الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كالمعتزلة والشيعة والخوارج ومن وافقهم، فإنهم لا يتبعون الأحاديث التي رواها الثقات عن النبي صلى الله عليه وسلم التي يعلم أهل الحديث صحتها والأدلة على ذلك أن المعتزلة يقولون: هذه أخبار آحاد، ويطعن الشيعة في الصحابة ونقلهم وهذا طعن ضمني في الرسالة. والخوارج يعبرون عن موقف قائلهم (اعدل يا محمد فإنك لم تعدل) ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:(ويلك إن لم أعدل من يعدل لقد خبت وخسرت إن لم أعدل)(1) .
وقد ظهرت الفرق والآراء الكلامية المبتدعة تباعًا، وجابهها علماء السنة والجماعة للرد عليها وإعادتها إلى الصف الإسلامي بعقيدته في الصدر الأول.
وكلما تفتقت الأحداث عن انحراف ما، أسرع الجهابذة من علماء أهل السنة والجماعة لتصويبه وإظهار وجه الحق، إذ ظهرت أفكار الخوارج بسبب قصورهم في فهم آيات من القرآن الكريم، وبدأ التشيع عندما قتل الحسين سيد الشهداء إلى آخر الأحداث التي سجلتها كتب التاريخ، فأخذت الآراء تكثر وتتشعب، والفرق تتشكل وتتحزب حول معتقداتها.
ثم انتقلت أصداء هذه الخلافات والمناقشات إلى كتب علم الكلام لتأخذ مكانها بين الآلاف من صفحاتها عرضًا وتفنيدًا ونقاشًا، وهكذا ظهر الجدل في أصول الدين.
الافتراق عن مذهب الصحابة في أصول الدين:
إن مذهب الصحابة رضي الله عنهم كما يذكر الشاطبي- وعليه دأبوا أن الحجة القاطعة والحاكم الأعلى هو الشرع لا غيره، فلم ينكر أحد منهم ذلك، بل أقروا وأذعنوا لكلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يصادموه ولا عارضوه بأشكال، بل آمنوا به وأقروه (2) .
وتعليل ذلك عنده:
1 -
إن الرسول صلى الله عليه وسلم نهاهم عن التنقيب فيما لا طائل وراءه بمثل قوله (ذروني ما تركتكم فإنما هلك الذين من قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا
(1) ابن تيمية: منهاج السنة ج 2 ص 103.
(2)
الشاطبي: الاعتصام ج 2 ص 191/2 - نفس المصدر ج 2 ص 207.
نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء فخذوا منه ما استطعتم) ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:(إن أصحاب الرأي أعداء السنن أعيتهم أن يحفظوها وتفلتت منهم أن يعوها، واستحيوا حين سئلوا أن يقولوا لا نعلم فعارضوا السنن برأيهم فإياكم وإياهم) . والآثار كثيرة تشير إلى ذم إيثار نظر العقل على آثار النبي صلى الله عليه وسلم. ثم جاء جهم بن صفوان وغيره فخالفوا السنن وعارضوها بعقولهم فاستعملوا قياسهم وآراءهم في رد الحديث.
2-
إن جميع ما قالوه مستمد من معنى قول الله تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ) ثم قال: (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا) ، فإنها صريحة في هذا الرأي الذي قررناه - فإن كل ما لم يجر على المعتاد في الفهم متشابه.
3-
اتخذوا من الشرع حجة قاطعة وحاكمًا أعلى، وظهرت هذه الحقيقة في عدة مواقف عقب انتقال الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنها يوم السقيفة إذ قال بعض الأنصار:(منا أمير ومنكم أمير) فأتى الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الأئمة من قريش أذعنوا لطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ولم يعبأوا برأي من رأى غير ذلك لعلمهم بأن الحق هو المقدم على آراء الرجال.
وفي حرب أبي بكر لمانعي الزكاة، قال له عمر رضي الله عنهما: كيف نقاتل وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءَهُمْ وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله" فرد أبو بكر بقوله (إلا بحقها)، فقال: الزكاة حق المال، مع أن الذين أشاروا عليه بترك قتالهم إنما أشاروا عليه بأمر مصلحي ظاهر تعضده مسائل شرعية، ولكن لم يقو عنده آراء الرجال إن تعارض مع الدليل الظاهر الخ.
ونفهم - من استقراء أقوالهم وسلوكهم في جميع أصول الدين - أنهم كانوا يتقيدون بهذا المنهج أي: تقديم الشرع على العقل، لا عن قصور في الفهم، ولكن لمعرفتهم بمكانة الشرع وضرورة تقديمه على الاستنباطات العقلية التي لا تستند إلى دليل.
وإليكم مواقفهم من هذه الأصول:
1 -
ففيما يتصل بمسائل الغيب كالكلام عن الميزان والصراط وعذاب القبر والميزان وأوصاف أهل الجنة وأوصاف أهل النار.
فلم ينكر أحد منهم ما جاء من ذلك بل أقروا وأذعنوا لكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم ولم يصادموه ولا عارضوه بأشكال، ولو كان شيء من ذلك لنقل إلينا كما نقل إلينا سائر سيرهم وما جرى بينهم من القضايا والمناظرات في الأحكام الشرعية، فلما لم ينقل إلينا شيء من ذلك دل على أنهم آمنوا به وأقروه، كما جاء من غير بحث عن الكيفيات لأمور الغيب.
ويذكر لنا الشاطبي في كتابه "الاعتصام" طريقة الصحابة إزاء هذه المسائل موضحًا على سبيل التفصيل الاتجاه الصحيح في تلقي الأخبار المنقولة عن صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم:
- ففهموا وصف الصراط بأنه كحد السيف لأن العادة قد تخرق حتى يمكن المشي والاستقرار.
وفى مسألة الميزان فأثبتوا أن كيفيته تليق بالدار الآخرة، لأن الأعمال ليست كالأجسام التي توزن في دارنا، ولم يأت في النقل ما يعين أنه كميزاننا من كل وجه. مسألة عذاب القبر، فإن رد الروح إلى الميت وتعذيبه بغير أن يراه البشر أو يسمعونه أمر ثابت بالحديث.
والعقل يسلم بما نراه، فالميت يعالج سكرات الموت ويخبر بآلام لا مزيد عليها ولا نرى عليه من ذلك أثر، وكذلك أهل الأمراض المؤلمة.
ويلحق بها مسألة سؤال الملكين للميت وإقعاده في قبره، فإنه إنما يشكل إذا حكمنا المعتاد في حياتنا الدنيا، ولكنه من قبيل خرق العوائد التي لا تحيط بمعرفتها العقول. كإنطاق الجوارح شاهدة على صاحبها يوم القيامة، وقراءة الصحف لمن لم يقرأ قط.
رؤية الله عز وجل في الآخرة جائزة، إذ لا دليل في العقل يدل على أنه لا رؤية إلا على الوجه المعتاد عندنا.
كلام الباري تعالى إنما نفاه من نفاه وقوفًا مع الكلام الملازم للصوت