيط بالإمام، مشفقة عليه تخشى عليه من ألوان الأذى التي أصيب بها. ولم يستطح السلطان الكبير للمأمون وأتباعه أن ينالوا من مكانة الشيخ في قلوب المسلمين الذين اتخذوه إمامًا لهم. ونعثر في هذا الصدد على عبارة قالها أحد أولئك الذين حاولوا شد أزره في المحنة، قال له:(وإنك رأس الناس اليوم، فإياك أن تجيبهم إلى ما يدعونك)(1) وقد ترددت حجج الإمام أحمد على الألسنة، وأخذت مكانها في الرد على أهل الاعتزال.

وتنقل لنا كتب التاريخ المناظرة بين الأذري شيخ أبي داود والنسائي، وبين ابن أبي دؤاد محامي المعتزلة، أمام الخليفة الواثق. وقد تمت المناظرة على النحو التالي:

وجه الإمام عبد الله الأذري الأسئلة الثلاثة الآتية إلى ابن أبي دؤاد:

الأول: هل ستر الرسول صلى الله عليه وسلم شيئًا مما أمره الله عز وجل في أمر دينهم؟

الثاني: حين أنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)[المائدة، الآية: 3] .

هل كان الله تعالى الصادق في إكمال دينه أو أنت الصادق في نقصانه حتى يقال فيه بمقالتك هذه؟ وقد قوبل السؤالان بالصمت بلا إجابة.

الثالث: أخبرني عن مقالتي هذه، علمها رسول الله أم جهلها؟ فأجاب ابن أبي دؤاد: علمها، قال الإمام أحمد: فدعا الناس؟ فسكت، وهنا علق الأذري قائلاً:(فكيف وسعه صلى الله عليه وسلم أن ترك الناس ولم يدعهم إليه وأنتم لا يسعكم؟) فبهت الحاضرون وأمر الواثق بخلاص الإمام الأذري وقد علق الذهبي على هذا الإفحام بقوله: إنه إلزام صحيح وبحث لازم للمعتزلة (2) .

(1) ابن كثير: البداية ج 1 ص 332.

(2)

تاريخ الخلفاء للسيوطي (واسم الإمام كاملا أبو عبد الرحمن عبد الله بن محمد الأذري شيخ

=

ص: 125

ومن هذا يتضح كيف اعتبر المعتزلة الاعتقاد بخلق القرآن المحور الأساسي في العقيدة حتى امتحنوا بها الأسرى المسلمين، فكأنهم أضافوا للإسلام أصلاً جديدًا بعد كماله. ومن هنا أثار الشيخ الأذري الآية القرآنية الآنفة.

والسؤال الثاني والثالث يوضحان هذا الغرض. وتنتهي المحنة، وتسدل الستار عن مأساة كادت تطيح بالمنهج الإسلامي المتوارث عن السلف، وخلقت لنا مغزى بالغ الأهمية، يتمثل في النزاع بين طرفين: أحدهما المأمون الذي جعل من الاعتزال مذهبًا رسميًا، يحميه ويدعو إليه بالقوة، فيدين به أصحاب المناصب والجاه والنفوذ، وجعل من عقيدة الاعتزال التفسير الوحيد للإسلام، فكانت محنة عظيمة على الأمة، وفكرة فلسفية ضاق عنها تفكير العامة وضاقت بها النفوس (1) .

وتظهر مأثرة الإمام أحمد الكبرى التي أكسبته مكانه الجديد، في وقوفه سدًا منيعًا في اتجاه الأمة إلى التفكير الفلسفي الذي لو سيطر على هذه الأمة لانقطعت صلتها بالتدريج عن منابع الدين الأولى وعن النبوة المحمدية وخضعت للفلسفات وأصبحت عرضة للآراء والقياسات، فحفظ الدين من أن يعبث به العابثون أو تتحكم فيه السلطة والأهواء (2) .

وإذا توقفنا برهة لنتساءل عن سر هذا الاهتمام الكبير بالمحنة من وجهة نظر السلف، ولم كتبوا عشرات الكتب في الدفاع عن القرآن وإثبات أنه كلام الله تعالى، فلن نفتقد الإجابة بين طيات الصفحات.

إنهم خشوا من الآثار المترتبة على اعتقاد أن القرآن مخلوق، ففضلاً عن ضياع الهيبة من القلوب، وافتقاد الخشية والخوف من كلام الله فإن القائل:(إن هذا القرآن مخلوق) أو (إن القرآن المنزل مخلوق) كان بمنزلة المعتقد أن هذا الكلام ليس هو كلام الله (3) .

=

أبي داود والنسائي) .

(1)

أبو الحسن الندوي: رجال الفكر والدعوة ص 123.

(2)

نفس المصدر ص 144.

(3)

ابن تيمية: موافقة ج 1 ص 157 تحقيق الفقي.

ص: 126