الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بذلك نقده للفلاسفة الذين حاولوا التوفيق بين عقائد الإسلام وفلسفة اليونان كابن سينا وابن رشد.
إنه لم يستبعد احتمال إعادة الحيوية للفكر الإسلامي من جديد إذا ما تخلص من جمود التقليد فهو يقول: (عندما ندرس أصول الفقه الإسلامي الأربعة المتفق عليها.. وهو يعني القرآن والحديث والإجماع والقياس على الترتيب - وما ثار حولها من خلاف، فإن ذلك الجمود المزعوم عن مذاهبنا المعترف بها يتبخر ويبدو للعيان إمكان حدوث تطور جديد) .
بهذا العقل الناقد للحضارة الغربية، المطلع على التراث الإسلامي في مظانه الحقيقية، استطاع هذا المفكر أن يتخلص من روح اليأس من مظاهر أحوال المسلمين - مثلما فعل ابن تيمية من قبل بعدة قرون - ونظر بروح متفائلة مؤكدًا إمكان قيام الحضارة الإسلامية من جديد، إذا ما عادت الأمة الإسلامية إلى أساس حضارتها دون تقليد أوروبا (التي لا نصيب لها في التوجيه السماوي والتنزيل الإلهي. إنه يرى - فضلا عن ذلك - المخطط اليهودي مسيطرًا على أوروبا بحضارتها المادية، فليست المصارف إلا وليدة دهائهم) ، بل (لا يستغرب أن يرث تراثها الديني ويدير كنائسها اليهود)(1) .
وعلى هذا فإن المصدر الأصلي للتجديد الذي ينادي به هو الإسلام لأنه التوجيه السماوي، وقد أثر القرآن في عقلية إقبال وفي نفسه ما لم يؤثر فيه كتاب أو شخصية.
إقبال بين الغرب والشرق:
وظل إقبال سنين طويلة يفكر فى حال المسلمين، ويمعن النظر في أسباب ضعفهم، ويجول في دروب تاريخهم الطويل، فيتفتق ذهنه عن أنظومة رائعة، يخاطب بها الإنسان المسلم المعاصر (يا شاكيا جور الزمان ويا أسير الوهم والحسبان، اجعل قميصك ثوب الإحرام وأطلع الصبح في هذا الظلام، واستغرق كآبائك في السجود حتى تكون سجدة للواحد المعبود) إن المسلم الأول خضع للخلاق فسيطر على الآفاق ومشى على الشوك في سبيل الحق، فأنبت الورد في الغرب والشرق.
ويوجه إليه اللوم، فيقرعه، ويتساءل في أسى (إني لأرعد من خزيك يوم يسألك
(1) قصيدة ضرب كليم (كتاب الصراع. ص 100) .
الرسول صلى الله عليه وسلم: قد أخذت منا كلمة الحق، فلماذا لم تسلمها إلى الخلق) (1) ؟
ومعنى هذا أن الأمة الإسلامية قد قصرت في أداء رسالتها، وها هو يضع يده على عللها، فقد استحوذت على عقول المسلمين الأوهام والخرافات وانهمكت نفوسهم في الخلافات والخصومات، فلم يفقدوا وحدتهم فحسب بل فقدوا جميع مرافق الحياة ووسائل النمو والتقدم في هذا الكون، أي: بأنهم تخلفوا في ميدان القيادة في العالم الفكري والحضاري جميعًا ففي الجانب الأول - كالتصوف أو الشريعة أو الدين - أصبحوا وثنيين وعباد آلهة العجم بعد أن كانوا موحدين ومعلمي التوحيد للعالم أجمع وفي الجانب الثاني رأى أن روح القرآن في جملتها تعارض الفلسفة القديمة، فإنه ليس كتاب فلسفة ولكن فيه هدي إلى مقاصد الحياة ورقيها، ويجعلنا ندرك أن الإسلام دين يعنى بالعمل أكثر مما يعنى بالفكرة.
ولكن المسلمين خالفوا روحه وطغت عليهم نزعة التواكل، فالقول بالقضاء الذي يحمله نقاد الغرب للإسلام في كلمة (القسمة) يرجع بعض سببه إلى التفكير الفلسفي وبعضه إلى ما لحق القوة الحيوية التي كان الإسلام قد بعثها في أتباعه أول الأمر، من ضعف تدريجي (2) .
وأيضًا يولي فيلسوفنا وجهه قبل التصوف الذي كان له تأثير في بداية حياته، ولكن بعد دراسته واكتشاف أثره كأحد عوامل تأخير المسلمين، يعود فيلفظه. ويعني به تصوف وحدة الوجود أي التفسير الفلسفي الصوفي الذي أخذ به ابن عربي، إذ بينما - يرى الإسلام (الأنا) مخلوقاً ينال الخلود بالعمل، جعل ابن عربي فلسفة وحدة الوجود عنصرًا في الفكر الإسلامي، ثم اصطبغ كل شعراء العجم في القرن السادس الهجري بهذه الصبغة، فخاطب فلاسفة الهند - العقل - في إثبات وحدة الوجود، وخاطب شعراء إيران - القلب - فكانوا أشد خطرًا وأكثر تأثيرًا حتى أشاعوا بدقائقهم الشعرية هذه المسألة بين العامة فسلبوا الأمة الإسلامية الرغبة في العمل (3) .
(1) عبد الوهاب عزام: محمد إقبال - سيرته وفلسفته وشعره ص 105.
(2)
محمد إقبال: تجديد التفكير الديني ص 127.
(3)
عبد الوهاب عزام: محمد إقبال ص 51 - 52.
ليست إذن عقيدة وحدة الوجود من تعليم القرآن، فإن القرآن يبين المغايرة التامة بين الخلق والمخلوق أو العابد أو المعبود، ولكن امتد أثر هذه الفلسفة مع الأيام فأحدثت آثارًا هائلة في تغيير مفاهيم إسلامية أخرى، ويضرب إقبال مثلا على ذلك بالجهاد كشعيرة يراها الإسلام من ضرورات الحياة، ويلفت النظر إلى هذه الرباعية، التي ترنم بها الصوفية ودندنوا حول ما سموه (العشق الإلهي) حيث استخدموا اللغة الرمزية في مثل قول أحدهم:
(يسلك الغازي كل سبيل من أجل الشهادة، ولا يدري أن شهيد العشق أفضل منه كيف يستوي هذا وذاك يوم القيامة، هذا قتيل العدو وذاك قتيل الحبيب) ولكنه يعلق على ذلك بقوله: (وهذا جميل في الشعر ولكنه خدعة لإبطال الجهاد) .
فلا نعجب إذن من الظاهرة التي تتضح في شعر إقبال كما لاحظ النقاد، فالأمل يظهر في شعر إقبال كله، فهو باعث الحياة، والجهاد الدائب في رأيه هو المحافظة على هذه الحياة. وإن قارئ إقبال ليروعه إعظامه الأمل، وتصويره إياه، وإشادته بالعمل الدائب، والجهد المستمر، بل يرى إقبال أن الجهاد في سبيل المقصد أعظم لذة من بلوغه، فيقول:(طوبى لمن لا يزال في أثر المحمل أي لذة في الاضطراب دون وصول) ؟ وإذا كانت فلسفة وحدة الوجود قد انتقلت حقًا إلى الغرب ونراها بوضوح عند الفيلسوف الهولندي الإسرائيلي اسبينوزا إلا أن الذي أنقذهم منها رغبتهم في العمل، فلم يلبث طويلا لطلسم وحدة الوجود أن انحسر في الغرب، فقد تبين بأدلة رياضية سبق الألمان إلى إثبات حقيقة (الأنا) الإنسانية المستقلة، ثم تحرر من هذا الطلسم الخيالي فلاسفة الغرب على مر الزمان ولا سيما فلاسفة الإنجليز الحسيين التجريبيين.
ويفسر لنا سبب عزوفه عن التصوف ووحدة الوجود أمام حملة النقد التي وجهت إليه فيقول في رسالة سنة 1915: (إني بفطرتي وتربيتي أنزع إلى التصوف وقد زادتني فلسفة أوروبا نزوعًا إليه، فإن فلسفة أوروبا في جملتها تتوجه إلى وحدة الوجود، ولكن تدبر القرآن المجيد، ومطالعة تاريج الإسلام بإمعان أشعراني بغلطي، ومن أجل القرآن عدلت عن أفكاري الأولى، وجاهدت ميلي الفطري، وحدت عن طريق آبائي) .
ويلخص منهجه في بيان القيمة الإيجابية في توجيه الإسلام لإنقاذ المسلمين من ضغط
الفكر المادي الطبيعي وسيادته في أوروبا وانتشار الدعوة إليه في الهند خاصة في ذلك الوقت عن طريق السيد أحمد خان (1) .
أما تعليله للمادية في الغرب. فيرجع إلى توجيه أممه إلى العالم بحثًا وتنقيبًا ودراسة واستخدامًا، وغفلت عن الحق تعالى تمامًا، فأدى بها إلى عبادة المادة والتجرد من خلال الإنسانية الحقة وبينما سلك الغرب الطريق فإن أمم الشرق اتجهت بكليتها إلى الحق صارفة أنظارها عن العالم مما جعلها لا تعبأ بتسخير الكون، فتحولت إلى فقر وعوز واستذلها غيرها (2) .
كذلك يرى إقبال أنه لا يمكن الوصول إلى الحقيقة الكاملة بواسطة الفلسفة النظرية مغلبًا الجانب العملي الدائب لإصلاح النفس فيقول:
فتفكر في ذاتك، ولا تخش المرور من هذه البادية. فأنت موجود ووجود العالمين ليس شيئًا، اجتهد في إصلاح شخصيتك وتكميلها، ولا تمض في الحياة خائفًا مذعورًا، فوجودك هو الوجود ووجود العالمين ليس شيئًا إذا قيس بوجودك باعتبارك مكرمًا من جانب الله تعالى.
وبعد عدة أبيات شعرية أخرى يصف فيها طرق إصلاح النفس والوصول إلى درجة عالية من الرقي الروحي، مناديًا بأنه ينبغي على الإنسان أن يهمل كل ما لا يعنيه في الوصول إلى الهدف المنشود ألا وهو وجود الحق تعالى.
وعندئذ فإن الجنة هي الهبة النهائية وهي جزاء العمل (فالجنة التي وهبك الله إياها ليس لها قيمة أو اعتبار ما لم تكن جزاء على عمل صالح قد قدمته)(3) .
وهكذا يتجه إقبال للاهتمام بالروح ويعطيها المكانة الأولى في جانب المعرفة والجانب الأخلاقي.
يقول إقبال: (يا من تقول: إن الجسد حامل الروح انظر سر الروح ولا تعبأ بالجسد.
(1) د/ محمد إسماعيل الندوي: نظرات جديدة في شعر أمثال [[كذا في المطبوع، والصواب: "إقبال"]] ص 152 ط. المجلس الأعلى
للشؤون الإسلامية صفر 1389 مايو سنة 1969 م.
(2)
محمد إقبال: رسالة الخلود - أو جاويد نامة ص 99 ترجمة وشرح وتعليق د/ محمد السعيد جمال الدين 1974 م.
(3)
نفسه ص 119.
إن هذا الجسد ليس مخزنًا لروحنا ولا رفيقًا لها يذهب معها حيثما ذهبت، بل لا يزيد عن كونه حفنة من التراب وهل تحول حفنة من التراب دون تحليق الروح؟) (1) .
ويرفع إقبال من شأن العمل وجهاد النفس لكي ترقى وتسمو بصاحبها.
يقول: (إن القرب من الله تعالى أمر ليس يسير المنال، إنه في حاجة إلى جهاد مع النفس مع قيود الزمان والمكان، فلا تتحدث عن غربتك وعن رغبتك في القرب الإلهي وأنت خامل، وإنما انهض واعمل على ترقية روحك حتى تصل إلى هدفك)(2) .
وما دامت الروح هي الوجود الفعال المؤثر، ووجودها هو الوجود الجوهري بينما وجود المادة عرضي، فإن السبيل الوحيد لسعادتها هو التجربة الدينية، لا سيما الصلاة، فالفلسفة معرفة جزئية والعلم كذلك ولكن الدين ينطوي على الأكمل لأنه منهاج المعرفة الصحيح.
ويقيم إقبال تصوراته عن الإنسان ومكانته ومصيره على أصول من الآيات القرآنية إذ المعنى الحقيقي للإنسان (أنه هو الذي جعله الله خليفة له وأودع فيه صلاحية الرقي، وسيظل يطوي مراحل الرقي إلى أن يأتي اليوم الذي يتحقق له التوازن في الصفات فيكون معتدلاً موزونًا كبيت من الشعر، عادلاً كخالقه) .
ويرى استنادًا إلى قصة الخلق في القرآن الكريم أن وجود الإنسان في الأرض وجود مؤقت فهو في شوق دائم إلى موطنه الأصلي أي الجنة (3) .
يقول إقبال: (والإنسان بما وهب الله له من قوى متوازنة على أحسن ما يكون قد ألقى نفسه في أسفل ميزان الوجود وقد أحاط به من كل جانب قوى تقيم في وجهه العقبات) .
ويرى أن انعكاس البيئة الدنيوية على الإنسان هي سبب قلقه وشغله الدائم بالمثل العليا والبحث عن آفاق جديدة ومع أن نصيب الإنسان في الوجود شاق وحياته وهن كورقة الورد، فليس للروح الإنسانية نظير بين جميع الحقائق في قوتها، وفي إلهامها وفي جمالها.
(1) نفسه ص 83.
(2)
نفسه ص 111.
(3)
نفسه ص 69 وص 112.