الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ففرق بين القرآن والإنسان فزعم بشر يا أمير المؤمنين أن الله فرط في الكتاب من شيء. فهذا كسر قول بشر بالقياس.
فقال المأمون: (أحسنت يا عبد العزيز)(1) .
إلى جانب تناول الجدل حول باقي صفات الله سبحانه وتعالى من وجهتي النظر المتعارضتين: رأي المعتزلة الذي يعبر عنه بشر المريسي ورأي علماء السنة الذي يعبر عنه عبد العزيز المكي (2) .
الاستواء على العرش:
من محاورات عبد العزيز المكي مع بشر المريسي في بيان استواء الله عز وجل على عرشه: فسر الجهمية قوله تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)[طه، الآية: 5] بأن المعنى استولى كقول العرب استوى فلان على مصر وعلى الشام. ويسأل عبد العزيز المكي عدة أسئلة يستخلص منها الإجابات الملزمة لها، فيسأل أولا (أيكون خلق من خلق الله أتت عليه مدة ليس الله بمستول عليه؟) فالإجابة الصحيحة بالنفي، ومن زعم غير ذلك فهو كافر.
وبالنظر إلى آيات أخرى تتناول العرش، يلزم المريسي بأن العرش قد أتت عليه مدة ليس الله بمستول عليه، فقد قال الله تعالى:(الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا)[الفرقان، الآية: 59] وقوله: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ)[غافر، الآية: 7] وقوله: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ)[فصلت، الآية: 11] ويستطرد المكي بعد هذا قائلاً: (فيلزمك أن تقول: المدة الذي كان العرش فيها قبل خلق السموات الأرض ليس الله بمستول عليه، إذ كان (اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) معناه عندك استولى، فإنما استولى بزعمك ذلك الوقت لا قبله) .
وبقيت الصعوبة التي يثيرها الجهمية في كيفية الاستواء، إذ يستفسر المريسي
(1) الحيدة ص 55.
(2)
وقد استخلصناه من ابن تيمية نقلاً عن الحيدة إذ لاحظنا أن الكتاب المتداول والذي استندنا إليه جاء خلوًا هن هذه المسألة.
عنه، أهو كما يقول:(استوى فلان على السرير) فيكون السرير قد حوى فلانًا وحده إذا كان عليه؟ ويلزم من ذلك القول أن العرش قد حوى الله وحده إذا كان عليه، لأنا لا نعقل الشيء إلا هكذا.
ويوضح عبد العزيز المكي إجابته على هذا التساؤل، فيؤكد أولاً أن الله تعالى لا يجرى عليه كيف، فلا مجال إذن للتساؤل (كيف استوى؟) فقد أخبرنا بأنه استوى على العرش ولم يخبرنا كيف استوى، إذ لم تره العيون في الدنيا فتصفه بما رأت، وحرم عليهم أن يقولوا عليه ما لا يعلمون فآمنوا بخبره عن الاستواء، ثم ردوا علم كيف استوى إلى الله تعالى.
بقي بعد هذه الإجابة أن يلزم الجهمي بإلزامين يستخرجهما من وصفه لله تعالى بأنه في كل مكان، أولهما فقد زعم أن الله تعالى محدود وقد حوته الأماكن، لأنه لا يعقل شيء في مكان إلا والمكان قد حواه، ويلزمه ثانيًا تقليد النصارى في الاعتقاد بأن الله عز وجل في عيسى وعيسى بدن إنسان واحد، فكفروا بذلك، ولكن قول الجهمية أشنع إذ يلزمهم القول أنه في أبدان الناس كلهم، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا.
وفي ختام المحاورة يضطر المريسي إلى الوقوع في التناقض إذ يصف الله عز وجل بأنه في كل مكان، لا كالشيء في الشيء ولا كالشيء على الشيء، ولا كالشيء خارجًا عن الشيء، ولا مباينًا للشيء. ويسخر المكي من هذا الاعتقاد، لأن المريسى يدعي أنه يستند إلى القياس والمعقول، ولكنه دل بالقياس والمعقول على أنه لا يعبد شيئًا، لأن ما لا يكون داخلاً في الشيء ولا خارجًا منه فإنه لا يكون شيئًا، وأن ذلك صفة لمعدومٍ لا وجود له (1) .
وتلقف ابن تيمية بقراءاته المتشعبة مثل هذا الدليل العقلي، وزاده إيضاحًا، فبين أولا أن الألفاظ التي لم تنطق الرسل فيها بنفي ولا إثبات كلفظ الجهة والحيز ونحو ذلك لا يطلق نفيًا ولا إثباتًا إلا بعد بيان المراد، ثم أحصى الأدلة المستمدة من القرآن والسنة فرآها تقارب ألفًا، مع تطابق الأنبياء كلهم على أن الله سبحانه وتعالى في العلو.
(1) ابن تيمية: مجموعة فتاوى ج 5 ص 316 - 317 ط السعودية.
ولكن ماذا يقصد بالعلو؟
يقدم كعادته الآيات القرآنية، مثل قوله تعالى:(أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ) ، (أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا)[الملك، الآية: 16، 17] ، فهو سبحانه العلي الأعلى لا يعلوه شيء من خلقه، كما أخبر الرسل بأن الله تعالى فوق العالم بعبارات متنوعة ولكن ليس مرادهم أن الله في جوف السموات أو أن الله يحصره شيء من المخلوقات، بل كلام الرسل كله يصدق بعضه بعضًا، كما قال تعالى:(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الصافات، الآيات: 180 - 182] وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء) ويناقش شيخ الإسلام كافة التصورات المحتملة فينفيها، ويثبت الصحيح، فمن التصورات الخاطئة اعتقاد أن يكون الرب محصورًا في شيء من المخلوقات أصلاً سواء سمي ذلك المخلوق جهة أو لم يسم جهة، ويخطئ أيضًا من يظن أنه ليس فوق السموات رب، ولا على العرش، ومحمد صلوات الله لم يعرج إلى ربه، ولا تصعد الملائكة إليه، ولا تنزل الكتب منه، ولا يقرب منه شيء، ولا يدنو إلى شيء.
الاعتقاد الصحيح إذن أنه ليس موجود إلا الخالق والمخلوق، والخالق بائن على مخلوقاته، عال عليها، فمن سمى ما فوق العالم جهة وجعل العدم المحض جهة وقال في جهة بهذا المعنى أي: هو نفسه فوق كل شيء فهذا معنى صحيح (1) .
(1) ابن تيمية: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ج 3 ص 83.