الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حض القرآن على التفكير والتعقل والتدبر في غير آية.
ومن غير المتصور وغير المنطقي أن يأتي الشرع بأدلة مخالفة للقوانين العقلية الفطرية كالتماثل والاختلاف فإنها الميزان الذي يزن به الإنسان المعلومات الواردة إليه. وهذا ما يقصده شيوخ الإسلام من وصفهم لحقيقة الآيات السمعية والقولية والعيانية والعقلية.
ولهذا فإن التنازع الموهوم بين العقل والنقل والأدلة العقلية والأدلة الشرعية أو أصحاب الرواية وأصحاب الدراية لا محل له في تراثنا بالصورة التي ظهرت في تراث أهل الكتاب، كل ما هنالك أن (عالم الغيب) بما يحتويه من أعاجيب تخالف المألوف مما يراه الإنسان ويشاهده ويحسه ويتعقله، جعل البعض يحاول إخضاعه للمقاييس العقلية الإنسانية، فحدث الاضطراب بين المتكلمين والفلاسفة (1) .
وتصبح القضية غير ذات موضوع لا سيما في عصورنا الحديثة التي كشف العلم فيها عما يحير العقل ويذهله في عالم المخلوقات كالأفلاك والحيوان والنبات.
أدلة الشرع عقلية:
أثبت علماء السلف أن أدلة الشرع عقلية أيضًا وليست نقلية فحسب، فإن القرآن الكريم جاء بالأدلة العقلية على أحسن بيان وأقومه، واستخلصوا منه الطرق المبنية على البراهين المنطقية التي تخاطب الإنسان أينما كان وحيثما وجد. وكلها دل عليها القرآن الذي وصفه الله - تعالى - بأنه يهدي للتي هي أقوم:
ومن هذه الطرق دلالات الأنفس والآفاق التي يدعو القرآن الحكيم للنظر فيها والاعتبار بها والتفكر في نظمها.
أما الأولى فهي دلالة الأنفس، قال الله تعالى:(قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ) [عبس، الآيات: 17 - 19] .
وقال تعالى: (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ)[الذاريات، الآية: 21] .
وقال عز وجل: (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ) [الانفطار: 6 - 8] وقال: (كَيْفَ تَكْفُرُونَ
(1) ينظر رأيه السابق ص 10.
بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [البقرة: 28] وقال سبحانه: (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ) [يس: 77 - 79] .
أما دلالة الآفاق فإن القرآن الكريم يحثُّنا على تدبر ما يحدث حولنا في عالمنا الذي نعيش فيه وما يطرأ من تغيرات تتعاقب فيه في أوقات محدودة وأزمنة معروفة كطلوع الشمس والقمر والكواكب وغروبها ودوران الأفلاك والنجوم والسفن الجاريات في البحار والرياح وتغير أحوال الهواء بالغيوم والصواعق والبروق وإنزال الأمطار فتسقي الزرع وتنبت الأشجار والفواكه والأزهار والثمار وتمد البحار والأنهار والآبار، وما في اختلاف الليل والنهار والفصول، وقد جمع الله تعالى ذلك في قوله:(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)[البقرة، الآية: 164](1) .
وقد جمع الله تعالى دلالتي النفوس والآفاق في قوله تعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ)[فصلت، الآية: 53](2) وذلك أننا نعلم بالضرورة وجودنا أحياء قادرين، عالمين، ناطقين، سامعين، مبصرين، مدركين، بعد أن لم نكن شيئًا وأن أول وجودنا كان نطفة قذرة مستوية الأجزاء والطبيعة غاية الاستواء بحيث يمتنع في عقل كل عاقل أن يكون منها بغير صنع حكيم وما يختلف أجناسًا وأنواعًا وأشخاصًا.
أما الأجناس فكما نبه عليه قوله تعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ
(1) ابن الوزير اليماني: إيثار الحق على الخلق ص 43- 49- 50.
(2)
وتزداد معرفتنا بأنفسنا على ضوء العلم حيث عرَّفنا بأن نحو الخلية البشرية يشكل معجزة إلهية. وكيف لهذه الخلية أن تتحول إلى جهاز هضمي وجهاز تنفسيِ وجهاز عصبي وإلى مخ لو أريد صناعة مثله لكان المصنوع في حجم الكرة الأرضية ص 22 من كتاب (الذين يلحدون في آيات الله) للدكتور كامل سعفان دار المعارف 1983 م.
يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ) [النور، الآية: 45] .
وأما الأشخاص فبقوله تعالى: (قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) [عبس، الآيات: 17 - 20] .
فهذا هو الفكر المأمور به، وهو أي النظر في هذه الأمور وهي طريقة السلف التي اتبعوها مستندين إلى كتاب الله عز وجل (1) .
وقد ظل هذا المنهج موحدًا بين علماء الحديث والسنة على مر الأعصار، فنجد الإمام عبد الحميد بن باديس رحمة الله عليه - ينبهنا في العصر الحديث إلى ضرورة اتباع هذا المنهج دون غيره لأنه العاصم من الزلات فيقول:(ونحن معشر المسلمين قد كان منا للقرآن العظيم هجر كثير في الزمان الطويل وإن كنا به مؤمنين. بسط القرآن عقائد الإيمان كلها بأدلتها العقلية القريبة القاطعة فهجرناها وقلنا: تلك أدلة سمعية لا تحصل اليقين وأخذنا في الطرائق الكلامية المعقدة وإشكالاتها المتعددة واصطلاحاتها المحدثة) .
ويرى الإمام ابن باديس أن الأقيسة العقلية في القرآن كافية للرد على المخالفين، فقد قال تعالى (وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا) [الفرقان: الآية 33] .
وتفسير ذلك (ولا يأتيك يا محمد هؤلاء المشركون وأمثالهم بكلام يحسنونه ويزخرفونه ويصورون به باطلاً أو اعتراضًا فاسدًا إلا جئناك بالكلام الحق الذي يدفع باطلهم ويدحض شبهتهم وينقض اعتراضهم ويكون أحسن بيانًا وأكمل تفصيلا)(2) .
وفي قوله تعالى: (فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا)[الفرقان، الآية: 52] .
يرى في هذه الآية نصًا صريحًا في أن الجهاد في الدعوة إلى الله تعالى وإحقاق الحق من الدين وإبطال الباطل من شبه المشبهين وضلالات الضالين وإنكار الجاحدين هو بالقرآن العظيم، فيه بيان العقائد وأدلتها ورد الشبه عنها (3) .
(1) ابن الوزير اليماني: إيثار الحق على الخلق ص 44.
(2)
تفسير الإمام عبد الحميد بن باديس ج 1 ص 421.
(3)
نفس المصدر ص 429.