الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفي تناوله لصفة الكلام لمشيئة الكلام بالذات التي أثارت أشد ألوان الجدل بين السلف والمعتزلة والأشاعرة، فإن ابن تيمية يثبت أن السلف قالوا: إن الله لم يزل متكلمًا إذا شاء وكيف شاء لأن الكلام صفة كمال لا صفة نقص وإنما تكون صفة كمال إذا قام به لا يتصف بما هو بائن عنه، فبرهن على خطأ المعتزلة لقولهم بأن كلام الله مخلوق، واعتبر قول الأشاعرة بدعة، لأنهم ميزوا - تأثرًا بابن كلاب - بين الكلام النفسي وغيره.
وعلينا بعد هذا البيان، الانتقال لمعالجة واحدة من أهم القضايا التي أثارت الخصومات ضد شيخ الإسلام، وألبت الخصوم عليه ورمته بسببها بتهمة التجسيم، وذلك توطئة لمناقشة هذه التهمة وتفنيدها فيما بعد:
إثبات صفات الله تعالى وأفعاله بالأدلة العقلية:
يثبت علماء السنة والحديث ما يقوم بالله تعالى من الصفات كالحياة والعلم والقدرة والإرادة والكلام والسمع والبصر كما يثبتون الأفعال التي يشاؤها ويقدر عليها كالخلق والإحياء والإماتة والاستواء وغير ذلك من الأفعال.
ولا نزاع بين أهل السنة وغيرهم بطبيعة الحال أن أدلة السمع توافرت على إثبات هذه الصفات والأفعال، لكن الذين يخالفون دلالة السمع من المتكلمين يدعون أنها دلالة ظاهرة لا قاطعة، ويرون أن الدلالة العقلية القاطعة خالفتها.
ولكن شيخ الإسلام ابن تيمية فى شرح القواعد التي يستند إليها في الدلالة العقلية القاطعة التي يشجب بها رأي الفلاسفة الدهرية القائلين بقدم العالم وينقد بها أيضًا المتكلمين سواء المعتزلة الذين نفوا الصفات ونفوا الأفعال بالتأويل.
قال شيخ الإسلام: معلوم بالسمع اتصاف الله تعالى بالأفعال الاختيارية، كالاستواء إلى السماء، والاستواء على العرش، والقبض، والطي، الإتيان، والمجيء، والنزول ونحو ذلك؛ بل الخلق، والإحياء والإماتة، فإن الله تعالى وصف نفسه بالأفعال اللازمة كالاستواء وبالأفعال المتعدية كالخلق، فإن الفعل لا بد له من فاعل، سواء كان فعله مقتصراً عليه أو متعديًا إلى غيره. والفعل المتعدي إلى غيره لا يتعدى
حتى يقوم بفاعله، إذ لا بد من الفاعل. وهذا معلوم سمعًا وعقلاً (1) .
واستعان ابن تيمية في شرحه ببعض قواعد اللغة العربية التي يقرها الكافة ويعرفونها، فإن أهل اللغة التي نزل بها القرآن متفقون على أن الإنسان إذا قال:(قام فلان وقعد) أو قال: (أكل فلان الطعام وشرب الشراب) فإنه لا بد أن يكون في الفعل المتعدي إلى المفعول به ما في الفعل اللازم وزيادة.
إذاً كلتا الجملتين فعلية، وكلتاهما فيه فعل وفاعل، الثانية امتازت بزيادة المفعول.
فإذا وضعنا هذه القاعدة نصب أعيننا في التفسير لتبين لنا التفسير الواضح لمثل قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ)[الحديد: 4] إذ تضمن فعلين: أولهما متعد لمفعول به، والثاني مقتصر لا يتعدى، فإذا كان الثاني - وهو قوله تعالى:(ثُمَّ اسْتَوَى) فعلاً متعلقًا بالفاعل، فقوله:(خَلَقَ) كذلك، بلا نزاع بين أهل العربية.
ويستكمل ابن تيمية الشرح من حيث الأدلة العقلية، فيوضح أن من جوز أن يقوم بذات الله تعالى فعل لازم له، كالاستواء والمجيء ونحو ذلك، لم يمكنه أن يمنع قيام فعل يتعلق بالمخلوق، كالخلق والبعث والإماتة والإحياء. كما أن من جوز أن تقوم به صفة لا تتعلق بالغير كالحياة، لم يمكنه أن يمنع قيام الصفات المتعلقة بالغير، كالعلم والقدرة والسمع والبصر.
وينبغي أن نقرر أيضًا تبعًا لما نشاهده في الكون من مخلوقات حادثة، أن علم المخلوقات بأفعال الله تعالى الاختيارية القائمة بنفسه، وهذه الأفعال سبب حدوثها، والله تعالى حي قيوم لم يزل موصوفًا بأنه يتكلم بما يشاء. فعال لما يشاء.
إذن يثبت بذلك خلق السموات والأرض بما جاء به الشرع، ولا يمكن القول بحدوث العالم إلاّ بإثبات الأفعال الإلهية لا - كما يزعم نفاة الأفعال الذين يزعمون أن العقل دل على نفيها فالعقل عند التحقيق يبطل النفي ويوافق الشرع، لأن نفي
(1) موافقة ج 2 ص 3.
الأفعال يؤدي إلى إنكار حدوث المخلوقات، بينما هي مشهورة مرئية لنا جميعًا، دالة بنفسها على خالق حكيم قدير.
كذلك بالنظر إلى أفعال الله تعالى، يمكننا وضع القضية في الصيغة المنطقية
الآتية:
إن الله تعالى موصوف بصفات الكمال، منزه عن النقائص، وكل كمال وصف به المخلوق من غير استلزامه لنقص، فالخالق أحق به، وكل نقص ينزه عنه المخلوق فالخالق أحق بأن ينزه عنه، والفعل صفة كمال لا صفة نقص، كالكلام والقدرة، وعدم الفعل صفة نقص كعدم الكلام وعدم القدرة، فدل العقل على صحة ما دل عليه الشرع وزال الإشكال وهو المطلوب.
ألا يدعو إلى الدهشة بعد هذا البيان وصف الشيخ بالتجسيم وتلفيق التهم إليه؟!
ولكن إذا استرجعنا ترجمة حياته وعلمنا كثرة حساده وخصومه زالت دهشتنا. ونبادر الآن لنكمل عرض الطرق البرهانية القرآنية التي طرحها ابن تيمية بديلاً لطرق المتكلمين والفلاسفة، مع تفضيله لمنهج الأنبياء لأنه الأكمل، مبرهنًا أيضًا على صدق نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.