الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لا يكون مكانًا للحوادث ولا يكون فيه شيء مخلوق ولا يكون ناقصًا بشيء إذا خلقه.
2-
وإن قال: خلق كلامه في غيره فهذا أيضًا محال باطل لا يجد السبيل إلى القول به من قياس ولا نظر، ولا معقول، لظهور الشناعة من قبله لأنه يلزم قائل هذه المقالة في القياس والنظر والمعقول أن يجعل كل كلام خلقه في غيره هو كلام الله، فيجعل الشعر وقول الزور والفحش والخنا وكل كلام ذمه الله وذم قائليه من كلام الكفر والسحر وغيره لله تعالى عن ذلك.
3-
وإن قال: خلق كلامه قائمًا بذاته، فهذا هو المحال الباطل الذي لا يجد السبيل إلى القول به من قياس ولا نظر ولا معقول؛ لأنه لا يكون الكلام إلا من متكلم، كما لا تكون الإرادة إلا من مريد، ولا العلم إلا من عالم، ولا القدرة إلا من قدير، ولا رؤي ولا يرى أبدًا كلام الله قائم بذاته متكلم بنفسه، وهذا ما لا يعقل، ولا يعرف ولا يثبت من قياس ولا نظر، ولا غيره.
فلما استحال القرآن أن يكون مخلوقًا من هذه الجهات، ثبت أنه صفة لله عز وجل وصفات الله عز وجل غير مخلوقة، فيبطل قول بشر من جهة النظر والقياس كما بطل من الكتاب والسنة.
وهنا قال المأمون: (أحسنت يا عبد العزيز)، ولكن بشرًا انتقل إلى موضوع آخر فقال:(دع هذه المسألة واسأل عن غيرها)(1) .
وانتقلا من الحديث عن كلام الله تعالى إلى صفاته عز وجل وقد بدأ بالعلم ثم الحديث عن القدرة والفعل، واختتما المحاورة بالبرهنة بالمنهج القياسي على أن كلام الله تعالى غير مخلوق، ونرى كيف التزم عبد العزيز طرقًا ثلاثة في محاورته: أي التنزيل والنظر والقياس.
إثبات علم الله - تعالى - بنص التنزيل:
انتقل الحديث إلى الصفات الإلهية التي أثبتها الله تعالى لنفسه ومنها العلم، وقد تدخل المأمون في هذا الجزء من المحاورة، فسأل عبد العزيز (أتقول يا عبد العزيز: إن الله عالم؟) فأجابه (نعم يا أمير المؤمنين)، فسأله ثانيا (فتقول: إن لله علم؟) فأجاب
(1) الحيدة ص 52- 53.
بالإيجاب.
وذهب المأمون بعد ذلك إلى ما هو أدق من هذه القضية في الفهم والنظر، فسأل عبد العزيز:(فتقول: إن الله سميع بصير؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، قال: فتقول: إن لله سمعًا وبصراً؟ قلت: لا يا أمير المومنين) .
وكان عبد العزيز واعيًا لإجاباته مدعمًا عقيدته بالمنهج الثابت المنقول عن السلف الصالح وما فهمه المسلمون قبله، فقال:
(يا أمير المومنين، قد قدمت إليك فيما احتججت به أن على الناس جميعًا أن يثبتوا ما أثبت الله، وينفوا ما نفى الله، ويمسكوا عما أمسك الله عنه، فأخبرنا الله عز وجل أن له علمًا، فقلت: إن له علمًا، كما أخبر وأخبرنا أنه عالم بقوله: (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ)[التغابن، الآية: 18] فقلت: إنه عالم كما أخبرنا إنه سميع بصير، فقلت إنه سميع بصير كما أخبر في كتابه، ولم يخبر أن له سمعًا ولا بصر) .
فقال المأمون لبشر وأصحابه: (ما هو بمشبه فلا تكذبوا عليه)(1) . وهنا أراد بشر إحراج عبد العزيز فسأله: (قد زعمت يا عبد العزيز أن لله علمًا، فأي شيء هو علم الله؟ وما معنى علم الله؟) .
وأجاب عبد العزيز بشيء من التفصيل، مستشهدًا بآيات من القرآن الكريم فقال:(هذا مما تفرد الله بعلمه ومعرفته، فلم يخبر به ملكًا مقربًا ولا نبيًا مرسلاً، بل احتجبه عن الخلق جميعهم فلم يعلمه أحد قبلي ولن يعلمه أحد بعدي، لأن علمه أكثر وأعظم من أن يعلمه أحد من خلقه) .
وأخذ يذكره بقوله تعالى: (وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ)[البقرة، الآية: 255]، وقوله:(عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ) [الجن، الآية: 26، 27]، وقوله:(وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ)[الأنعام، الآية: 59] وقوله عز وجل: (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[لقمان، الآية: 27] .
(1) الحيدة 25- 26.
وسأل بشرًا (أتدري يا بشر ما معنى هذا؟ وأي شيء مما نحن فيه؟) . فطالبه المأمون بالإجابة بنفسه على هذا السؤال شرحًا وتفسيرًا فاستكمل ذلك بقوله: (يا أمير المؤمنين يعني بقوله هذا ولو أن ما في الأرض من جميع الشجر والخشب والقصب أقلام يكتب بها، والبحر مداد يمده من بعده سبعة أبحر، والخلائق كلهم يكتبون بهذه الأقلام من هذا البحر، ما نفدت كلمات الله، فمن بلغ عقله وفهمه وفكره كنه عظمة الله وسعة علمه؟!!
وقال سبحانه وتعالى: (لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا)[الكهف، الآية: 109] فمن يحد هذا أو يصفه أو يدعي علمه، وقد عجزت الملائكة المقربون عن علم ذلك واعترفوا بالعجز عنه فقالوا:(سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)[البقرة، الآية: 32] ؟
وقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) .
وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن علم الساعة فقال: (علمها عند ربي من خمس لا يعلمها إلا هو) وتلا: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ)[لقمان، الآية: 34] فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الخمس مما تفرد الله بعلمها، فلا يعلمها إلا هو، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم من علم الله إلا ما علمه، فكيف يجوز لأحد من أمته أن يتكلف علمًا أو يدعي معرفة) (1) .
ويبدو من تعليق عبد العزيز أنه غضب بسبب هذا السؤال الذي لا محل له للإجابة عنه واضطر إلى إفحامه بنصوص التنزيل لبيان أن مثل هذا السؤال منهي عنه من قبل الله تعالى، فقال عبد العزيز:(إنك لتأمرني بما نهاني الله عنه وحرم علي القول به، وتأمرني بما أمرني به الشيطان، ولست أعصي ربي وأرتكب نهيه وأطيع الشيطان وأتبع أمره وأمرك إذا كنتما قد أمرتماني بخلاف ما أمرني به ربي، بل نهاني) !!
(1) الحيدة ص 26- 27.
وكان المأمون يراقب الموقف منصتًا باهتمام، ودهش من رد عبد العزيز وأراد شرحًا له، فقال:(يا عبد العزيز أمرك بشر بما نهاك الله عنه وحرم عليك القول به وأمرك به الشيطان؟!!) فلما أجاب عبد العزيز بالإيجاب، طالبه بآيات من كتاب الله بنص التنزيل.
قال عبد العزيز: (قال الله عز وجل لنبيه عليه السلام: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ)[الأعراف، الآية: 33] وأمرهم الشيطان بضد ذلك، فقال الله عز وجل:(يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) [البقرة، الآية: 168، 169] فأخبر الله عز وجل أن الشيطان يأمر الناس بأن يقولوا على الله ما لا يعلمون، فنهاهم عن اتباعه وقبول قوله، فهذا تحريم الله ونهيه لنا بها يا أمير المؤمنين أن نقول عليه ما لا نعلم، وهذا أمر الشيطان لنا أن نقول على الله ما لا نعلم، وقد اتبع بشر يا أمير المؤمنين سبيل الشيطان التي نهاه الله عن اتباعها ووافقه على قوله وأمرني بمثل ما أمرني به الشيطان أن أقول على الله ما لا أعلم) .
ويصف عبد العزيز انعكاسات هذه الإجابة على المأمون بقوله: (فكثر تبسم المأمون حتى غطى بيده على فيه وأطرق يكتب في الأرض بيده على السرير)(1) ويدهشنا أن تصل المجادلة إلى هذا الحد مع إصرار بشر المريسي على موقفه بالرغم من حجج عبد العزيز القوية الواضحة، ومنها يتضح أن المريسي قد أفلس بعناده وعجزه عن مجابهة أدلة عبد العزيز.
كما تعجب من تصرف المأمون لاتخاذه القضية البالغة الأهمية ذريعة للتضييق على الناس وكبت آرائهم، ثم وقوفه بنفسه على الأدلة وإقراره بصحتها في أكثر من موضع بقوله:(أحسنت يا عبد العزيز) ، بينما في مجالسه الخاصة تكون مدعاة لابتسامه وربما ضحكه!!
(1) الحيدة ص 28.