الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأرض.
(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ)[البقرة: آية 30](وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ)[الأنعام: آية 165] .
ثالثًا: إن الإنسان أمين على شخصية حرة، أخذ تبعتها على عاتقه (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) [الأحزاب: آية 72] .
واستخلص إقبال، من هذه الأمور، أن مهمة الإسلام الحقيقية هي كشف الذات الإنسانية وإبرازها، والذات خالدة أبدًا، ولا تفقد وجودها حتى بعد الموت، ويعد القرآن أعلى مراتب السعادة الإنسانية للإنسان وجزاؤه الأوفى تدرجه في السيطرة على نفسه، هذه السيطرة التي يكفلها خضوعه لأوامر الله عز وجل (فمن طريق حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والخضوع لشريعته - سبحانه - في نقائها الأصيل وصورتها التامة والتمسك المخلص بأركان الإسلام، تصل شخصية المسلم إلى قمة اكتمالها، إذا ما عملت بقانون الله على الأرض)(1) .
الحقيقة بين التجربة العلمية والتجربة الدينية:
كان لا بد لإقبال أن يدلي بدلوه وسط ضجة التجارب العلمية والاكتشافات التي تمت، عن طريق المنهج التجريبي بأوروبا، وطغيان هذه الظاهرة أمام انحسار موجة الدين وأهميته للحضارة البشرية، ورأى ضرورة إعداد الإنسان العصري إعدادًا خلقيًا يؤهله لتحمل التبعة العظمى التي لابد من أن يتمخض عنها تقدم العلم الحديث، والدين كفيل بتحقيق هذه الغاية؛ لأنه يحث على سعي المرء سعيًا مقصودًا للوصول إلى الغاية النهائية للقيم (2) .
(1) مريم جميلة: الإسلام في مواجهة الغرب ص 169.
(2)
تجديد الفكر الديني: محمد إقبال ص 217.
ونستطيع تفسير موقف محمد إقبال هنا بالمقارنة بين فريقي العقل والنقل في الفكر الإسلامي، فمن هذا الوجه، يعد من الآخذين بهما معا كسلفه ابن تيمية.
وكان لا بد للفيلسوف المعاصر لأوروبا في أوج حضارتها، القارئ لتراثها والفاهم لإنتاج فلاسفتها، أن يستلهم الإسلام في حل المشاكل التي يراها تتفتق أمامه عن أزمات لا يستهان بها.
قال: (لا ريب في أن اللحظة الحاضرة تمثل أزمة خطيرة في تاريخ الثقافة العصرية) بعد فشل أسلوب التصوف، في العصور الوسطى والقومية والاشتراكية الإلحادية، في شفاء علل الإنسانية البائسة؛ لأن أسلوب التصوف كان أبعد ما يكون عن تدعيم قوى الحياة النفسانية عند الرجل العادي، بحيث يعده للمشاركة في موكب التاريخ، فعلمه نوعًا من الزهد الزائف، وجعله يقنع بجهله ورقِّه الروحي قناعة تامة وكان لأسلوب الاشتراكية الملحدة الحديثة ما للدين الجديد من حمية وحرارة، ولكنها استمدت أساسها الفلسفي من المتطرفين أمثال هيجل، وأعلنت العصيان عن المصدر الذي كان يمكن أن يمدها بالقوة والهدف، ويؤكد أنها ستتأثر بغير شك بالقوى السيكولوجية للكراهية والارتياب في نيات الغير والأحقاد، تلك القوى التي تنزع إلى إضعاف روح الإنسان وإنضاب ينابيع قوته الروحانية الخفية (1) وكان إقبال متنبئًا بسقوط الشيوعية، سابقًا لعصره في رؤية ثمارها القاتلة.
ولمعرفة رأي إقبال في الحل المقترح، لا بد أن نعرض بإيجاز شديد للمقارنة بين الحقيقة في التجربة العلمية، والتجربة الدينية:
عندما نضع (العلم) في مجموع التجربة الإنسانية، يشرع ينكشف عن طبيعة مختلفة، والعلوم جزئية بطبيعتها، وعلى هذا فإن الأفكار التي تستخدمها في تنظيم المعرفة جزئية بطبعها، وتطبيقها اعتباري بالنسبة لمستوى التجربة التي نستخدمها فيه وأظهر دليل على ذلك تطورات النظرية العلمية، على مر الأجيال عن المادة.
والتجربة، كما تنكشف في الزمان، تتمثل في ثلاث مستويات كبرى، هي:
مستوى المادة.. ومستوى الحياة.. ومستوى العقل وهي - على التوالي-
(1) نفسه.
موضوعات علم الطبيعة وعلم الأحياء وعلم النفس.
ولقد وجه النظر إلى بعض آيات الكتاب الكريم التي تتصل بالموضوع:
(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)[البقرة: آية 164](إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ)[آل عمران: 190] .
(يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ)[النور: 44] .
وينتقي من أقوال بعض الفلاسفة ما يؤيده الواقع المشاهد والتجارب العلمية.
فمن أقوال هوايتهد: إن العالم ليس شيئا قارًّا، بل هو بناء من حوادث، كأنها سيل متصل خلاق، وهذه الصفة لسير الطبيعة في موكب الزمان، ربما كانت أبرز وجوه التجربة التي أكدها القرآن على وجه خاص.
والكون الذي يبدو لنا في صورة - مجموعة من الموجودات ليس مادة صلبة تشغل فراغًا، إنه ليس شيئًا، إنما هو فعل وطبيعة الفكر المتجدد، على ما يرى برجسون.
إن الطبيعيات تدرس العالم المادي والعالم الطبيعي الذي يبدأ وينتهي بالظواهر الحسية التي يستحيل بغيرها أن يتحقق من صدق نظرياته، والطبيعيات مقصورة على درس عالم المادة، أي: عالم الأشياء المحسوسة.
أما الحركة العقلية التي يتضمنها هذا الدرس وكذلك التجربة الدينية، فإنها أمور خارجة عن ميدان الطبيعيات.
وعلى سبيل المثال عندما أصف السماء بأنها (زَرْقاء) فإن هذا لا يدل على أن هذا اللون صفة موجودة في السماء وإنما يدل على أن السماء تحدث في العقل إحساسًا بالزرقة (1) .
(1) (القبة الزرقاء: ظاهرة ضوئية نراها فوق رؤوسنا أثناء النهاية، وتحدث في غلاف الأرض
=
وقد أثبت عالم الرياضيات والطبيعة هوايتهد، أيضًا بطريقة قاطعة، أن الألوان والأصوات.. إلخ، في نظر العلم، ليست إلا أحوالاً ذاتية لمدركها لا جزءا من الطبيعة، فاللون والصوت عبارة عن موجات أثيرية تراها العين وموجات هوائية تسمعها الأذن، أي: أن - بعبارة هذا العالم - تصبح نصف الطبيعة (حلمًا) ، ونصفها الثاني (ظنًا) .
بعبارة أخرى إن النزعة التجريبية التي بدت أول الأمر أنها تقتضي المادة العلمية، انتهت إلى ثورة على المادة.
ولقيت أيضًا نظرية المادة أعظم لطمة على يد (أينشتاين) ، حيث زعزع بنظريته عن النسبية معنى الجوهر، كما اصطلح عليه القدماء، أكثر مما زعزعه جدل الفلاسفة كله.
إن المادة عند قدماء الفلاسفة هي شيء يلبث في الزمان ويتحرك في مكان، ولكن النسبية في الطبيعيات قوضت دعائم هذا الرأى، حيث تذهب إلى أن (القطعة من المادة ليست شيئًا ثابتًا له أحوال متغايرة، بل أصبحت مجموعة حوادث مرتبطة بعضها ببعض) .
وبهذا ذهبت صلابة المادة التي قيل بها قديمًا، وذهبت معها الخصائص التي كانت تجعلها تبدو، في نظر المادي، شيئًا أقوى في حقيقته من الأفكار التي تجول في العقل وعلى هذا فليس ثمة شيء اسمه مادة لها وجود في ذاتها، كما كان الرأي في علم الطبيعيات القديم. لذلك فإن النظرية النسبية بوصفها نظرية علمية، لها قيمة مزدوجة
=
الجوي بسبب تشتت أشعة الشمس الزرقاء فيه بوفرة وغزارة دون سائر الأشعة الأخرى، وما القبّة التي تبدو لنا ليلاً مرصّعة بالنجوم إلا صورة ظاهرية، لا تمثل الحقيقة والواقع، ولا يزيد ارتفاعها على نحو 200 كم فقط من إجمالي ارتفاع الغلاف الجوي الذي يبلغ 1000 كم وعندما يصعد رجال الفضاء يرونها تحتهم حول الأرض، بينما يظهر الفضاء الكوني على طبيعة حالك الظالم) ص 108 من كتاب:(الإعجاز العلمي للقرآن بين الآيات القرآنية والنظرية العلمية) تأليف أحمد المرسي حسين جوهر مكتبة الإيمان بالمنصورة 1421 هـ 2000 م.
من الناحية الفلسفية (فهي أولاً: لا تهدم حقيقة الوجود الخارجي وإنما تهدم النظر إلى الجوهر، باعتباره مجرد شيء قائم في مكان، وهو رأي انتهى إلى المادية في علم الطبيعيات القديم، فالجوهر في نظر الطبيعيات النسبية ليس قائمًا بذاته له أحوال متغايرة ولكنه مجموعة من حوادث يتعلق بعضها ببعض)(1) .
وهكذا أخذت (المادة) طبيعة مختلفة، لأن العلم لا يستطيع أن يقيم نظرياته على اعتبار أنها رأي كامل عن الحقيقة، وعلى هذا فإن الأفكار التي يستخدمها في تنظيم المعرفة جزئية بطبعها، كما رأينا، وتطبيقها اعتباري بالنسبة لمستوى التجربة التي نستخدمها، وقد أصبح هذا الاستدلال في غاية الأهمية، حيث إن العلماء قد اعترفوا بأن العلوم المادية لا تعطي إلا علمًا جزئيًا عن الحقائق.
أما الدين فهو السبيل إلى معرفة (الذات الكلية) فالعبادة فيه - وعلى وجه أخص الصلاة - هي المدخل في نظر إقبال إلى إدراك تلك الحقائق الكلية إدراكًا قريبًا. إن حقائق الدين فوق العلم، ولا تستطيع العلوم المادية الوصول إليها.
ويكشف إقبال عن خطأ التعريفات للدين التي وضعها (يونج) ومضمونها - في الجملة - هو أن الدين لا يصل بين ذات الإنسان وبين أية حقيقة واقعية خارج نفسه بل هو مجرد تدبير بيولوجي حسن القصد أريد به إقامة حدود ذات طابع أخلاقي حول المجتمع الإنساني لكي تحمي البناء الاجتماعي من غرائز الذات التي لا يكبح لها بغير ذلك جماح، وكأن يونج قد رأى في المسيحية أنها انتهت من رسالتها بسبب تصوره للحياة الدينية الرفيعة مجرد قهر النفس للبواعث الجنسية، ولكن محمد إقبال يفند هذا الزعم الخاطئ لأن قهر البواعث الجنسية ليس إلا مرحلة تمهيدية من مراحل تطور الذات وارتقائها. وكما يؤكد أيضًا أن علم النفس الحديث لم يمس بعد الحياة
(1) لمزيد إيضاح، ينظر كتاب (أينشتين والنظرية النسبية) للدكتور محمد عبد الرحمن مرحبا، ص 128 حيث يذكر اعتقاده بأن الأشياء المادية لا وجود لها فى ذاتها، بل هي تمثل مركبات من الإحساسات تتكرر باستمرار، وأن العالم مؤسس على العقل، ومن الممكن فهمه (ص 129) وأن أصنام الفلسفة القديمة أخذت تتحطم؛ فالمادة، بمعناها المتداول تبخرت، وأصبحت لا مادية ص 131. ط. دار القلم - بيروت سنة 1974 م.
الدينية حتى في هوامشها، وأنه ما زال بعيدًا عما يسمى تنوع الرياضة الدينية.
ويرى فيلسوفنا أن الدين، هو في جوهره حال من أحوال الحياة الواقعية، هو الطريقة الوحيدة للبحث في الحقيقة، وبوصفه نوعًا من رياضة عالية رفيعة، يصحح أفكارنا في فلسفة الإلهيات لأن الإدراك وحده لا يؤثر في الحياة إلا تأثيرًا جزئيًا، أما العمل - وربما يقصد هنا العبادة وأخصها الصلاة - فيظهر في السيطرة على الأفعال السيكولوجية والفسيولوجية لتهيئة الذات لكي تكون صالحة للاتصال المباشر بالحقيقة القصوى، وهو وسيلة لإدراك الحق، ويفتح لنا أبوابًا جديدة من الشعور، كما يفتح المجال لإمكان وجود تجربة تهب الحياة وتفيد العلم (فالسؤال عن أن الدين يمكن أن يكون نوعًا من تجربة أسمى وأرفع سؤال مشروع تمامًا ويتطلب الانتباه الجدي) .
وأيضًا فإن مطمح الدين يسمو فوق مطلب الفلسفة، فالفلسفة نظريات وأما الدين فتجربة حية ومشاركة واتصال وثيق، وينبغي على الفكر لكي يحقق هذا الاتصال أن يسمو فوق ذاته وأن يجد كماله في حال من أحوال العقل يسميها الدين الصلاة، والصلاة لفظ من آخر ما انفرجت عنه شفتا نبي الإسلام عند وفاته صلى الله عليه وسلم.
تم الكتاب بحمد الله وتوفيقه.