الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عصامية؛ فهو مرتبط بالعلوم الدينية الأخرى -بصفة خاصة "أصول الفقه"- فى وحدة ثقافية مرنة أملت لأكثر من مرة كل من المواقف التى اتخذتها المذاهب والمعارك التى تعين عليها خوضها.
(د) الموقف اليوم:
فشلت هجمات "ابن رشد" فى تهديد الشرعية التى حظى علم الكلام بالاعتراف بحوزه لها. لكن هجمات الحنابلة و"السلف الصالح" -من ناحية أخرى- أسفرت عن تركة من الشك والارتياب. ونجد بعض آثار ذلك قد امتدت إلى يومنا هذا، حتى إن تأثير السلف هو الذى يوحى بـ "العودة إلى الأصول" التى تنادى بها حركات الإصلاح الحديثة. وصحيح أن علم الكلام -على النحو الذى تمثل به فى أبرز علمائه- تبقى له مكانته كإنجاز جدير بالاحترام لأزهى قرون الثقافة الإسلامية، لكننا إذا استثنينا محاولة "محمد عبده" يتعذر علينا أن نشير إلى أى تجديد حى وحديث، ومن ثم فالأصح أن نتحدث عن تحول أو "ابتعاد") معين عن علم الكلام.
ويمكن على ما يبدو إبداء السببين التاليين: -
(1)
لأمد طويل للغاية ظل تدريس هذا العلم الدينى فى الجوامع محصورا فى المصنفات الجامدة التى تفتقر للإبداع وتخلو من آية ميزة جوهرية لافتة للأنظار.
(2)
مادة الدفاع عن العقيدة تكون ذات معنى فقط متى كانت مرتبطة بالأمور المباشرة، أما وقد أملى محتوى تلك المصنفات من خلال مناقضات الخصوم (المعتزلة فى القرن 3 هـ/ 9 م والفلاسفة فى القرن 4 هـ/ 10 م) الذين كانوا قد اختفوا من على مسرح الأحداث منذ فترة طويلة بينما مسائل اليوم الملحة يجرى تجاهلها؛ فإن الدفاع عن الدين ينبغى أن يبنى على موضوعات جديدة. . فهل تتواصل جهود الأفغانى ومحمد عبده فى هذا الاتجاه؟ إلا أن المثير للاهتمام شأنه شأن محاولاتهما ذاتها، أنهما قصرا للغاية فى بلوغ المستوى الفلسفى اللاهوتى Philosophico-theological standard الذى حققه كبار العلماء فى العصور السالفة؛ فالأفغانى ومحمد
عبده كانا أولا وقبل كل شئ "مصلحين" و"رجلى فعل" لا "متكلمين".
ولا يسعنا أن نختم حديثنا إلا بإثارة سلسلة من الأسئلة: هل سيقدر لأى شئ أن يشغل منزلة علم الكلام بمزيد من المنظورات الواسعة وبحيث يخدم موقفا عمليا لا تأمليا؟ أو هل سنشهد تجديدا -فيما يتعلق بمكونات العقيدة الإسلامية- يجيب مرة أخرى على الأسئلة التى ثارت فى الماضى بخصوص اللَّه والإنسان وشروط نجاة البشر من الضلال، ويأخذ فى اعتباره هذه المرة متطلبات الاكتشافات العلمية والأفكار السائدة فى عالم اليوم؟
لكل ذلك فإن الدارس سيكون بحاجة إلى مضاعفة معرفته الموضوعية بكل من الأعمال الكبرى للعصر الكلاسيكى والمسائل المعاصرة.
ومن الملائم فى هذا المقام أن نؤكد على انتعاش الحظوة التى يتمتع بها اليوم الفكر المعتزلى؛ ليس على نحو مباشر من أجل دفاعه عن وحدانية وعدالة اللَّه، ولكن من أجل تأكيده على حرية الإنسان فى غمرة الحماس للإيمان بالإله الواحد الخالق والمهيمن، أما الفكر الأشعرى فيبدو أن متطلبات العقيدة لم تعد تستوجبه. فهل يا ترى سوف يحدث تركيب symthesis بين النزعات المختلفة لعلم الكلام تعمل من خلال مجموعة معدلة من الأدوات الفلسفية؟
ويبدو هنا أن الحاجة تدعو إلى دراسة نص القرآن الكريم وإلى المزيد من علم الإنسان anthropology المتطور للغاية؛ لا ليحل ذلك محل "الإلهيات"، بل ليفتح منظورات أوسع من أجل مناقشتها. . . فعلم الكلام قد حظى بماض مجيد، وأثمر اعمالا تستحق أوقر الإحترام من جانب المؤرخ. ولعل من المأمول أن ينهض ذات يوم "كلام" جديد مختلف كل الاختلاف عن القديم من حيث مناهجه وحججه ومداخلاته، لكى يؤدى دوره فى تشجيع الانتعاش الثقافى للعلوم الدينية الإسلامية.
المصادر: وردت فى متن المادة.
محمد غريب جوده [ل. جارديه L.Gardet]