الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نظرية الجوهر الفرد وتفسير الخلق والبعث:
تنسب النظرية الذرية العامة إلى ديمقريطس من فلاسفة اليونان، وتتلخص في تقسيم الوجود إلى عدد غير متناه من الوحدات المتجانسة غير المنقسمة غير المحسوسة لتناهيها في الدقة، تتحرك في الخلاء، ويحدث بتلاقيها وافتراقها الكون والفساد.
واحدها الجوهر الفرد أو الجزء الذي لا يتجزأ، وهي متشابهة الطبيعة تمام التشابه، وليست لها أية كيفية، ولا تتمايز بغير خاصتين: وهما الشكل والمقدار (1) .
ولكن ثمة نقاطٌ كثيرة هامة في النظرية لم تعالجها مثل مسألة ما إذا كانت الذرات ذات ثقل ومسألة المصدر الأصلي للحركة ومسألة الضرورة، فما زالت موضعًا للتخمين (2) .
هذه هي النظرية الذرية في وضعها الأصلي، صدرت في محيط فلسفي يوناني، وبيئة وثنية لا تعرف إلهًا ولا كتابًا ولا نبيًّا، ولعل الفكرة نشأت بسبب التخبط في تفسير خلق العالم.
وكل ما هنالك أن الفلاسفة القائلين بالصورة والهيولى القديمتين زعموا أزلية العالم وحركته عندهم دائرة ولهذا فهي قديمة مثلها في ذلك مثل مادته ولكن أصحاب النظرية الذرية خالفوهم فاعتقدوا أن الحركة في هذه الجواهر مستقيمة فهي ليست أزلية ولا أبدية (3) .
واقتبس المتكلمون - المعتزلة والأشاعرة - هذه النظرية (ما عدا النظام)(4) مع
(1) يوسف كرم: تاريخ الفلسفة اليونانية ص 38 - 39 - لجنة التأليف والترجمة والنشر 1378 هـ 1958 م.
(2)
الموسوعة الفلسفية المختصرة ص 146 مكتبة الأنجلو المصرية سنة 1963 م.
(3)
د. محمد علي أبو ريان: تاريخ الفكر الفلسفي في الإسلام ص 197 دار الجامعة المصرية بالإسكندرية.
(4)
ولكن النظام يرى أنه لا جزء إلا وله جزء، ولا بعض إلا وله بعض، ولا نصف إلا وله نصف وأن الجزء جائز تجزئته أبدًا، ولا غاية له من باب التجزؤ (مقالات الإسلاميين للأشعري ج 2 ص 17) .
اختلاف في التفاصيل، ولكن الأشاعرة حولوا هذه النظرية إلى القول بالمناسبات في الفعل الإلهي، أي: إنكار خاصية الأشياء وفاعليتها، فالنار لا تحرق عند التقائها بالخشب مثلا، ولكن الله تعالى يخلق الاحتراق عند التقائهما، لا بسبب النار أنها محرقة. وتنسب النظرية إلى الباقلاني (402 هـ) وترتيبه الثاني في المذهب الأشعري بعد أبي الحسن شيخه - فقال بأن العالم مؤلف من جواهر فردة لا حصر لها ولا تتجزأ، والعقل هو الذي يضفي على هذه الجواهر الكيفيات التي ليست من طبيعتها وإنما هي من العقل قط، والجواهر متغيرة محدثة وكذلك أعراضها، وليست لها خواص أو صفات فعالة بذاتها، إذ أن الله تعالى هو الخالق للجواهر وأعراضها، وهو سبحانه الذي يحدث فيها خصائصها، مثال ذلك أن الله تعالى يخلق فعل الإحراق، وما اجتماع النار والخشب إلا مناسبة للاحتراق.
وجاء الغزالي (505 هـ) بعده فأنكر قانون السببية أو العلية وأرجعه إلى مبدأ العادة والتكرار (1) .
ويبدو من سياق النظرية في صياغتها العامة إثبات قدرة الله تعالى في المخلوقات، وأنه سبحانه وتعالى هو وحده الفعال لما يريد، إن شاء خلق في الأشياء خصائصها وإن شاء لم يخلقها.
ولكننا ما دمنا في مجال الدفاع عن أصول الدين بالأدلة العقلية، فإن حسن النوايا لا تكفي، بل لابد أن يتوافر معها الأقوال المتفقة مع أدلة العقول، وما يتفق مع المشاهد المجرب المتفق عليه بين البشر، فضلاً عن اتفاقه مع النصوص الشرعية المتوافقة مع الأدلة العقلية التي تثبت أن لله تعالى سننا في خلق العالم وحركته.
من هذه الزاوية، نقد شيخ الإسلام ابن تيمية هذه النظرية مقدمًا الأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة المتوافقة مع المعقولات وما يعلمه الناس بالفطرة والتجربة العملية والمشاهدات العيانية.
ونقطة البداية في معارضته للنظرية تتلخص في إثبات أن المتكلمين الآخذين بها لا يجعلون الله تعالى خلق شيئًا بسبب، ولا لحكمة، ولا يجعلون للإنسان قدرة تؤثر
(1) د. أبو ريان: تاريخ الفكر الفلسفي. ص 205 - 206.