الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفأل
الفأل والطيرة والزجر/ وتعنى كلها معنى واحدا، والفأل مصطلح تتميز به العربية ويرادفه نحاثم فى العبرية ونحشه فى السريانية وهو يظهر فى أشكال مختلفة بدءا من العطة، وبعض السمات والميزات فى الأشخاص والأشياء والتى نواجهها كل يوم ونلتقى بها، إلى تأويل أسماء الأشخاص والأشياء التى ترد تلقائيا على سمع الإنسان وبصره وعقله. وحول هذه النقطة الأخيرة نجد أن السيرة والحديث، والحوليات الإسلامية تقدم الدلائل الوفيرة التى تصور اتجاه العقل العربى لاستنباط الطالع من الحركات الجسدية جميعا، ومن كل أنواع الواقعات التى تحدث مصادفة، ومن كل أنواع الكلمات والعبارات المسموعة وكذلك من السلوكيات جميعا. وهنا يقول "دوتيه" Doutte إن العادات (التصرفات) الحميدة الطيبة قد نشأت من الفأل على أنه يجب أن نضيف إلى هذا الأثر الغالب الذى أحدثه لطف التعبير وسوء التعبير عند الجماعات السامية كلها ولا سيما العرب.
وهذا الاتجاه فى التفكير العربى يوضح نفسه بجلاء فى سلوك وممارسات وتوصيات النبى [صلى الله عليه وسلم] فالسيرة حافلة بما يدل على أن النبى [صلى الله عليه وسلم] كان يستبشر أو ينفر من بعض أسماء القبائل والمناطق التى يجتازها فى غزواته (المراجع: ومع هذا فقد قال "ليس منا من رَّدته الطَّيرة") -وأكثر من ذلك فقد أدخل تغييرات كثيرة على
الأسماء بهدف محو أى أثر للوثنية العربية من المصطلحات الإسلامية وأيضا استبعاد أية أسماء غير مناسبة والتى تصدم آذان أتباعه والتى لابد أن يسمعها تتردد من حوله، وبذلك يزيل أية تأثيرات كريهة مشئومة يمكن أن تثيرها معانى هذه الأسماء ولهذا السبب أقدم على تغيير القليل إلى الكثير، "والعاصى" إلى "المطيع" كما أنه صلى الله عليه وسلم أطلق اسم طيبة على ما أصبحت المدينة بعد ذلك، بدلا من يثرب التى يتضمن أصلها فكرة الافتراء (تشويه السمعة) وغير اسم "زيد الخيل" إلى "زيد الخير" وأطلق اسم سليمان على "سليمان بن طرَد الذى كان يدعى يسار، وغير اسم حزم إلى سهل وهكذا. . وقد حاكى النبى [صلى الله عليه وسلم] فى هذا الاتجاه صحابته وعلى الأخص عمر بن الخطاب، كذلك كان المظهر -بجانب الأسماء- مما يستبشر أو ينفر منه فقد كتب النبى [صلى الله عليه وسلم] إلى عماله يطلب إليهم إذا هم أرسلوا إليه رسولًا أن يكون جميل الاسم سمح الوجه، ولقد كان الوضع الاجتماعى للفرد فى شمال افريقية يثير التفاؤل أو التشاؤم فعندما يلتقى الإنسان بشريف ما فهذا فأل طيب، أما إذا التقى بيهودى أو بحداد فإن الموقف يختلف. وقد يكون لأسرة كاملة أثرها المشئوم (مثل أسرة بَصبصْ التى جلبت مشورتها الشؤم للتغالبة) وثمة أسماء معينة تعتبر نذير شؤم فلا تستحب مصاحبتها.
ولهذا السبب كان اختيار الآباء لأسماء أطفالهم والسادة لأسماء عبيدهم شيئا مهما -واتبع العرب فى هذا قاعدة محددة- فقد سأل أحدهم بدويا، لماذا يطلق على أطفاله أقبح الأسماء مثل كلب وذئب، وعلى عبيده أحسن الأسماء مثل مرزوق ورباح؟ فردّ بأن "أسماء أولاده موجهة إلى أعدائه، أما أسماء عبيده فله هو ذاته". يقصد أن يقول إن الأطفال درع ضد العدو وسهام فى صدورهم، ولهذا السبب أطلقوا عليهم هذا النوع من الأسماء وهنا نشير إلى أن الجاحظ فى الحيوان قد عرض للدوافع المتعددة وراء اختيار العرب للأسماء.
واتسعت عملية التأويل هذه فجاوزت أسماء الأشخاص إلى أسماء
الأحجار الكريمة والفاكهة والزهور بل والأغانى فالذهب يعنى الرحيل، "والجزع"[وهو العقيق اليمانى] يعنى الحزن والكآبة والليمون (الأُتْرجَّة) يعنى النفاق ذلك لأن القشرة الخارجية لا تتماثل مع الداخل؛ "والسفرجل" يعنى الرحلة لأن الاسم يتضمن كلمة "سفر" و"السوسن" يجلب المحنة لأن الاسم يتضمن كلمة "سوء" والمحنة التى تستمر طيلة عام من كلمة سنة (فالمفرد سوسنة) -أما الريحان فهو بشير ونذير فى الوقت نفسه لأن اسمه يحتوى على كلمة "روح"، ومن جهة أخرى له مذاق مر بالرغم من أنه يسر العين والأنف، أما بالنسبة للأحاسيس الداخلية المسبقة بالشر والتى تثيرها ما تتضمنه العبارة أو الأغنية، فالأمثلة كثيرة عليها فى تاريخ العرب (ويمكن أن تدرج هذه الحقائق كلها تحت كلمة طيرة).
ويقول "حاجى خليفة" فى كشف الظنون إن الفأل تصديق لنيات الإنسان ومن هنا يكون تشجيعا له على أن ينفذها على حين أن الطيرة هى على العكس عدم التصديق ومن ثم فهى عائق أمام تنفيذ النيات أو تأجيل هذا التنفيذ إلى وقت لاحق، وهذه المقابلة التى استقرت فى النهاية بين مفهومين يكمل كل منهما الآخر قد تطورت على ما يبدو من اتجاه ينسب إلى أحاديث النبى [صلى الله عليه وسلم] فيما يتعلق بهذا التنوع السائد للفأل. فالطيرة فى الواقع تعبير يرجع إلى أصل رعوى وبدوى، لذلك كانت الجزيرة العربية منطقة ملائمة جدا لتطوره كما قال شيشرون وبمقارنة المعطيات المختصرة المبهمة فى الكتابات الإسلامية، بما خلفته الثقافة السامية أصبح من الممكن التحقق من السمة الدينية للطيرة كما كانت تمارس فى الجاهلية.
ويبدو أنه من هذا المنطلق كان عداء النبى [صلى الله عليه وسلم] للطيرة، حتى وهو يمارس الفأل ويوصى به، ولكن هناك بعض الأمثلة التى توضح أن الطيرة يمكن أن تكون طالعا طيبا فقد رسم عبيد اللَّه بن زياد كلبا وكبشا وأسدا فى مدخل منزله وقال عنها "كلب نابح، وكبش مقاتل وأسد غاضب" ورأى فيها طالعا طيبا ونستفيد من كتاب الحيوان
للجاحظ ما ذكره من أنهم كانوا يتطيرون وتكرر ذلك بعده، ويقول الكاتب نفسه أيضا كان الرجال المحترمون يحملون أسماء الحمار والكلب والثور، ولم يتردد العرب فى استخدامها، إذ رأوا فيها طالعا حسنا: وهناك حديث يعطى الطيرة معنى أوسع وهو "أصدق الطيرة الفأل" وبنفس الطريقة نجد أمثلة تعطى للفأل معنى الطالع الشرير.
وهذا التضارب فى الأقوال يكشف عن وجود أساس بدائى لم تغمره تماما موجة التطهر القوية التى سادت الجزيرة العربية فى القرنين الأولين للهجرة.
والواضح من كل ما سبق أن الطيرة بهذه الطريقة قد تطورت بعد أن كانت فى الأصل لا تتعدى ملاحظة وتأويل طلعات وصياح ونشاطات بعض الطيور التى تستخدم فى العرافة (الكهانة).
وقد انبثقت عن هذا كتابات كثيرة -بل أدب كامل- وخصوصا فى الشعر والأمثال التى تقنع الإنسان بالعدول عن اتباع الأفكار التى تثيرها الطيرة فى نفسه، والتى يتعرض لها كل الناس. ويؤثر عن النبى [صلى الله عليه وسلم] أنه قال ما معناه إن هناك ثلاثة أخطار يمكن للمرء أن يهرب منها وهى الطيرة والشك والغيرة. قال رسول اللَّه [صلى الله عليه وسلم](لا شؤم وقد يكون اليُمن فى الدار والمرأة والفرس) ابن ماجه، نكاح، 55، وقال أيضًا (سوء الخلق شؤم) أبو داود، أدب، 124، أحمد ابن حنبل، وقال أيضًا (ما بى إلّا كراهية أن يتشاءم الناس) مسلم، باب الصلاة، أما ما جاء فى الشعر حول هذا الموضوع فهو كثير جدا - (وخصوصا البحترى فى الحماسة).
ويبدو أن المعنى البدائى للطيرة قد ظل حيا فى "الزجر" الذى يستخدم كثيرا كمرادف للطيرة بالرغم من أن هذا المصطلح فى الأصل يدل على أسلوب يتصل بالطيرة. فإذا كانت الطيرة تكمن فى ملاحظة الطيران التلقائى والصيحات التلقائية للطيور وتفسيرها أو تأويلها، فإن الزجر -على العكس من ذلك- يشتمل على الباحث
المعتمد لهذا الطيران وهذه الصيحات. وبغض النظر عن معنى "زجر"(الإثارة، ومطاردة الأفراد بالصيحات أو دفع الطيور للطيران أو قراءة الطالع أو ممارسة الكهانة) فإن العادات العربية لا تزال تحتفظ بما يدل على ممارسة "الزجر".
ولكن وكما حدث للفأل والطيرة -سرعان ما بدأ الزجر يفقد معناه البدائى وكذلك سماته المميزة، وأصبح يرمز إلى طالع النحس أو الكهانة بشكل عام- والحق أن هناك فى بعض الأحيان نوعا من الزجر يختلط بالكهانة وهذا يؤدى بنا لأن نقول إن الزجر كان -كما كان فى آشور وبابل- حقًا مقصورًا على العراف الذى كان يجمع وعلى الأخص فى الجزيرة العربية -بين وظائف عدة ويتصرف كحارس على القوانين فى مجتمع بدوى يفتقد النقاط البؤرية الضرورية لتثبيت هذه القوانين وتأمينها.
وهكذا نجد فى كتابات الجاحظ أن الزجر يتضمن تفسير هديل الحمام، وصيحات الطيور، والظهور المفاجئ لأى حيوان يسير من اليمين إلى الشمال أو من الشمال إلى اليمين، وحفيف أوراق الشجر، وتنهيدة الريح وأشياء أخرى مماثلة مبشرة أو منذرة.
ويشار إلى "الزجر" على أنه "عيافة" وهو ما ينطبق على اجراءات متعددة من الكهانة أما بالنسبة للطيور التى يعتبر طيرانها وصيحاتها موضوع الفأل أو الطير أو الزجر، فهى متنوعة أما الطائر الذى يُكثر العرب من الإشارة إليه فى موضوع الكهانة فهو الغراب ومع ذلك فإن هذه الأمور الثلاثة لا تقتصر على الطيور. وذلك لأن أى حيوان يمكن أن يستخدم فى الطالع.
وإن وجهة الطائر فى طيرانه أو خطوات الحيوان على الأرض، لتلعب دورا مهما جدا فى تطبيق هذه الإجراءات الثلاثة. وهناك مصطلحات فنية تحدد الاتجاهات المختلفة: فالسائح هو الذى يطير من اليمين إلى الشمال؛ والبارح هو الذى يطير من الشمال إلى اليمين والجابح وهو الذى يأتى من الأمام، والقائد أو الخفيف وهو الذى