الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفترة من الفكر الإسلامي، إلا وتأخذه الدهشة من أساليب المعتزلة ضد خصومهم، فقد استخدموا أسلوبًا مضادًا لمبادئهم المعلنة باسم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لينكلوا بكل مخالف، فكم من الضحايا المعارضين لهم ألقي بهم في السجون! فانكمش أغلب المحدثين والفقهاء يلعقون جراحهم، حتى أصبح الانتساب إلى الاعتزال فاشيًا منتشرًا، وكل من كان متسننًا كان متخفيًا مستترًا (1) .
وظهر في هذه الفترة التي عم فيها الاضطهاد بأشد أساليب القمع، الإمام أحمد ابن حنبل ليعلن استمساكه بعقيدة الأوائل، وكانت محنة (خلق القرآن) هي مركز الدائرة التي دارت حولها المنافشات الكلامية، وظل الأمر كذلك في أيام المأمون والمعتصم والواثق، وكأن التاريخ وقف عندهم حابسًا أنفاسه، ليدون تفاصيلها، مثبتًا أن الرأي لا يمكن أن يدحض إلا برأي مضاد، وأن أساليب القوة لا تجدي في مجال العقائد والأفكار، وظلت العقيدة الصحيحة حية توارثها الطائفة الظاهرة على الحق.
وقبل التعرض للمحنة، فإنه يجدر بنا تناول الحديث عن الإمام أحمد بإيجاز.
حياته وعصره:
هو أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال الإمام عبد الله، ولد في ربيع الأول سنة 164 هـ وتوفي أبوه محمد شابًا، فوليته أمه، وحفظ القرآن في صباه وتعلم القراءة والكتابة، وظهر فيه آثار النبوغ مبكرًا، اتجه إلى الحديث وبقي يتلقى الحديث ببغداد من سنة 179 هـ إلى 186 هـ، وكان في طلبه للعلم مثال الجد والحرص والنشاط فقد روى عن نفسه (كنت ربما أردت البكور في الحديث فتأخذ أمي بثيابي، حتى يؤذن الناس أو حتى يصبحوا) .
رحل إلى عدة بلاد طالبًا للحديث، فسار إلى البصرة، الحجاز، اليمن، مكة، وإلى الكوفة واستمر على الجد والطلب حتى بلغ مبلغ الإمامة في الحديث، ووصف بأنه أعلم الناس بالسنة وكان معجبًا بالشافعي استفاد منه في الفقه والاستنباط، وكان الشافعي معجبًا به أيضًا فوصفه بأنه لا أحد ببغداد أفقه من ابن حنبل. وعند الأربعين شرع في التدريس والفتيا، فأقبل الناس على مجالسه إقبالاً عظيمًا، ويذكر ابن الجوزي
(1) ابن عساكر: تبيين كذب المفتري ص 410.
في مناقبه أن عدد من كانوا يستمعون إلى درسه نحو خمسة آلاف. ولكنه كان ينهي حال حياته عن كتابة كلامه ليجمع القلوب على المادة الأصلية العظمى، ثم استدرك أصحابه، فنقلوا لنا علمه فانتصرت طريقته (1) ، وهذا يدلنا على أنه لم يقصد تأسيس مذهب والأمر باتباعه.
وقد تعددت المصادر التي وصلتنا تحمل أدق تفاصيل حياة الإمام ابن حنبل وآرائه، ويبدو أنه رأى أن يوضح وجهة نظره في المسائل التي طغت على ثقافة العصر واتجاهاته المختلفة، وأن يدعم المنهج النقلي مبرزًا في الوقت نفسه مضمونه العقلي فأخرج على هذا الأساس - ضمن مؤلفاته - روائعه الثلاثة: وكلها تحفظ لنا عقائد السلف وآراءهم وسط التيارات المختلفة السائدة في العالم الإسلامي حينذاك، فإن (المسند) عني بحفظ الحديث، وكتابه (الردّ على الجهمية والزنادقة) يتضح فيه حجاجه العقلي في أجلى وأدق صورة، لأنه يفسر القرآن بالقرآن ليوضح ما اشتبه على المخالفين من فهم، ثم مؤلفه في (الزهد) الذي يعد وثيقة على طريقة الاقتداء عند بداية التصوف وانتشاره، إذ كان معاصرًا للحارث المحاسبي.
أما عن سيرته وأخلاقه، فقد اشتهر بالزهد والعزوف عن زخارف الدنيا، وكان يأكل من عمل يده رافضًا عطايا الأمراء. ويظهر من سيرته في المحنة شجاعته في الحق والتشبث به، مهما كلفه من آلام، فقد ظل يواجه حربًا ضروسًا، فاستمسك بموقفه في مواجهة الفقهاء والمتكلمين المعارضين الذي سامتهم الدولة العباسية سوء العذاب حينئذ بالقوتين المعنوية والمادية معًا (ولقد ابتليت السنة الإسلامية في شخصه، فكان في صبره - لو صبر - فوزها ونهوضها، وفي ضعفه - لو فتن - سقوطها وخذلانها)(2) .
وبوسعنا أن ننظر إلى النتائج المحتملة التي كانت ستترتب على انهياره وتسليمه بآراء خصومه ومن هنا اقترن اسمه باسم الصديق، فقيل:(أبو بكر يوم الردة وابن حنبل في المحنة) .
ويرى المستشرق باتون في دراسته عن المحنة أن الإمام أحمد أبقى بموقفه على
(1) ابن تيمية: مجموعة نصوص باسم مجموعة علمية ص 152.
(2)
باتون: أحمد بن حنبل والمحنة ص 35.