الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2- عبد العزيز المكي. وبشر المريسي:
المنهج:
حرص عبد العزيز المكي على بيان المنهج أولاً، فقال:(ولكننا نؤصل بيننا أصلاً فإذا اختلفنا في شيء من الفروع رددناه إلى الأصل، فإن وجدناه فيه وإلا رمينا به ولم نلتفت إليه. ثم وجه الحديث إلى المأمون عندما سأله عن الأصل بينه وبين بشر المريسي (218 هـ) قال: (يا أمير المؤمنين بيني وبينه ما أمرنا الله عز وجل واختاره لنا وعلمناه وأدبنا به في التنازع والاختلاف، ولم يكلنا إلى غيره، ولا إلى أنفسنا واختيارنا فنعجز) . فطالبه المأمون بأصل ذلك في كتاب الله، فتلا المكي قول الله تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا)[النساء، الآية: 59] فهذا تعلم من الله وتأديبه واختياره لعباده المؤمنين ما أصله المتنازعون بينهم، وقد تنازعت أنا وبشر يا أمير المؤمنين وبيننا كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فإن وجدناه فيها وإلا ضربناه في الحائط ولم نلتفت إليه) .
وقد أقر المأمون هذا المنهج، فقال:(فافعلا وأصِّلا بينكما هذا واتفقا عليه، وأنا الشاهد عليكما، والحافظ لما يجري بينكما)(1) .
وسنعرض في الصفحات التالية لأبرز المسائل التي دار حولها الحوار، وهي عن صفات الله تعالى وقضية القرآن الكريم.
صفات الله عز وجل:
حاول بشر المريسي أولا جعل عبد العزيز المكي يقر بأن القرآن شيء، فإن كان المراد بأنه شيء إثباتًا للوجود ونفيًا للعدم، فإنه شيء، وإن كان المراد أن الشيء اسم له وأنه كالأشياء فليس كذلك.
وقد أقام عبد العزيز الدليل على ذلك بقول الله تعالى: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا)[الأنعام، الآية: 91] ، فذم الله
(1) الحيدة ص 12.
من نفى أن يكون كلامه الذي أنزله على رسوله شيئًا، ولكنه في آية أخرى أخبرنا تعالى بأنه لا كالأشياء حتى لا يدخله الملحدون في جملة الأشياء، فأظهره باسم الكتاب والنور والهدى فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم:(قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ) .
وإزاء إصرار قول بشر بأن القرآن شيء كالأشياء ليدعم عقيدته في خلق القرآن وطالب بإتيان الدليل بنص التنزيل، فاحتج بآيات كثيرة من القرآن كقوله تعالى:(إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)[النحل، الآية: 40] وقوله عز وجل (وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) فدل سبحانه وتعالى بهذا الإخبار وأشباه لها في القرآن كثير على أن كلامه ليس كالأشياء وأنه غير الأشياء وأنه خارج عن الأشياء وأنه يكوِّن الأشياء، ثم أنزل الله عز وجل خبرًا مفردًا ذكر فيه خلق الأشياء كلها، لم يدع منها شيئًا إلا ذكره وأخرج كلامه وأمره من جملة الخلق وفصله منها ليدل على أن كلامه غير الأشياء المخلوقة وخارج عنها فقال:(إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)[الأعراف، الآية: 54] .
فجمع سبحانه وتعالى في قوله: (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ) جميع ما خلق فلم يدع منه شيئًا ثم قال: (وَالْأَمْرُ) يعني والأمر الذي كان به الخلق خلقًا، ففرق بين خلقه وأمره فجعل الخلق خلقًا والأمر أمرًا، وجعل هذا غير هذا وقال:(وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ)[القمر، الآية: 50] وقال: (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ)[الروم، الآي: 4] .
ومن هذه الآيات وآيات أخرى سردها عبد العزيز المكي حتى طلب منه المأمون الاختصار، فأوضح بعد ذلك أن الله تعالى قد أخبر عن خلق السموات والأرض وما بينهما فلم يدع شيئًا من الخلق إلا ذكره فأخبر عن خلقه أنه ما خلقه إلا بالحق، وأن الحق قوله وكلامه الذي به خلق الخلق كله، وأنه غير الخلق وأنه خارج عن الخلق، وغير داخل في الخلق وهذا نص التنزيل (1) .
ولكن بشر لم يوافقه على هذا الذي ذهب إليه، ورأى أن عبد العزيز جاء
(1) الحيدة ص 18.
بأشياء متباينات متفرقات مدعيًا أن الله خلق بها الأشياء.
قال عبد العزيز: إن الله تعالى خلق الأشياء بقوله وكلامه وأمره بالحق فاعترض بشر على قوله لأنه جاء بأشياء متباينات متفرقات مدعيًا أن الله تعالى خلق بها الأشياء.
فأخذ المكي في بيان كلامه وشرحه بأن بين أن هذه أربعة أشياء لشيء واحد، لأن كلام الله هو قوله وقول الله هو كلامه وأمر الله هو كلامه وكلام الله هو أمره وكلام الله هو الحق والحق هو كلام الله فهذه أسماء لكلام الله، وأوضح أن الله تعالى سمى كلامه نورًا وهدى وشفاء ورحمة وقرآنًا وفرقانًا وبرهانًا وسماه الحق، وهذه أشياء شتى لشيء واحد وهو كلام الله كما سمى نفسه بأسماء كثيرة وهو واحد صمد فرد. وإنما ينكر بشر هذا ويستعظمه لقلة معرفته بلغة العرب.
وهنا ظن بشر أن عبد العزيز يستخدم التأويل لا التنزيل ويخالف المنهج الذي أصّله منذ البداية، ولكن عبد العزيز أعاد إلى سمعه الآيات الدالة على ما ذكره، كقول الله تعالى:(وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ)[التوبة، الآية: 6]، وإنما يسمعه من قارئه وإنما عنى القرآن لا خلاف بين أهل العلم واللغة في ذلك. وقال تعالى:(سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ)[الفتح، الآية: 15] وقال الله عز وجل: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ)، وآيات أخرى مثل قوله تعالى:(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ)[السجدة، الآية: 3] وقال (وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ)[المائدة، الآية: 83] .
وهذه الآيات وغيرها يتضح منها أن الله تعالى أخبر عن القرآن أنه الحق كما أخبر أن الحق قوله: (قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ)[ص، الآية: 84] فأخبر أنه الحق والحق قوله وقال: (وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)[السجدة، الآية: 13] وقال: (حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ