الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يبقى زمانين (1) .
وهكذا يبرهن شيخ الإسلام أن فكرة الجوهر الفرد لا تفسر لنا المشاهدة العيانية في الخلق، ولا تتفق مع حقيقته الثابتة بالآيات القرآنية، والمرئية في أطوار الإنسان كما يثبت ذلك الأطباء أيضًا، فإنه يتحول في مراحل خلقه، فيخلق الله الإنسان من المني، فالمني استحال وصار علقة، والعلقة استحالت مضغة، إلى استواء الإنسان بشرًا سويًا، ويستشهد بهذا المثال ليقوض دعائم تفسير المتكلمين، إذ يعدون الأجسام متماثلة لأنها مركبة من الجواهر المتماثلة، وإنما اختلفت باختلاف الأعراض. ويستبدل بها حقيقة الخلق والبعث القرآنية المتفقة مع أدلة العقول وتجارب البشر.
بعد هذا العرض الموجز، يتضح أن طريقة الأشاعرة مع إخلاصهم في الدفاع عن النصوص لم تقو على الوقوف إزاء النقد الذي وجه إليهم من شيوخ السنة كابن تيمية وغيره حيث ناقشوا وفندوا بالحجج والبراهين.
ويبدو أن أئمة الأشاعرة أنفسهم قد ظهرت لهم الحقيقة، ولكن بعد طول بحث وبعد إفناء الأعمار.
ومن هنا نجد أئمتهم قد فضلوا طريقة السلف في نهاية حياتهم وأعلنوها صراحة وإلى القارئ بيان ذلك:
تحول أئمة الأشعرية إلى طريقة السلف:
لاشك أن الرغبة في الدفاع عن عقيدة أهل السنة بخاصة والإسلامية بعامة هي التي دفعت أئمة الأشاعرة إلى علم الكلام ظنًا منهم أنه المنهج الصحيح لهذا الغرض، ثم تبين لهم بعد التجربة غير ذلك، فتحولوا عنه، ولعل أول المتحولين إلى طريق السلف هو الإمام أبو الحسن الأشعري نفسه، وقصة تحوله من الاعتزال إلى عقيدة الإمام أحمد بن حنبل تبرهن على ذلك كما أسلفنا.
ومن الثابت عن الذين ترجموا للأشعري - وأبرزهم ابن عساكر في كتاب (تبيين كذب المفتري) أن كتاب (الإبانة) من أواخر كتبه وهو دليل على استقراره على
(1) ابن تيمية: تفسير سورة الإخلاص (54 - 56) .
طريقة الإمام أحمد ومنهجه وعقيدته متابعة لطريقة السلف.
ويمكن تقسيم حياته العلمية إلى ثلاثة أطوار - الأول عندما كان معتزليا - والثاني عندما بدأ يعيد النظر في معتقدات المعتزلة ويخط لنفسه منهجًا جديدًا يلجأ فيه إلى تأويل النصوص بما ظن أنه يتفق مع أحكام العقل ثم الطور الأخير الذي كتب فيه (الإبانة) وعبر فيه عن تفضيله لعقيدة السلف ومنهجهم والتي كان الحامل لواءها حينذاك الإمام أحمد بن حنبل (1) ، وكرر أيضًا مضمون عقيدته في كتابه (مقالات الإسلاميين) ناسبًا إياها لأهل السنة والحديث.
وجاء بعده الإمام الباقلاني فكان حريصًا على الانتساب إلى الإمام أحمد بن حنبل أيضًا حتى كان يكتب في بعض أجوبته محمد بن الطيب الحنبلي (2) .
وأئمة الأشعرية بعده اتخذوا موقفًا مشابهًا أيضًا يثير الانتباه ويدعو لبحث هذه الظاهرة التي - إن دَلَّت على شيء - فإنها تدل على الإخلاص في البحث عن الحقيقة من جهة، كما يدل من جهة أخرى على أن لا سبيل إلى معرفة أصول الدين إلا من مصادره في الكتاب والسنة.
فها هو إمام الحرمين الجويني في كتابه (الرسالة النظامية) يشير إلى اختلاف مسالك العلماء في هذه الظواهر، فرأى بعضهم تأويلها، والتزم ذلك في آي الكتاب وما يصح من السنن وذهب أئمة السلف إلى الكف عن التأويل، وإجراء الظواهر على مواردها، وتفويض معانيها إلى الرب. ثم يصرح بأن الذي يرتضيه رأيًا، ويدين لله به عقدًا، اتباع سلف الأمة، مبرهنًا على ذلك بأن الدليل السمعي القاطع في ذلك أن إجماع الأمة حجة متبعة، وهو مستند الشريعة وقد درج صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ترك التعرض لمعانيها ودرك ما بها وهم صفوة الإسلام. والمستقلون بأعباء الشريعة كانوا لا يألون جهداً في ضبط قواعد الملة، والتواصي بحفظها، وتعليم الناس ما يحتاجون إليه منها. فلو كان تأويل هذه الظواهر مشروعًا أو محتومًا لأوشك أن
(1) ينظر تعليق الأستاذ محب الدين الخطيب على كتاب (المنتقى) للذهبي ص 43 ط السلفية 1374 هـ.
(2)
ابن تيمية: موافقة ج 2 ص 9، 51.
يكون اهتمامهم بها فوق اهتمامهم بفروع الشريعة. وإذْ ثبت عنهم الإضراب عن التأويل كان ذلك هو الوجه المتبع فحق على كل ذي دين أن يعتقد تنزيه الباري عن صفات المحدثين، ولا يخوض في تأويل المشكلات، ويكل معناها إلى الرب فليجر آية الاستواء، والمجيء، وقوله:(لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ)[ص: الآية: 75](وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ)[الرحمن، الآية: 27] وقوله: (تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا)[القمر، الآية: 14] وما صح من أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم كخبر النزول وغيره على ما ذكرنا.
ويعضد ذلك ما ذهب إليه في كتابه (غياث الأمم) فبالرغم من أن الكتاب مخصص لعرض الفقه السياسي الإسلامي وآرائه في منصب الخلافة أو الإمامة، فقد حرص في باب (تفضيل ما إلى الأئمة والولاة) على أن ينص على أحد مهام الخليفة على صرف المسلمين عن الخوض في المشكلات الكلامية وتوجيههم إلى طريقة السلف فقال في هذا الصدد:(والذي أذكره الآن لائقًا لمقصود هذا الكتاب، أن الذي يحرص الإمام فيه على جمع عامة الخلق على مذاهب السلف السابقين، قبل أن نبغت الأهواء وزاغت الآراء، وكانوا رضي الله عنهم، ينهون عن التعرض للغوامض والتعمق في المشكلات.. إلى أن يقول: وما كانوا ينكفون رضي الله عنهم عما تعرض له المتأخرون عن عي وحصر، وتبلّد في القرائح هيهات! قد كانوا أذكى الخلائق أذهانًا وأرجحهم بيانًا)(1) .
ورأي الغزالي أيضًا في علم الكلام مدون في كتبه معروف مشهور لا سيما (الإحياء) فقد قال فيه: (وأما منفعته فقد يظن أن فائدته كشف الحقائق ومعرفتها على ما هي عليه، وهيهات فليس في الكلام وفاء بهذا المطلب الشريف، ولعل التخبيط والتضليل فيه أكبر من الكشف والتعريف) وإلى نفس المعنى يذهب في كتابه (المنقذ من الضلال) فذم علم الكلام أيضًا وقال بأن أدلته لا تفيد اليقين. وفي كتابه (التفرقة بين الإيمان والزندقة)، صرح بتحريم الخوض فيه فقال:(لو تركنا المداهنة لصرحنا بأن الخوض في هذا العلم حرام) . ومات الغزالي على خير أحواله، مات على
(1) الجويني: غياث الأمم فى التياث الظلم ص 140، 141 تحقيق د. مصطفى حلمي ود. فؤاد عبد المنعم ط دار الدعوة بالإسكندرية سنة 1400 هـ.
الصحيحين، صحيح البخاري وصحيح مسلم، طالبًا علم الحديث، فتحول من الكلام إلى طلب السنة من مصادرها الصحيحة.
أما الرازي - وهو المعبر عن المذهب الأشعري في مرحلته الأخيرة حيث خلط الكلام بالفلسفة، فقد نبه في أواخر عمره إلى ضرورة اتباع منهج السلف، وأعلن أنه أسلم المناهج بعد أن دار دورته في طرق علم الكلام والفلسفة، فقال في النهاية:(لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق القرآن أقرأ في الإثبات (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)[طه،: 5] و (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ)[فاطر، الآية: 10] وأقرأ في النفي (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)[الشورى، الآية: 11](وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا)[طه، الآية: 110](هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا)[مريم، الآية: 65] ثم قال: (من جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي)، وكان يتمثل كثيرا الأبيات التالية:
نهاية إقدام العقول عقال
…
وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا
…
وحاصل دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا
…
سوى أن جمعنا له فيه قيل وقالوا (1)
وقال في وصيته: (أحمد الله بالمحامد التي ذكره بها أفضل ملائكته فى أشرف أوقات معارجهم، ونطق بها أعظم أنبيائه في أكمل أوقات مشاهدتهم، بل أقول ذلك من تاريخ الحدوث والإمكان، فأحمده بالمحامد التي يستحقها لإلهيته ويستوجبها لكمال إلاهيته، عرفتها أو لم أعرفها، لأنه لا مناسبة للتراب مع جلال رب الأرباب) إلى قوله: (ولقد اختبرت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيت فيها فائدة تساوي الفائدة التي وجدتها في القرآن العظيم، لأنه يسعى في تسليم العظمة والجلال بالكلية لله تعالى ويمنع من التعمق في إيراد المعارضات والمناقضات، وما ذلك إلا للعلم بأن العقول البشرية تتلاشى وتضمحل في تلك المضايق العميقة والمناهج الخفية) وذكر في وصيته أيضًا أنه يدين لله تعالى بدين محمد صلى الله عليه وسلم، وسأل الله تعالى أن
(1) ابن الوزير اليماني: الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم ج 2 ص 168 المطبعة
السلفية بالقاهرة سنة 1385 هـ.