الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رأي علماء الحديث في هذه الحجج:
يرى المعارضون أن الاختلاف ينبغي أن يفصل بين النظر الشرعي والكلام المبتدع، ويظهر الاختلاف بينها منهجيًا قبل أي شيء آخر، إذ يرى أهل الحديث أن العقل لا يوجب شيئًا فلا دور له ولا حظ في تحليل أو تحريم أو تحسين أو تقبيح ما لم يرد به الوحي مستدلين على ذلك بقول الله تعالى:(وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا)[الإسراء، الآية: 15] وقوله عز وجل: (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ)[النساء، الآية: 165]، وقال تعالى حاكيًا عن الملائكة فيما خاطبوا به أهل النار:(ألم يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى)[الزمر، الآية: 71] ، فيتبين من هذه الآية أنه عز وجل أقام عليهم الحجة ببعث الرسل فلو كانت الحجة لازمة بنفس العقل لم يكن بعثة الرسل شرطًا لوجوب العقوبة، وإذا تأسس الإيمان على العقل لأدى ذلك إلى إنكار دور الرسل وكأن وجودهم وعدمه بمنزلة واحدة، أو كأنهم اقتصروا في دعوتهم على الشرائع وفروع العبادات دون أصول الدين.
وهنا تظهر صورة مختصرة للاعتراض في صيغة تهكم، فيرى أحدهم (أنه لو قال قائل: لا إله إلا الله عقلي رسول الله لم يكن مستكفرًا عن المتكلمين من جهة المعنى، فظهر فساد قول من سلك هذا) (1) . وأيضًا ففي الدين معقول وغير معقول والاتباع في جميعه واجب، وأن الله تعالى هو الذي يعرف العبد ذاته فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا" فدل على أن الله تعالى يعرف العبد مع وجود العقل سبب الإدراك والحجة لقوله عز وجل: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [النحل، الآية: 67] وقوله تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ [ق، لآية: 37] وقال تعالى مخبرًا عن أصحاب النار: (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك، الآية: 10] .
فالعقل آلة لإقامة العبودية لا لإدراك الربوبية، فهو آلة التمييز بين القبيح والحسن، السنة والبدعة، الرياء والإخلاص، ولولاه لم يكن تكليف ولا توجه أمر ولا
(1) القاضي عبد الجبار: فرق وطبقات المعتزلة ص 61- 64.
نهي (1) . وقديمًا عبر "الجنيد" عن عجز العقل عن إدراك الربوبية وعاب على المتكلمين منهجهم بقوله: (نفي العيب حيث يستحيل العيب، عيب)(2) ، ولا ينكر علماء الحديث النظر لزيادة البحث وإنما أنكروا طريقة أهل الكلام إذ أسسوا طريقتهم على وجوب النظر أولا المؤدي إلى معرفة الباري عز وجل، بينما لم يثبت اتباع هذه الطريقة عن النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته والتابعين بعده (3) ، وقد علمنا من سيرته أنه لم يدع أحداً إلى الاستدلال بالأعراض والجواهر وحدوث الأجسام كما يفعل أهل الكلام (4) بل إن دراسة منهج الأنبياء والرسل يجعلنا ندرك أنهم لم يشتغلوا بالنظر وتلقين أتباعهم والمصدقين بهم الأدلة التي هي أصول الإسلام، ولكنهم حرصوا على تعليم الشرائع والآداب. وينبغي التمييز بين لفظي التقليد والاتباع، فالتقليد هو قبول قول الغير بلا حجة، أما الاتباع فإنه السير على منهاج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد قيام الأدلة على صدق نبوته المنقولة إلينا بواسطة أهل الإتقان والثقات من الرواة ما لا يعد كثرة من المعجزات والبراهين والدلالات. وأهملوا تعليمهم الدلائل وتعليمهم كيفية حل الشبه ولو فعلوا لنقل إلينا تصانيفهم كما نقل إلينا كتب الفلاسفة والمتكلمين من علماء المسلمين (5) ، ويذهب "ابن الوزير اليماني " إلى أبعد من هذا فيرى أنه لم ينقل أن اثنين اختلفا في شيء قط، ولا كذب أحدهما الآخر ولا غلطه ولا خطأه ولو كانوا اكتسبوا ذلك بالنظر لقضت العادة باختلافهم كما اشتد الاختلاف بين الفلاسفة والمتكلمين، فإن كثيرًا منهم قد تفردوا بمقالات حتى قيل اجتماع العلماء في النظريات محال. ويضيف إلى ذلك دليلا آخر، هو انقطاع الأذكياء في تحصيل علم الكلام، دقيقه وجليله، مستفيدًا بما انتهى إليه الرازي معترفًا بالقصور عن بلوغ غايته ومنتهاه، فقرر في وصيته التي مات عليها (ولقد اجتزت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيت فيها فائدة تساوي الفائدة التي وجدتها في القرآن
(1) السيوطي: صون المنطق ص 180.
(2)
السيوطي: صون المنطق ص 170.
(3)
ابن خلدون المقدمة.
(4)
صون المنطق ج 1 ص 223.
(5)
صون المنطق.
العظيم) (1) .
ويورد القصة التي شنع بها أهل الكلام على المحدثين من إرسال ملك الروم إلى "هارون الرشيد" وطلب المناظرة وعجز المحدث عنها وسخرية أولئك الفلاسفة، فقد كثر الكلام في التبجح بذلك، وبحكاية أخرى تشبهها. والجواب عليهم في ذلك أنهم أرادوا الاستدلال على أنهم أجدل من المحدثين، فذلك مسلم لهم بل إنهم أجدل من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن الكل يعلم أنه لم يصدر شيء من الكلام ومجادلة الفلاسفة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا من جميع أصحابه رضي الله عنهم ولا اشتغلوا بممارستهم لما رأوه أهل اللجاج. ولا يلزم من ذلك أنهم أقل معرفة بالله ولا أقل نصرة لدين الله. ولو أحبوا الخوض في علم الكلام واشتغلوا بتعلمه وتعليمه لبلغوا فيه ما أرادوا وعرفوا ما عرف المتكلمون وزادوا، ولكنهم أعرضوا إعراض مستغن عنه - واستقراء السير والأخبار تدلنا على أنهم لم يتبعوا هذا الأسلوب في الدعوة، فها هي قصة جعفر بن أبي طالب ومهاجري الحبشة مع "النجاشي" وما راجعه به خطيبهم "جعفر" حين قيل للنجاشي إنهم يقولون في عيسى عليه السلام قولاً عظيمًا، فلما سألهم النجاشي عن ذلك أجابوا بكلام الله تعالى واحتجوا به على صحة عقيدتهم وتلا جعفر على "النجاشي " صدر سور مريم حتى بكى النجاشي وأصحابه وكان ذلك سبب إسلامه، كما أرسل صلوات الله عليه إلى هرقل من كان على صفة المحدث الذي أرسله هارون وهو دحية بن خليفة الكلبي ولم يعلمه ما يجيب به عليهم إن أوردوا عليه ما يدق من شبههم وهم أهل المنطق وسائر الدقائق النظرية، كما بعث إلى النجاشي صاحب الحبشة، وإلى "المقوقس" صاحب الإسكندرية وبعث "أبا عبيدة" إلى البحرين يعلنهم الإسلام، وبعث "عليا" و"معاذً" و"أبا موسى" إلى اليمن، وبعث إلى سائر الملوك للدعاء إلى الإسلام لم يضمنها شيئًا من ذلك مثل كتابته إلى هرقل وإلى كسرى. وخلاصة المنهاج الذي اتبعه الرسول - كما أمره الله عز وجل هو الاقتصار على مجرد الدعوة إلى الإسلام والاتكال في إيضاح الحجة على ما قد فعله الله تعالى لهم من إظهار المعاني وتقديم البيانات الواضحة للعقول، إذ قال الله عز وجل تسلية لرسول
(1) ابن الوزير اليماني: البرهان القاطع ص 55.
الله صلى الله عليه وسلم وبيانًا لحد ما جب عليه؟ (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ)[آل عمران، الآية: 20] أي: في الذي ببواطنهم وما أقام عليهم من الحجة، إذ لا مطمع في هداية المرء والجدال والحجة وكيف يطمع فيهم وقد حكى الله تعالى عنهم أنهم جادلوه يوم القيامة وأنكروا ما صنعوا من معاصيه سبحانه وتعالى حتى شهدت عليهم أيديهم وأرجلهم فقالوا لأعضائهم لم شهدتم علينا (1) ؟
وإن قيل: إن الله - تعالى - قد أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بالجدل في قوله تعالى: (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)[النحل، الآية: 125] فالجواب من وجهين:
أحدهما: أن الله تعالى بين ذلك بالتي هي أحسن ولم يأمره بمطلق الجدال، فامتثل ما أمره ومع ذلك فلم ينقل عنه أنه جادل بأساليب المتكلمين والجدليين فثبت أن التي هي أحسن ليست سبيل المتكلمين مثل ما علم الله رسوله أن يحاجهم به في قوله تعالى:(قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [سبأ، الآيتان: 46 - 47]، وتنفيذه للأمر الإلهي (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) فصعد على الصفا فجعل ينادي لبني قريش حتى اجتمعوا فسألهم "أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم كنتم مصدقي؟ " قالوا:(نعم ما جربنا عليك إلا صدقًا) قال: "فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد"، والأمثلة الأخرى كثيرة في القرآن عن محاجة الأنبياء وجدالهم كما في سورة "هود"، ومحاجة "إبراهيم" لقومه ومحاجة "يوسف" لصاحبي السجن.
الوجه الثاني: أن الله - تعالى - أجمل كيفية الجدال بالتي هي أحسن في تلك الآيات وبينه في غيرها بتعليمه في القرآن العظيم لنبيه صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا
(1) ابن الوزير اليماني (الذب عن سنة أبي القاسم صلوات الله عليه) ج 2 ص 131 المكتبة السلفية بالقاهرة 1385هـ.
فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران، الآية: 19 و 20] ، فهذه الآية واضحة الدلالة على الأمر بالاقتصار على مجرد الدعاء إلى الإسلام والاتكال في إيضاح الحجة على ما قد فعله الله تعالى لهم من خلق العقول وبعثة الرسول وإنزال الآيات وإظهار المعجزات وتكثير مواد البينات (1) وسنرى أيضًا أن ابن تيمية في معارضته لعلم الكلام يوضح أن السلف الصالح لم يعارضوا جنس النظر والاستدلال ولكن المعارضة اتجهت إلى الأساليب الكلامية المستقاة من الفلسفة اليونانية وكان الأحرى الإحالة إلى الأدلة الشرعية وفي مقدمتها القرآن الحكيم لأنه اتجه في خطابه للإنسان باستثارة قوانين العقل وتحريك وجدانه وإيقاظ قلبه من الغفلة.
(1) ابن الوزير اليماني: الذب عن سنة أبي القاسم صلوات الله عليه ج 2 ص 285 وما بعدها.